قراءة في رواية «أميرة البدو» لمجدي محمود جعفر (1)


بقلم: أ. د. حسين علي محمد


(1)

هذه هي الرواية الأولى للقاص مجدي محمود جعفر الذي نشر من قبل أكثر من خمسين قصة قصيرة في " المساء " و"الأهرام المسائي" و"الجمهورية" و"أخبار الأدب" و"مايو" و"العروبة" و"أخبار الشرقية" و"صوت الشرقية" … وغيرها وكانت سلسة "أصوات معاصرة" قد نشرت له في يناير 2000م مجموعته القصصية الأولى «أصداء رحلة شاب على مشارف الوصول»، التي لاقت حفاوة طيبة من النقاد، وأقيمت ندوة لمناقشتها في نادى القصة في الأسبوع الأول من يوليو 2000م.
وتتخذ رواية "أميرة البدو" من "بدوية" شخصية مركزية تدور حولها أحداث الرواية، ومن خلال علاقتها المتشابكة بالمحيطين لضيعتها الصغيرة (الفتوة، وفارس، والشيخ) يقدم لنا الروائي نصاً قادراً على محاورة الواقع، وإثارة الأسئلة.
وتكاد تكون رواية "أميرة البدو" تناولاً أسطوريا- يشابه من قريب أو بعيد في بعض أحداثه الغريبة ما مرَّت به دولة الكويت0
لكن كتابة الرواية غير كتابة التاريخ؛ ونحن لا نطالع الروايات بديلاً عن قراءة التاريخ واستيعابه. ولذا فلن نعيب على الكاتب أن أحداثه تشبه التاريخ حينا، وتختلف مع التاريخ في أحيان كثيرة!

(2)

يقول الروائي عن بطلة روايته:
" رأت نفسها كثقل مربوط بثلاثة حبال، طرف الحبل الأول في يد الفتوة، وطرف الحبل الثاني في يد فارس، وطرف الحبل الثالث في يد الشيخ0 يرخون الحبال أحياناً، ويشدونها أحياناً أخرى، وتتأرجح بين شد الحبال وجذبها ككرة حائرة".
هذا هو حال "بدوية" التي تدور حولها الرواية، وقد اختار مجدي محمود جعفر في روايته الأولى أن يقدم لنا رواية رمزية تشير إلى الواقع السياسي الذي عايشناه في ربع القرن الأخير، والذي بلغ ذروته المأساوية حينما ابتلع صدَّام العراق دولة الكويت عام 1990م!

(3)

تمتلئ الرواية بتوقٍ واعٍ إلى التوحد البصير، الذي يرى الخلل، ويحلم بالحلول والإجابات، إلا أنه ليس منظراً سياسيا يضع الحلول جاهزة أمام السياسي والزعيم والقائد.
ومن أحلامه الجميلة:
(لماذا لا يكون لدينا مدرسة .. يجلس ابن الفتوة وابن فارس وابن الشيخ على مقعد واحد وكتاب واحد .. ولماذا لا يكون لدينا مسجد واحد ويكون لنا أذانُُ واحد بدلاً من أذانين وصلاة واحدة بدلاً من صلاتين .. يقف ابن الفتوة بجوار ابن الشيخ بجوار ابن فارس، الكتف في الكتف، والقدم في القدم ..
.. أحلم بمدرسة ، ومسجد ، وعلم ونشيد ..
ولكن هل يتركني الشيخ أو الفتوة أو فارس ؟!
الأولاد انفرط عقدهم، أولاد الفتوة لا يلتقون بأولاد فارس ولا بأولاد الشيخ .. ليس بينهم سلام ولا حوار)
والأحلام الجميلة عند مجدي محمود جعفر ليست إنشاءً أجوف، ولا كلاماً يطلق في الهواء ، فبينت الصلة بالأحداث، فقد جاءت الفقرة السابقة بعد فقرة تتحدث عن تمزق أولاد "بدوية" وتباعدهم:
أين الخلل ؟ 0000 أين الخطأ ؟0000
أبناء الفتوة يتعلمون في مدارس الفتوة، وأبناء فارس يتعلمون في مدارس "فارس" وأبناء الشيخ يتعلمون في مدارس الشيخ!! حتى الصلاة كلُُّ يؤدى صلاته في ضيعة أبيه".
وهكذا جاء الحلم الروائي منبثقاً من الحدث وليس غريباً عنه، أو دخيلاً عليه.

(4)

ولأن الاهتمام بالجسد أصبح سمة من سمات الكتاب الجدد ( والكاتبات الجديدات!) فمن الطبعى أن يهتم به مجدي محمود جعفر في روايته الأولي ،فنرى في نهاية الفصل الخامس والعشرين لمحات من ذلك ، لكنه لا يسف في وصفه أو تصويره كما يسف غيره.

(5)

قد يعترض البعض على اغتصاب الفتوة بدوية في الفصول الأولى للرواية، ويرون أنه كان من الأفضل أن يتزوَّجها زواجاً شرعياً 0لكن هذا الاغتصاب له ما يبرره فنياً، إنه يبين حال بدوية المزري التي تُعاني منه؛ فلا قوم يدافعون عنها، ولا أب يثأر لابنته المغتصبة. بل هذه بدوية ترضى بالأمر الواقع قائلة:
(كان يلقاني دوماً في الهزيع الأخير من الليل ، نمارس الحب واللهو الجميل ، يفضي لي ببعض همومه ، ويبوح ببعض أسراره ، فتوة الضيعة وأسد الصحراء ، يلبد في حضني كحمل وديع ، صوته الأجش الصارم القاسي يتحول إلى صوت رقيق .. ناعم .. دافئ حنون ..
لا أنكر أني أحببته، وملأ علي حياتي ، كان يقول لي. يا أجمل مهرة عربية، وكنت أقول له يا أعظم فارس عربي .. كنت أراه (أبو الفوارس) خرج من رحم الحكايات العربية القديمة، ولم تنقض أسابيع قليلة على لقاءاتنا حتى أثمرت جنيناً في البطن ..
زاد أملي ، وأمل البدو الذين نالوا منه خيراً ، ورزقاً ، أن يعلن الفتوة ضمي إلى نسائه ، وزادت أحلامي أن يكون للطفل الذي يتشكل في أحشائي نصيبُُ في الضيعة !.. كان يبتسم عندما أحكي له عن أحلامي ..
أصبحت أحلامي تنحصر في الاعتراف بي زوجة له، وبمن يأتي من بطني ابناً له، وليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فبعد أن وضعت مولوداً جميلاً - قصارى ما فعله - أن قبله – واقتطع لنا من الصحراء المتاخمة لضيعته جزءا صغيراً، ابتنى لنا فيه داراً صغيرة وبيتاً ضئيلاً لا يضاهي بيوت البسطاء في ضيعته، وأصبح يأتي لنا على فترات متباعدة - بعد أن كان يأتي مرتين في اليوم ‍!.
.. أنجبت له من أنجبت، وأبداً لم يعترف بهم أولاداً ولا بي زوجة، ولما يئس البدو هَجُّوا - وأقاموا في أجزاء متفرقة من الصحراء وإن كان الشيخ قد فتح لهم أبواب ضيعته - إكراماً - لكبيرنا المغفور له - بدوي .. وقرب بعضهم من مجلسه .. وربما أسقطوني من حساباتهم !!).

(6)

في روايته الأولى، يهتم مجدي محمود جعفر بالحدث فيفسح له صفحات روايته، في كلمات مكتنزة، لا مكان عنده للثرثرة واللغو، وقد أدار الحوار بدقة في معظم صفحات الرواية.
وإذا كانت الرواية تتماس مع الواقع ، وتختلف مع كثير من جزئياته ، فينبغي أن نؤكد هنا أن الفن اختيار من الواقع، وليس واقعاً حقيقياً لنحاسبه على الخلاف الذي قد يصدم أذواقنا، أو يتعارض مع الواقع التاريخي الذي أراد الرمز به أو الإشارة إليه .
..................
(1) نشرت هذه الدراسة في مقدمة الرواية، سلسلة «أصوات مُعاصرة»، العدد (61)، دار الوفاء لدنيا الطباعة، الإسكندرية ـ أغسطس 2000م.