دولة الموحدين
عبد المؤمن بن علي وبداية دولة الموحدين
كان عبد المؤمن بن عليّ (487- 558هـ/ 1094 - 1163م) أول حاكم لدولة الموحدين، وحينما تولى حكم الموحدين أصلح البلاد وأعادها إلى ما كانت عليه أيام المرابطين.
خلفاء عبد المؤمن بن علي
تُوفِّي عبد المؤمن بن علي في عام 558 هـ/ 1163م، وخلفه في الحكم ابنه محمد ولكنه خُلع لفسقه، ثم تولى يوسف بن عبد المؤمن بن عليّ،ونظم الأمور فيالأندلس والمغرب، واستشهد في موقعة شَنْتَرِين سنة 580هـ/ 1184م.
تولي يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن (المعروف بأبي يوسف يعقوب المنصور) الحكم
بعد وفاة يوسف بن عبد المؤمن بن عليّ تولى من بعده ابنه يعقوب بن يوسف بن عبدالمؤمن بن عليّ، وقد لُقب في التاريخ بالمنصور، وكان له ابن يُدعى يوسف فعُرف بأبييوسف يعقوب المنصور الموحدي، وقد استطاع أن يوحد المغرب والأندلس، وينتصر على النصارى في موقعة من أشهر مواقع التاريخ الإسلامي وهي موقعة "الأرك"، التي شبهها المؤرخون بموقعة الزَّلاَّقة.
ولكن ما الذي حدث بعد وفاة أبي يوسف يعقوب المنصور؟ وهل ستظل الدولة على قوتها أم لا؟
تُوُفِّي المنصور سنة 595 هـ/ 1199م، ومن بعده يتولى ابنه الناصر لدين الله، ولكن أراد النصارى الأخذ بالثأر لما حدث في موقعة الأرك، فأعدوا قواتهم وانتصروا على المسلمين في موقعة "العقاب"، التي كانت هزيمة قاسية للمسلمين؛ ترتب عليها سقوط الكثير من المدن الإسلامية، وانفصال الكثير من المدن عن دولة الموحدين.
وقد يتعجب البعض: لماذا تسقط دولة الموحدين رغم ما وصلت إليه من قوة في بداية عهدها؟
إن سبب ذلك يرجع إلى ظلم الموحدين للمرابطين، والأفكار الفاسدة التي غرسها ابن تومرت، والثورات الداخلية التي انتشرت بالأندلس، وانفتاح الدنيا عليهم وكثرة الأموال، وبطانة السوء المتمثلة في أبي سعيد بن جامع وزير الناصر لدين الله وأمثاله، إضافة إلى إهمال حكام دولة الموحدين أمرًا في غاية الخطورة وهو الشورى.

مزيد من التفاصيل

مقدمة

في سنة 541 هـ= 1146 م بزغ نجم دولة الموحدين، وكان أول حكّامها عبد المؤمن بن عليّ (487 - 558 هـ= 1094 - 1163 م) صاحب "محمد بن تومرت" ويُعدّ عبد المؤمن بن علي الرجل الثاني بعد ابن تومرت المؤسس الحقيقي والفعلي لجماعة الموحدين.
نسبه وقبيلته:
هو عبد المؤمن بن علي بن مخلوف بن يعلى بن مروان، أبو محمد الكومي، نسبته إلى كومية (من قبائل البربر).
ولد في مدينة "تاجرت" بالمغرب قرب "تلمسان"، ونشأ فيها طالب علم، وأبوه صانع فخار.
وفي وصف "عبد المؤمن بن عليّ" قال عبد الواحد المراكشي في المعجب وكان أبيض ذا جسم عمم تعلوه حمرة شديد سواد الشعر معتدل القامة وضيء الوجه جهوري الصوت فصيح الألفاظ جزل المنطق وكان محبباً إلى النفوس لا يراه أحد إلا أحبه وبلغني أن ابن تومرت كان ينشد كلما رآه:
تكاملت فيك أخلاق خصصت بها فكلنـا بك مسـرور ومغتبـط
فالسن ضاحكـة والكـف مانحة والصدر منشرح والوجه منبسط
وذكر الذهبي في كتابه العبر، وابن العماد في شذرات الذهب أنه كان ملكًا عادلًا، سائسًا، عظيم الهيبة، عالي الهمة، متين الديانة، كثير المحاسن، قليل المِثل، وكان يقرأ كل يوم سُبُعًا من القرآن العظيم، ويجتنب لبس الحرير - وهذا يعني أن لبس الحرير كان عادة وإلفًا في زمانه - وكان يصوم الاثنين والخميس، ويهتم بالجهاد والنظر في الْمُلْك كأنما خُلق له. ثم بعد هذه الأوصاف نجد هذه العبارة التي تحمل كثيرًا من علامات الاستفهام حيث يقول: وكان سفّاكا لدماء من خالفه.!!
وقال عنه "الزركلي" في "الأعلام": وكان عاقلًا حازمًا شجاعًا موفقًا، كثير البذل للأموال، شديد العقاب على الجرم الصغير عظيم الاهتمام بشؤون الدين، محبًا للغزو والفتوح، خضع له المغربان (الاقصى والاوسط) واستولى على إشبيلية وقرطبة وغرناطة والجزائر المهدية وطرابلس الغرب وسائر بلاد أفريقية، وأنشأ الاساطيل، وضرب الخراج على قبائل المغرب، وهو أول من فعل ذلك هنالك...
ومثل هذه الأوصاف ذكرها ابن كثير أيضًا في البداية والنهاية، وأضاف أنه كان يعيبه كثرة سفك الدماء لمن عارضه من أتباعه أو من غير أتباعه.
وهذه بالطبع- وكما ذكرنا - هي تعاليم محمد بن تومرت.
وإضافة إلى هذا المنهج العقيم وتلك الصفة السابقة - التساهل في أمر الدماء - فقد كان "محمد بن تومرت" حين يعلم أن أتباعه ينظرون إلى الغنائم التي حصّلوها من دولة المرابطين في حربهم معهم كان يأخذها كلها فيحرقها.. وكان يعذّر بالضرب من يفوته قيام الليل من جماعته. فنشأت جماعة من الطائعين الزاهدين العابدين، لكن على غير نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن يحرق الغنائم أو يضرب المتباطئين أو المتثاقلين عن قيام الليل، أو يتبع مثل هذا المنهج وتلك الرهبنة المتشددة، فكره كثير من الناس مثل هذا الأسلوب، لكنهم مع ذلك اتبعوه...!!
وعلى ما يبدو فقد كانت فكرتا العصمة والمهدية اللتين ادّعاهما محمد بن تومرت واقتنع بهما أتباعه من بعده لم يكن عبد المؤمن بن عليّ مقتنعا بهما ؛ لأنه أبدًا ما ادّعى أيا منهما،كما أنه لم يدّع فكر الخوارج الذي كان قد اعتقد به أو ببعضه "محمد بن تومرت".
وعلى الجانب الآخر فإن "عبد المؤمن بن عليّ" لم ينف مثل هذه الأفكار الضالة صراحة؛ وذلك لأن غالب شيوخ الموحّدين كانوا على هذا الفكر وذلك الاعتقاد، فخاف إن هو أعلن أن أفكار "محمد بن تومرت" هذه مخالفة للشرع أن ينفرط العقد ويحدث التفكك في هذه الفترة الحرجة من دولة الموحدين....

مشاهد من حياة عبد المؤمن بن علي
أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن عبد الواحد المراكشي قوله: حدثني غير واحد أن عبد المؤمن لما نزل "سلا" - مدينة بأقصى المغرب ليس بعدها معمور إلا مدينة صغيرة يقال لها: غَرنيطُوف - وهي على البحر المحيط ينصب إليها نهر عظيم، ويمر في البحر - عبر النهر، وضربت له خيمة، وجعلت جيوشه تعبر قبيلة قبيلة، فخر ساجدًا، ثم رفع وقد بل الدمع لحيته، فقال: أعرف ثلاثة وردوا هذه المدينة، لا شئ لهم إلا رغيف واحد، فراموا عبور هذا النهر، فبذلوا الرغيف لصاحب القارب على أن يعدي بهم، فقال: لا آخذه إلا عن اثنين، فقال أحدهم وكان شابًا: تأخذ ثيابي وأنا أسبح، ففعل، فكان الشاب كلما أعيا، دنا من القارب، ووضع يده عليه يستريح، فيضربه بالمجذاف، فما عدى إلا بعد جهد. فما شك السامعون أنه هو السابح، والآخران ابن تومرت، وعبد الواحد الشرقي.
أولاده
وكان له من الولد ستة عشر ذكراً وهم محمد وهو أكبر ولده وولي عهده وهو الذي خُلع وعلي وعمر ويوسف وعثمان وسليمان ويحيى وإسماعيل والحسن والحسين وعبد الله وعبد الرحمن وعيسى وموسى وإبراهيم ويعقوب...
عبد المؤمن بن عليّ وأعمال عظام في المغرب
كان "عبد المؤمن بن علي" - كما ذكرنا - صاحب شخصية قوية وصاحب فكر سياسي عالٍ، فبدأ وبطريقة عملية منظمة وشديدة في تأسيس وبناء دولته الفتيّة الناشئة، فعمل على ما يلي:
أولًا:
أطلق حرية العلوم والمعارف وأنشأ الكثير من المدارس والمساجد، وكان هذا على خلاف نهج "محمد بن تومرت" صاحب الفكر الأوحد، فأصبح الناس يتعلمون أكثر من طريقة ومنهج وأكثر من فكر وفقه، وأصبحوا لا يرتبطون بقطب واحد كما كان العهد أيام "محمد بن تومرت"، لكن هذا لم يكن ليغضّ الطرف عن كون عبد المؤمن بن عليّ ذو فرديّة في نظام الحكم والإدارة، أي أنه كان - بلغة العصر - حاكما ديكتاتوريًِا، فردي الرأي لا يأخذ بالشورى.
ثانيًا:
عمل "عبد المؤمن بن عليّ" على إقران الخدمة العسكريّة بالعلوم التثقيفية، وأنشأ مدارس كثيرة لتعليم وتخريج رجال السياسة والحكم، وكان يمتحن الطلاب بنفسه، فأنشأ جيلا فريدا من قوّاد الحروب والسياسيين البارعين في دولة الموحدين، وكان يدربهم على كل فنون الحرب، حتى إنه أنشأ بحيرة صناعية كبيرة في بلاد المغرب لتعليم الناس كيف يتقاتلون في الماء، وكيف تكون الحروب البحرية، وكان أيضا يختبر المقاتلين الموحدين بنفسه.
ثالثًا:
أقام مصانع ومخازن ضخمة وكثيرة للأسلحة، و أصبحت دولة الموحدين من أقوى الدول الموجودة في المنطقة من الناحية العسكرية.
هذا كله في بلاد المغرب العربي، ولم تكن بلاد الأندلس بعد قد دخلت في حسابات "عبد المؤمن بن عليّ" في ذلك الوقت؛ لأنه كان يحاول أن يستتب له الأمر أولا في بلاد المغرب العربي حيث أنصار المرابطين في كل مكان. وكان الوضع في بلاد الأندلس - كما ذكرنا - حيث سقوط أكثر من مدينة في أيدي النصارى، وأصبح التدهور هناك سريعًا.

جيش الموحدين وطريقه نحو العقاب
في مقابل جيوش النصارى تلك كان الناصر لدين الله قد أعلن الجهاد وجمع المجاهدين من بلاد المغرب العربي والأندلس في عدد قد بلغ خمسمائة ألف مقاتل، أي أنه أكثر من ضعف جيوش النصارى مجتمعة، كانت أقل الروايات قد ذكرت أن عدد المسلمين قد بلغ ستين ألفا ومائتي ألف، وكانت هي نفسها التي ذكرت أن عدد النصارى لم يتجاوز ستين ألفا ومائة ألف، فكان جيش المسلمين في كل الأحيان يزيد على جيش النصارى أكثر من مرة ونصف أو مرتين على الأقل.
انطلق الناصر لدين الله بجيشه من بلاد المغرب وعبر مضيق جبل طارق، ثم توجّه إلى منطقة عُرفت باسم العِقَاب - وذلك لوجود قصر قديم كان يحمل هذا الاسم في تلك المنطقة -وهي تلك المنطقة التي دارت فيها الموقعة، وقد كانت- وسبحان الله - اسما على مسمى، فكانت بحق عقابا للمسلمين على مخالفات كثيرة، ظهر بعضها سابقا وسيظهر الباقي تباعا.
دخل الناصر لدين الله أرض الأندلس بهذا العدد الكثيف من المسلمين، وفي أول عمل له حاصر قلعة سَالْبَطْرَة، وكانت قلعة كبيرة وحصينة جدا وبها عدد قليل من النصارى، وكانت تقع في الجبل جنوب طليطلة، لكن حصانة القلعة أعجز المسلمين عن فتحها، وكان أن اجتمع قادة الأندلسيين وقادة الموحدين وأشاروا على الناصر لدين الله بأن يترك حامية عليها ثم يدعها ويتجه إلى جيش النصارى في الشمال؛ وذلك خوفا من إنهاك قوتهم فيما لا طائل من ورائه، لكن الناصر لدين الله رفض هذا الأمر واستمع لرأي وزيره الذي رأى أنه لا يجب أن تُجوّز هذه القلعة، فظل يحاصرها طيلة ثمانية أشهر كاملة.

نتائج الاستبداد وملامح الهزيمة
كان من جراء هذا العمل الذي قام به الناصر لدين الله أن حدث ما يلي:
أولا: إضاعة ثمانية أشهر كان من الممكن أن يستغلها في الشمال، والانتصار على النصارى هناك قبل أن يتجمعوا في كامل عدتهم.
ثانيا: أكمل النصارى استعداداتهم خلال هذه الفترة الطويلة، واستطاعوا أن يستجلبوا أعدادا أخرى كثيرة من أوروبا.
ثالثا: هلك الآلاف من المسلمين في صقيع جبال الأندلس في ذلك الوقت، حيث كان الناصر لدين الله قد دخل بلاد الأندلس في شهر مايو وكان مناسبا جدا للقتال، إلا أنه ظل يحاصر سَالْبَطْرَة حتى قدم الشتاء القارس وبدأ المسلمون يهلكون من شدة البرد وشدة الإنهاك في هذا الحصار الطويل.
أبو الحجاج يوسف بن قادس والتحيز إلى فئة المؤمنين
في بداية لحرب فاصلة قُسّم الجيش النصرانى القادم من الشمال إلى ثلاثة جيوش كبيرة، فالجيش الأول: هو الجيش الأوروبي، والجيش الثاني: هو جيش إمارة أراجون، والجيش الثالث: هو جيش قشتالة والبرتغال وليون ونافار، وهو أضخم الجيوش جميعها.
قامت هذه الجيوش الثلاث بحصار قلعة رباح، وهي قلعة إسلامية كان قد تملكها المسلمون بعد موقعة الأرك، وكان على رأسها القائد البارع الأندلسي الشهير أبو الحجاج يوسف بن قادس رحمه الله وهو من أشهر قواد الأندلس في تاريخها.
حوصرت قلعة رباح حصارا طويلا من قبل الجيوش النصرانية، وقد طال أمد الحصار حتى أدرك أبو الحجاج يوسف بن قادس أنه لن يفلت منه، كما بدأت بعض الحوائط في هذه القلعة تتهاوى أمام جيش مملكة أراجون.
أراد أبو الحجاج يوسف بن قادس أن يحقق الأمن والأمان لجيشه، وأراد أن يتحيز إلى فئة المؤمنين وينضم إلى جيش المسلمين، فعرض على النصارى معاهدة تقضي بأن يترك لهم القلعة بكامل المؤن وكامل السلاح على أن يخرج هو ومن معه من المسلمين سالمين ليتجهوا جنوبا فيلتقوا بجيش الموحدين هناك ودون مؤن أو سلاح.
وافق ألفونسو الثامن على هذا العرض، وبدأ بالفعل انسحاب أبي الحجاج يوسف بن قادس من الحصن ومن معه من المسلمين، وقد اتجهوا إلى جيش الناصر لدين الله.
ولأن الوليمة ليست قصرا على ألفونسو الثامن، فقد اعترض على هذا الانسحاب جيش النصارى الأوروبي المتحد مع جيش قشتالة.. فقد كانوا يرون أنهم ما أتوا من أبعد بلاد أوروبا ومن إنجلترا وفرنسا والقسطنطينية إلا لقتل المسلمين؛ فلا يجب أبدا أن يتركوا ليخرجوا سالمين.
وقد فعل ألفونسو الثامن ذلك حتى إذا حاصر مدينة أخرى من مدن المسلمين يفتحون له كما فعل سابقوهم؛ لأنه لو قاتلهم بعد العهد الذي أبرمه معهم فلن يفتح له المسلمون بعد ذلك مدنهم، فاختلف الأوروبيون مع ألفونسو الثامن، وعليه فقد انسحبوا من الموقعة.
وبذلك يكون قد انسحب من موقعة العقاب وقبل خوضها مباشرة خمسون ألفا من النصارى، وبالطبع فقد كان هذا نصرا معنويا وماديا كبيرا للمسلمين، وهزيمة نفسية وهزة كبيرة في جيش النصارى، وقد أصبح جيش المسلمين بعد هذا الانسحاب أضعاف جيش النصارى.
بطانة السوء وقتل أبي الحجاج يوسف بن قادس
حين عاد أبو الحجاج يوسف بن قادس إلى الناصر لدين الله، وعندما علم منه أنه قد ترك قلعة رباح وسلمها بالمؤن والسلاح إلى النصارى، أشار عليه الوزير السوء أبو سعيد بن جامع بقتله بتهمة التقاعس عن حماية القلعة.
لم يتردد الناصر لدين الله، وفي ميدان موقعة العقاب يمسك بالقائد المجاهد أبي الحجاج يوسف بن قادس ثم يقتله.
وإن هذا - وبلا شك - ليعد خطأ كبيرا من الناصر لدين الله، وعملا غير مبرر، ويضاف إلى جملة أخطائه السابقة، وذلك للآتي:
أولا: أن أبا الحجاج يوسف بن قادس لم يخطئ بانسحابه هذا، بل كان متحرفا لقتال، ومتحيزا إلى الجيش المتأهب للحرب، كما أنه لو مكث لهلك، ولو لم يهلك لكانت قد حيدت قواته عن الاشتراك في الموقعة بسب الحصار المفروض عليها.
ثانيا: وعلى فرض أن أبا الحجاج يوسف بن قادس قد أخطأ، فلم يكن - على الإطلاق - عقاب هذا الخطأ القتل، خاصة وأنه لم يتعمده بل كان اجتهادا منه.
وإن مثل ذلك قد حدث في حروب الردة حينما أخطأ عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه في أحد المعارك، وكان خليفة المسلمين حينئذ أبو بكر الصديق رضي الله عنه فما كان من أبي بكر في معالجة خطأ عكرمة إلا أن عنّفه باللسان وأوضح له خطأه، ثمّ أعاده مع جيشه من جديد إلى القتال لمساعدة جيش آخر من جيوش المسلمين، بل أرسل إلى قائد هذا الجيش الآخر- يرفع من روح عكرمة وجيشه - بأن يستعين برأي عكرمة بن أبي جهل فإنّ له رأيا.
ومن هنا وبهذه الطريقة وبجانب فقْد قوة كبيرة جدا بفقد هذا القائد البارع، فقد فقَدَ الجيش الإسلامي أيضا قوة الأندلسيين الذين شعروا أن هناك فارقا بينهم وبين المغاربة؛ مما كان له أثر سلبي كبير على واقع المعركة على نحو ما سيأتي بيانه.
قال المقرّي في نفح الطيب وهذه الوقعة - العقاب - هي الطامة على الأندلس بل والمغرب جميعاً، وما ذاك إلا لسوء التدبير، فإن رجال الأندلس العارفين بقتال الإفرنج استخف بهم الناصر ووزيره، فشنق بعضهم، ففسدت النيات، فكان ذلك من بخت الإفرنج، والله غالب على أمره، ولم تقم بعدها - أي بعد موقعة العقاب - للمسلمين قائمة تحمد...
خطة الناصر لدين الله ومتابعة الأخطاء
تكملة للأخطاء السابقة فقد وضع الناصر لدين الله خطة شاذة في ترتيب جيشه وتقسيمه، حيث لم يسِر فيه على نهج السابقين، ولم يقرأ التاريخ كما قرأه المنصور الموحدي ويوسف بن تاشفين.. فقد قسم جيشه إلى فرقة أمامية وفرقه خلفيه، لكنه جعل الفرقة الأمامية من المتطوعين وعددهم ستين ألفا ومائة ألف متطوع، وضعهم في مقدمة الجيش ومن خلفهم الجيش النظامي الموحدي.
وإنْ كان هؤلاء المتطوعة الذين في المقدمة متحمسين للقتال بصورة كبيرة، فإنهم ليست لهم الخبرة والدراية بالقتال كما هو الحال بالنسبة لتلك الفرقة المنتخبة من أجود مقاتلي النصارى، والتي هي في مقدمة جيشهم.
فكان من المفترض أن يضع الناصر لدين الله في مقدمة الجيش القادرين على صد الهجمة الأولى للنصارى؛ وذلك حتى يتملك الخطوات الأولى في الموقعة، ويرفع بذلك من معنويات المسلمين ويحط من معنويات النصارى، لكن العكس هو الذي حدث حيث وضع المتطوعه في المقدمة.
ولقد زاد من ذلك أيضا فجعل الأندلسيين في ميمنة الجيش، وما زال الألم والحرقة تكمن في قلوبهم من جراء قتل قائدهم الأندلسي المجاهد المغوار أبي الحجاج يوسف بن قادس، فكان خطأ كبيرا أيضا أن جعلهم يتلقون الصدمة الأولى من النصارى.
فنستطيع الآن حصر أخطاء الناصر لدين الله وهو في طريقه نحو العقاب على النحو التالي:
أولا: حصار قلعة سَالْبَطْرَة طيلة ثمانية أشهر كاملة.
ثانيا: الاستعانة ببطانة السوء الممثلة في الوزير السوء أبي سعيد بن جامع.
ثالثا: قتل القائد الأندلسي المشهور أبي الحجاج يوسف بن قادس.
رابعا: تنظيم الجيش وتقسيمه الخاطئ في أرض الموقعة.
خامسا: أمر في غاية الخطورة وهو الاعتقاد في قوة العدد والعدة، فقد دخل الناصر لدين الله الموقعة وهو يعتقد أنه لا محالة منتصر؛ فجيشه أضعاف الجيش المقابل. ومن هنا تتبدى في الأفق سحائب حنين جديدة، يخبر عنها سبحانه وتعالى بقوله: [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] {التوبة:25}.

العقاب.. والعقاب المرّ
تماما وكما تكررت حُنين في أرض الأندلس قبل ذلك في بلاط الشهداء، وفي موقعة الخندق مع عبد الرحمن الناصر وهو في أعظم قوته، تتكرر حُنين أيضا مع الناصر لدين الله في موقعة العقاب وهو في أعظم قوة للموحدين، وفي أكبر جيش للموحدين على الإطلاق، بل وفي أكبر جيوش المسلمين في بلاد الأندلس منذ أن فتحت في سنة 92 هـ= 711 م لتوالي الأخطاء السابقة كان طبيعيا جدا أن تحدث الهزيمة، فقد هجم المتطوعون من المسلمين على مقدمة النصارى، لكنهم ارتطموا ارتطاما شديدا بقلب قشتالة المدرّب على القتال، فصدوهم بكل قوة ومزّقوا مقدمة المسلمين وقتلوا منهم الآلاف في الضربة الأولى لهم.
واستطاعت مقدمة النصارى أن تخترق فرقة المتطوعة بكاملها، والبالغ عددهم - كما ذكرنا - ستين ألفا ومائة ألف مقاتل، وقد وصلوا إلى قلب الجيش الموحدي النظامي الذي استطاع أن يصد تلك الهجمة، لكن كانت قد هبطت وبشدة معنويات الجيش الإسلامي نتيجة قتل الآلاف منهم، وارتفعت كثيرا معنويات الجيش النصارى لنفس النتيجة.
وحين رأى ألفونسو الثامن ذلك أطلق قوات المدد المدربة لإنقاذ مقدمة النصارى، وبالفعل كان لها أثر كبير وعادت من جديد الكرّة للنصارى.
في هذه الأثناء حدث حادث خطير في جيش المسلمين، فحين رأى الأندلسيون ما حدث في متطوعة المسلمين واستشهاد الآلاف منهم، إضافة إلى كونهم يقاتلون مرغمين مع الموحدين - كما ذكرنا قبل ذلك - وأيضا كونهم يعتقدون بالعدد وليس في الثقة بالله عز وجل كل هذه الأمور اعتملت في قلوبهم، ففروا من أرض القتال.
وحين فرت ميمنة المسلمين من أرض الموقعة التف النصارى حول جيش المسلمين وبدأت الهلكة فيهم، فقتل الآلاف من المسلمين بسيوف النصارى في ذلك اليوم، والذي سُمّي بيوم العقاب أو معركة العقاب.
قُتل سبعون ألفا من مسلمي دولة الموحدين ومن الأندلسيين.. قُتلوا على يد النصارى، وفر الناصر لدين الله من أرض الموقعة ومعه فلول الجيش المنهزم المنكسر والمصاب في كل أجزاء جسده الكبير. وقد قال الناصر لدين الله وهو يفر: صدق الرحمن وكذب الشيطان. حيث دخل الموقعة وهو يعلم أنه منصور بعدده، فعلم أن هذا من إلقاء الشيطان وكذبه، وصدق الرحمن: [وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ] {التوبة:25}. فولى الناصر لدين الله مدبرا.
ومما زاد من مرارة الهزيمة أنه ارتكب خطأً آخر لا يقل بحال من الأحوال عن هزيمته المنكرة السابقة وفراره من أرض المعركة، وهو أنه لم يمكث بعد موقعة العقاب في المدينة التي تلي مباشرة مدينة العقاب، وهي مدينة بيّاسة، بل فر وترك بيّاسة ثم ترك أوبدّة، ترك كلتيهما بلا حامية وانطلق إلى مدينة أشبيليّة، وما زالت قوة النصارى في عظمها وما زالت في بأسها الشديد.

الفواجع بعد العقاب
مأساة بياسة:
انطلقت قوة النصارى بعد عقاب وهزيمة المسلمين تلك في موقعة العقاب فحاصرت بيّاسة، وكانت مأوى للمرضى والنساء والأطفال، فجمعوهم في المسجد الجامع الكبير في المدينة وقاموا بقتلهم جميعهم بالسيف... قال المراكشي في المعجب: فأما بياسة فوجدها - أي ألفونسو - أو أكثرها خالية فحرق أدؤرها وخرب مسجدها الأعظم...
مأساة أوبذّة:
قال صاحب الروض المعطار أُبذّة مدينة بالأندلس بينها وبين بياسة سبعة أميال، وهي مدينة صغيرة وعلى مقربة من النهر الكبير، ولها مزارع وغلات قمح وشعير كثيرة جداً، وفي سنة تسع وستمائة مالت عليها جموع النصرانية بعد كائنة العقاب وكان أهلها قد أنفوا من إخلائها كما فعل جيرانها أهل بياسة، ولم ترفع تلك الجموع يداً عن قتالها حنى ملكتها بالسيف، وقتل فيها كثير، وأسروا كثيراً...
وقال المراكشي في المعجب: ونزل - أي ألفونسو - على أبذّة وقد اجتمع فيها من المسلمين عدد كثير من المنهزمة وأهل بياسة وأهل البلد نفسه فأقام عليها ثلاثة عشر يوماً ثم دخلها عنوة فقتل وسبى وغنم وفصل هو وأصحابه من السبي من النساء والصبيان بما ملؤوا به بلاد الروم قاطبة فكانت هذه أشد على المسلمين من الهزيمة!.
وقد تدهور حال المسلمين كثيرًا في كل بلاد المغرب والأندلس على السواء، حتى قطع المؤرخون بأنه بعد موقعة العقاب ما كنت تجد شابًا صالحًا للقتال لا في بلاد المغرب ولا في بلاد الأندلس. فكانت موقعة واحدة قد بددت وأضاعت دولة في حجم وعظم دولة الموحدين.
ثم إنه قد انسحب الناصر لدين الله أكثر مما كان عليه، فانسحب من إشبيلية إلى بلاد المغرب العربي، ثم قد اعتكف في قصره واستخلف ابنه وليًا للعهد من بعده وهو بعد لم يتجاوز العشر سنين.
وفي عمل قد يعد طبيعيا ونتيجة حتمية لمثل هذه الأفعال، فقد توفي الناصر لدين الله بعد هذا الاستخلاف بعام واحد في سنة 610 هـ= 1214 م عن عمر لم يتجاوز الرابعة والثلاثين، وتولى حكم البلاد من بعده ولي عهده وابنه المستنصر بالله، وعمره آنذاك إحدى عشرة سنة فقط.
ومن جديد وكما حدث في عهد ملوك الطوائف تضيع الأمانة ويوسّد الأمر لغير أهله وتتوالى الهزائم على المسلمين بعد سنوات طويلة جدا من العلو والسيادة والتمكين لدولة الموحدين.
متابعة المأساة بعد موقعة العقاب
في موقف مدّ في عمر الإسلام في بلاد الأندلس بضع سنوات ظهرت بعض الأمراض في الجيوش القشتالية، الأمر الذي اضطرهم إلى العودة إلى داخل حدودهم.
وفي سنة 614 هـ= 1217 م وبعد موقعة العقاب بخمس سنين، ونظرا لتردي الأوضاع في بلاد المغرب، وتولي المستنصر بالله أمور الحكم وهو بعد طفل لم يبلغ الرشد، ظهرت حركة جديدة من قبيلة زناته في بلاد المغرب واستقلت عن حكم دولة الموحدين هناك، وأنشأت دولة سنية هي دولة بني مارين، والتي سيكون لها شأن كبير فيما بعد في بلاد الأندلس.
وفي سنة 620 هـ= 1223 م سقطت جزر البليار، وقتل فيها عشرون ألفا من المسلمين على يد ملك أراجون بمساعدة إيطاليا.
وفي نفس العام أيضا استقل بنو حفص بتونس، وانفصلوا بها عن دولة الموحدين.. وهو ذلك العام الذي توفي فيه أمير الموحدين المستنصر بالله عن إحدى وعشرين سنة فقط.
وعلى إثر هذا فقد دار صراع شديد على السلطة؛ حيث لم يكن المستنصر بالله قد استخلف بعد، فتولى عم أبيه عبد الواحد من بعده، إلا أنه خلع وقتل، ثم تولى من بعده عبد الله العادل، وعلى هذا الحال ظل الصراع، وأصبح الرجل يتولى الحكم مدة أربع أو خمس سنوات فقط ثم يُخلع أو يُقتل ويأتي غيره وغيره، حتى سارت الدولة نحو هاوية سحيقة.
وفي سنة 625 هـ= 1228 م استقل رجل يسمى ابن هود بشرق وجنوب الأندلس، وكان كما يصفه المؤرخون: مفرطا في الجهل، ضعيف الرأي، لم يُنصر له على النصارى جيش.
وفي سنة 633 هـ= 1236 م استقلّ بنو جيّان بالجزائر، وفي نفس هذا العام حدث حادث خطير ومروع. إنه حادث سقوط قرطبة حاضرة الإسلام.

المأساة الكبرى وسقوط قرطبة
في موقف لا نملك حياله إلا التأسف والندم، وفي سنة 633 هـ= 1236 م وبعد حصار طال عدة شهور، وبعد استغاثة بابن هود الذي استقلّ بدولته جنوب وشرق الأندلس، والذي لم يعر اهتماما لهذه الاستغاثات بسبب كونه منشغلا بحرب ابن الأحمر، ذلك الأخير الذي كان قد استقل أيضا بجزء آخر من بلاد الأندلس، في كل هذه الظروف سقطت قرطبة، وسقطت حاضرة الإسلام في بلاد الأندلس.
وكان أمرا غاية في القسوة حين لم يجد أهل قرطبة بدّا من الإذعان والتسليم والخروج من قرطبة، وكان الرهبان مصرون على قتلهم جميعهم، لكن فرناندو الثالث ملك قشتالة رفض ذلك؛ خشية أن يدمر أهل المدينة كنوزها وآثارها الفاخرة، وبالفعل خرج أهلها متجهين جنوبا تاركين كل شيء، وتاركين حضارة ومنارة ومجدًا عظيما كانوا قد خلفوه.
سقطت قرطبة التي أفاضت على العالم أجمع خيرًا وبركة وعلمًا ونورًا، سقطت قرطبة صاحبة الثلاثة آلاف مسجد، وصاحبة الثلاث عشرة ألف دار، سقطت قرطبة عاصمة الخلافة لأكثر من خمسمائة عام، سقطت قرطبة صاحبة أكبر مسجد في العالم، سقطت وسقط أعظم ثغور الجهاد في الإسلام.
سقطت قرطبة في الثالث والعشرين من شهر شوال لسنة ثلاثة وثلاثين وستمائة من الهجرة.. سقطت وفي يوم سقوطها تحوّل مسجدها الجامع الكبير إلى كنيسة، وما زال كنيسة إلى اليوم، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
تتابع المآسي
بعد سقوط قرطبة وفي سنة 635 هـ= 1237 م استقلّ بنو الأحمر بغرناطة بعد موت ابن هود في نفس السنة، وسيكون لهم شأن كبير في بلاد الأندلس على نحو ما سنبينه، وفي سنة 636 هـ= 1237 م وبعد استقلال ابن الأحمر بغرناطة بسنة واحدة وبعد حصار دام خمس سنوات متصلة سقطت بلنسية على يد ملك أراجون بمساعدة فرنسا، وكان حصارا شديدا كاد الناس أن يهلكوا جوعا، وكان خلاله عدة مواقع أشهرها موقعة أنيشة سنة 634 هـ= 1237 م والتي هلك فيها الكثير من المسلمين من بينهم الكثير من العلماء.
وكان بنو حفص في تونس قد حاولوا مساعدة بلنسية بالمؤن والسلاح لكن الحصار كان شديدا حتى اضطروا لترك البلد تماما في سنة 636 هـ= 1239 م وهُجّر خمسون ألفا من المسلمين إلى تونس، وتحولت للتّو كل مساجد المسلمين إلى كنائس، وكانت هذه سياسة متبعة ومشهورة للنصارى في كل البلاد الإسلامية التي يسيطرون عليها، إما القتل وإما التهجير.
وفي سنة 641 هـ= 1243 م سقطت دانية بالقرب من بلنسية، وفي سنة643 هـ= 1245 م سقطت جيّان. وهكذا لم يبق في بلاد الأندلس إلا ولايتان فقط، ولاية غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد، وولاية أشبيلية في الجنوب الغربي، وهما يمثلان حوالي ربع بلاد الأندلس.
هذا مع الأخذ في الاعتبار أن كل ولايات إفريقيا قد استقلّت عن دولة الموحدين، فسقطت بذلك الدولة العظيمة المهيبة المتسعة البلاد المترامية الأطراف.

دولة الموحدين وعوامل السقوط.. وقفة تحليلية
قد يفاجأ البعض ويتعجب باحثًا عن الأسباب والعلل من هول هذا السقوط المريع لهذا الكيان الكبير بهذه الصورة السريعة المفاجئة، وحقيقة الأمر أن هذا السقوط لم يكن مفاجئا؛ فدولة الموحدين كانت تحمل في طياتها بذور الضعف وعوامل الانهيار، وكانت كثيرة، نذكر منها ما يلي:
أولًا:
تعاملها بالظلم مع دولة المرابطين، وقتلها الآلاف ممن لا يستحقون القتل.. وإن طريق الدم لا يمكن أبدا أن يثمر عدلا، يقول ابن تيمية: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.
إن عاقبة الظلم وخيمة وربما تتأخر عقوبة الظلم لكنها بلا شك تقع على الظالم فالله تعالى يمهل ولا يهمل، وقد أسرف الموحدون كثيرًا في إراقة دماء من خالفهم من المسلمين بل في سفك دماء من يشكون في ولائه لهم ممن كانوا معهم - كما رأينا في أمر التمييز الذي قام به ابن تومرت قبل وقعة البحيرة أو البستان التي عجّل الله لهم العقاب فيها وقتل منهم الكثير، فقد جعل ابن تومرت الأهل يقتلون أبنائهم، بعدما أقنعهم أنهم من أهل النار وذلك بحيلة ماكرة شاركه فيه أحد الخبثاء ممن هو على شاكلته - وهذا أمر في غاية الخطورة، لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا من العداء بين المسلم وأخيه المسلم ومن التدابر والتحاسد والتناجش والتباغضن روى مسلم في صحيحه بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".
ثانيا:
العقائد الفاسدة التي أدخلها ابن تومرت على منهج أهل السنة، وبالرغم من أن يعقوب المنصور رحمه الله قاومها بشدة، إلا أن أشياخ الموحدين ظلّوا يعتقدون في عصمة محمد بن تومرت وفي صدق أقواله، حتى آخر أيام دولة الموحدين.
إن سلامة العقيدة وصفائها أهم عامل في بناء الأمم والأفراد فمتى أصابه الخلل كان الانهيار السريع والمدوي، وقد استطاع ابن تومرت بمكره ودهائه أن يشبع عقول العامة بأفكاره الشاذة البعيدة عن منهج الله تعالى ومنهج رسوله العظيم صلى الله عليه وسلم، فتشرّب الناس بجهلهم هذه العقائد الزائفة الباطلة نظرًا لما هم عليه من الجهل والتخلف، بينما كان ابن تومرت قد تلقى العلوم الكثيرة عن الكثير من علماء الفرق المختلفة من خوارج ومعتزلة ورافضة وأيضًا أهل سنة مما أحدث عنده خللًا عقائديًا خطيرًا وافق عنده حبًا للزعامة وعطشًا إلى الدماء مما أدّى إلى ما رأيناه من مصائب ومحن أصابته وأصابت من خُدع بقوله ممن سماهم الموحدين...
وثمة أمر آخر لا يقل خطورة عن هذا الأمر ألا وهو تكفير المرابطين وقد بنى ابن تومرت على هذه الفكرة جواز قتلهم وحرقهم وسبي نسائهم وهدم دولتهم وتقويض بنيانها من القواعد...
إن تكفير المسلم قضية في منتهى الخطورة لا ينبغي لعاقلٍ بحال من الأحوال أن يقع فيها، ففي البخاري بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَ" وعند مسلم "أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ" وكذا رواه الإمام أحمد... البخاري (5753)، مسلم (60) عن ابن عمر، وهو عند البخاري (5752) عن أبي هريرة.
وقال أبو حامد الغزالي:
" والذي ينبغي أن يميل المسلم إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة - قارورة - من دم مسلم" الاقتصاد في الاعتقاد صـ 157
وقال ابن تيمية:
"من ثبت إيمانه بيقين لم يزل عنه بالشك بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة" الفتاوى 12 / 466
((وقد صرح القرآن الكريم أن المرء لايكفر بالمعصية ما دامت دون الشرك الأكبر بل إن رحمة الله ومغفرته تشمل تلك المعاصي بمشيئته تعالى.
قال الله عز وجل: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] {النساء: 48، 116 }.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
كذلك لا يكفر مسلم بسبب رأيٍ خطأ في مسألة اجتهادية تحتمل وجهات نظر سواء كانت عقيدة أو فقه. روى ابن ماجة بسنده عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ.
ويعلّق على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول:
"وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العلمية وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا بمعصية " الفتاوى 3 / 229 )) {نظرات في رسالة التعاليم / محمد عبد الله الخطيب}
ثالثا:
كان من عوامل سقوط دولة الموحدين أيضًا الثورات الداخلية الكثيرة التي قامت داخل دولة الموحدين، وكان أشهرها ثورة بني غانية، والتي كانت في جزر البليار، وأيضا في بلاد الأندلس وفي تونس.
رابعا:
الإعداد الجيد من قبل النصارى في مقابل الإعداد غير المدروس من قبل الناصر لدين الله ومن تبعه بعد ذلك.
خامسا:
وهو أمر هام وجد خطير، وهو انفتاح الدنيا على دولة الموحدين وكثرة الأموال في أيديهم والتي طالما غرق فيها كثير من المسلمين، وكذلك أيضا الترف والبذخ الشديد الذي أدى إلى التصارع على الحكم وإلى دعة الحكام وإلى الحركات الانفصالية كما ذكرنا.
سادسا:
بطانة السوء المتمثلة في أبي سعيد بن جامع وزير الناصر لدين الله ومن كان على شاكلته بعد ذلك.
(( لقد كان الناصر ألعوبة في يد وزيره ابن جامع الذي لم يكن مسئولًا عن هزيمة العقاب فقط، بل عن مصير الموحدين بعد الناصر أيضًا، لقد وضع ابن جامع الأسباب القوية التي أدت إلى تصدّع سلطان الموحدين من أسسه.
لقد كُتب لأسرة ابن جامع التي تولّى كثير منها الوزارة، وعلى رأسها ابو سعيد بن جامع أن تلعب أخطر دور في تحطيم دولة الموحدين، بمشاركة الأعراب البدو، وأشياخ الموحدين....
لقد تصرف ابن جامع - الذي يمثل بطانة السوء - بدولة الموحدين، فكان له أثره الخطير، ليس في ميدان السياسية الداخلية والخارجية للدولة فحسب، بل على وجود دولة الموحدين نفسها...
ابن جامع من الشخصيات الغامضة - والمزاودة - التي تدخل في مصير الشعوب ومقدرات الدول، تبدي غير ما تخفيه، من الشخصيات التي تُكلف بمهمات خطيرة، أولاها التخريب والتدمير من الداخل، كما فعل فيما بعد ابن العلقمي في الخلافة العباسية، حيث اظهر الإخلاص وأضمر الخبث، وتتكرر الصورة ذاتها برسائل التتر وإخفائها عن الخليفة المستعصم، والهدف واحد تقويض أركان الدولة... العقاب - د. شوقي أبو خليل
سابعا:
إهمال الشورى من قبل الناصر لدين الله ومَنْ بعده من الأمراء.
وعدم الأخذ بمبدأ الشورى هو مخالفة صريحة للقرآن الكريم فالله عز وجل يقول: [وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ] {آل عمران: 159} وقال الله تعالى في صفات المؤمنين: [وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ] {الشورى: 38}. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره: لا يبرمون أمرًا حتى يتشاوروا فيه، ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها...
فهذه العوامل وغيرها اجتمعت لتسقط هذا الكيان الكبير، والذي لم يبق منه في بلاد الأندلس إلا ولايتان فقط هما غرناطة وأشبيلية، ومع ذلك - وسبحان الله - ظل الإسلام في بلاد الأندلس لأكثر من 250 سنة من هذا السقوط المروّع لدولة الموحدين..!!
وهذه قائمة بأسماء خلفاء دولة الموحدين:
1 - عبد المؤمن بن علي (524 - 558 هـ= 1129 - 1163 م )
2 - أبو يعقوب يوسف ( 558 - 580 هـ= 1163 - 1184 م )
3 - أبو يوسف يعقوب المنصور ( 580 - 595 هـ= 1184 - 1199 م )
4 - أبو محمد عبد الله الناصر ( 595 - 610 هـ= 1199 - 1213 م )
5 - أبو يعقوب يوسف المستنصر ( 611 - 620 هـ= 1213 - 1224 م )
6 - عبد الواحد بن يوسف بن عبد المؤمن ( 620 - 621 هـ= 1224 م )
7 - أبو عبد الله بن يعقوب المنصور ( العادل ) ( 621 - 624 هـ= 1224 - 1227 م )
8 - يحيى بن الناصر ( 624 - 627 هـ= 1227 - 1230 م )
9 - المأمون بن المنصور ( 627 - 630 هـ= 1231 - 1232 م )
10 - الرشيد بن المأمون بن المنصور ( 630 - 640 هـ= 1232 - 1242 م )
11 - السعيد علي أبو الحسن ( 640 - 646 هـ= 1242 - 1248 م )
12 - أبو حفص عمر المرتضى ( 646 - 665 هـ= 1248 - 1266 م )
3 - أبو دبوس الواثق بالله ( 665 - 668 هـ= 1266 - 1269 ). "إعلام أهل العلم والدين بأحوال دولة الموحدين" د. الصلابي
<
عبد المؤمن بن عليّ في الأندلس
في سنة 543 هـ= 1148 م وبعد التدهور الكبير الذي حدث في بلاد الأندلس، قدم إلى بلاد المغرب العربي القاضي ابن العربي صاحب (العواصم من القواصم) قدم من الأندلس وبايع "عبد المؤمن بن علي"، وطلب النجدة لأهل الأندلس.
وإن مبايعة القاضي ابن العربي لعبد المؤمن بن عليّ لتعطي إشارة واضحة إلى أن عبد المؤمن بن عليّ لم يكن ليعتقد أو يدعو إلى أفكار ضالة كما في الدعوة إلى العصمة أو المهدية أو غيرها مما كان يدين بها محمد بن تومرت وبعض من أتباعه، وإلا لم يكن للقاضي ابن العربي - وهو الذي اشتهر وعرف عنه الذبّ عن الإسلام من الضلالات والانحرافات - أن يقدم من بلاد الأندلس لمبايعته على الطاعة والنصرة.
قَبِلَ عبد المؤمن بن عليّ الدعوة من القاضي ابن العربي، وجهزّ جيوشه وانطلق إلى بلاد الأندلس، وهناك بدأ يحارب القوات الصليبية حتى ضم معظم بلاد الأندلس الإسلامية التي كانت في أملاك المرابطين إلى دولة الموحدين، وكان ممن قاتله هناك بعض أنصار دولة المرابطين إلا أنه قاتلهم وانتصر عليهم وذلك في سنة 545 هـ= 1150 م.
وفي سنة 552 هـ= 1157 م استطاع أن يستعيد ألمريّة، وفي سنة 555 هـ= 1160 م استعاد تونس من يد النصارى، وبعدها بقليل - ولأول مرة - استطاع أن يضم ليبيا إلى دولة الموحدين، وهي بعد لم تكن ضمن حدود دولة المرابطين.
وبهذا يكون قد وصل بحدود دولة الموحدين إلى ما كانت عليه أثناء دولة المرابطين إضافة إلى ليبيا، وقد اقتربت حدود دولته من مصر كثيرا، وكان يفكر في أن يوحّد كل أطراف الدولة الإسلامية تحت راية واحدة تكون لدولة الموحدين.
يوسف بن عبد المؤمن بن عليّ (533 - 580 هـ= 1138 - 1184 م)وحكم الموحدين:
في عام 558 هـ= 1163 م يتوفي عبد المؤمن بن عليّ في "رباط سلا" في طريقه إلى الاندلس مجاهدًا، ونقل إلى "تينملل" فدفن فيها إلى جانب قبر ابن تومرت وخلفه على الحكم ابنه محمد ثم خُلع لفسقه وسوء خلقه وولي الأمر يوسف بن عبد المؤمن بن عليّ، وكان يبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا، وقد كان مجاهدًا شهمًا كريمًا إلا أنه لم يكن في كفاءة أبيه القتالية.
قال عنه الزركلي في الأعلام: وكان حازما شجاعا، عارفًا بسياسة رعيته، له علم بالفقه، كثير الميل إلى الحكمة والفلسفة، استقدم إليه بعض علماء الاقطار وفي جملتهم أبو الوليد ابن رشد...وهو باني مسجد إشبيلية، أتمّه سنة 567 وإليه تنسب الدنانير " اليوسفية " في المغرب، وكانت علامته في المكاتبات وعلامة من بعده: " الحمد لله وحده "...
وقد ظل يوسف بن عبد المؤمن بن عليّ يحكم دولة الموحدين اثنين وعشرين عامًا متصلة، منذ سنة 558 هـ= 1163 م وحتى سنة 580 هـ= 1185 م وقد نظم الأمور وأحكمها في كل بلاد الأندلس وبلاد المغرب العربي، وكانت له أعمال جهادية ضخمة ضد النصارى، لكنه كان يعيبه شيء خطير وهو أنه كان متفرد الرأي لا يأخذ بالشورى، وهذا - بالطبع - كان من تعليم وتربية أبيه عبد المؤمن بن علي صاحب محمد بن تومرت كما ذكرنا.
كان لانفراد يوسف بن عبد المؤمن بن عليّ بالرأي سببا قويا في حدوث أخطاء كثيرة في دولته، كان آخرها ما حدث في موقعة له مع النصارى حول قلعة من قلاع البرتغال كان يقاتل فيها بنفسه، فقد قتل فيها ستة من النصارى، ثم طُعن بعد ذلك واستشهد رحمه الله في هذه الموقعة التي تُسمّى وقعة "شنترين" فمات قرب الجزيرة الخضراء في سنة 580 هـ= 1184 م.

العصر الذهبي لدولة الموحدين
بعد وفاة يوسف بن عبد المؤمن بن عليّ تولى من بعده ابنه يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن عليّ، وقد لُقب في التاريخ بالمنصور، وكان له ابن يُدعى يوسف فعُرف بأبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي.
أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي (554 - 595 هـ= 1160 - 1199 م)
التعريف به:
قال عنه ابن خلكان في وفيات الأعيان: أبو يوسف يعقوب بن أبي يوسف بن أبي محمد عبد المؤمن بن علي، القيسي الكومي صاحب بلاد المغرب... كان صافي السمرة جداً، جميل الوجه أفوه أعين شديد الكحل ضخم الأعضاء جهوري الصوت جزل الألفاظ، من أصدق الناس لهجة وأحسنهم حديثاً وأكثرهم إصابة بالظن، مجرباً للأمور، ولي وزارة أبيه، فبحث عن الأحوال بحثاً شافياً وطالع مقاصد العمال والولاة وغيرهم مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور ولما مات أبوه اجتمع رأي أشياخ الموحدين وبني عبد المؤمن على تقديمه فبايعوه وعقدوا له الولاية ودعوه أمير المؤمنين كأبيه وجده ولقبوه بالمنصور، فقام الأمر أحسن قيام، وهو الذي أظهر أبهة ملكهم ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع ونظر في أمور الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات.
ولما مات أبوه كان معه في الصحبة، فباشر تدبير المملكة من هناك، وأول ما رتب قواعد بلاد الأندلس، فأصلح شأنها وقرر المقاتلين في مراكزها ومهد مصالحها في مدة شهرين. وأمر بقراءة البسملة في أول الفاتحة في الصلوات وأرسل بذلك إلى سائر بلاد الشام التي في مملكته. فأجاب قوم وامتنع آخرون...
وقد تولى أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي حكم دولة الموحدين خمس عشرة سنة متصلة، من سنة 580 هـ= 1184 م وحتى سنة 595 هـ= 1199 م وكان أقوى شخصيه في تاريخ دولة الموحدين، ومن أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين بصفة عامة، وقد عُدّ عصره في دولة الموحدين بالعصر الذهبي.
ونستطيع أن نتناول سيرته في الأندلس من خلال هذين العنصرين:
أولا: المنصور الموحدي الرجل الإنسان
مثل عبد الرحمن الداخل ومن قبله عبد الرحمن الناصر وغيرهم ممن فعلوا ما لم يفعله الشيوخ والكبار تولى أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي وكان عمره خمسا وعشرين سنة فقط، وقد قام بالأمر أحسن ما يكون القيام، وقد رفع راية الجهاد، ونصب ميزان العدل، ونظر في أمور الدين والوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن.
واستطاع أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي أن يغير كثيرا من أسلوب السابقين له، فكان سمته الهدوء والسكينة والعدل والحلم، حتى إنه كان يقف ليقضي حاجة المرأة وحاجة الضعيف في قارعة الطريق، وكان يؤم الناس في الصلوات الخمس، وكان زاهدا يلبس الصوف الخشن من الثياب، وقد أقام الحدود حتى في أهله وعشيرته، فاستقامت الأحوال في البلاد وعظمت الفتوحات.
بلغت أعمال أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي الجليلة في دولته أوجها، حتى وصلت إلى أن حارب الخمور، وأحرق كتب الفلاسفة، واهتم بالطب والهندسة، وألغى المناظرات العقيمة التي كانت في أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدين، وقد أسقط الديون عن الأفراد وزاد كثيرا في العطاء للعلماء، ومال هو إلى مذهب ابن حزم الظاهري لكنه لم يفرضه على الناس، بل إنه أحرق الكثير من كتب الفروع وأمر بالاعتماد على كتاب الله وعلى كتب السنة الصحيحة.
وفي دولته اهتم أيضا أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي بالعمران، وقد أنشأ مدينة الرباط وسمّاها رباط الفتح، وأقام المستشفيات وغرس فيها الأشجار، وخصّص الأموال الثابتة لكل مريض، وكان رحمه الله يعود المرضى بنفسه يوم الجمعة، وأيضا كان يجمع الزكاة بنفسه ويفرقها على أهلها، وكان كريما كثير الإنفاق حتى إنه وزّع في يوم عيد أكثر من سبعين ألف شاة على الفقراء.
المنصور الموحدي يتبرأ من أباطيل ابن تومرت
يُعدّ أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي أول من أعلن صراحة فساد أقوال محمد بن تومرت في فكرة العصمة والمهدية، وقال بأن هذا من الضلالات، وأنه ليس لأحد عصمة بعد الأنبياء، وكان مجلسه رحمه الله عامرا بالعلماء وأهل الخير والصالحين. وقد ذكر الذهبي رحمه الله في العبر أنه كان يجيد حفظ القرآن والحديث، ويتكلم في الفقه ويناظر، وكان فصيحا مهيبا، يرتدي زي الزهّاد والعلماء ومع ذلك عليه جلالة الملوك.
وعدم اعتراف المنصور الموحدي بأفكار ابن تومرت المخالفة للكتاب والسنة يجعله من أهل السنة والجماعة ومن الفئة الصالحة المصلحة التي يحقق الله بها النصر والتمكين لدينه والعزة والمنعة لأهله - تعالى - وقد أورد المراكشي ما يفيد براءة المنصور الموحدي من أفكار ابن تومرت الضالة جاء في "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" عن "المراكشي" قوله: أخبرني الشيخ الصالح أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مطرف المري ونحن بحجر الكعبة قال: قال لي أمير المؤمنين أبو يوسف يا أبا العباس اشهد لي بين يدي الله عز وجل أني لا أقول بالعصمة - يعني عصمة ابن تومرت - قال: وقال: لي يوماً وقد استأذنته في فعل شيء يفتقر إلى وجود الإمام: يا أبا العباس أين الإمام؟ أين الإمام؟.
ويقول أيضًا: أخبرني شيخ ممن لقيته من أهل مدينة جيان من جزيرة الأندلس يسمى أبا بكر بن هانئ مشهور البيت هناك لقيته وقد علت سنه فرويت عنه قال: لي لما رجع أمير المؤمنين - يعني المنصور الموحدي - من غزوة الأرك وهي التي أوقع فيها بالأدنفش وأصحابه خرجنا نتلقاه فقدمني أهل البلد لتكليمه فرفعت إليه فسألني عن أحوال البلد وأحوال قضاته وولاته وعماله على ما جرت عادته فلما فرغت من جوابه سألني كيف حالي في نفسي فتشكرت له ودعوت بطول بقائه ثم قال: لي ما قرأت من العلم قلت: قرأت تواليف الإمام أعني ابن تومرت فنظر إلي نظرة المغضب وقال: ما هكذا يقول: الطالب إنما حكمك أن تقول قرأت كتاب الله وقرأت شيئاً من السنة ثم بعد هذا قل ما شئت...
وقال عنه "المراكشي" في كتابه "المعجب في تلخيص أخبار المغرب": وكان في جميع أيامه وسيره مؤثراً للعدل متحرياً له بحسب طاقته وما يقتضيه إقليمه والأمة التي هو فيها كان في أول أمره أراد الجري على سنن الخلفاء الأول.
فمن ذلك أنه كان يتولى الإمامة بنفسه في الصلوات الخمس لم يزل على ذلك مستمراً أشهراً إلى أن أبطأ يوماً عن صلاة العصر إبطاء كاد وقتها يفوت وقعد الناس ينتظرونه فخرج عليهم فصلى ثم أوسعهم لوماً وتأنيباً وقال: ما أرى صلاتكم إلا لنا وإلا فما منعكم عن أن تقدموا رجلاً منكم فيصلي بكم أليس قد قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف حين دخل وقت الصلاة وهو غائب أما لكم بهم أسوة وهم الأئمة المتبعون والهداة المهتدون فكان ذلك سبباً لقطعه الإمامة.
وكان يقعد للناس عامة لا يحجب عنه أحد من صغير ولا كبير حتى اختصم إليه رجلان في نصف درهم فقضى بينهما وأمر الوزير أبا يحيى صاحب الشرطة أن يضربهما ضرباً خفيفاً تأديباً لهما وقال: لهما أما كان في البلد حكام قد نصبوا لمثل هذا فكان هذا أيضاً مما حمله على القعود في أيام مخصوصة لمسائل مخصوصة لا ينفذها غيره.
وكان قد أمر أن يدخل عليه أمناء الأسواق وأشياخ الحضر في كل شهر مرتين يسألهم عن أسواقهم وأسعارهم وحكامهم.
وكان إذا وفد عليه أهل بلد فأول ما يسألهم عن عمالهم وقضاتهم وولاتهم فإذا أثنوا خيراً قال: أعلموا أنكم مسؤولون عن هذه الشهادة يوم القيامة فلا يقولن امرؤ منكم إلا حقاً وربما تلا في بعض المجالس: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ] {النساء 135}.
كل هذه الصفات السابقة لأبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي وهو ما زال شابًا بدأ الحكم وعمره خمس وعشرون سنة فقط.
ثانيا: المنصور الموحدي وبلاد الأندلس
إضافة إلى أعماله السابقة في دولة الموحدين بصفة عامة، فقد وطد أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي الأوضاع كثيرا في بلاد الأندلس، وقوى الثغور هناك، وكان يقاتل فيها بنفسه، وقد كانت أشد الممالك ضراوة عليه مملكة البرتغال ثم من بعدها مملكة قشتالة. وقد كان له في الأندلس ما يلي:
أولا: القضاء على ثورات بني غانية:
في سنة 585 هـ= 1189 م وفي جزر البليار من بلاد الأندلس قامت قبيلة بني غانية من أتباع المرابطين بثورة عارمة على الموحدين، وقد كان لهذه القبيلة ثورات من قبل على عبد المؤمن بن عليّ وابنه يوسف بن علي أيضا من بعده، فقاموا بثورة في جزر البليار وأخرى في تونس.
ما كان من أبي يوسف يعقوب المنصور إلا أن عاد من داخل بلاد الأندلس إلى جزر البليار فقمع ثورة بني غانية هناك، ثم رجع إلى تونس فقمع أيضا ثورتهم، وكان من جراء ذلك أن ضعفت كثيرا قوة الموحدين في الأندلس.
استغلّ ملك البرتغال انشغال أبي يوسف يعقوب المنصور بالقضاء على هذه الثورات واستغل الضعف الذي كان نتيجة طبيعية لذلك، واستعان بجيوش ألمانيا وإنجلترا البرية والبحرية، ثم حاصر أحد مدن المسلمين هناك واستطاع أن يحتلها ويخرج المسلمين منها، وقد فعل فيها من الموبقات ما فعل، ثم استطاع أن يواصل تقدمه إلى غرب مدينة أشبيليّة في جنوب الأندلس. وهنا يكون الوضع قد أضحى في غاية الخطورة.
وحول ثورات بني غانية. فقد كان مقبولًا منهم أن يقوموا بثورات على السابقين من حكام الموحدين قبل أبي يوسف يعقوب المنصور بحجة أفكارهم الضالة التي خرجت عن منهج الله سبحانه وتعالى، لكن السؤال هو لماذا الثورة على هذا الرجل الذي أعاد للشرع هيبته من جديد، والذي أقام الإسلام كما ينبغي أن يقام، والذي أعاد القرآن والسنة إلى مكانهما الصحيح؟!
كان من الواجب على بني غانية أن يضعوا أيديهم في يد أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي رحمه الله ويضموا قوتهم إلى قوته ليحاربوا العدو الرئيس الرابض والمتربص لهم، والمتمثل في دول الشمال الأندلسي، سواء أكانت دول قشتالة أو البرتغال أو الممالك الأخرى، لكن هذا لم يحدث، فأدت هذه الثورات الداخلية إلى ضعف قوة الموحدين في بلاد الأندلس، وإلى هذا الانهيار المتدرج في هذه المنطقة.
ثانيا: المواجهات مع النصارى واستعادة السيطرة:
بعد القضاء على ثورات بني غانية أخذ أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي يفكر في كيفية إعادة الوضع إلى ما كان عليه، ووقف أطماع النصارى في بلاد الأندلس.
علم أولا أن أشد قوتين عليه هما قوة قشتالة وقوة البرتغال، لكنه رأى أن قوة البرتغال أشد وأعنف من سابقتها، فقام بعقد اتفاقيه مع قشتالة عاهدهم فيها على الهدنة وعدم القتال مدة عشر سنوات.
اتجه أبو يوسف يعقوب المنصور بعد ذلك إلى منطقة البرتغال، وهناك حاربهم حروبا شديدة وانتصر عليهم في أكثر من مرة، واستطاع أن يحرر المنطقة بكاملها ويسترد إلى أملاك المسلمين من جديد ما كان قد فقد هناك.
وقبل أن يكتمل له تحرير تلك المنطقة نقض ملك قشتاله العهد الذي كان قد أبرمه معه، وعليه فقد بدأ يعيث تهجما وفسادا على أراضي المسلمين، ثم بعث ألفونسو الثامن- ملك قشتالة في ذلك الوقت، وهو من أحفاد ألفونسو السادس الذي هُزم في موقعة الزلاّقة الشهيرة - بعث برسالة إلى أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي يهين فيها المسلمين ويهدده ويتوعده.

رسالة ألفونسو التي أثارت حميّة المسلمين
كتب ألفونسو الثامن ملك قشتالة إلى سلطان الموحدين "المنصور الموحدي" كتابًا يشابه الكتاب الذي أرسله ألفونسو السادس إلى يوسف بن تاشفين، يدعوه إلى القتال وهذا نص خطابه - كما أورده ابن خلكان في وفيات الأعيان -: باسمك اللهم فاطر السموات والأرض، وصلى الله على السيد المسيح روح الله وكلمته الرسول الفصيح، أما بعد فإنه لا يخفى على ذي ذهن ثاقب ولا ذي عقل لازب، أنك أمير الملة الحنيفية كما أني أمير الملة النصرانية، وقد علمت الآن ما عليه رؤساء أهل الأندلس من التخاذل والتواكل وإهمال الرعية، وإخلادهم إلى الراحة، وأنا أسومهم بحكم القهر وجلاء الديار وأسبي الذراري وأمثل بالرجال، ولا عذر لك في التخلف عن نصرهم إذا أمكنتك يد القدرة، وأنتم تزعمون أن الله تعالى فرض عليكم قتال عشرة منا بواحد منكم، فالآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً، ونحن الآن نقاتل عشرة منكم بواحد منا لا تستطيعون دفاعاً ولا تملكون امتناعاً، وقد حكي لي عنك أنك أخذت في الاحتفال وأشرفت على ربوة القتال، وتماطل نفسك عاماً بعد عام، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فلا أدري أكان الجبن أبطأ بك أم التكذيب بما وعد ربك، ثم قيل لي إنك لا تجد إلى جواز البحر سبيلاً لعلةٍ لا يسوغ لك التقحم معها، وها أنا أقول لك ما فيه الراحة لك وأعتذر لك وعنك، على أن تفي بالعهود والمواثيق والاستكثار من الرهان، وترسل إليّ جملة من عبيدك بالمراكب والشواني والطرائد والمسطحات، وأجوز بجملتي إليك، وأقاتلك في أعز الأماكن لديك، فإن كانت لك فغنيمة كبيرة جلبت إليك وهدية عظيمة مثلت بين يديك، وإن كانت لي كانت يدي العليا عليك، واستحقيت إمارة الملتين والحكم على البرين، والله تعالى يوفق للسعادة ويسهل الإرادة، لارب غيره ولا خير إلا خيره، إن شاء الله تعالى.
فلما وصل كتابه إلى الأمير يعقوب مزّقه وكتب على ظهر قطعة منه: [ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ] {النمل: 37} الجواب ما ترى لا ما تسمع.
وعلى الفور أعلن الجهاد والاستنفار العام في كل ربوع المغرب والصحراء، وأمر بنشر ما جاء في كتاب ألفونسو الثامن ليحمس الناس ويزيد من تشويقهم للجهاد.
قبل هذا الوقت بسنوات قلائل كان المسلمون في كل مكان يعيشون نشوة النصر الكبير الذي حققه صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في موقعة حطين الخالدة في سنة 583 هـ= 1187 م أي قبل هذه الأحداث بسبع سنوات فقط، وما زال المسلمون في المغرب يعيشون هذا الحدث الإسلامي الكبير ويتمنون ويريدون أن يكرروا ما حدث في المشرق، خاصة بعد أن قام أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي بتحفيزهم في الخروج إلى الجهاد، فتنافسوا في ذلك [وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ] {المطَّففين:26}.
(( دوّت صيحة الجهاد في جميع أنحاء المغرب، من مدينة "سلا" على المحيط الأطلسي، حتى "برقة" شرقًا على حدود مصر، ضد الذين غدوا خطرًا على الإسلام...
لقد هرع الرجال والشباب والشيوخ وسكان الهضاب والصحارى والشواطيءفي جميع أنحاء المغرب إلى الانضمام إلى ألوية الجهاد في الأندلس، وأخذ الخطر الداهم ينذر الغرب في الوقت الذي حاول فيه النصارى أن يرفعوا الصليب في الشرق...)) الأرك - شوقي أبو خليل
بدأ هذا الاستنفار في سنة 590 هـ= 1194 م وبعدها بعام واحد وفي سنة 591 هـ=1195 م انطلقت الجيوش الإسلامية من المغرب العربي والصحراء وعبرت مضيق جبل طارق إلى بلاد الأندلس لتلتقي مع قوات الصليبيين الرابضة هناك في موقعة ما برح التاريخ يذكرها ويجلّها.

موقعة الأرك الخالدة
"الأرك": حصن على بعد عشرين كم إلى الشمال الغربي من قلعة رباح، على أحد فروع نهر وادي آنة، غرب المدينة الاسبانية الحديثة giadad real "المدينة الملكية". والأرك هي نقطة الحدود بين قشتالة والأندلس في حينه. الأرك - شوقي أبو خليل
في التاسع من شهر شعبان لسنة سنة 591 هـ=1195 م وعند هذا الحصن الكبير الذي يقع في جنوب "طليطلة" على الحدود بين قشتالة ودولة الأندلس في ذلك الوقت التقت الجيوش الإسلامية مع جيوش النصارى هناك.
أعد "ألفونسو الثامن" جيشه بعد أن استعان بمملكتي "ليون ونافار"، وبجيوش ألمانيا وإنجلترا وهولندا.. في قوة يبلغ قوامها خمسة وعشرين ألفا ومائتي ألف نصراني، وقد أحضروا معهم بعض جماعات اليهود لشراء أسرى المسلمين بعد انتهاء المعركة لصالحهم، ليتم بيعهم بعد ذلك في أوروبا.
وعلى الجانب الآخر فقد أعدّ أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي جيشا كبيرًا، بلغ قوامه مائتي ألف مسلم من جراء تلك الحمية التي كانت في قلوب أهل المغرب العربي وأهل الأندلس على السواء، خاصة بعد انتصارات المسلمين في حطين (583 هـ= 1187 م ) في الشرق...
البدايات وأمور جديدة على الموحدين
في منطقة "الأرك" وفي أول عمل له عقد أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي مجلسًا استشاريًا يستوضح فيه الآراء والخطط المقترحة في هذا الشأن، وقد كان هذا على غير نسق كل القادة الموحدين السابقين له والذين غلب عليهم التفرد في الرأي، فنهج منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر.
وفي هذا المجلس الاستشاري استرشد أبو يوسف يعقوب المنصور بكل الآراء، حتى إنه استعان برأي أبي عبد الله بن صناديد في وضع خطة الحرب، وهو زعيم الأندلسيين وليس من قبائل المغرب البربرية، وكان هذا أيضًا أمرًا جديدًا على دولة الموحدين التي كانت تعتمد فقط على جيوش المغرب العربي، فضم أبو يوسف يعقوب المنصور قوة الأندلسيين إلى قوة المغاربة وقوة البربر القادمين من الصحراء.
الاستعداد ووضع الخطط
في خُطة شبيهة جدًا بخطة موقعة الزلاقة قسم أبو يوسف يعقوب المنصور الجيش إلى نصفين، فجعل جزءا في المقدمة وأخفى الآخر خلف التلال وكان هو على رأسه، ثم اختار أميرا عاما للجيش هو كبير وزرائه أبو يحيى بن أبي حفص، وقد ولى قيادة الأندلسيين لأبي عبد الله بن صناديد؛ وذلك حتى لا يوغر صدور الأندلسيين وتضعف حماستهم حين يتولى عليهم مغربي أو بربري.
وإتمامًا لهذه الخطة فقد جعل الجزء الأول من الجيش النظامي الموحدي ومن الأندلسيين، وقد قسمه إلى ميمنه من الأندلسيين وقلب من الموحدين وميسرة من العرب، ثم جعل من خلفهم مجموعة المتطوعين غير النظاميين، الذين ليست لهم كفاءة عالية في القتال.
وهو يريد بذلك أن تتلقى الجيوش النظامية التي في المقدمة الصدمة والضربة الأولى من قوات الصليبيين فيصدونهم صدا يليق بتدريباتهم؛ مما يوقع الرهبة في قلوب الصليبيين ويرفع من معنويات الجيش الإسلامي، أما المتطوعين غير النظاميين الذين ليست لهم كفاءة عالية في القتال فوضعهم من وراء المقدمة حتى لا يُكسروا أول الأمر، ومكث هو - كما ذكرنا - في المجموعة الأخيرة خلف التلال.
راح بعد ذلك أبو يوسف يعقوب المنصور يوزع الخطباء على أطراف الجيش يحمسونه على الجهاد، وعند اكتمال الحشد وانتهاء الاستعداد للقتال أرسل الأمير الموحدي رسالة إلى كل المسلمين يقول فيها: إن الأمير يقول لكم اغفروا له فإن هذا موضع غفران، وتغافروا فيما بينكم، وطيبوا نفوسكم، وأخلصوا لله نياتكم. فبكى الناس جميعهم، وأعظموا ما سمعوه من أميرهم المؤمن المخلص، وعلموا أنه موقف وداع، وفي موقف مهيب التقى المسلمون مع بعضهم البعض وعانقوا بعضهم بعضًا، وقد ودّعوا الدنيا وأقبلوا على الآخرة.

اللقاء المرتقب
في تلك الموقعة كان موقع النصارى في أعلى تل كبير، وكان على المسلمين أن يقاتلوا من أسفل ذلك التل، لكن ذلك لم يرد المسلمين عن القتال.
وقد بدأ اللقاء ونزل القشتاليون كالسيل الجارف المندفع من أقصى ارتفاع، فهبطوا من مراكزهم كالليل الدامس وكالبحر الزاخر، أسرابا تتلوها أسراب، وأفواجا تعقبها أفواج، وكانت الصدمة كبيرة جدا على المسلمين، فقد وقع منهم الكثير في تعداد الشهداء، ثم ثبتوا بعض الشيء ثم تراجعوا، وحين رأى المنصور ذلك نزل بنفسه ودون جيشه، وفي شجاعة نادرة قام يمر على كل الفرق مناديا بأعلى صوته في كل الصفوف: جددوا نياتكم وأحضروا قلوبكم. ثم عاد رحمه الله إلى مكانه من جديد.
استطاع المسلمون بعدها أن يردّوا النصارى في هذا الهجوم، ثم ما لبث النصارى أن قاموا بهجوم آخر، وكان كسابقه، انكسار للمسلمين ثم ثبات من جديد وردّ للهجوم للمرة الثانية، ثم كان الهجوم الثالث للنصارى وكان شرسا ومركزا على القلب من الموحدين، فسقط آلاف من المسلمين شهداء، واستشهد القائد العام للجيش أبو يحيى بن أبي حفص.
وهنا ظن النّصارى أن الدائرة قد دارت على المسلمين وأن المعركة قد باتت لصالحهم، فنزل ملك قشتالة إلى الموقعة يحوطه عشرة آلاف فارس، عندئذ كانت قد تحركت ميمنة المسلمين من الأندلسيين وهجمت على قلب الجيش القشتالي مستغلة ضعفه في تقدم الفرسان القشتاليين نحو الموحدين في القلب، وهجمت بشدة على النصارى، واستطاعت حصار العشرة آلاف الذين يحوطون ألفونسو الثامن.
حدث لذلك اضطراب كبير داخل صفوف الجيش القشتالي، واستمرت الموقعة طويلا، وقد ارتفعت ألسنة الغبار الكثيف، وأصبح لا يسمع إلا صوت الحديد وقرع الطبول وصيحات التكبير من جيش المؤمنين، وبدأت الدائرة تدريجيا تدور على النصارى، فالتفوا حول ملكهم وقد تزعزت قلوبهم.
وهنا وحين رأى ذلك أبو يوسف يعقوب المنصور الموحدي أمرَ جيشه الكامن خلف التلال بالتحرك، وقد انطلق معهم وفي مقدمة جيشه علم دولة الموحدين الأبيض، وقد نقش عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لا غالب إلا الله.
ارتفعت بذلك معنويات الجيش الإسلامي كثيرًا، وقد أسلم النصارى رقابهم لسيوف المسلمين فأعملوها فيهم قتلًا وتشريدًا، وانتصر المسلمون انتصارًا باهرًا في ذلك اليوم الموافق التاسع من شهر شعبان لسنة 591 هـ= من الهجرة، وأصبح "يوم الأرك" من أيام الإسلام المشهودة، قالوا عنه: مثل الزلّاقة، وقالوا عنه: بل فاق الزلاقة.
وقد هرب "ألفونسو الثامن" في فرقة من جنوده إلى "طليطلة"، وطارت أخبار النصر في كل مكان، ودوت أخبار ذلك الانتصار العظيم على منابر المسلمين في أطراف دولة الموحدين الشاسعة، بل وصلت هذه الأخبار إلى المشرق الاسلامي، وكانت سعادة لا توصف، خاصة وأنها بعد ثمانية أعوام فقط من انتصار حطيّن العظيم.
قال "المقرّي" في "نفح الطيب": وكان عدّة من قتل من الفرنج - فيما قيل - مائة ألف وستّة وأربعين ألفاً، وعدّة الأسارى ثلاثين ألفاّ، وعدّة الخيام مائة ألف وستّة وخمسين ألف خيمة، والخيل ثماني ألفاً، والبغال مائة ألف، والحمير أربعمائة ألف، جاء بها الكفّر لحمل أثقالهم لأنّهم لا إبل لهم، وأمّا الجواهر والأموال فلا تحصى، وبيع الأسير بدرهم، والسيف بنصف درهم، والفرس بخمسة دراهم، والحمار بدرهم، وقسم يعقوب الغنائم بين المسلمين بمقتضى الشرع، ونجا الفنش ملك النصارى إلى طليطلة في أسوأ حال، فحلق رأسه ولحيته، ونكس صليبه، وآلى أن لا ينام على فراش، ولا يقرب النساء،ولا يركب فرساً ولا دابة، حتى يأخذ بالثأر، وصار يجمع من الجزائر والبلاد البعيدة ويستعدّ، ثم لقيه يعقوب وهزمه وساق خلفه إلى طليطلة وحاصره ورمى عليها بالمجانيق وضيّق عليها، ولم يبق مدينة إلا فتحها، فخرجت إليه والدة الأذفونش وبناته ونساؤه وبكين بين يديه، وسألنه إبقاء البلد عليهن، فرقّ لهن ومنّ عليهن بها، ووهب لهن من الأموال والجواهر ما جلّ،وردّهنّ مكرماتٍ، وعفا بعد القدرة، وعاد إلى قرطبة، فأقام شهراً يقسم الغنائم...

نتائج انتصار الأرك
تمخض عن انتصار الأرك الكبير آثار ونتائج عظيمة، أهمّها ما يلي:
أولًا: الهزيمة الساحقة لقوات النصارى
كان من أهم آثار انتصار الأرك تبدد جيش النصارى بين القتل والأسر، فقد قتل منهم في اليوم الأول فقط - على أقل تقدير - ثلاثون ألفا، وقد جاء في نفح الطيب للمقرّي، وفي وفيات الأعيان لابن خلّكان أن عدد قتلى النصارى وصل إلى ستة وأربعين ألف ومائة ألف قتيل من أصل خمسة وعشرين ألفا ومائتي ألف مقاتل، وكان عدد الأسرى بين عشرين وثلاثين ألف أسير، وقد منّ عليهم المنصور بغير فداء؛ إظهارا لعظمة الإسلام ورأفته بهم، و عدم اكتراثه بقوة النصارى.
ثانيا: النصر المادي:
رغم الكسب المادي الكبير جدا، إلا أنه كان أقل النتائج المترتبة على انتصار المسلمين في موقعة الأرك، فقد حصد المسلمون من الغنائم ما لا يحصى، وقد بلغت - كما جاء في نفح الطيب - ثمانين ألفا من الخيول، ومائة ألف من البغال، وما لا يحصى من الخيام.
وقد وزع المنصور رحمه الله هذه الأموال الضخمة وهذه الغنائم كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوزع على الجيش أربعة أخماسها، واستغل الخمس الباقي في بناء مسجد جامع كبير في أشبيلية؛ تخليدا لذكرى الأرك، وقد أنشأ له مئذنة سامقة يبلغ طولها مائتي متر، وكانت من أعظم المآذن في الأندلس في ذلك الوقت، إلا أنها - وسبحان الله - حين سقطت أشبيليّه بعد ذلك في أيدي النصارى تحولت هذه المئذنة والتي كانت رمزا للسيادة الإسلامية إلى برج نواقيس للكنيسة التي حلت مكان المسجد الجامع، وهي موجودة إلى الآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ثالثا: النصر المعنوي:
كان من نتائج موقعة الأرك أيضا ذلك النصر المعنوي الكبير الذي ملأ قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، فقد ارتفع نجم دولة الموحدين كثيرا، وارتفعت معنويات الأندلسيين وهانت عليهم قوة النصارى، وارتفعت أيضا معنويات المسلمين في كل بلاد العالم الإسلامي حتى راحوا يعتقون الرقاب ويخرجون الصدقات فرحا بهذا الانتصار.
وكان من جراء ذلك أيضا أن استمرت حركة الفتوح الإسلامية، واستطاع المسلمون فتح بعض الحصون الأخرى، وضموا الشمال الشرقي من جديد إلى أملاك المسلمين كما كان في عهد المرابطين، وحاصروا طليطلة سنوات عديدة إلا أنها - كما ذكرنا من قبل - كانت من أحصن المدن الأندلسية فلم يستطيعوا فتحها.
وارتفعت معنويات الموحدين كثيرا حتى فكروا بجدية في ضم كل بلاد المسلمين تحت راية واحدة، خاصة وأن المعاصر لأبي يوسف يعقوب المنصور في المشرق هو صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، لكن لم يرد الله سبحانه وتعالى لهذا الأمر أن يتم، حيث وافت أبا يوسف يعقوب المنصور الموحدي المنية قبل أن يكتمل حلمه هذا.
رابعا: صراعات شتى بين ممالك النصارى:
نتيجة لموقعة الأرك أيضا حدثت صراعات شتى بين ليون ونافار من ناحية وبين قشتالة من ناحية أخرى.. فقد ألقى عليهم ألفونسو الثامن (ملك قشتالة) مسؤلية الهزيمة، وكان من نتائج ذلك أيضا أن وقعت لهم الهزيمة النفسية. وترتب على هذا أيضا أن أتت السفارات من بلاد أوروبا تطلب العهد والمصالحة مع المنصور الموحدي رحمه الله والتي كان من أشهرها سفارة إنجلترا، تلك التي جاءت المنصور الموحدي في أواخر أيامه.
خامسا: معاهدة جديدة بين قشتالة والمسلمين:
أيضا كان من نتائج موقعة الأرك أن تمت معاهدة جديدة بين قشتالة و المسلمين على الهدنة ووقف القتال مدة عشر سنوات، بداية من سنة 595 هـ= 1199 م وحتى سنة 605 هـ= 1208 م أراد المنصور أن يرتب فيها الأمور من جديد في بلاد الموحدين.
وقبل أن نفارق هذا القائد العظيم يحسن بنا أن نلقي نظرة على سياسته العامة في الحروب....يقول الدكتور علي الصلابي في كتابه "إعلام أهل العلم والدين بأحوال دولة الموحدين" تحت عنوان:
((سياسة أبي يوسف يعقوب المنصور في الحروب:
تعتبر السنوات الخمس عشر التي حكمها أبو يوسف يعقوب المنصور ثالث الخلفاء الموحدين، العصر الذهبي للدولة الموحدية والذروة التي وصل إليها التطور السياسي في المغرب نحو التوحيد وإقامة الدولة الموحدية.
ولقد كان العصر الذهبي قصيرًا لا يتناسب مع دولة ضخمة مترامية الأطراف غزيرة الثروة والموارد مثل دولة الموحدين، فإن خلفاء الموحدين حكموا بلادًا تضاهي ما حكمه العباسيون في أوج قوتهم وكان تحت إمارتهم حشود من الجند القوي القادر على كسب المعارك لم تتيسر للكثير من الدول في التاريخ الإسلام، فقد كانت جيوش الموحدين تعج بحشود من أبناء القبائل المغربية من المصامدة أولًا، ثم من بقية الصنهاجيين والزناتيين ممن اجتذبتهم الدولة الموحدية بقوتها وهيبتها، ثم أضيفت إلى هؤلاء حشود من العرب الهلاليين الذين انضووا تحت لواء الدولة الكبيرة، ولم يخل الأمر منه قوات أندلسية ذات قدرة ومهارة.
ورغم وجود هذه القوات إلا أن هذه القوة العسكرية الموحدية كانت دائمًا مفككة، تتقصها القيادة الحازمة التي تقبض على الجيش قبضة محكمة، وتوجه الأعمال وفق خطة واحدة مرسومة، وكان أبو يوسف يعقوب المنصور من زعماء الموحدين القلائل الذين استطاعوا قيادة جيوشهم قيادة سللايمة حكيمة، وكان الرجل في نفسه كذلك رجلًا حازمًا موهوبًا في شئون الإدارة والقيادة، وكان شديد الإيمان فانتقل إيمانه إلى رجاله وكسبت جيوش الموحدين في أيامه قوة ضاربة كبرى.)). هـ الصلابي نقلًا عن مصادر متنوعة

وفاة المنصور الموحدي وبداية النهاية لدولة الموحدين
في نفس العام الذي تمت فيه الهدنة بين قشتالة وبين المسلمين، وفي سنة 595 هـ= 1199 م يلقى المنصور الموحدي ربه عن عمر لم يتعدى الأربعين سنة، تم له فيه حكم دولة الموحدين خمس عشرة سنة، منذ سنة 580 هـ= 1185م وحتى وفاته في سنة 595 هـ= 1199 م.
ومن بعده يتولى ابنه الناصر لدين الله أبو محمد عبد الله، وعمره آنذاك ثمان عشرة سنة فقط، ورغم أن صغر السن ليس به ما يشوبه في ولاية الحكم، خاصة وقد رأينا من ذلك الكثير، إلا أن الناصر لدين الله لم يكن على شاكلة أبيه في أمور القيادة.
كان المنصور الموحدي قد استخلف ابنه الناصر لدين الله قبل وفاته على أمل أن يمد الله في عمره فيستطيع الناصر لدين الله أن يكتسب من الخبرات ما يؤهله لأن يصبح بعد ذلك قائدا فذا على شاكلة أبيه، لكن الموت المفاجئ للمنصور الموحدي عن عمر لم يتجاوز الأربعين عاما بعد كان أن وضع الناصر لدين الله على رئاسة البلاد، وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره. وقد كان من الواجب على الموحدين أن ينتخبوا من بينهم ومن حين الوفاة من يصلح للقيادة بدلا منه.

الناصر لدين الله وعقبات في الطريق
كان الناصر لدين الله شابا طموحا قويا مجاهدا لكنه لم يكن في كفاءة أبيه، وفضلا عن هذا فقد كانت البلاد محاطة بالأعداء من كل جانب، و النصارى بعد لم ينسوا هزيمتهم في موقعة الأرك التي كانت قبل سنوات قلائل، ويريدون أن يعيدوا الكرة من جديد على بلاد المسلمين، وفوق ذلك فبعد وفاة المنصور الموحدي قامت من جديد ثورات بني غانية المؤيدة لدولة المرابطين السابقة.
وقطعا - كما ذكرنا قبل ذلك - ما كان يجوز لبني غانية أن يثوروا وينقلبوا على الناصر لدين الله، إلا إن ذلك هو عين ما حدث، فبدأت الخلخلة والاضطرابات تتزايد داخل الدولة الاسلاميّة الكبيرة.
وفي سبيل استعادة الوضع إلى ما كان عليه وجّه الناصر لدين الله جلّ طاقته للقضاء على ثورات بني غانية داخل دولة الموحدين، فخاض معهم معارك وحروب كثيرة، حتى استطاع نهاية الأمر إخمادها تماما، وذلك في 604 هـ= 1207 م أي أنها استمرت تسع سنوات كاملة منذ بداية حكمه وحتى ذلك التاريخ.
ألفونسو الثامن واستغلال الوضع الراهن
في هذه الأثناء التي كان يسعى فيها الناصر لدين الله للقضاء على ثورات بني غانية، كان قد تجدد الأمل عند ألفونسو الثامن، فعمل على تجهيز العدة لرد الاعتبار، وأقسم على ألا يقرب النساء ولا يركب فرسا ولا بغلا، وأن ينكس الصليب حتى يأخذ بثأره من المسلمين، فأخذ يعد العدة ويجهز الجيوش ويعقد الأحلاف ويعد الحصون تمهيدا لحرب جديدة معهم.
وقبل انتهاء الهدنة ومخالفة للمعاهدة التي كان قد عقدها مع المنصور الموحدي قبل موته هجم ألفونسو الثامن على بلاد المسلمين، فنهب القرى وأحرق الزروع، وقتل العُزّل من المسلمين، وكانت هذه بداية حرب جديدة ضد المسلمين.
دولة الموحدين وعيوب خطيرة في مواجهة النصارى
إضافة إلى ضعف كفاءة القيادة في دولة الموحدين المتمثلة في الناصر لدين الله، والتي لم تكن بكفاءة السابقين، فقد كان ثمة عيب خطير آخر في القيادة كان متأصلا في أجداده من قبله، وهو اعتداد الناصر لدين الله برأيه ومخالفته أمر الشورى، ذلك العيب الذي تفاداه أبوه من قبله، فأفلح وساد وتمكن ونصره الله سبحانه وتعالى، وفوق هذا وذاك فكان المسلمون قد أنهكوا في رد الثورات المتتالية لبني غانية داخل دولة الموحدين.
وزاد من ذلك أمر آخر كان في غاية الخطورة، وهو أن الناصر لدين الله كان قد استعان ببطانة سوء ووزير ذميم الخلُق يدعى أبا سعيد بن جامع، والذي شكّ كثير من المؤرخين في نياته، وشك كثير من الأندلسيين والمغاربة المعاصريين له في اقتراحاته.
ورغم أن هذا الوزير كان من أصل أسباني فإن كثيرا من الناس قالوا بأنه كان على اتصالات مع النصارى، والتي أدّت بعد ذلك إلى أمور خطيرة في دولة الموحدين، ومع كل هذا فقد كان هو الرجل الوحيد الذي يأمن له الناصر لدين الله ويستعين بآرائه، ضاربا عرض الحائط كل آراء أشياخ الموحدين وقادة الأندلسيين في ذلك الوقت.
النصارى والتعبئة العامة
على الجانب الآخر من أحداث دولة الموحدين فقد كانت هناك تعبئة روحية عالية في جيش النصارى يقودها البابا في روما بنفسه، وقد أعلنوها حربا صليبية وراحوا يضفون عليها ألوانا من القداسة، وقد رفعوا صور المسيح، وصرح البابا بأن من يشارك في هذه الحرب سيمنح صكوك الغفران، تماما كما حدث في موقعة الزلاّقة.
أتبع ذلك استنفار عام في كل أنحاء أوروبا، اشتركت فيه معظم الدول الأوروبية حتى وصل إلى القسطنطينية في شرق أوروبا وبعيدا جدا عن بلاد الأندلس، وقد تولت فرنسا مهمة الإنفاق على الجيوش بالإضافة إلى إمداد الجيش القشتالي بالرجال، وكانت فرنسا يهمها كثيرا هزيمة المسلمين لكونها البلاد التالية لبلاد الأندلس، فإن قامت لدولة الموحدين دولة قوية فحتما ستكون الدائرة عليها في المرحلة التالية.
وقد زاد الأمر تعقيدا إرسال البابا رسالة إلى مملكة نافار - وكانت قد وقعت معاهدة مع المنصور الموحدي قبل وفاته - يحضها فيها على نبذ المعاهدة التي مع الموحدين، وعلى استعادة العلاقة مع القشتاليين، وكان القشتاليون - كما ذكرنا - قد اختلفوا مع مملكة ليون ونافار بعد هزيمة الأرك، لكن البابا الآن يريد منهم التوحد في مواجهة الصف المسلم، فخاطبه بنقض عهده مع المسلمين ومحالفة ملك قشتالة، فما كان من ملك نافار إلا أن أبدى السمع والطاعة.
تكون دول أوروبا بذلك قد توحدت، وبلغ عدد جيوشها مائتي ألف نصراني يتقدمهم الملوك والرهبان نحو موقعة فصل بينهم وبين المسلمين.
المصـــــــــــــــــــــــــــــــــدر
http://www.islamstory.com/%D8%AF%D9%...AF%D9%8A%D9%86