في نظرة سريعة على النسخة المتطورة للواقع الجيوسياسي الجديد , الذي بدأ بالتشكل مع مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين , وذلك على البنية السياسية للنظام العالمي الذي كان سائدا حتى نهاية القرن العشرون , نجد العديد من التحولات والمتغيرات الجذرية التي نستطيع ان نعتبرها خصائص مميزة له – أي – للعقد الأول من هذا القرن , وبالتالي فان تلك التطورات الاستثنائية التي حدثت خلال السنوات الأخيرة , تستدعي تحولا شبه مؤكد على البنية السياسية التي ستشكل خريطة العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين , وتحديدا على أنظمة الحكم والسياسة , والواقع الجيوسياسي والجيواستراتيجي , والعلاقات الدولية 0
ومن ابرز واهم الملامح التي يمكن الإشارة إليها , على أنها تحولات استثنائية ميزته عن فترة القطب الواحد ( 1990- 2000م ) , هو أنه أصبح واضحا اليوم بان الولايات المتحدة الاميركية , وهي القوة المركزية العالمية التي شكلت محور النظام العالمي حتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين , قد بدأت هيمنتها الجيوسياسية على اقل تقدير بالانحسار والتراجع في مناطق كثيرة من العالم , والدليل على ذلك كثرة الدول والأنظمة التي بدأت التمرد على سياساتها ومخططاتها الاستراتيجية , وعدم قدرتها على فرض هيبتها وقوتها كما كان سابقا , وهو ما يستدعي تراجع نفوذها الجيواستراتيجي شيئا فشيء خلال الفترة القادمة , وبالتالي تلاشي دورها المركزي , وكونها محور النظام العالمي 0
كذلك ومن أهم ما يمكن اعتباره من الملامح الاستثنائية التي قد تميز بها العقد الأول من القرن الحادي والعشرين , هو عودة روسيا ذات الواجهة " القومية " الى رقعة الشطرنج الدولية , وبشكل قوي وتحديدا خلال الفترة الثانية من حكم مؤسس روسيا الحديثة فلاديمير بوتين , حيث نعتبر – شخصيا – جل التصرفات والمعطيات السياسية والعسكرية الروسية والتي طفت على السطح خلال تلك الفترة تحديدا والسنوات اللاحقة لها في ظل حكم ميدفيديف نوعا من التمرد الروسي على الهيمنة الاميركية , ومحاولة ناجحة منها للتخلص من عقدة القطب الواحد التي سادت النظام العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مع نهاية عقد التسعينيات من القرن العشرون , وقد نجحت روسيا بوتين في ذلك بدرجة كبيرة , حيث بات مؤكدا اليوم بان الولايات المتحدة الاميركية لا تستطيع الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا , بينما تقوم روسيا باستخدام القوة العسكرية المفرطة ضد حلفاء الولايات المتحدة الاميركية , وهذا ما كان واضحا خلال الحرب الروسية – الجورجية التي لا زالت مستمرة حتى الساعة , والتي بدأت مع الاجتياح الروسي لجورجيا بنهاية العام 2008م 0
كما أننا نستطيع ان نشير الى استمرار انحسار الشخصية السياسية الأوربية المستقلة على حساب التبعية السياسية للولايات المتحدة الاميركية وحليفها الإسرائيلي , وتحديدا للدول الأوربية الكبرى والمؤثرة عالميا كبريطانيا وفرنسا وألمانيا , ويتضح ذلك جليا من خلال ازدواجية المعايير السياسية والتصرفات التي تبنتها هذه الأخيرة تجاه قضايا الشرق الأوسط على وجه الخصوص , وتحديدا في الحرب على أفغانستان والعراق وقضية الصراع العربي مع إسرائيل في فلسطين ولبنان على وجه التحديد والأدلة والشواهد على ذلك كثيرة , كما أننا لا يمكن ان نتجاهل افتقار القارة الأوربية ممثلتا في دولها الكبرى الى عنصر الدولة المركزية كما كان ذلك من بريطانيا في القرن التاسع عشر , وفرنسا القرن الثامن عشر على سبيل المثال0
أيضا ومن ضمن المشاهد الاستثنائية التي برزت بشكل ملفت للنظر خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عودة ظاهرة التحالفات الدولية المقنعة , وفي مجالات كالاقتصاد والسياسة والأمن , وذلك كوسائل ابتكاريه لمواجهة التحديات التي نتجت عن الأزمة الاقتصادية العالمية , واستمرار الهيمنة والامبريالية العالمية , وترجع دور المركزية الاميركية , وتوجه الدول الضعيفة للبحث لها عن حلفاء وخلافه , ومن أبرز تلك التحالفات التي نشأت او تطورت او أعيدت للواجهة الدولية كنتيجة لظواهر وأحداث العقد الأول من هذا القرن : منظمة شنغهاي للتعاون التي تم إنشاؤها في 15 / 6 / 2001 م , ومحور التحالف الاستراتيجي بين عملاقي الطاقة روسيا وفنزويلا , كذلك التقارب الاستراتيجي الروسي الهندي الصيني الذي برز مع لقاء وزراء خارجية الهند والصين وروسيا في 2 / 7 / 2005 م , كذلك سعي إيران الى التقارب والتحالف مع روسيا وفنزويلا , وهي بالطبع على سبيل المثال لا الحصر 0
هذا بالإضافة الى عدد آخر من الملامح الاستثنائية السياسية منها والاقتصادية والعسكرية والأيديولوجية لهذا العقد الذي سيكون لتحولاته تلك ابلغ الأثر على رسم خارطة البنية السياسية والواقع الجيوسياسي للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين , كالأزمة الاقتصادية العالمية ومحاولات التوجه الى عملة عالمية جديدة كبديل للدولار الاميركي , وانتخاب أول رئيس اسود للولايات المتحدة الاميركية , وتزايد الاتهامات التي وجهتها العديد من الأطراف القومية الاشتراكية للإمبراطورية الاميركية في كثير من الحالات , وفشل هذه الأخيرة في فرض قراراتها وتوجهاتها وهيمنتها السياسية والعسكرية على عدد من الدول المتمردة على السياسات الاميركية , كأفغانستان والعراق وإيران وكوريا الشمالية على سبيل المثال لا الحصر , ونشوب حروب شبه عالمية , لم يكن لها من داع خلال فترة قياسية قصيرة كان يمكن تجنبها ببعض التنازلات والتفاهمات والتعاون الدولي , لولا حالات الهستيريا السياسية وجنون العظمة والغطرسة وعرض العضلات التي سيطرت على عقول صانعي القرار السياسي العالمي , وعلى رأسهم الامبراطورية الاميركية , وعودة ظاهرة القرصنة كامتداد لظاهرة الإرهاب العالمي وهي على سبيل المثال لا الحصر 0
هكذا كان لتلك المتغيرات والتحولات العالمية المتلاحقة والسريعة التي تسيدت أيديولوجيا الصراع وفلسفة السياسة وأنظمة الحكم والعلاقات الدولية خلال العقد الأول من هذا القرن , انعكاساتها الاستثنائية على الصورة المتوقعة والمحتملة لبنية النظام العالمي للعقد الثاني من القرن الحادي والعشرين , ومن أهم تلك التحولات والنتائج المتوقع تسيدها الخارطة الجيوسياسية العالمية بدء نشوء النظام التعددي , وتحديدا " التعددية القطبية الفضفاضة " والتي ستكون السمة السائدة بشكل كامل خلال العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين , - وهنا نؤكد- على بدء نشوء إرهاصات هذا النظام العالمي وتشكله مع مطلع العقد الثاني من هذا القرن 0
ولا ينشأ هذا النظام في اغلب الأحيان سوى في ظل التيارات السياسية العالمية الناتجة عن استراتيجيات القوى الرافضة للهيمنة الامبراطورية , ويعرف سيوم براون – أستاذ التعاون الدولي في قسم العلوم السياسية بجامعة برانديز – نظام التعددية القطبية الفضفاضة بأنه النظام الذي ينشأ على شكل تحالفات بدلا من تكتلات , وليس بالضرورة هنا ان تتشكل تلك التحالفات بين الأنظمة الدولية على أسس سياسية فقط , بل ربما تكون وراء ذلك دوافع اقتصادية او عسكرية او حتى أيديولوجية وثقافية , ولكن الهدف الرئيسي الذي لا يمكن ان يتغير , هو دائما يدور حول محور رفض الهيمنة والغطرسة للدول الامبريالية , ويسعى للبحث عن تحالفات مستقلة وقوية تضمن لأعضاء ذلك التحالف المكانة والأمن والاستقرار , وقدرا لا باس به من الهامش السياسي الذي يمكنهم من خلاله متابعة سياساتهم الخارجية الخاصة 0
وبالرجوع الى التاريخ نجد هناك الكثير من الدلائل والإشارات الى إمكانية حدوث تلك التحالفات سالفة الذكر , والتي لم يقدر لها التشكل خلال المرحلة الزمنية السابقة , ولأسباب كثيرة من أهمها عدم توفر البيئة السياسية والواقع الجيوسياسي المحفز والإمكانيات الاقتصادية , ومن أبرزها دعوة الصينيين للروس والفرنسيين للانضمام الى مقاومة نزعة الهيمنة الاميركية خلال فترة من الفترات , – انظر في هذا الشأن مقال ريتشارد 0ك0 بيتس وتوماس 0ج0كريستنسن " الصين : فهم المسائل بصورة صحيحة " نقلا عن ذي ناشنال انترست , كذلك من خلال التنبؤ بنشوء كتلة احتواء تقودها اليابان في المحيط الهادي في مواجهة الولايات المتحدة الاميركية , كما توقع ذلك عالم المستقبليات هيرمان كاهن – انظر في هذا الشأن كتاب خطوط الأفق لجاك أتالي والحرب المقبلة مع اليابان لجورج وميريديث لوبارد 0
كذلك ومن ضمن التحالفات القديمة التي لم يقدر لها الاستمرار , والتي ربما وبشكل من الأشكال قد يعاد بناءها او صياغتها التحالف الصيني – الروسي الذي بدأ منذ انهيار الاتحاد السوفيتي , رغم ان هذا الأخير قد لا يؤدي الى تحالف عسكري كامل وقائم بذاته كما حدث في خمسينيات القرن العشرين , ولكنه قد يؤدي الى درجة عالية من التنسيق السياسي الهادف الى إحباط الهيمنة الاميركية , انظر في هذا الشأن مقال " أعمدة الشراكة الصينية – الروسية " للي جينغجي , نقلا عن مجلة أوربيس , وكتاب " تحديات للتوازن الاستراتيجي في شرق أسيا على عتبة القرن الحادي والعشرين : المشهد كما يبدو من روسيا " لميخائيل نوسوف , نقلا عن مركز التحليل الأسطوري 0
كما انه ليس من المستبعد أن تنشئ هناك تحالفات أخرى لمواجهة الصين بين بعض مجموعة الدول الأسيوية بقيادة اليابان والهند على سبيل المثال لا الحصر , أو بين اليابان والولايات المتحدة الاميركية ضد روسيا بالتعاون مع دول أخرى قد تنظر الى روسيا على أنها ستكون خطرا قادما عليها خلال المرحلة القادمة , كذلك فليس من المستبعد ان تحدث هناك تحالفات سياسية قادمة قد تجمع بعض الدول العربية في مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة , أو بهدف مواجهة بعض التيارات الأيديولوجية والفكرية , كذلك فان المعطيات السياسية والعسكرية الراهنة تشير الى الإمكانية الكبيرة لدخول دول الخليج العربي الى تحالفات أمنية وسياسية مقنعة خارج نطاق منظومة مجلس التعاون , وهذا أمر غير مستبعد في ظل التطورات الجيوسياسية العالمية المتلاحقة والمتزايدة , والتي لا يمكن استثناء الدول العربية او الخليجية من التأثير والتأثر بمجرياتها وامتداداتها الجيوسياسية 0
ولكن - للأسف الشديد – فان تلك التحالفات الناشئة في ظل نظام التعددية الفضفاضة بالرغم من كونها أسر أمنية مشتركة وعلى درجة عالية من الاندماج والتناغم , فإنها وفي نفس الوقت تكون أكثر غموض وتضرب في الالتزامات فيما بينها , عاكسة بذلك حشدا متضاربا من المصالح القومية وسلسلة شديدة التباين من الاستراتيجيات الكبرى , - كذلك فإنها وفي ظل ذلك النظام ( قد يقع أعداء هذا العضو أو ذاك من أعضاء التحالف تحت إغراء استغلال التزاماته الضعيفة وخلافاته الداخلية ) , وهنا نشير الى الاحتمال الكبير لنشوء صراعات إقليمية أثينية أو أيديولوجية فكرية , أو تاريخية وجغرافية أكثر منها سياسية في ظل تلك التحالفات , قد تتوسع لاحقا لتكون نزاعات عالمية سياسية وعسكرية , ومن أهم وابرز تلك المناطق المؤهلة للدخول في تلك الدائرة من الصراعات الإقليمية , والتي يمكن لها ان تتطور لاحقا لتصبح نزاعات عالمية كبرى : منطقة القوقاز , ومنطقة الشرق الأوسط 0
وباختصار وكما أشار الى ذلك سيوم براون في كتابه وهم التحكم – القوة والسياسة الخارجية في القرن الحادي والعشرون – فإننا ( لا نرى حين ننظر الى العالم كله , بروز أي تشكيل واضح لنوع من التعددية القطبية المؤهلة - المحكمة - للحلول محل الثنائية القطبية التي سادت أيام الحرب الباردة , - أو حتى إمكانية استمرار الأحادية القطبية التي قادتها الولايات المتحدة الاميركية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي – وأقصى ما يمكن الذهاب إليه هو وصف النظام العالمي القادم كله , بأنه نظام تعددية قطبية فضفاضة , على تخوم نظام حكم الكثرة , في ظل الحضور الأحادي الطاغي , اغلب الأحيان للولايات المتحدة الاميركية ) 0
والذي سيستمر – أي نظام الأحادية القطبية – في صراع وصدام وجودي مع النظام التعددي الناشئ , والذي بدا بالتشكل بصورة ملفتة للنظر منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين , وسيستمر على ذلك خلال العقد الثاني من نفس القرن , والذي نتوقع - شخصيا - ان ينتهي بشكل كامل وبأقصى تقدير مع نهاية العقد الثالث , معلنا بذلك نهاية المركزية والنظام أحادي القطب بشكل كامل , والذي تسيدته الولايات المتحدة الاميركية منذ العام 1990م , على حساب نظام تقوده العديد من الأقطاب والدول الكبرى الإقليمية منها والعالمية , كالصين وروسيا واليابان والهند , وبعض الدول الأوربية التي نتوقع ان تلتفت الى نفسها بعيدا عن مظلة الاتحاد الأوربي , وهي على سبيل المثال لا الحصر مع عدم تناسي ان الولايات المتحدة الاميركية بالطبع , والتي ستكون متواجدة في اغلب الأحوال والظروف كقوة عالمية كبرى موازية للقوى المتواجدة في ذلك الوقت , ولكن ليست كقوة مركزية مهيمنة 0