هذه القصة التاريخية قمت بسردها بطريقتي ..

القابض على دينه كالقابض على الجمر

كان سعيد بن جبير من أفاضل التابعين المؤمنين الثابتين على ايمانهم , القابضين على دينهم بثبات و رسوخ , وكان من انصار الحق , لا يقبل الخضوع لغير الله , كما انه ايضا من الذين نهلوا من علوم الشريعة حتى استفاض منه فأصبح إماما ومعلما لآهل مدينته , لكن رضوان الله عليه استشف من هذه الحياة جرعات من بطش الحجاج , فشاء له القدر ان يبتلى به ليكون الحجاج واليا على دار اقامته
( العراق و بلاد ما بين النهر ) .

كان الحجاج رجلا فظا غليظ القلب , يستبيح دماء الناس دون وجه حق , فقتل عبد الله بن زبير , و اخضع العراق للأمويين , حتى انه اشاع الرعب بين الناس .
و قد وقع عراك بين الحجاج و بين عبد الرحمن بن الاشعث و تحول صدامهما الى معمعة طاحنة انتصر فيها عبد الرحمن بن الاشعث انتصارا ساحقا , فاستولى على اثرها على بلاد ما وراء النهر , و اقبل الى الكوفة و البصرة بغية انتزاعها من واليها.

رأى سعيد بن جبير في الحجاج رجلا فاسدا فانضم الى جيش منافسيه , ودارت رحى حرب هائلة و بدت بشائر النصر واضحة لأنصار الحق , لكن مالت كفة الحجاج و انتصر على عبد الرحمن بن الاشعث , وأُخضعت جيوش ابن الاشعث للحجاج وعلى اثر ذلك امر الحجاج الجنود ان يبايعوه مجددا واليا على العراق .
فكانت النتيجة ان اكثرهم بايع الحجاج خوف على انفسهم من بطشه , اما الذين ذروا انفسهم للجهاد و القضاء على الباطل فقد تواروا عن جند الحجاج و اتباعه ومن بينهم سعيد بن جبير .

وبدأ الحجاج سمع البيعة من افواه الجنود فيقول احدهم : اتشهد على نفسك بأنك كفرت بنقض بيعتك لأمير المؤمنين ؟
ولكن كثيرا ما اعترض من الجنود على رميهم بالكفر بنقضهم البيعة فكان الثمن انفسهم .

وصلت اخبار هذه المجزرة التي قتل فيها الآف المؤمنين الى سعيد بن جبير فبدأ يتملكه شعور انه لا محالة بأن يمثل امام الحجاج يوما ما في ظروف كهذه , فعمل سعيد بن جبير بالأسباب و أخذ بقوله تعالى :" ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة ". و توارى عن الانظار و لجأ بعيدا الى قرية منعزلة و بقي على هذه الحال ما يقرب
العشر سنوات , حتى ذهب عن ذهن الحجاج ما حدث في الماضي , لكن لم يمض هذا الحال الميسور طويلا حيث عُلم مكان سعد بن جبير على يد احد اتباع الحجاج , فأرسل اليه الحجاج قائدا من اهل الشام و معة عشرون رجلا , فما لبثوا ان وصلوا الى مكان سعيد بن جبير حتى وجدوه ساجدا يناجي بأعلى صوته , فألقوا السلام عليه , فرفع رأسه وأتم صلاته ثم رد عليهم السلام , و دعوه الى الإستعداد للرحيل الى الحجاج , فتلقى هذا الخبر هادئ النفس مطمئن القلب , ميقنا الشهادة بإذن الله , وعند خروجه بصحبتهم فإذا بإحدى بناته تنحب باكيةً عليه , فقال لها : يا بنيه , قولي لأمك ان موعدنا الجنة ان شاء الله .
وصل سعيد وأتباع الحجاج الى المكان المزعوم
فقال الحجاج : ما اسمك
قال : سعيد بن جبير
قال له الحجاج متهكما : تقصد شقي بن كسير
قال سعيد : كانت امي اعلم باسمي منك
قال الحجاج : شقيت انت و شقيت امك
قال : الغيب يعلمه غيرك
انتقل الحجاج الى موضوع آخر قائلا : ما قولك في محمد ؟
رد عليه بثقة كاملة : نبي الرحمة امام الهدى عليه الصلاة والسلام , سيد ولد آدم النبي المصطفى
ما لبت سعيد ان انهى اجابته حتى اتبعة الحجاج بسؤال آخر : فما قولك في الجنة هو او في النار؟
قال بملء فمه : لو دخلتها فرأيت اهلها عرفت ما فيها
تنهد الحجاج و عدّل من جلسته قائلا : فما تقول في ابي بكر ؟
فقال : هو الصّديق خليفة رسولنا , ذهب حميداً و عاش سعيداً و مضى على منهاج النبي عليه السلام لم يغير ولم يبدل
ثم سأله الحجاج عن عمر و عثمان و ابن جبير يجيب بثقة العالم الجليل
نزل الملك عن عرشة و راح يمشي في الغرفة ذهاباً و اياباً , و بعد صمت , قال لسعيد : فما تقول فيّ ؟
قال : انت اعلم بنفسك
قال مغتاظا : بل اريد علمك انت
قال : يحزنك ولا يسرك
ابتسم الحجاج قائلا : حسنا فلنسمع منك
قال : اني لأعلم انك مخالف كتاب الله تعالى تفعل الشيء تريد به الهيبة و هي تدفعك الى النار دفعا
نظر الحجاج الى سعيد متفحم الوجة متجمر العينيين و قال : اختر لنفسك اي قتلة تريد ان اقتلك
قال بإيمان قوي : اختر لنفسك يا حجاج فو الله ما تقتلني قتلة الا قتلك الله مثلها في الآخرة
قال : اتريد ان اعفو عنك ؟
قال : ان كان العفو فمن الله , و اما انت فلا براءة لك ولا عذر
عاد الحجاج الى عرشه و أمر اعوانه بقتل سعيد , فخرج سعيد ضاحكا
فقال له الحجاج : ما اضحكك ؟
فأجاب : عجبت من جراءتك على الله وحلم الله عنك
فقال الحجاج مجلجلا : اقتلوه
قال سعيد مناجيا ربه : " وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الارض حنيفا مسلما و ما انا من المشركين
قال الحجاج : وجهه لغير القبلة
قال : فأينما تولوا فثم وجه الله
قال : كبوه على وجهه
قال: منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة اخرى
فصاح قائلا : اذبحوه
نطق سعيد بن جبير الشهادتين ثم دعا " اللهم لا تسلطه على احد يقتله بعدي " , ما لبث ان نطق آخر كلمة فإذا بعنقة تسقط ارضا .
و بعد وفاة سعيد تحولت حياة الحجاج من نعيم الى جحيم , فلم يعرف طعم النوم فابن جبير في احلامه دائما حتى اصبح الحجاج يكلم نفسه قائلا :ما لي و لسعيد بن جبير !
و لم يمض على مصرع سعيد خمسة عشر ليله حتى اصاب الحجاج الحمى و لقي مصرعة .

رحم الله سعيد بن جبير فقد كان رجلاً راسخ الايمان قويّة

* شذى غضية *