من أساليب التربية النبوية

الترهيب

الدكتور عثمان قدري مكانسي


ليس في القرآن آية ترغيب إلا ما تبعها ترهيب ، وما من آية فيها ترهيب إلا تبعها ما فيه ترغيب . . فالترغيب والترهيب متلازمان ، والحكمة من ذلك أن مَنْ لا يؤثر فيه الترغيب وثوابه يؤثر فيه الترهيب وعقابه .
وبما أن الإنسان تعتريه حالات فيها عمل صالح وزيادة في الإيمان ونشاط في الجوارح ، تعتريه كذلك حالات تفتر فيها همته ، ويهمد نشاطه ، وتضعف نفسه ، فالثواب في الأولى يشجع على الزيادة والعقاب في الثانية يمنع عن التمادي في الغي . وكلا الأمرين جربه رسول الله صلى الله عليه وسلم في وعظه أصحابَه ، وكما رأينا وعظه صلى الله عليه وسلم مرغِّباً ، فإليك وعظه مرهِّبا :

فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
( . . . . . والذي نفسي بيده ، لقد هممت أن آمر بحطب ، فيحتطب ،
ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ،
ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ،
ثم أخالف إلى رجال فأحرّق عليهم بيوتهم
)(1)
انظر معي إلى طريقة الترهيب كيف جاءت مرتبة منظمة تدل على :

1ـ انفعالِ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً على تاركي الجماعة .
2ـ وأن هذا الانفعال ولّد تفكيراً مرتباً في تسلسل الأفعال التي تكاد يقرر أن يفعلها ليردع تاركي الجماعة .
3ـ وفضلِ صلاة الجماعة الكبير الذي يتركه بعضهم جاهلاً به .
4ـ وحرصِ رسول الله صلى الله عليه وسلم على توثيق عرى الجماعة .
5ـ والأثرِ الذي خلَّفه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه من حذر تفويت الجماعة ، والخوف من التفريط فيها ، وعظيم فضلها وشنيع تركها .

ومن وعظه صلى الله عليه وسلم مرهباً : ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته ،
فإن صلحت فقد أفلح وأنجح ،
وإن فسدت فقد خاب وخسر
)(2) .
فكلمة ( خاب ) ، وكلمة ( خسر ) : توحيان بالإفلاس يوم القيامة لمن لم تقبل منه صلاته ،
كما أن كلمة ( فسدت ) : توحيِ بالضياع وإحباط العمل ، وهذا ما يُرهبُ المسلمَ ، أَبَعْدَ العمل والجد والرغبة في إحراز الأجر نُضَيِّعُ الصلاةَ فنضيعُ بضياعها ؟!! حاشا وكلا .

وتعال معي إلى هذه الصورة المرعبة التي رواها المقداد رضي الله عنه في جلاء صعوبة يوم الحشر ـ نسأل الله العافية ـ هذه الصورة التي تبعث الخوف والهلع في نفس المؤمن ، فيتحاشى هذا الموقف قدر المستطاع عن طريق اجتناب الموبقات ، والبعد عن المهلكات ، والإكثار من عمل الصالحات ، وإحراز الأعمال المنجيات .

عن المقداد رضي الله عنه قال سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول :
تُدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون كمقدار ميل ، قال سليم بن عامر الراوي عن المقداد : فوالله ما أدري ما يعني بالميل ؛ أمسافة الأرض ؟ أو الميل الذي تكتحل به العين ؟!
فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق : فمنهم من يكون إلى كعبيه ،
ومنهم من يكون إلى حقويه ( خصريه أو مكان شد إزاره ) ،
ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً .
. . ( وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه )(3) .
فيوم الحشر يوم مخيف ، يقف الناس فيه كل حسب عمله ، وما العرق الذي يتدرج فيه الناس إلا حصائد أعمالهم .
أفلا ينبغي للناس أن يحسبوا لهذا اليوم حسابه ، فيعملوا الخير ويكثروا منه ؟ ويتجنبوا الشر وينأوا عنه ؟! .
إنه يوم الإمتحان ، حيث يكرم المرء أو يهان ، فمن عمل صالحاً فلنفسه ، ومن عمل سوءاً فلا يلومن إلا نفسه .
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية عن النعمان بن بشير(4) يصف أهون الناس عذاباً يوم القيامة ، والمسلمون يصغون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن على رؤوسهم الطير ، مأخوذين بهذا الوصف ، ترتعد فرائصهم من هول ما يسمعون ، يخافون هذا المصير ويُعِدون العُدة لتجنبه . .
( فأهون الناس عذاباً رجل يوضع في أخمص قدميه جمرتان ، يغلي منهما دماغه ، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً ) .

وإني لأعجب من بعض من يدعون الباع الطويل في التربية ، والخبرة المديدة في مضمارها ، يرفضون الترهيب أسلوباً للتربية ويكتفون بالترغيب ، زاعمين أن الخوف من العقاب يجعل الخائف يلتزم ما يؤمر به ، وينتهي عما نهي عنه ، بالإكراه , فإذا زال الخوف تفلت وعاد سيرته الأولى ، فهم لذلك يدأبون على نوع واحد من التربية هو الترغيب .

والرد عليهم بسيط لأنه جواب الفطرة :

أولاً : إن الله تعالى أعلم بالإنسان وما يقومه ، فهو الذي خلقه فقدّره ، يعلم ما يصلحه ، والقرآن الكريم مليء بالترغيب والترهيب .
ثانياً : التربية غير محددة بزمان ولا مكان حتى نقول : إذا زال الخوف تفلت وعاد سيرته الأولى ، ثم لا نقول كذلك : إذا زال الترغيب تفلت وعاد سيرته الأولى . . فهما مستمران إلى آخر يوم من حياة الإنسان ، كما أن الترهيب والترغيب لا ينبغي أن يكونا طارئين على الإنسان ، بل يجب أن يكونا من مكونات نفسه ليصاحباه في حياته ، فيكونا دافعاً ذاتياً إلى الخير ، وكابحاً ضمنياً عن الشر .
ثالثاً : إن الواقعَ ليُكذب ادعاءاتهم ، فالحوافز ذات تأثير كبير في بذل الجهد للوصول إلى الهدف ، لكن الخوف من الوقوع في المحظور أكبر تأثيراً . فقد تجد أناساً يبذلون الجهد للوصول إلى الأحسن ، لكنك ترى عامة الناس يبذلون الجهد ويثابرون على أمرٍ ما خوف الانتكاسة والعودة إلى الوراء .

وهكذا أثبت الترهيب أنه كالترغيب تأثيراً في الموعظة . ولقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتناوله في عظته أصحابَه بمقدار ، لأنه كجرعة الدواء المر ، ينفع إن استعمل بحكمة ويُهلك إن زاد عن حده .