يوســــــــــــــــــــف بن تاااااااااااشفـــــــــــــــــــــــين
أ.د عبد الحليم عويس

مرابطون … وقائدهم يوسف بن تاشفين :
كان أولئك الملثمون من (صنهاجة) ، على دين المجوسية إلى أن ظهر فيهم الإسلام في المائة الثالثة للهجرة ، وجاهدوا جيرانهم من السودان على الإسلام ، فدانوا لهم ، واستوثق لهم الملك.
وقد نجح (يحيى بن عمر بن تلاكاكين) من رؤساء (صنهاجة) وأخوه (أبو بكر) فانضما إلى الفقيه (عبد الله بن ياسين) واقتحموا عليه عزلته، ومضوا به بعيداً عن الناس في ربوة ، ينهلون من علمه ، منفردين للعبادة ، فيلحق بهم من دخل الإيمان قلبه ، حتى إذا ما كمل عددهم ألفاً من الرجال ، قال لهم شيخهم(عبد الله بن ياسين) “إن ألفاً لن تغلب عن قلة” ، وقد تعين علينا القيام بالحق والدعاء إليه ، وحمل الكافة عليه ، فاخرجوا بنا لذلك.
وقد خرجوا من الصحراء (سنة 445هـ) في عدد ضخم ركباناً على المهارى أكثرهم ، وعمدوا إلى (درعة) ، ونهض إليهم (مسعود بن وادين) أمير (مغراوة) ، وصاحب (سجلماسة) ، و(درعة) لمدافعتهم عنها وعن بلاده، فتواقعوا ، وانهزم (ابن وانودين) وقتل، وقصدوا (سجلماسة) فدخلوها غلاباً ، وقتلوا من كان بها من (مغراوة) ، وقد أصلحوا من أحوالها وغيروا المنكرات، وأسقطوا المغارم والمكوس ، واقتضوا الصدقات ، واستعملوا عليها منهم، وعادوا إلى صحرائهم ، ومات يحيى بن عمر (سنة 447هـ) وقدم مكانه أخاه (أبو بكر) ، وندب (المرابطين) إلى فتح المغرب ، فغزا بلاد (السوس) سنة (448هـ) ، وافتتح (ماسة) ، و(تارودانت) وجميع معاقله ، ثم افتتح مدينة (أغمات) سنة (449هـ).
وتابع (أبو بكر) فتوحاته ، واستولى على (ماسة) ، و(تارودانت) ، وبلاد المصامدة في (جبال درن) ، و(تامستا) ، و(إنفا) من جهات الريف المغربي (بسام العسلي : المعتمد وابن تاشفين ، ص36 وما بعدها، دار النفائس ـ بيروت) .
وتابع (أبو بكر) قيادة الجهاد فافتتح (لواته) سنة (452هـ) ، وحدث خلاف عندها بين (لمتونة) ، و(مسوفة) ببلاد الصحراء، فخشى أبو بكر اختلاف الكلمة ، وتفرق الشمل ، وأسرع بالعودة إلى الصحراء ، بعد أن ترك على المغرب ابن عمه يوسف بن تاشفين ، ونجح أبو بكر في إخماد نار الفتنة ، وتوجيه قومه إلى جهاد السودانيين ، فاستولى على نحو تسعين مرحلة من بلادهم.
وكان قد أقام (يوسف بن تاشفين) بأطراف المغرب، واستنزل صاحب قلعة (فاس)، وأخذ رهنها على الطاعة ، ثم سار في عسكره من المرابطين ، ودوخ أقطار المغرب، واختط مدينة (مراكش) سنة (454هـ) ونزلها بالخيام، وأدار أسوارها على مسجد ، وقصبة صغيرة لاختزان أمواله وسلاحه، وأكمل تشييدها وأسوارها ابنه من بعده سنة (526هـ) ، وجعل يوسف مدينة (مراكش) لنزل عسكره .
وفي سنة (462هـ) نازل (فاس) ؛ التي تمردت عليه ، فحاصرها مدة ، ثم افتتحها عنوة .
ثم نهض سنة (467هـ) إلى جبال (غياثة) ، وبنى (مكود من أحواز تازا) فافتتحها ودوخها ، ثم قسم المغرب عمالات على بنيه وأمراء قومه وذويه (المرجع السابق ، ص38 وما بعداها).
ثم نهض في عساكره (المرابطين) إلى بلاد المغرب الأوسط ، فافتتح مدينة (وجدة) وبلاد بني (يزتاسن) ، وافتتح مدينة (تلمسان) فصارت ثغراً لملكه ، وافتتح مدن (تنس) ، و(وهران) ، و(جبل وانشريس) حتى (الجزائر ـ العاصمة) .
وهكذا كان يوسف بن تاشفين وابن عمه أبي بكر بن عمر صاحبي الفضل في توجيه المغرب إلى الإسلام. ابن تاشفين والأندلس :
في عصر ملوك الطوائف (422 ـ 479هـ) كانت الأندلس في الحضيض سياسياً ودينياً .
وكما يقول (المقـّري) صاحب (نفح الطيب) : “لقد طرقت الدهياء ذلك القطر الأندلسي ؛ الذي ليس له في الحسن مثال ، ونسل الخطب إليه من كل حدب وانثال ، وكل ذلك من اختلاف رؤسائه وكبرائه ، ومقدميه ، وقضاته وأمرائه ووزرائه، فكل يروم الرياسة لنفسه ، ويجر نارها لقرصه ، والنصارى ـ لعنهم الله تعالى ـ يضربون بينهم بالخداع والمكر والكيد ، ويضربون عَمْراً منهم بزيد، حتى تمكنوا من أخذ البلاد ، والاستيلاء على الطارف والتلاد … ومن استقرأ التواريخ المنصوصة ، وأخبار الملوك المقصوصة ، علم أن النصارى ، لم يدركوا في المسلمين ثاراً ، ولم يرحضوا عن أنفسهم عاراً ، ولم يخربوا من الجزيرة منازل ودياراً ، ولم يستولوا عليها بلاداً جامعة وأمصاراً إلا بعد تمكينهم لأسباب الخلاف، واجتهادهم في وقوع الافتراق بين المسلمين والاختلاف، وتضريبهم بالمكر والخديعة بين ملوك الجزيرة ، وتحريشهم بالكيد والخلابة بين حماتها في الفتن المبيرة ، ومهما كانت الكلمة مؤتلفة ، والآراء لا مفترقة ولا مختلفة ، والعلماء بمعاناة اتفاق القلوب إلى الله مزدلقة ، فالحرب إذ ذاك سجال ، ولله تعالى في إقامة الجهاد في سبيله رجال، ولا أمل للطاغية (الحاكم) من حكام ملوك الطوائف إلا في التمرس بالإسلام والمسلمين، وإعمال الحيلة على المؤمنين ، وإضمار المكيدة للموحدين ، واستبطان الخديعة للمجاهدين ، وهو يظهر أنه ساع للوطن في العاقبة الحسنى، وأنه منطو لأهله على المقصد الأسنى، ومهتم بمراعاة أمورهم ، وناظر بنظر المصلحة لخاصتهم وجمهورهم ، وهو يسير حسواً في ارتقائه ، ويعمل الحيلة في التماس هلاك الوطن وابتغائه ، فتباً لعقول تقبل مثل هذا المحال ، وتصدق هذا الكذب بوجه أو بحال ، وليت المغرور ؛ الذي يقبل هذا أن يفكر في نفسه ، ويعرض هذا المسموع على مدركات حسه.
ويقول (المقري) صاحب (نفح الطيب) : “يعلل أهل الأندلس أنفسهم بالباطل ، وإن من أدل الدلائل على جهلهم اغترارهم بزمانهم وبعدهم عن طاعة خالقهم ، ورفضهم وصية نبيهم ، وغفلتهم عن سد ثغورهم ، حتى أطل عدوهم الساعي لإطفاء نورهم ، يجوس خلال ديارهم ، ويستقري بسائط بقاعهم ، ويقطع كل يوم طرفاً ، ويبيد أمة ، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكرهم ، لهاة عن بثهم .
ولم تزل آفة الناس مذ خلقوا في صنفين هم كالملح ، فيهم الأمراء والفقهاء ، بصلاحهم يصلحون ، وبفسادهم يفسدون ، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا بما لا كفاية له ، ولا مخلص منه ، فالأمراء القاسطون قد نكبوا عن نهج الطريق ذياراً عن الجماعة ، وجرياً إلى الفرقة ، والفقهاء أئمتهم صموت عنهم، صدوف عما أكده الله تعالى عليهم من التبين لهم ، فما القول في أرض فسد ملحها الذي هو المصلح لجميع أغذيتها، وما هي إلا مُشفية من بوارها ، ولقد طما العجب من أفعال هؤلاء الأمراء”.
وهكذا صور (المقري) عصر الطوائف تصويراً دقيقاً …
وقد قيض الله يوسف بن تاشفين لعلاج هذا المرض الخبيث….
الجبهة الأندلسية … والطائفية :
لم تكن معركة الزلاقة التي قام بها (يوسف بن تاشفين) المرابطي سنة (479هـ)؛ إلا نتيجة حتمية لتاريخ امتد ثمانين سنة من الانحراف في الأندلس ، لدرجة أنها كانت مهددة بالضياع في القرن الخامس الهجري ؛ أي في ذلك الوقت المبكر.
فعلى امتداد النصف الأول من القرن الخامس الهجري ساد بلاد المغرب والأندلس تمزق طائفي من أسوأ ما عرف المسلمون من تمزق.
ويهمنا هنا التركيز على الطائفية التي سادت المغرب ، فلقد شاع أن النزعة الطائفية ارتبطت بالأندلس، وسيطرت عليها، مع أن الحقيقة التاريخية تقرر أن عصر الطوائف في بلاد المغرب كان أشدّ وأسوأ من نظيره في الأندلس ؛ ذلك لأن الطوائف في الأندلس كانت مجرد تمزق سياسي، أما الطوائف في المغرب ـ فكانت إلى جانب ذلك ـ تفككاً عقدياً وفكرياً؛ وهو لون أخطر من مجرد التفكك السياسي .
وقد بلغ الهبوط العقدي أسوأ درجاته في المغرب في تلك المنطقة ؛ التي تعرف الآن بمنطقة موريتانيا والمغرب الأقصى ، أي في المنطقة الصحراوية؛ إذ أن هذه المنطقة حفلت بأربع طوائف ساد الضلال بينها ، وهي غمارة في الشمال، وبرغواطة في الغرب ، والشيعة والوثنيون في الجنوب، وزناتة ؛ التي تمتد بين كل هذه الأرجاء نظراً لضخامة عددها .
وقد انتشر المتنبئون والدجالون بين قبيلتي غمارة وبرغواطة انتشاراً كبيراً ، ومن أبرز الكذابين الذين ظهروا بين غمارة في الشمال الصحراوي ؛ المتنبئ حاميم بن منّ الله ، وعاصم بن حميل ، وعيسى بن حاميم …. ومن أبرز الكذابين الذين ادعوا النبوة في برغواطة في الغرب ؛ صالح بن طريف ، الذي زعم بعضهم أنه ينتمي إلى أصل يهودي .
وقد شاءت عناية الله سبحانه وتعالى أن ينقذ المغرب الإسلامي من هذه الرِّدة ، وأن يعيده إلى حظيرة الإسلام ، فنشأت دولة إسلامية صادقة العزم، صافية المبادئ بجهود بعض المسلمين الغيورين الذين ساءهم ما وصلت إليه الحالة الدينية ، وعلى رأسهم الفقيه الصالح أبو عمران الفاسي ، وتلميذه الفقيه الداعية عبد الله بن ياسين ؛ الذي لعب دوراً خطيراً وفعالاً في إنشاء هذه الدولة .
إن هذه الدولة؛ التي يرجع إليها الفضل في القضاء على هذه الردّة ، وفي عودة الإسلام إلى مكانه في الحياة المغربية ، هي دولة المرابطين ؛ التي قامت في صحراء المغرب في منتصف القرن الخامس الهجري .
ـ وكما ذكرنا فقد كانت الأندلس أسوأ حالاً من المغرب … فخلال السنوات الأولى من القرن الخامس الهجري “الحادي عشر الميلادي” كانت التطورات تحمل في أحشائها وباءً خطيراً إلى الأندلس الإسلامية .
ـ لقد سقطت الدولة العامرية آخر حماية للدولة الأموية في الأندلس ، ولقد ظهر أن أحفاد
عبد الرحمن الداخل الأمويين أقل من أن يقوموا بعبء حماية الإسلام الأندلسي .
وكان البربر قد هاجر كثير منهم إلى الأندلس بحثاً عن سلطة أو زعامة ، وكان الصقالبة وهم مجموعة من النازحين إلى الأندلس من طوائف مسيحية مختلفة ، كان هؤلاء الصقالبة يشكلون بدورهم عنصراً من عناصر الوجود في الحياة الأسبانية الإسلامية .
ومن هذه القوميات المتناطحة تشكل الوجود الأندلسي غرة القرن الخامس الهجري … فلما سقطت خلافة الأمويين الإسلامية في الأندلس؛ نتيجة امتصاص طاقتها في مشاحنات داخلية … تحركت كل هذه الطوائف المقيمة فوق أرض الأندلس الإسلامية تبحث عن السلطة والامتلاك.
وبدلاً من أن تتحد قواهم في وجه المسيحيين المجاورين لهم ، وبدلاً من أن يرفعوا راية الإسلام والجهاد … كأمل ينقذ أندلسهم من التحدي الصليبي المتربص بهم … بدلاً من هذا .. أشعلوا أحقاد القومية الطائفية، والنعرات الجنسية ‍‍‍!!
وظهر في الأندلس أكثر من عشرين دولة يتقاسمها الأندلسيون، والبربر، والعرب، والصقالبة… ففي كل مدينة دولة ؛ بل ربما اقتسم المدينة أكثر من طامع ومنافس .
واستمر أمر هذه الدول، أو هذه المدن المتنافسة ؛ التي عرف حكامها بملوك الطوائف .. استمر أمرها أكثر من خمسين سنة.. امتهن فيها الإسلام والمسلمون، وتوسل كل ملك منهم بالنصارى ضد إخوانه المسلمين .
ولقد فشل ملوك الطوائف في أن يلموا شعثهم ، وأن يتكتلوا ضد النصارى … ومن عجيب المقادير أن “الفونسو السادس” ملك قشتالة ، وليون ، واستوريا؛ كان يتظاهر بحماية هؤلاء الملوك المسلمين ، ويأخذ منهم الجزية والأتاوات؛ التي يرفع من قيمتها سنة بعد أخرى ، واستطاع أن يعد عدته من الأتاوات ؛ التي يفرضها عليهم ، ليلتهمهم بها كلهم … وكان آخر ما التهمه الفونسو من أرض المسلمين تحت سمع وبصر هؤلاء الإسلاميين؛ بل ومساعدة بعضهم … مدينة طليطلة سنة(478هـ ـ 1085م).
وعند هذه الموقعة تأكد لدى أكبر ملك من ملوك الطوائف “المعتمد بن عباد” أن الفونسو يريد الالتهام .. ولا أقل من الالتهام الكامل للأندلس … وفكر المعتمد في وسيلة الإنقاذ … ووضعته الأقدار أمام حل واحد لم يكن له خيار فيه .
لقد قرر أن يستنجد بالمرابطين المسلمين الموجودين في المغرب الأقصى كقوة إسلامية ناشئة، ولعل هذه كانت الحسنة البارزة لملوك الطوائف .
لقد أدان ابن حزم العصر الطائفي كله (422 ـ 479هـ) ؛ بسبب هذه الأوضاع الظالمة السائدة، التي تردى إليها ملوك الطوائف ، حتى اختلط الحلال بالحرام اختلاطاً شديداً : “إني لا أعلم لا أنا ولا غيري بالأندلس درهماً حلالاً، ولا ديناراً طيباً يقطع على أنه حلال، حاشا ما يستخرج من وادي لاردة من ذهب … والسبب في ذلك اغتصاب الملوك لأموال الناس ظلماً وعدواناً؛ فيعطيها لمن اختصه لنفسه من الجند الذين استظهر بهم على تقوية أمره وتمشية دولته ، والقمع لمن خالفه” .
بل إنه يرمى ملوك الطوائف بأشد صور الخيانة لله والأندلس ، فيقسم بالله إن هؤلاء الملوك : “لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية لأمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم ورجالهم؛ يحملونهم أسارى إلى بلادهم … وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً فأخلوها من الإسلام ، وعمروها بالنواقيس ، لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه” .
ـ وفي رأينا ـ أن هذه الأحكام القاطعة ـ السليمة في عمومها ـ تدمغ عصر الطوائف بشدة ، وتبعث في النفس أشد ضروب الأسى والألم ، لهذا الذي انتهت إليه حال مسلمي الأندلس في القرن الخامس الهجري .
ونحن لا نظن أن ابن حزم قد تجنى على ملوك الطوائف هؤلاء، على الرغم مما قيل عن معطيات عصرهم في مجال الشعر والأدب، فالحقيقة أن ابن حزم كان ينظر للوضع بمقياس حضاري … ينطلق من رؤية تاريخية واعية، وإحساس بالمسئولية ، ولقد أثبتت كثير من الدراسات والوثائق ـ التي ظهرت بعد ابن حزم أن ـ هؤلاء الملوك قد أساءوا في سلوكهم الشخصي، وفي سياستهم الداخلية والخارجية ، ولم يكونوا على مستوى الأخطار المحدقة بالأندلس، وقد كانوا طغاة قساة على رعيتهم ، يسومونهم الخسف، ويثقلون كواهلهم بالقروض والمغارم لملء خزائنهم ، وتحقيق ترفهم وبذخهم. ولم يكن يردعهم في ذلك رادع لا من الدين ولا من الأخلاق … وقد كانت سياستهم الخارجية موضع السخط من شعوبهم ، والطعن المر من معاصريهم من الكُتـَّاب والمُفكرين … ولا سيما المفكرين المخلصين؛ الذين لا يأكلون على موائدهم، ولا يعملون في وظائفهم .
وكان ابن حزم من أبرز هؤلاء المفكرين الصادقين ؛ الذين وضعوا هؤلاء الملوك في مكانهم الصحيح من التاريخ ، وقدموهم دون خوف أو ملق ـ كتجربة سيئة ـ إلى من جاء بعدهم ؛ مبينين في الوقت نفسه السبب الأكبر الذي من أجله ضاعت دولة الإسلام في الأندلس.
موقعة الزلاقة :
كانت موقعة الزلاقة في الثاني عشر من رجب سنة (479هـ) ، وكان السبب فيها؛ فساد الصلح المنعقد بين الطاغية إذفونش بن فرذلَنْد ، وبين المعتمد بن عباد ، فإن المعتمد تقاعس عن أداء الضريبة للطاغية في الوقت الذي صارت عادته يؤدّيها فيه ، فاستشاط الطاغية غضباً ، وتشطّط فطلب بعض الحصون زيادة على الضريبة ، وأمعن في التجني ، فسأل في دخول امرأته القـُمْطيجَة إلى جامع قرطبة لتلد فيه من حمل كان بها ؛ حيث أشار إليه بذلك القِسِّيسُون والأساقفة، وسأل أن تنزل امرأته المذكورة بمدينة الزهراء غربي مدينة قرطبة ، تنزل بها فتختلف منها إلى الجامع المذكور؛ حتى تكون تلك الولادة بين طيب نسيم الزهراء ، وفضيلة ذلك الموضع الموصوف من الجامع ، وزعم أن الأطباء أشاروا عليه بالولادة في الزهراء ، كما أشار عليه القِسِّيسون بالجامع ، وسفر بذلك بينهما يهودي ، وكان وزيراً لابن فرذِلنْد ، فتكلَّم بين يديْ المعتمد ببعض ما جاء به من عند صاحبه ، فأيْأسه ابنُ عباد من جميع ذلك ، فأغلظ له اليهودي في القول ، وشافهه بما لم يحتمله ، فأخذ ابن عباد محبرة كانت بين يديه ، فأنزلها على رأس اليهودي ، فألقى دماغه في حلقة ، وأمر به فصلب منكوساً بقرطبة.
واستفتى ابن عباد الفقهاءَ لما سكت عنه الغضبُ عن حكم ما فعله باليهودي ، فبادره الفقيهُ محمد بن الطلاغ بالرخصة في ذلك ، لتعدِّي الرسول حدود الرسالة إلى ما يستوجب له القتل ، إذ ليس له أن يفعل ما فعل.
وفشا في بلاد الأندلس خبر ما أظهر ابن عباد من العزيمة على إجازة المرابطين ، والاستظهار بهم على ابن فرْذلند ، فاستبشر الناس ، وفُتِحت لهم أبواب الآمال ، وانفرد ابن عبّاد بتدبير ما عزم عليه من مداخلة يوسف بن تاشفين ، ورأت بعض ملوك الطوائف الخونة المنحطين بالأندلس ما عزم عليه ابن عباد فمنهم من كتب إليه ، ومنهم من شافَهَه : وكلهم يُحذره سوء عاقبة ذلك ، وقالوا له : الملكُ عقيمٌ ، والسيفان لا يجتمعان في غمدٍ واحدٍ ! فأجابهم ابن عباد بكلمته السائرة مثلاً : رَعي الجمال خيرٌ من رعي الخنازير ! أي أن كونه مأكولاً لابن تاشفين أسيراً يرعى جماله في الصحراء خيرٌ من كونه ممزقاً لابن فرذلند ، أسيراً يرعى خنازيره في قشتالة ؛ وكان مشهوراً برزانة الاعتقاد .
وقال لعذاله ولوَّامه : “يا قوم أنا من أمري على حالتين ؛ حالة يقين ، وحالة شكّ ، ولابدَّ لي من إحداهما ؛ أما حالة الشك فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى ابن فرذلند ففي الممكن أن يفيا لي ويُبقيا عليَّ ، ويمكن ألا يفعلا ؛ فهذه حالة الشكَّ ، وأما حالة اليقين ، فهي أنَّي إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أرضي الله ، وإن استندت إلى ابن فرذلند أسخطت الله ، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضي الله، وآتي ما يسخطه!” . وحينئذ سكت أصحابه عن لومه.
وبناء على دعوة المعتمد وبعض ملوك الطوائف ؛ عبر يوسفُ البحر عبوراً هنيئاً ، حتى أتى الجزيرة الخضراء ، ففتحوا له ، وخرج إليه أهلها بما عندهم من الأقوات والضيافات، وجعلوا سماطاً أقاموا فيه سوقاً ، جلبوا عليه من عندهم من سائر المرافق ، وأذنوا للغزاة في دخول البلد ، والتصرف فيها ، فامتلأت المساجد والرحبات بضعفاء المُطوَّعين وتواصوا بهم خيراَ.[ابن عذاري: البيان المغرب (4/130) وما بعدها بتصرف، الثقافة ـ بيروت].
وخرج المعتمد على لقاء يوسف من إشبيلة في مائة فارس ووجوه أصحابه ، فأتى محلة يوسف فركض نحو القوم وركضوا نحوه فبرز إليه يوسف وحده ، والتقيا منفردين ، وتصافحا وتعانقا ، وأظهر كل واحد منهما المودة والخلوص ، فشكرا نعم الله ، وتواصيا بالصبر والرحمة ، وبشرا نفسيهما بما استقبلاه من غزو أهل الكفر ، وتـَضَرَّعا إلى الله تعالى في أن يجعل ذلك خالصاً لوجه.
ووافت الجيوشُ كلها بطليوس ، فأناخوا بظاهرها ، وخرج إليهم صاحبها المتوكل عمر بن محمد فلقيهم بما يجبُ من الأقوات والضيافات ، وبذل مجهوده ، ثم جاءهم الخبر بشخوص ابن فرذلند إليهم، ولما ازدلف بعضهم إلى بعض أذكى المعتمد عيونه في محلات الصحراويين؛ خوفاً عليهم من مكايد ابن فرذلند ، إذ هُم غرباء لا علم لهم بالبلاد ، وجعل يتولى ذلك بنفسه.
ثم كتب يوسف إلى ابن فرذلند يدعوه إلى الإسلام، أو الجزية ، أو يأذن بحربه فامتلأ غيظاً وعتا وطغا ، وراجعه بما يدل على شقائه .
ثم أصبح يوم الخميس فأخذ ابن فرذلند في إعمال الحيلة ، فبعث لابن عبّاد يقول : غداً يوم الجمعة وهو عيدكم ، وبعده الأحد وهو عيدنا فليكن لقاؤنا بينهما ، وهو يوم السبت ! فعرَّف المعتمد بذلك يوسفَ ، فقال : نعم ! فقال له المعتمد : هذه خديعة ابن فرذلند ! إنما يريد غدرَ المسلمين ! فلا تطمئن إليه . [ابن عذاري : المرجع السابق 4/136 بتصرف].
ثم جاء في الليل فارسان من طلائع المعتمد ، يخبران أنهما أشرفا على محلة ابن فرذلند وسمعا ضوضاء الجيوش ، واضطراب الأسلحة ، ثم تلاحق بقية الطلائع محققين بتحرك ابن فرذلند .
ثم مال ابن فرذلند على المعتمد بجموعه ، وأحاطوا به من كل جهة، واستحر القتل فيهم ، وصبر ابن عبّاد صبراً لم يعهد مثله لأحد ، واستبطأ يوسف وهو يلاحظ طريقه ، وعضَّته الحرب، واشتد البلاء ، وأبطأ عليه الصحراويون .
ثم كان أول من وافى ابن عبّاد من قواد ابن تاشفين ؛ داود بن عائشة ، وكان بطلاً شهماً ، فنفس بمجيئه عن ابن عباد ؛ ثمَّ أقبل يوسف بعد ذلك ، وطبولـه تصدع الجو ، فلما أبصره ابن فرذلند وجه أشكولته إليه ، وقصده بمعظم جنوده ، وقد كان علم حساب ذلك من أول النهار ، وأعد له هذه الأشكولة ، وهي معظم جنوده ، فبادر إليه يوسف بجمعه فردهم إلى مركزهم ، وانتظم به شمل ابن عباد ، ووجد ريح الظفر ، وتباشر بالنصر ، ثم صدقوا جميعاً الحملة ، فتزلزلت الأرض بحوافر خيلهم ، وأظلم النهار بالعجاج والغبار ، وخاضت الخيل في الدماء.
وتراجع المنهزمون من أصحاب ابن عبّاد حين علموا بالتحام الفئتين ، فصدقوا الحملة ، فانكشف الطاغية المسيحي ، ومرَّ هارباً منهزماً ، وقد طعن في إحدى ركبتيه طعنة بقي أثرها بقية عمره ، فكان يخمع منها ، فلجأ إلى تلّ كان يلي محلته في نحو الخمسمائة فارس كلهم مكلوم ، وأبادَ القتلُ والأسرُ من عداهم من أصحابهم .
وقد أنقذت موقعة (الزلاقة) الأندلس من السقوط لعدة قرون في رأي كثير من المؤرخين.