بين المرابطين والموحدين
تأسيس دولة الموحدين
إن من سنن الله أن تقوم الدول ثم تنهار وتقوم دول أخرى مكانها، وهذا بالفعل ما حدث مع دولة المرابطين أن انتهت وقامت مكانها دولة الموحدين. وكما كان الشيخ عبد الله بن ياسين هو الذي أسس دولة المرابطين بدعوته، كان محمد بن تومرت (473- 524هـ/ 1080- 1130م) هو من أسس دولة الموحدين.
ولكن نلاحظ أن هناك فرقًا بين دعوة عبد الله بن ياسين ودعوة ابن تومرت؛ فدعوة المرابطين قامت على أساس الدعوة السلمية، أما دعوة الموحدين فقامت على حساب دماء المسلمين، وبالتحديد دماء المرابطين؛ فنجد أن ابن تومرت ادعى العصمة، واستحل دماء المرابطين، بل قال إن قتلهم عليه ثوابٌ عظيم، وقام بما يعرف بالتمييز أي تمييز الصادقين من أتباعهمن المنافقين والمخالفين، فيقول: هذا من أهل النار. فيلقى من الجبل مقتولاً، ويترك على يمينه الشاب الغرّ، ومن لا يخشى،فيقول: هذا من أهل الجنة. فكان عدد الذين قتلهم سبعين ألفًا.
قتال الموحدين للمرابطين
قام محمد بن تومرت بمقاتلة المرابطين وسفك دمهم، وقد التقى مع المرابطين في مواقع عديدة، كان منها تسعمواقع ضخمة، انتهت سبع منها بانتصارهم على المرابطين، وهُزموا في اثنتين. وبعد وفاته تولى قيادة الموحدين عبد المؤمن بن علي الذي استطاع تجميع الموحدين، وبعد ذلك اتجه لقتال المرابطين، فقاتلهم في أماكن كثيرة، واستطاع الانتصار عليهم، وقتل إسحاق بن علي بن يوسف بنتاشفين آخر حكام دولة المرابطين.
نتائج حروب الموحدين مع المرابطين
كان نتيجة هذا الانقسام أن سقطت المَرِيَّة وطرطوشة ولارِدة في أيديالنصارى، وتوسعت مملكة البرتغال في الجنوب، وبدأ النصارى يتخطون حدود الأندلس ويهاجمون بلاد المغرب العربي. ونستطيع أن نقول: إن كل هذا حدث بسبب الفتن والانقسامات التي حدثت بين المسلمين.


مزيد من التفاصيل

مقدمة
قبل أن نخوض في الأحداث التي تلت موقعة الزلاقة، وامتداد دولة المرابطين إلى الأندلس، كان هناك سؤال يفرضه الذهن الشارد على طول ما سبق من أحداث:
لا شك أن انتصارات المسلمين في السابق في مثل مواقع الزلاقة ووادي برباط، وأي من المواقع الإسلامية الأخرى في غير تاريخ الأندلس، لا شك أنه أمر يبعث العزة ويدعو إلى الفخر، لكن مثل هذه الانتصارات السابقة كانت حيث السيوف والرماح والخيول، ولقاء الجندي بالجندي، أما الآن وقد اختفت مثل هذه الأمور، بل واندثرت تماما، وتبدّل الوضع؛ فأصبحت الحرب غير الحرب، والطاقة غير الطاقة، حيث الحرب الإلكترونية، وحيث الطائرات والقنابل العنقودية، والصواريخ العابرة والموجهة، والأسلحة الكيماوية والنووية، وغير ذلك مما لم يكن على سابق ما مضى تمامًا،
فهل يستطع المسلمون أن يحققوا نصرًا في مثل هذه الظروف وتلك المستجدات ورغم ما هم فيه من تخلفٍ وانحطاطٍ كانتصارات سابقيهم؟!
والحقيقة أن مبعث مثل هذا الخاطر وذاك السؤال هو عدم الفهم والوعي لعاملَيْن مهمّين جدًا كنا قد تحدثنا عنهما فيما مضى، وهما:
العامل الأول: أمة الاسلام أمة لا تموت
اقتضت سنة الله في كونه كما ذكرنا أن تكون أمة الإسلام أمة لا تموت، وأنها أبدًا في قيام، وأنه لا بدّ من القيام بعد السقوط كما كان السقوط بعد القيام، بصرف النظر عن مدى قوة وعظم الكافرين وضعف المسلمين، فالله سبحانه وتعالى يقول: [لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي البِلَادِ] {آل عمران:196}.
العامل الثاني: طبيعة المعركة بين الحق والباطل
فالحرب بين المسلمين وغيرهم ليست متمثّلة في شكل دول أو أشخاص، إنما هي حرب عقائدية، حرب بين الحق والباطل، وهي بأيسر تعبير معركة بين أولياء الله سبحانه وتعالى وأولياء الشيطان.
فماذا تكون النتيجة إذن إذا كانت المعركة على هذا النحو؟ وهل ينتصر حزب الشيطان وأولياؤه مهما تعاظمت عناصر القوة لديهم، أم ينتصر حزب الله وأولياؤه وإن قلّت وضعفت إمكاناتهم وطاقاتهم؟
وفي استدعاءٍ للتاريخ والمواقع الإسلامية السابقة خير مثال ودليل على ما ذهبنا إليه، فهل كان من الطبيعي بالقياسات القديمة أن يحقق المسلمون النصر في معاركهم أجمع فيما مضى؟! هل كان من الطبيعي في معركة القادسية على سبيل المثال أن ينتصر اثنان وثلاثون ألف مسلم على مائتي ألف فارسي؟! بكل قياسات الماضي وقياسات الوضع الطبيعي هل من الممكن أن يحدث مثل هذا؟ وأين؟ في بلادهم وعقر دارهم.
وهل كان من الطبيعي في معركة اليرموك أن ينتصر تسع وثلاثون ألف مسلم على مائتي ألف رومي؟! وهل كان من الطبيعي أن ينتصر ثلاثون ألف مسلم في تُستُر على مائة وخمسين ألف فارسي ثمانين مرة متتالية في خلال سنة ونصف وفي عقر دارهم أيضا؟! وهل كان من الطبيعي كما ذكرنا في أحداث الأندلس السابقة أن ينتصر اثنا عشر ألف مسلم على مائة ألف قوطي في معركة وادي برباط؟!
هذه كلها أمور من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تحدث حتى بقياسات الماضي، وهو لغز لا يمكن أن نجد له حلًا إلا بطريقة واحدة، هي أن نعلم ونتيقن أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يحارب الكافرين [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى] {الأنفال:17}. يقول أيضا سبحانه وتعالى: [وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ] {محمد:4}.
فالله سبحانه وتعالى يختبر المؤمنين بحربهم مع الكافرين، وليس هو سبحانه وتعالى في حاجةٍ إلينا لينتصر على أعدائه أو المشركين به من اليهود والأمريكان والروس، أو غيرهم من أمم الأرض الذين جحدوا وحدانيته واجتاحوا بلاد المسلمين، إنما كان من فضله علينا وجوده وكرمه أن عَمِلْنَا جنودًا عنده سبحانه وتعالى، وإنما نحن كمن يستر القدرة ويأخذ الأجرة، فنحن نستر قدرة الله سبحانه وتعالى في هزيمته للكافرين، ونأخذ الأجر على الثبات في هذا الموقف أمام الكفار.
والذي يقول بأن الموقف في الماضي مخالف عن الموقف في الحاضر، أو أن حروب الماضي مختلفة بالكلية عن حروب الحاضر وهو يعلم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي نصر الصحابه ونصر من تبعهم بإحسان وإلى يوم الدين، من يرى هذا كأنه يقول - حاشا لله من هذا - بأن الله كان قادرًا على عاد وثمود وفارس والروم، ولكنه - نعوذ بالله من ذلك - ليس بقادر على أمريكا واليهود وروسيا ومن حالفهم أو شايعهم من الأمم الحاضرة المقاتلة لأمة الاسلام!!
يقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حكاية عن الأمم العاتية السابقة: [فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ] {فصِّلت:15}.
ويقول أيضًا في وصف حال الكافرين: [اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيراً] {فاطر: 43،44}.
لكن المهم والذي من المفترض أن يشغل بال المسلم الحريص على دينه هو معرفة دوره هو في هذا القيام وهذه الدعوة، ومعرفة دوره في انتصار مثل انتصار الزلاقة وغيره من مواقع المسلمين الخالدة.
فإن كان قيام أمة المسلمين بنا فنحن مأجورون على ذلك حتى ولو لم نرى نصرًا، وإن كان القيام بغيرنا فقد ضاع منا الأجر، حتى ولو كنا معاصرين لذلك النصر وذاك التمكين، وهذا هو ما يجب أن يستحوذ على أذهان المسلمين، وأن يعملوا ليكون لهم دور في إعادة بنيان هذه الأمة بعد ذاك السقوط الذي تحدثنا عنه.

إرهاصات ظهور دولة الموحدين
المؤسس محمد بن تومرت ( 473 - 524 هـ= 1080 - 1130م ) وبداية الثورة على المرابطين:
كانت البلاد تتجه بقوة نحو هاوية سحيقة وكارثة محققة، وكان لا بدّ وأن تتحقق سنة الله تعالى بتغيير هؤلاء واستبدالهم بغيرهم، فقام رجل من قبائل "مصمودة" البربريّة يُدعى محمد بن تومرت، والذي قال عنه البعض بأنه عربي، بل وهناك من نسبه إلى القرشيّة، لكن غالب الأمر أنه من قبائل البربر في هذه المنطقة، قام في سنة 512 هـ= 1118 م بثورة على دولة المرابطين، كان منهج "محمد بن تومرت" في التغيير والإصلاح مختلفا بالكلية عن منهج الشيخ "عبد الله بن ياسين" رحمه الله...
وقد ولد محمد بن تومرت المصمودي سنة 473 هـ= 1080 م ونشأ في بيت متدين في قبيلة مصمودة، وقد ظلّ في هذا البيت إلى سنة 500 هـ= 1107 م وكان قد بلغ من العمر آنذاك سبع وعشرين سنة، ولأنه كان شغوفا بالعلم، ولأنه كان من عادة العلماء في ذلك الزمن أنهم يتجولون ويسيحون في سائر الأرض يتعلمون من علماء المسلمين في مختلف الأقطار، سافر محمد بن تومرت في سنة 500هـ= 1107 م إلى قرطبة وتلقى العلم هناك، ولم يكتف بذلك بل عاد وسافر إلى بلاد المشرق، فذهب إلى الأسكندرية ثم إلى مكة حيث أدى فريضة الحج، وهناك أخذ يتعلم على أيدي علماء مكّة فترة من الزمان، ثم رحل إلى بغداد وقضى فيها عشر سنوات كاملة يتلقى العلم على أيدي علماء بغداد جميعهم، وقد كانت بغداد تموج آنذاك بتيارات مختلفة من علماء السنة والشيعة والمعتزلة وغيرهم الكثير ممن أخذ وتلقى على أيديهم العلم.
ذهب "محمد بن تومرت" بعد ذلك إلى الشام، وفيها تلقى العلم على أيدي أبي حامد الغزالي رحمه الله وعاد بعدها إلى الأسكندرية ثم إلى بلاد المغرب العربي، يقول ابن خلدون يصف محمد بن تومرت بعد عودته تلك في سنة 512 هـ= 1118 م حيث كان قد بلغ من العمر تسعا وثلاثين سنة، يقول: أصبح محمد بن تومرت بحرا متفجرا من العلم وشهابا في الدين. يعني أنه جمع علوما كثيرة وأفكارًا جمة من تيارات مختلفة من تيارات المسلمين، وأصبح بالفعل من كبار علماء المسلمين في هذه الآونة.

الصراع المرير والسقوط المدوّي
استمرّت المعارك والحروب بين الموحدين والمرابطين سنوات وسنوات قال "ابن الأثير" في كتابه "الكامل": وعاد عبد المؤمن إلى تين ملل، وأقام بها يتألّف القلوب، ويحسن إلى الناس، وكان جواداً مقداماً في الحروب، ثابتاً في الهزاهز، إلى أن دخلت سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، فتجهز وسار في جيش كثير، وجعل يمشي مع الجبل إلى أن وصل إلى تادلة، فمانعه أهلها، وقاتلوه، فقهرهم، وفتحها وسائر البلاد التي تليها ومشى في الجبال يفتح ما امتنع عليه، وأطاعته صنهاجة الجبل.
وكان أمير المسلمين قد جعل ولي عهده ابنه سير، فمات، فأحضر أمير المسلمين ابنه تاشفين من الأندلس، وكان أميراً عليها، فلما حضر عنده جعله ولي عهده سنة إحدى وثلاثين، وجعل معه جيشاً، وصار يمشي في الصحراء قبالة عبد المؤمن في الجبال.
وفي سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة كان عبد المؤمن في النواظر، وهو جبل عال مشرف، وتاشفين في الوطأة، وكان يخرج من الطائفتين قوم يترامون ويتطاردون، ولم يكن بينهما لقاء، ويسمى عام النواظر.
وفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة توجه عبد المؤمن، مع الجبل، في الشعراء، حتى انتهى إلى جبل كرناطة، فنزل في أرض صلبة، بين شجر، ونزل تاشفين قبالته، في الوطأة، في أرض لا نبات فيها، وكان الفصل شاتياً، فتوالت الأمطار أياماً كثيرة لا تقلع، فصارت الأرض التي فيها تاشفين وأصحابه كثيرة الوحل، تسوخ فيها قوائم الخيل إلى صدورها، ويعجز الرجل عن المشي فيها، وتقطعت الطرق عنهم، فأوقدوا رماحهم، وقرابيس سروجهم، وهلكوا جوعاً وبرداً وسوء حال.
وكان عبد المؤمن وأصحابه في أرض خشنة صلبة في الجبل، لا يبالون بشيء، والميرة متصلة إليهم، وفي ذلك الوقت سير عبد المؤمن جيشاً إلى وجرة من أعمال تلمسان، ومقدمهم أبو عبد الله محمد بن رقو، وهو من أيت خمسين، فبلغ خبرهم إلى محمد بن يحيى بن فانوا، متولي تلمسان، فخرج في جيش من الملثمين، فالتقوا بموضع يعرف بخندق الخمر، فهزمهم جيش عبد المؤمن، وقتل محمد بن يحيى وكثير من أصحابه، وغنموا ما معهم ورجعوا، فتوجه عبد المؤمن بجميع جيشه إلى غمارة، فأطاعوه قبيلة بعد قبيلة، وأقام عندهم مدة.
وما برح يمشي في الجبال، وتاشفين يحاذيه في الصحاري، فلم يزل عبد المؤمن كذلك إلى سنة خمس وثلاثين، فتوفي أمير المسلمين علي بن يوسف بمراكش وملك بعده ابنه تاشفين، فقوي طمع عبد المؤمن في البلاد، إلا أنه لم ينزل الصحراء.
وفي سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة توجه عبد المؤمن إلى تلمسان، فنازلها، وضرب خيامه في جبل بأعلاها، ونزل تاشفين على الجانب الآخر من البلد، وكان بينهم مناوشة، فبقوا كذلك إلى سنة تسع وثلاثين، فرحل عبد المؤمن عنها إلى جبل تاجرة، ووجه جيشاً مع عمر الهنتاتي إلى مدينة وهران، فهاجمها بغتة، وحصل هو وجيشه فيها، فسمع بذلك تاشفين فسار إليها، فخرج منها عمر، ونزل تاشفين بظاهر وهران، على البحر، في شهر رمضان سنة تسع وثلاثين، فجاءت ليلة سبع وعشرين منه، وهي ليلة يعظمها أهل المغرب، وبظاهر وهران ربوة مطلة على البحر، وبأعلاها ثنية يجتمع فيها المتعبدون، وهو موضع معظم عندهم، فسار إليه تاشفين في نفر يسير من أصحابه متخفياً، لم يعلم به إلا النفر الذين معه، وقصد التبرك بحضور ذلك الموضع مع أولئك الجماعة الصالحين، فبلغ الخبر إلى عمر بن يحيى الهنتاتي، فسار لوقته بجميع عسكره إلى ذلك المتعبد، وأحاطوا به، وملكوا الربوة، فلما خاف تاشفين على نفسه أن يأخذوه ركب فرسه وحمل عليه إلى جهة البحر، فسقط من جرف عال على الحجارة فهلك، ورفعت جثته على خشبة، وقتل كل من كان معه.
وقيل إن تاشفين قصد حصناً هناك على رابية، وله فيه بستان كبير فيه من كل الثمار، فاتفق أن عمر الهنتاتي، مقدم عسكر عبد المؤمن، سير سرية إلى ذلك الحصن، يعلمهم بضعف من فيه، ولم يعلموا أن تاشفين فيه، فألقوا النار في بابه فاحترق، فأراد تاشفين الهرب، فركب فرسه، فوثب الفرس من داخل الحصن إلى خارج السور، فسقط في النار، فأخذ تاشفين، فاعترف، فأرادوا حمله إلى عبد المؤمن، فمات في الحال لأن رقبته كانت قد اندقت، فصلب، وقتل كل من معه، وتفرق عسكره ولم يعد لهم جماعة. وملك بعده أخوه إسحاق بن علي بن يوسف.
ولما قتل تاشفين أرسل عمر إلى عبد المؤمن بالخبر، فجاء من تاجَرة في يومه بجميع عسكره، وتفرق عسكر أمير المسلمين، واحتمى بعضهم بمدينة وهران، فلما وصل عبد المؤمن دخلها بالسيف، وقتل فيها ما لا يحصى. ثم سار إلى تلمسان، وهما مدينتان بينهما شوط فرس، إحداهما تاهرت، وبها عسكر المسلمين، والأخرى أقادير، وهي بناء قديم، فامتنعت أقادير، وغلقت أبوابها، وتأهب أهلها للقتال.
وأما تاهرت، فكان فيها يحيى بن الصحراوية، فهرب منها بعسكره إلى مدينة فاس، وجاء عبد المؤمن إليها، فدخلها لما فر منها العسكر، ولقيه أهلها بالخضوع والاستكانة، فلم يقبل منهم ذلك، وقتل أكثرهم، ودخلها عسكره، ورتب أمرها، ورحل عنها، وجعل على أقادير جيشاً يحصرها، وسار إلى مدينة فاس سنة أربعين وخمسمائة فنزل على جبل مطل عليها، وحصرها تسعة أشهر، وفيها يحيى بن الصحراوية، وعسكره الذين فروا من تلمسان، فلما طال مقام عبد المؤمن عمد إلى نهر يدخل البلد فسكره بالأخشاب والتراب وغير ذلك، فمنعه من دخول البلد، وصار بحيرة تسير فيها السفن، ثم هدم السكر، فجاء الماء دفعة واحدة فخرب سور البلد، وكل ما يجاور النهر من البلد، وأراد عبد المؤمن أن يدخل البلد، فقاتله أهله خارج السور، فتعذر عليه ما قدره من دخوله.
وكان بفاس عبد الله بن خيار الجياني عاملاً عليها وعلى جميع أعمالها، فاتفق هو وجماعة من أعيان البلد، وكاتبوا عبد المؤمن في طلب الأمان لأهل فاس، فأجابهم إليه، ففتحوا له باباً من أبوبها، فدخلها عسكره، وهرب يحيى بن الصحراوية، وكان فتحها آخر سنة أربعين وخمسمائة، وسار إلى طنجة، ورتب عبد المؤمن أمر مدينة فاس، وأمر فنودي في أهلها: من ترك عنده سلاحاً وعدة قتال حل دمه، فحمل كل من في البلد ما عندهم من سلاح إليه، فأخذه منهم...
ولما فرغ عبد المؤمن من فاس، وتلك النواحي، سار إلى مراكش، وهي كرسي مملكة الملثمين، وهي من أكبر المدن وأعظمها، وكان صاحبها حينئذ إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، وهو صبي، فنازلها، وكان نزوله عليها سنة إحدى وأربعين، فضرب خيامه في غربيها على جبل صغير، وبنى عليه مدينة له ولعسكره، وبنى بها جامعاً وبنى له بناء عالياً يشرف منه على المدينة، ويرى أحوال أهلها، وأحوال المقاتلين من أصحابه، وقاتلها قتالاً كثيراً، وأقام عليها أحد عشر شهراً، فكان من بها من المرابطين يخرجون يقاتلونهم بظاهر البلد، واشتد الجوع على أهله، وتعذرت الأقوات عندهم.
ثم زحف إليهم يوماً، وجعل لهم كميناً، وقال لهم: إذا سمعتم صوت الطبل فاخرجوا، وجلس هو بأعلى المنظرة التي بناها يشاهد القتال، وتقدم عسكره، وقاتلوا، وصبروا، ثم إنهم انهزموا لأهل مراكش ليتبعوهم إلى الكمين الذي لهم، فتبعهم الملثمون إلى أن وصلوا إلى مدينة عبد المؤمن، فهدموا أكثر سورها، وصاحت المصامدة بعبد المؤمن ليأمر بضرب الطبل ليخرج الكمين، فقال لهم: اصبروا حتى يخرج كل طامع في البلد، فلما خرج أكثر أهله أمر بالطبل فضرب وخرج الكمين عليهم، ورجع المصامدة المنهزمون إلى الملثمين فقتلوهم كيف شاءوا، وعادت الهزيمة على الملثمين، فمات في زحمة الأبواب ما لا يحصيه إلا الله سبحانه.
وكان شيوخ الملثمين يدبرون دولة إسحاق بن علي بن يوسف لصغر سنة، فاتفق أن إنساناً من جملتهم يقال له عبد الله بن أبي بكر خرج إلى عبد المؤمن مستأمناً وأطلعه على عوراتهم وضعفهم، فقوي الطمع فيهم، واشتد عليهم البلاء، ونصب عليهم المنجنيقات والأبراج، وفنيت أقواتهم، وأكلوا دوابهم، ومات من العامة بالجوع ما يزيد على مائة ألف إنسان، فأنتن البلد من ريح الموتى.
وكان بمراكش جيش من الفرنج كان المرابطون قد استنجدوا بهم، فجاءوا إليهم نجدة، فلما طال عليهم الأمر راسلوا عبد المؤمن يسألون الأمان، فأجابهم إليه، ففتحوا له باباً من أبواب البلد يقال له باب أغمات، فدخلت عساكره بالسيف، وملكوا المدينة عنوة، وقتلوا من وجدوا، ووصلوا إلى دار أمير المسلمين، فأخرجوا الأمير إسحاق وجميع من معه من أمراء المرابطين، فقتلوا، وجعل إسحاق يرتعد رغبة في البقاء، ويدعو لعبد المؤمن ويبكي، فقام إليه الأمير سير بن الحاج، وكان إلى جانبه مكتوفاً، فبزق في وجهه، وقال: تبكي على أبيك وأمك؟ اصبر صبر الرجال، فهذا رجل لا يخاف الله ولا يدين بدين. فقام الموحدون إليه بالخشب فضربوه حتى قتلوه، وكان من الشجعان المعروفين بالشجاعة، وقدم إسحاق، على صغر سنه، فضربت عنقه سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وآخر ملوك المرابطين وبه انقرضت دولتهم، وكانت مدة ملكهم سبعين سنة، وولي منهم أربعة: يوسف وعلي وتاشفين وإسحاق.
ولما فتح عبد المؤمن مراكش أقام بها، واستوطنها واستقر ملكه. ولما قتل عبد المؤمن من أهل مراكش فأكثر فيهم القتل اختفى كثير من أهلها، فلما كان بعد سبعة أيام أمر فنودي بأمان من بقي من أهلها، فخرجوا، فأراد أصحابه المصامدة قتلهم، فمنعهم، وقال: هؤلاء صناع، وأهل الأسواق من ننتفع به، فتركوا، وأمر بإخراج القتلى من البلد، فأخرجوهم، وبنى بالقصر جامعاً كبيراً، وزخرفه فأحسن عمله، وأمر بهدم الجامع الذي بناه أمير المسلمين يوسف بن تاشفين... الكامل - ابن الأثير
قال "عبد الواحد المراكشي" في "المعجب": ولم يزل عبد المؤمن - بعد وفاة ابن تومرت - يطوي الممالك مملكة مملكة ويدوخ البلاد إلى أن ذلت له البلاد وأطاعته العباد...
وبنظرة إجمالية فإن عدد من قتل من المسلمين في المواقع التي دارت بين المرابطين والموحدين وفي نحو ثمان وعشرين سنة، وذلك منذ سنة 512 هـ= 1118 م وحتى قيام دولة الموحدين في سنة 541 هـ= 1146 م عدد القتلى من المسلمين تجاوز عشرات الآلاف...
وقامت دولة الموحدين كما قامت دولة المرابطين من قبل، لكن على أشلاء الآلاف من المسلمين، وكان هذا هو الطريق الذي سلكه محمد بن تومرت ومن معه، وكان هذا نهجهم في التغيير...
وكنا قد رأينا سابقًا كيف كان الطريق الذي سار فيه الشيخ عبد الله بن ياسين ومن معه، وقد وصل الاثنان إلى قيام دولة وتأسيس حكم، لكن شتان بين أحداث ونتائج قيام كل منهما، وشتان بين كلا المنهجين في القيام، وإنا لنعجب كيف يسير محمد بن تومرت في مثل هذا الطريق وقد رسم له السابقون الطريق الصحيح الذي ليس فيه دماء تراق، وليس فيه قتل وذبح لأمة كبيرة من المجاهدين مثل أمة المرابطين.

تداعيات سقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين
متابعة للأحداث بصورة متسلسلة فقد كان لسقوط دولة المرابطين وقيام دولة الموحدين في عام 541 هـ= 1146 م ومقتل ما يربو على الثمانين ألف مسلم في بلاد الأندلس نتيجة الحروب بينهما - كان لهذه الأحداث العظام تداعيات خطيرة على كل بلاد المغرب العربي والأندلس، وما يهمنا هنا هو ما حدث في الأندلس، فكان ما يلي:
أولا:
بعد قيام دولة الموحدين بعام واحد وفي سنة 542 هـ= 1147 م سقطت "ألمرية" في أيدي النصارى، وهي تقع على ساحل البحر المتوسط في جنوب الأندلس، أي أنها بعيدة جدا عن ممالك النصارى، لكنها سقطت عن طريق البحر بمساعدة فرنسا.. وفي "ألمرية" استشهد آلاف من المسلمين وسبيت أربعة عشر ألف فتاة مسلمة.
ثانيا:
بعد ذلك أيضا بعام واحد وفي سنة 543 هـ= 1148 م سقطت طرطوشة ثم لاردة في أيدي النصارى أيضا، وهما في مملكة سراقسطة التي تقع في الشمال الشرقي، والتي كان قد حررها المرابطون قبل ذلك.
ثالثا:
وفي نفس العام أيضا توسعت مملكة البرتغال في الجنوب، وكانت من أشد الممالك ضراوة وحربا على المسلمين.
رابعا:
بدأ النصارى يتخطون حدود الأندلس ويهاجمون بلاد المغرب العربي، فاحتلت تونس في ذات السنة أيضا من قِبل النصارى، وهي خارج بلاد الأندلس.
ولقد كانت مثل هذه التداعيات شيئًا متوقعًا نتيجة الفتنة الكبيرة والحروب التي دارت بين المسلمين في بلاد المغرب العربي.
<
محمد بن تومرت ونهجه في الدعوة
في طريق عودته من بلاد العراق والشام مكث محمد بن تومرت فترة في الأسكندريه يُكمل فيها تعليمه، وهناك بدأ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ومن خلال سيرته ورغم أنه- كما ذكرنا- كان عالِمًا كبيرًا إلا أنه كان يتصف بصفة لا نجدها عند أمثاله من العلماء، وهي مما يثير الدهشة وتدعو إلى التعجب، ذلك أنه كان شديدًا غاية الشدة في إنكار المنكر والأمر بالمعروف، شدة تصل إلى حد التنفير، فكان ينفّر عنه كثير من الناس حينما يأمرهم بالمعروف أو ينهاهم عن المنكر، ووصلت حدته وفظاظته في دعوته تلك إلى الدرجة التي جعلت أهل الأسكندرية يطردونه منها ويلقون به في سفينة متجهة إلى بلاد المغرب العربي، وعلى السفينة أيضا ظل محمد بن تومرت على حدته في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر حتى منع الخمور على ظهر السفينة وأمر بقراءة القرآن.
وبالطبع فقد كان الناس على السفينة بعيدين تمام البعد عن المنهج الإسلامي، فاشتدّ عليهم واختلف معهم كثيرًا، الأمر الذي دفعهم إلى إلقائه في عرض البحر وتركوه وساروا إلى بلاد المغرب، وبعد فترة من السباحة جانب السفينة أشفقوا عليه ورقّوا لحاله، وأخذوه معهم مرة ثانية شريطة أن يظلّ صامتًا إلى أن يصل إلى بلاد المغرب العربي، وفي تونس تنتهي رحلته فينزل إلى بلد تسمى المهدية، وهناك وكالعاده بدأ من جديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وبنفس الطريقة التي كان قد سلكها قبل ذلك، وكردٍّ طبيعي من قِبل الناس نفروا منه وبعدوا عن طريقته، فقد كان محمد بن تومرت يريد تغيير المنكر كله تغييرًا جذريًا ودفعة واحدة.
والحق أن هذا أمر مخالف لسنن الله تعالى؛ فحين بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في مكة ما أُمر وما سعى إلى هذا التغيير المفاجئ الجذري، بل إن الأمور كانت تتنزل عليه صلى الله عليه وسلم من عند الله سبحانه وتعالى بصورة متدرجة، فقد نزل أمر اجتناب الربا على درجات متسلسلة ومراعية للتدرج مع الناس، وكذلك كان الأمر في تحريم الخمور وتجريمها، والناس قبل لم تكن تعرف لكليهما حرمة، حتى في أمر الجهاد والقتال في سبيل الله؛ فلم يتنزل هذا التكليف دفعة واحدة.
تلك الأمور التي فقهها جيدًا عمر بن عبد العزيز رحمه الله حين تولى الخلافة، فقد كان هناك كثير من المنكرات في دمشق وما حولها من البلاد، وكان ابن عمر بن عبد العزيز رحمه الله شديدًا في الحق، فأراد أن يغير كل هذه المنكرات مستقويًا بسلطان أبيه، إلا أنه وجد أن أباه عمر بن عبد العزيز يسير فيها بطريقة متدرجة فشق ذلك عليه، فذهب إليه وقال له: يا أبي، أنت تملك الأمور الآن، ولك هيمنة على بلاد المسلمين، فيجب أن تغير هذا المنكر كله وتقيم الإسلام كما ينبغي أن يُقام، فقال له عمر بن عبد العزيز رحمه الله: يا بني، لو حملت الناس على الحق جملةً واحدة تركوه جملةً واحدة.
لكن محمد بن تومرت لم يكن ينحو مثل هذا النهج ومثل تلك الخطى، إنما يريد أن يغير كل شيء تغييرًا جذريًا، بل وبأسلوب فظ شديد، وقد قال جل شأنه يخاطب نبيه الكريم: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] {آل عمران:159}. خطاب لشخصه صلى الله عليه وسلم وهو المؤيّد بالوحي وأحكم الخلق وأعلم البشر جميعًا، إن دعوت إلى الله سبحانه وتعالى بفظاظة وغلظة انفضّ الناس عنك، فما البال وما الخطب بعموم الناس من دونه؟!

محمد بن تومرت وعبد المؤمن بن عليّ
عندما كان في تونس وفي المهديّة قابل محمد بن تومرت رجلًا كان يبغي ما كان يبغيه هو في أول رحلته في طلب العلم إلى الأقطار الإسلامية المختلفة، ذلك الرجل كان يُدعى عبد المؤمن بن عليّ، وفي أول لقاء له به سأله عن سبب تركه لبلاد المغرب العربي وسياحته في البلاد، فأجابه بأنه يبحث عن العلم والدين، فرد عليه محمد بن تومرت بأن بضاعتك وما تبغيه لديّ وعندي، فالتقيا كثيرًا، وقد أخذ محمد بن تومرت يعلمه من علمه ما أعجب عبد المؤمن بن علي كثيرًا، وتآخيا في الله، وظلا سويًا في طريقهما لم يفترقا حتى مات محمد بن تومرت على نحو ما سيأتي بيانه.
تعلم عبد المؤمن بن علي العلم من محمد بن تومرت مع الطريقة الفظة في الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ الاثنان معًا يدعوان إلى الله سبحانه وتعالى في بلاد المغرب العربي، وقد انضم إليهما خمسة آخرون وأصبحوا بذلك سبعة أفراد بمحمد بن تومرت نفسه، وعلى هذا الحال وجد محمد بن تومرت ومن معه أن المنكرات قد كثرت بصورة لافتة في بلاد المرابطين، ووجد أن الخمور قد تفشت حتى في مراكش، تلك العاصمة التي أسسها يوسف بن تاشفين رحمه الله من قبل وكانت ثغرا من ثغور الإسلام، كما رأى الولاة وقد بدأوا يظلمون الناس ويفرضون عليهم الضرائب، ويأكلون أموال اليتامى، ووجد أيضا ذاك السفور والاختلاط وقد انتشر وصار شيئًا مألوفًا بين الناس، حتى إنه شاهد بنفسه امرأة سافرة وقد خرجت في فوج كبير وعليه حراسة مما يماثل أفواج الملوك، وحينما سأل عن صاحبة هذا الفوج وتلك المرأة السافرة علم أنها ابنة عليّ بن يوسف بن تاشفين، ابنة أمير المسلمين.

محمد بن تومرت وفكرته في التغيير
لا بدّ من تغيير لهذا الوضع المخزي، كانت هذه هي الفكرة التي اختمرت واستحوذت على رأس محمد بن تومرت، فجلس مع أصحابه وعددهم ستة نفر، ثم عرض عليهم فكرته في التغيير، فكان رأيه أن المعاصي والمنكرات قد استشرت في بلاد المرابطين، وأن السيل قد بلغ الزبى، وأن الحل في هذا الأمر هو أن نبدأ بالرأس ونُقصي الحكام عن الحكم، فنبدأ بعليّ بن يوسف بن تاشفين ومن معه من الحكام والولاة وقادة الجيش، فنخرج عليهم فنقصيهم عن الحكم، ومن ثم فيكون الأمر في أيدينا فنستطيع أن نغير في البلاد وفق ما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
يريد محمد بن تومرت أن يختصر طريق التربية ويختصر الطريق الطويل الذي بدأه عبد الله بن ياسين من قبل، والذي سار فيه سنوات وسنوات حتى تمكن من الأمور، يريد إقصاء علي بن يوسف بن تاشفين ومن معه ثم بعد أن يتملك الأمور يبدأ في تعليم الناس من فوق كرسي الحكم وبسلطان القانون.
وإذا أكملنا السير مع محمد بن تومرت فإن عليّ بن يوسف بن تاشفين كان يقيم شرع الله سبحانه وتعالى وكان يجاهد في سبيل الله، إلا أنه كانت تشوبه بعض التجاوزات والمخالفات مثل التي ذكرناها وهذه المخالفات لم تكن تعطي الحق لمحمد بن تومرت ومن معه أيًا كانت نياتهم فيما يبدو لنا، وأيا كان تقشفهم وزهدهم وعلمهم الغزير أن يخرجوا عليه، بل كان عليهم أن يُقيموا الأمر من جديد، وأن يعاونوه على العوده إلى طريق الإسلام الصحيح، وكان عليهم تعليم الناس وتربيتهم تربية إسلامية صحيحة.
ولننظر إلى تغيير رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة، وحين خالفه المشركون في مكة، فقد كان من الممكن أن يفعل الأمر نفسه الذي فكّر فيه محمد بن تومرت، كان من الممكن أن يوصي عليّ بن أبي طالب والزبير بن العوّام وطلحة بن عبيد الله أن يقوم كل منهم فيقتل رجلا من صنانيد قريش، ثم يتولى هو الحكم في مكة ومن ثَمّ يقيم شرع الله سبحانه وتعالى.
ولأنها ليست سنة الله في التغيير لم يتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أخذ يربي الناس بالتدريج سنة بعد سنة، حتى قضى ثلاث عشرة سنة في مكة على هذا الحال، ثم هاجر إلى المدينة المنورة وتابع مسيرته في تربية الناس بالتدريج، حتى كانت موقعة بدر مع الكافرين وتلتها المواقع الكثيرة التي أصقلت معادن المؤمنين، حتى تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك من السيطرة على الأمور كلها في جزيرة العرب، واستطاع أن يُنشئ جيلا من الرجال على طراز فريد من نوعه، استطاعوا من بعده أن يحملوا الرسالة إلى أهل الأرض قاطبة.

بين علي بن يوسف بن تاشفين ومحمد بن تومرت
كان ما سبق هو المنهج الذي سلكه محمد بن تومرت قاصدًا به الإصلاح والتغيير، وهو بلا أدنى شك مخالف تمامًا للنهج القويم ونهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل ذاته على نحو ما رأينا.
سمع عليّ بن يوسف بن تاشفين بمحمد بن تومرت وعلم أنه يدعو الناس إلى الخروج عليه، وبمنطق سليم فكر الخليفة في عقد مناظرة بين محمد بن تومرت وبين علماء دولة المرابطين، يكون مقرّها قصر الخليفة نفسه.
قدم محمد بن تومرت على رأس أتباعه الستة، وأتى علماء المرابطين وكان على رأسهم كبير العلماء وقاضي القضاة مالك بن وهيب، وبدأ الفريقان في المناظرة.
ونظرة أولية إلى فكرة عقد مثل هذه المناظرة يوحي بأن عليّ بن يوسف بن تاشفين كان رجلًا ما زال يحمل من الخير الكثير، وإلاّ وعلى أقل تقدير كان من الممكن أن يفتعل مثل هذه المناظرة ويقوم بعدها بسجن محمد بن تومرت أو قتله أو فعل أي شيء آخر من هذا القبيل، خاصّة وهو ذلك الثائر على الحاكم، والذي يريد قلب وتغيير نظام الحكم، الأمر الذي سيزداد تأكيدًا في نهايه هذه المناظرة في صالح الأمير على نحو ما سيأتي.
وفي هذه المناظرة تفوّق محمد بن تومرت على علماء دولة المرابطين تفوقًا ملحوظًا، فقد كان كما ذكرنا من كبار العلماء المتشبعين بالعلم، وكان كما وصفه ابن خلدون بحرًا متفجرًا من العلم وشهابًا في الدين، وهو الذي أمضى عشر سنين في بغداد يتعلم علم المجادلة وفنون المحاورة على يد العقليين من المعتزلة وغيرهم، استطاع محمد بن تومرت أن يحاجّ علماء دولة المرابطين جميعًا في كل القضايا التي أثيرت بينه وبينهم، حتى بكى عليّ بن يوسف بن تاشفين في مجلسه لما رأى من كثرة المعاصي في دولته وهو لا يدري عنها شيئا، أو هو يدري عنها لكنه لم يغيرها، بكى من الخشية لما سمع حجج وأقاويل محمد بن تومرت، لكن ذلك لم يشفع له عنده وظلت الحدة واضحة جلية في كلامه وحديثه مع الأمير، كان علماء الدولة ووزراؤها يعلمون أنه يحرّض الناس على الخروج على الحاكم، فأسرّ مالك بن وهيب قاضي القضاة في أذن عليّ بن يوسف بن تاشفين بأن عليه أن يعتقل هذا الرجل وينفق عليه دينارًا كل يوم في السجن وإلا ستمرّ عليك الأيام فتنفق عليه كل خزائنك دون أن تقدر عليه، لكن الوزير أشار على علي بن يوسف بن تاشفين بعدم فعل ذلك حتى لا يكون متناقضا مع نفسه، خاصة وأنه جلس في مجلسه وبكى من خشية الله سبحانه وتعالى حين سمع كلماته، فلا يُعقل أن تأتي بعد ذلك وتعتقله، فتحدث بذلك بلبلة عند عموم الناس، كما أنه بمن معه سبعة نفر فقط أما أنت فحاكم دولة ضخمة وهي دولة المرابطين، فكيف تخشى من هذا الرجل؟!
وازن عليّ بن يوسف بن تاشفين بين رأي مالك بن وهيب قاضي القضاة وبين رأي الوزير، واستقر أخيرًا على إطلاق سراح محمد بن تومرت تأثمًا أن يحبسه دون وجه حق، فالرجل كان ما زال به خير، وكان من الممكن أن يصلح أمره إذا حاول معه محمد بن تومرت ومن معه بالتي هي أحسن، لكنه لم يفعل.

محمد بن تومرت وجماعة الموحدين
ما إن خرج محمد بن تومرت من مجلس الأمير علي بن يوسف بن تاشفين من مراكش حتى نزل على صديق له في بلد مجاور، وذهبوا بعدها إلى قرية في عمق الجبل اسمها "تينملل" وهي التي ستكون عاصمة للدولة التي سوف يؤسسها محمد بن تومرت بعد ذلك.
كان محمد بن تومرت زاهدًا أشد الزهد، وكان لا يحمل في يده إلا العصا ولا يأكل إلا القليل من الطعام، وكان كما ذكرنا صاحب علم غزير، فبدأ الناس في هذه القرية الصغيرة يلتفّون حوله ويسمعون لكلامه، وبدأ يؤثر فيهم بشكل طبيعي لما كانوا عليه من المعاصي والمنكرات تلك التي انتشرت في بلاد المرابطين، ثم بدأ يكوّن حوله جماعة بدأت صغيرة وقد سماها جماعة الموحدين، وهي تسمية خطيرة لما سنعلمه بعد قليل.
قويت شوكة محمد بن تومرت، وبمجرد أن قويت شوكته ظهرت عليه انحرافات عقائدية خطيرة، فقد كان لأخذه العلم من تيارات مختلفة تمثل سنّة وشيعة ومعتزلة، وغيرهم في بلاد الشام وبغداد ومكة ومصر وغيرها من البلاد كان من جرّاء ذلك أن ظهر عليه خليط من العقائد المختلفة، والتي تمثلت فيما يلي:
أولًا: ادّعى العصمة:
((والعصمة عند أهل السنة والجماعة لم تثبت إلا للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام فيما يبلغون عن الله من شرع، ولم يقولو بها لسواهم حتى لكبار الصحابة الذين خصهم الله بالفضل كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم.
إن ابن تومرت بهذا النهج يكون قد وافق الرافضة الإثنى عشرية الذين قالوا بالعصمة لأئمتهم حيث يقولون بوجوب عصمتهم من الكبائر والصغائر والنسيان، كما قالوا إن الإمام كالنبي يجب أن يكون معصومًا من جميع الرذائل والفواحش ما ظهر منها وما بطن من سن الطفولة إلى الموت، عمدًا وسهوًا، كما يجب أن يكون معصومًا من السهو والخطأ والنسيان.
وهكذا نرى كيف غالى ابن تومرت في القول بالعصمة لنفسه، وهذا بلا شك انحراف عقدي خطير لأن من جعل بعد الرسول معصومًا يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة وإن لم يعطه لفظها)) دولة الموحدين - الصلابي صـ 40
ثانيًا: ادعى أن المرابطين من المجسمة:
كان المرابطون يثبتون لله تعالى صفاته كما هي، لكن محمد بن تومرت أخذ فكر المعتزلة في نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى وهي قضية جدليّة طويلة لا نخوض في تفصيلاتها، وخلاصة الأمر في ذلك أنه لما أثبت أن المرابطين يُثبتون الصفات لله سبحانه وتعالى ادّعى أنهم من المجسمة، وتبعا لهذا الادعاء فقد راح يُكفر المرابطين، وادّعى بأن عليّ بن يوسف بن تاشفين ومن معه من الولاة والعلماء، ومن يعمل تحت حكمهم ومن يرضى بحكمهم، هو من الكافرين.
وهذا منحى خطير؛ إذ إنه كفّر حكام البلد التي كان يعيش فيها، وهي بلاد الأندلس والمغرب العربي في ذلك الوقت.
(( وبذلك يكون ابن تومرت قد وافق المعتزلة في نفيهم الصفات عن الله تعالى وكان يقول لأتباعه: "واشتغلوا بتعليم التوحيد فإنه أساس دينكم، حتى تنفوا عن الخالق الشبيه والشريك والنقائص والآفاق والحدودد والجهات ولا تجعلوه سبحانه في مكان أو جهة، فإنه تعالى موجود قبل الأمكنة والجهات فمن جعله في جهة ومكان فقد جسمه ومن جسمه فقد جعله مخلوقًا، ومن جعله مخلوقًا فهو كعابد وثن" لقد تبنى ابن تومرت منهج المعتزلة في الأسماء والصفات حيث نفى كل ما عساه أن يوهم الشبه والمثلية لله سبحانه حتى ولو كان ذلك من الأسماء والصفات الثابتة لله تعالى في الكتاب والسنة ولهذا سمّى أصحابه بالموحدين لأنهم في رأيه هم الذين يوحدون الله لنفيهم الصفات عنه سبحانه وتعالىن كما كان يسمي أتباعه بالمؤمنين ويقول لهم: ما على وجه الأرض من يؤمن إيمانكم)) دولة الموحدين - الصلابي "نقلًا عن مصادر متعددة"
ثالثًا: استحل دماء المرابطين:
وتبعًا لهذا التكفير السابق لغير الموحدين استحل محمد بن تومرت دماء المرابطين، ومن ثَمَّ فقد أمر بالخروج عليهم وقتلهم، وأنه ليس هناك إثم في ذلك، بل إن قتلهم فيه إحراز لثواب عظيم، وقد كان متساهلًا في الدماء، وهي خاصية من خصائص الخوارج الذين تعلم على أيدي بعضهم كما ذكرنا أثناء رحلته لطلب العلم.
كان ابن تومرت يهدف إلى هدم دولة المرابطين من جذورها وبناء دولة الموحدين على أنقاضها مهما كلفه ذلك، وقد استباح في ذلك الدماء والأرواح والأموال، وكانت غايته تلك مبررة - من وجهة نظره - لكل وسيلة، وكان لا يتردد في قتل من يشك في إيمانه بما يدعيه من مبادئ حتى ولو كان من أتباعه...
وقد كان ابن تومرت يقوم بما يسمّى بعلمية التمييز أي تمييز الصادقين من أتباعه من المداهنيين والمنافقين والمخالفين ويقوم بقتلهم على الفور ليظل صفه قويًا.
ومن المعلوم أن من أهم مقاصد الشريعة الإسلامية الحفاظ على النفس، وما فعله هذا الآثِم إنما هو اعتداء بغير حق على الأنفس التي حرم الله إزهاقها، وفي فعله هذا انحراف واضح عن الشرع وارتكاب متعمد للكبائر وقد قال الله تعالى: [وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] {النساء: 93}.
يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله، حيث يقول، سبحانه، في سورة الفرقان: [وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ]... {الفرقان: 68} وقال تعالى: [قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئً] إلى أن قال: [ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] {الأنعام: 151}.والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدًا...منها: لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم وفي الحديث الآخر: عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمْ اللَّهُ فِي النَّارِ صححه الألباني، وفي الحديث أيضًا: من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله. ضعفه الألباني.هـ
إن أمر القتل في غاية الخطورة ولا يستحله إلا من تجرد من كل معاني الأخلاق والرحمة ومن كل المعاني الإنسانية...
وفي البخاري ومسلم... عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ الزَّانِي وَالْمَارِقُ مِنْ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَمَاعَةِ.
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: إنها جريمة قتل لا لنفس فحسب - بغير حق - ولكنها كذلك جريمة قتل للوشيجة العزيزة الحبيبة الكريمة العظيمة، التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم. إنها تنكّر للإيمان ذاته وللعقيدة نفسه.
ومن ثَمّ قرنت بالشرك في مواضع كثيرة؛ واتجه بعضهم - ومنهم ابن عباس - إلى أنه لا توبة منه.. ولكن البعض الآخر استند إلى قوله تعالى: [إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء].. فرجا للقاتل التائب المغفرة.. وفسر الخلود بأنه الدهر الطويل.
والذين تربوا في مدرسة الإسلام الأولى، كانوا يرون قاتلي آبائهم وأبنائهم وإخوانهم، - قبل إسلامهم - يمشون على الأرض - وقد دخلوا في الإسلام - فيهيّج في نفوس بعضهم ما يهيج من المرارة. ولكنهم لا يفكرون في قتلهم. لا يفكرون مرة واحدة؛ ولا يخطر لهم هذا الخاطر في أشد الحالات وجداً ولذعاً ومرارة. بل إنهم لم يفكروا في إنقاصهم حقاً واحداً من حقوقهم التي يخولها لهم الإسلام.. هـ
كان لا بدّ لنا من هذا الوقفة مع هذا الأمر الخطير؛ أمر الدماء التي استحلها هذا الآثم المخادع، أما عملية التمييز التي سبق الإشارة إليها فقد استعان فيها "ابن تومرت" برجل على شاكلته يُسمّى "أبو عبد الله بن محسن الونشريسي" وكان يُلقبه بالبشير إمعانًا في خداع الناس وإضلالهم، وقد طلب "ابن تومرت" من هذا الفاسق أن يخفي علمه وحفظه للقرآن ويظهر أمام القبائل كأنه مجنون يسيل لعابه على وجهه...
قال "الذهبي" في "سير أعلام النبلاء" جـ 19 / صـ 546: فلما كان عام تسعة عشر وخمسمائة، خرج يومًا، فقال: تعلمون أن البشير - يريد الونشريسي - رجل أمي، ولا يثبت على دابة، فقد جعله الله مبشرًا لكم، مطلعا على أسراركم، وهو آية لكم، قد حفظ القرآن، وتعلم الركوب، وقال: اقرأ، فقرأ الختمة في أربعة أيام، وركب حصانا وساقه، فبهتوا، وعدوها آية لغباوتهم، فقام خطيبا، وتلا: [ليميز الله الخبيث من الطيب] {الانفال: 37}، وتلا: [منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون] {آل عمران: 110}، فهذا البشير مطلع على الأنفس، ملهم، ونبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: " إن في هذه الامة محدثين، وإن عمر منهم" وقد صَحِبَنَا أقوام أطلعه الله على سرهم، ولا بد من النظر في أمرهم، وتيمم العدل فيهم، ثم نودي في جبال المصامدة: من كان مطيعا للإمام، فليأت، فأقبلوا يهرعون، فكانوا يعرضون على البشير، فيخرج قومًا على يمينه، ويعدهم من أهل الجنة، وقوما على يساره، فيقول: هؤلاء شاكّون في الامر، وكان يؤتى بالرجال منهم، فيقول: هذا تائب ردّوه على اليمين تاب البارحة، فيعترف بما قال، واتفقت له فيهم عجائب، حتى كان يطلق أهل اليسار، وهم يعلمون أن مآلهم إلى القتل، فلا يفرّ منهم أحد، وإذا تجمع منهم عدة، قتلهم قراباتهم حتى يقتل الاخ أخاه...!!!
وأورد "ابن الأثير" في كتابه "الكامل في التاريخ" هذا الأمر فقال: وكان الونشريشي يلزم الاشتغال بالقرآن والعلم في السر بحيث لا يعلم أحد ذلك منه، فلما كان سنة تسع عشرة وخاف المهدي - ابن تومرت - من أهل الجبل، خرج يوماً لصلاة الصبح، فرأى إلى جانب محرابه إنساناً حسن الثياب، طيب الريح، فأظهر أنه لا يعرفه، وقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو عبد الله الونشريشي! فقال له المهدي: إن أمرك لعجب! ثم صلى، فلما فرغ من صلاته نادى في الناس فحضروا، فقال: إن هذا الرجل يزعم أنه الونشريشي، فانظروه، وحققوا أمره. فلما أضاء النهار عرفوه، فقال له المهدي: ما قصتك؟ قال: إنني أتاني الليلة ملك من السماء، فغسل قلبي، وعلمني الله القرآن، والموطأ، وغيره من العلوم والأحاديث. فبكى المهدي بحضرة الناس، ثم قال له: نحن نمتحنك، فقال: افعل.
وابتدأ يقرأ القرآن قراءة حسنة من أي موضع سئل، وكذلك الموطأ، وغيره من كتب الفقه والأصول، فعجب الناس من ذلك، واستعظموه.
ثم قال لهم: إن الله تعالى قد أعطاني نوراً أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وآمركم أن تقتلوا أهل النار، وتتركوا أهل الجنة، وقد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر التي في المكان الفلاني يشهدون بصدقي.
فسار المهدي، والناس معه وهم يبكون، إلى تلك البئر، وصلى المهدي عند رأسها، وقال: يا ملائكة الله، إن أبا عبد الله الونشريشي قد زعم كيت وكيت، فقال من بها: صدق! وكان قد وضع فيها رجالاً يشهدون بذلك، فلما قيل ذلك من البئر، قال المهدي: إن هذه مطهرة مقدسة قد نزل إليها الملائكة، والمصلحة أن تطم لئلا يقع فيها نجاسة، أو ما لا يجوز، فألقوا فيها من الحجارة والتراب ما طمها - وبهذا يكون قد قتل الرجال الذين اتفق معهم على هذا القول لئلا يفتضح أمره - ثم نادى في أهل الجبل بالحضور إلى ذلك المكان، فحضروا للتمييز، فكان الونشريشي يعمد إلى الرجل الذي يخاف ناحيته، فيقول: هذا من أهل النار، فيلقى من الجبل مقتولاً، وإلى الشاب الغرّ، ومن لا يخشى، فيقول: هذا من أهل الجنة، فيترك على يمينه، فكان عدة القتلى سبعين ألفاً. فلما فرغ من ذلك أمن على نفسه وأصحابه....هـ
هذا فعل ابن تومرت بمن معه فكيف يكون فعله بالمرابطين إنه - بلا شك - سيكون أشد وأنكى...

وقفة مع محمد بن تومرت وجماعته الموحّدة
في جماعته الجديدة كان محمد بن تومرت يقتل العشرات من المخالفين له حتى من فرقته وجماعته (الموحدين)، فالذي يخالفه في الرأي ليس له من دواء إلا القتل، وهو أمر في غاية الغرابة نظرًا لما عنده من العلم الغزير، وأغرب منه كان ادعاؤه بعض الخوارق، وأنه هو المهدي المنتظر...!!
ولا شك في أن يعتقد صدَقه وما يذهب إليه من أقواله تلك كثيرٌ من الناس، وذلك كما ذكرنا لانشغال علماء الدولة بالأمور الفرعية عن تعليم هؤلاء الناس أصول العقائد وأصول العبادات، فقد أقام العلماء جدارًا عازلًا بينهم وبين العامة الذين لا يعرفون أين الحق وأين الصواب، والذين لا يستطيعون أن يميزوا بين الغث والسمين...
من هنا حين رأى مثل هؤلاء الناس رجلًا مثل محمد بن تومرت في شخص العالم الكبير، وهو يروي من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فلان وفلان، ثم هو يحفظ كتاب الله ويعلم سير الصالحين والسابقين، ويعلم فقه كذا وكذا، حين رأوا ذلك ما كان منهم إلا أن يسمعوا ويطيعوا لما يقوله وما يمليه عليهم عالمهم ومعلمهم، وقد اعتقدوا جميعًا بعصمته واعتقدوا جميعًا بِحلِّ قتل المرابطين، بل والثواب الجزيل على قتلهم.
ولنا أن نتخيل مثل هذا الأمر في حق المرابطين الذين فتحوا البلاد وأقاموا صرح الاسلام في بلاد المغرب والأندلس لسنوات وسنوات، الآن وبعد ظهور بعض المنكرات في بلادهم، وبعد انشغالهم بالجهاد عن التعليم أصبحوا يُكفّرون وتحل دماؤهم ويقَاتَلون من قبل جماعة الموّحدين، ذلك الاسم (الموحدين) الذي فيه إشارة قوية إلى أن غيرهم كفار وليسوا بموحدين أو مسلمين.

المرابطون والموحدون وقتال الأعداء
من هذا المنطلق السابق حمل محمد بن تومرت على عاتقه وجماعته - الموحدون - أمر مقاتلة المرابطين وسفك دمهم، وقد التقوا مع المرابطين في مواقع عديدة، كان منها تسع مواقع ضخمة انتهت سبع منها بانتصارهم على المرابطين، وهُزموا في اثنتين.
ومن مواقعهم مع المرابطين كان هناك على سبيل المثال واحدة في سنة 518 هـ= 1124 م قُتل فيها من المرابطين خمسة عشر ألف مسلم على أيدي الموحدين، خمسة عشر ألف مسلم ممن كانوا شوكة في عنق النصارى لسنوات وسنوات يقتلهم الموحدون حتى يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويقيموا دولة على نهج الله ونهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
موقعة البحيرة أو البستان:
كانت موقعة البحيرة أو موقعة البستان، في سنة 524 هـ= 1130 م والتي انتصر فيها المرابطون على الموحدين، وقتل فيها من الموحدين أربعون ألفا.
وهذه المعركة - البستان أو البحيرة - هي التي سُبقت بما أسماه التمييز حيث قام ابن تومرت بقتل كل من يشك في ولائه له، بل جعله أهلهم وأقرباؤهم هم الذين يقتلونهم - كما سبق الإشارة إلى هذا الأمر -.
قال ابن الأثير: فجهز المهدي - ابن تومرت - جيشاً كثيفاً يبلغون أربعين ألفاً، أكثرهم رجالة، وجعل عليهم الونشريشي، وسير معهم عبد المؤمن، فنزلوا وساروا إلى مراكش فحصروها، وضيقوا عليها، وبها أمير المسلمين علي بن يوسف، فبقي الحصار عليها عشرين يوماً، فأرسل أمير المسلمين إلى متولي سجلماسة يأمره أن يحضر ومعه الجيوش، فجمع جيشاً كثيراً وسار، فلما قارب عسكر المهدي خرج أهل مراكش من غير الجهة التي أقبل منها، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكثر القتل في أصحاب المهدي، فقتل الونشريشي أميرهم، فاجتمعوا إلى عبد المؤمن وجعلوه أميراً عليهم.
ولم يزل القتال بينهم عامة النهار، وصلى عبد المؤمن صلاة الخوف، الظهر والعصر، والحرب قائمة، ولم تصل بالمغرب قبل ذلك، فلما رأى المصامدة كثرة المرابطين، وقوتهم، أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير هناك، والبستان يسمى عندهم البحيرة، فلهذا قيل وقعة البحيرة، وعام البحيرة، وصاروا يقاتلون من جهة واحدة إلى أن أدركهم الليل، وقد قتل من المصامدة أكثرهم، وحين قتل الونشريشي دفنه عبد المؤمن، فطلبه المصامدة، فلم يروه في القتلى، فقالوا: رفعته الملائكة، ولما جنهم الليل سار عبد المؤمن ومن سلم من القتلى إلى الجبل...
لم يكن ابن تومرت ليصيبه اليأس بمجرد أن هُزم أصحابه وبدأوا يشكون في مهديته المزعومة، بل إنه لجأ إلى الحيلة والكذب وبدأ يبعث الأمل في نفوس أصحابه من جديد بأنهم على الحق، وأن هؤلاء الملثمين على الباطل ولا بد أن يُهزموا...
قال المراكشي في المعجب: ولما رجع القوم إلى ابن تومرت جعل يهون عليهم أمر الهزيمة ويقرر عندهم أن قتلاهم شهداء لأنهم ذابون عن دين الله مظهرون للسنة فزادهم ذلك بصيرة في أمرهم وحرصاً على لقاء عدوهم ومن حينئذ جعل المصامدة يشنون الغارات على نواحي مراكش ويقطعون عنها مواد المعايش وموصول المرافق ويقتلون ويسبون ولا يبقون على أحد ممن قدروا عليه وكثر الداخلون في طاعتهم والمنحاشون إليهم وابن تومرت في ذلك كله يكثر التزهد والتقلل ويظهر التشبه بالصالحين والتشدد في إقامة الحدود جارياً في ذلك على السنة الأولى.
أخبرني من رآه - ممن أثق إليه - يضرب الناس على الخمر بالأكمام والنعال وعسب النخل متشبها في ذلك بالصحابة.
ولقد أخبرني بعض من شهده وقد أتى برجل سكران فأمر بحدة فقال: رجل من وجوه أصحابه يسمى يوسف بن سليمان لو شددنا عليه حتى يخبرنا من أين شربها لنحسم هذه العلة من أصلها! فأعرض عنه ثم أعاد عليه الحديث فأعرض عنه فلما كان في الثالثة قال: له أرأيت لو قال: لنا شربتها في دار يوسف بن سليمان ما نحن صانعون؟ فاستحيا الرجل وسكت ثم كشف على الأمر فإذا عبيد ذلك الرجل سقوه فكان هذا من جملة ما زادهم به فتنة وتعظيماً إلى أشياء كان يخبر بها فتقع كما يخبر.
ولم يزل كذلك وأحواله صالحة وأصحابه ظاهرون وأحوال المرابطين المذكورين تختل وانتقاض دولتهم يتزيد إلى أن توفي ابن تومرت بعد أن أسس الأمور وأحكم التدبير ورسم لهم ما هم فاعلوه.... هـ
قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: وقد بلغني - فيما يقال -: أن ابن تومرت أخفى رجالًا في قبور دوارس، وجاء في جماعة ليريهم آية، يعني فصاح: أيها الموتى أجيبوا، فأجابوه: أنت المهدي المعصوم، وأنت وأنت، ثم إنه خاف من انتشار الحيلة، فخسف فوقهم القبور فماتوا...
لم يلبث ابن تومرت أن توفي بعد هذه معركة البحيرة ليترك أصحابه بعد أن أمّر عليهم عبد المؤمن، ولما مات كفنه عبد المؤمن بن علي وصلى عليه ودفنه بمسجده كما أوصاه...
(( وهكذا انتهت حياة ابن تومرت ومصير دعوته مجهول بسبب ما حاق بأتباعه من هزيمة نكراء في موقعة البحيرة، ولكنه قد نجح في ترسيخ دعوته في قلوب أتباعه حتى صدقوه وآمنوا بمهديته، وأطاعوه ولو في قتل أبنائهم، وهذا ما حصل فعلًا في عملية التمييز التي تقشعر لها الأبدان حيث قتلت كل قبيلة بعض فلذات أكبادها دون تردد أو حيرة.
لقد ساعد ابن تومرت في تحقيق أهدافه سذاجة المجتمع وجهله، وكان عششت في ذهنه من الأساطير والانحرافات حتى عاد غريبًا عن منهج الإسلام الصافي...))... إعلام أهل العلم والدين بأحوال دولة الموحدين - الصلابي

وصية ابن تومرت والبيعة لعبد المؤمن
أورد "عبد الواحد المراكشي" في "المعجب" أن ابن تومرت قبل موته بأيام يسيرة استدعى هؤلاء المسمّين بالجماعة وأهل خمسين وهم - كما ذكرنا - من قبائل مفترقة لا يجمعهم إلا اسم المصامدة فلما حضروا بين يديه قام وكان متكئاً فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على محمد نبيه صلى الله عليه وسلم ثم أنشأ يترضى عن الخلفاء الراشدين - رضوان الله عليهم - ويذكر ما كانوا عليه من الثبات في دينهم والعزيمة في أمرهم وأن أحدهم كان لا تأخذه في الله لومة لائم وذكر من حد عمر رضي الله عنه ابنه في الخمر وتصميمه على الحق في أشباه لهذه الفصول ثم قال: فانقرضت هذه العصابة - نضّر الله وجوهها وشكر لها سعيها وجزاها خيراً عن أمة نبيها - وخبطت الناس فتنة تركت الحليم حيران والعالم متجاهلاً مداهناً فلم ينتفع العلماء بعلمهم بل قصدوا به الملوك واجتلبوا به الدنيا وأمالوا وجوه الناس إليهم... ثم إن الله - سبحانه وله الحمد - من عليكم أيتها الطائفة بتأييده وخصكم من بين أهل هذا العصر بحقيقة توحيده وقيض لكم من ألفاكم ضلالاً لا تهتدون وعمياً لا تبصرون لا تعرفون معروفاً ولا تنكرون منكراً قد فشت فيكم البدع واستهوتكم الأباطيل وزين لكم الشيطان أضاليل وترهات أنزه لساني عن النصق بها وأربأ بلفظي عن ذكرها فهداكم الله به بعد الضلالة وبصركم بعد العمى وجمعكم بعد الفرقة وأعزكم بعد الذلة ورفع عنكم سلطان هؤلاء المارقين وسيورثكم أرضهم وديارهم ذلك بما كسبته أيديهم وأضمرته قلوبهم وما ربك بظلام للعبيد فجددوا لله - سبحانه خالص نياتكم وأروه من الشكر قولاً وفعلاً ما يزكي به سعيكم ويتقبل أعمالكم وينشر أمركم واحذروا الفرقة واختلاف الكلمة وشتات الآراء وكونوا يداً واحدة على عدوكم فإنكم إن فعلتم ذلك هابكم الناس وأسرعوا إلى طاعتكم وكثر أتباعكم وأظهر الله الحق على أيديكم وإلا تفعلوا شملكم الذل وعمكم الصغار واحتقرتكم العامة فخطفتكم الخاصة وعليكم في جميع أموركم بمزج الرأفة بالغلظة واللين بالعنف واعلموا مع هذا أنه لا يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا على الذي صلح عليه أمر أولها وقد اخترنا لكم رجلاً منكم وجعلناه أميراً عليكم هذا بعد أن بلوناه في جميع أحواله من ليله ونهاره ومدخله ومخرجه واختبرنا سريرته وعلانيته فرأيناه في ذلك كله ثبتاً في دينه متبصراً في أمره وإني لأرجو ألا يخلف الظن فيه وهذا المشار إليه هو عبد المؤمن فاسمعوا له وأطيعوا ما دام سامعاً مطيعاً لربه فإن بدل أو نكص على عقبه أو ارتاب في أمره ففي الموحدين أعزهم الله بركة وخير كثير والأمر أمر الله يقلده من شاء من عباده.
فبايع القوم عبد المؤمن ودعا لهم ابن تومرت ومسح وجوههم وصدورهم واحداً واحداً فهذا سبب إمرة عبد المؤمن ثم توفي ابن تومرت بعد عهد بيسير واجتمع أمر المصامدة على عبد المؤمن...


المصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدر
http://www.islamstory.com/%D8%A8%D9%...AF%D9%8A%D9%86