مستويات الموت في شعر مفدي زكريا.
ورقة قدمت في الملتقى المغاربي للشعر بالجاحظية- الجزائر.
الدكتور حسين فيلالي- جامعة بشار- الجزائر.
فلسفة الموت:
يـعد الموت مـن القضايـا التـي شغـلت بال الإنسـان منـد القـدم، و جعلتـه يطـرح عـلى نفسـه أسئلـة كثـيرا مـا كـان يقـف عاجـزا عـن الإجابـة عنهـا إجابة قاطعـة، أين نذهب بعـد المـوت؟
هـل المـوت نهاية مسيـرة الإنسـان ؟
هـل فعـل المـوت يقـع عـلى الروح أم عـلى الجسـد أم عليهـما معـا ؟
هـل هنـاك حيـاة ثانيـة بعـد المـوت ؟
إن الإجابـة عـن هـذه الأسئلـة ظلـت و ما تزال متباينـة تبايـن الثقافـات و المعتقـدات.ففي حين يرى البعض أن الإنسان إذ ما مات انتهت مسيرته وتحول إلى تراب ، يرى البعض الآخر أن الموت ما هي إلى بداية حياة أخرى ،أبدية، لا عمل فيها، و إنما هي محصلة للحياة الأولى. أما اعتقاد آخر فيرى أن الإنسان إذا ما مات انتقلت روحه إلى كائن آجر، بمعنى أن فناء الجسد يجعل الروح تستبدله بآخر. إن ما يزيد في استحالة الإجابة عن السؤال إجابة مادية، ملموسة هو أن الإنسان الحي لم يعش تجربة الموت تجربة ذاتية مما حـذا "بباسكال " "pascal إلى القول:" إنـي فـي حالـة جهـل تـام بكـل شـئ، و كـل مـا أعرفـه هـو لابـد أن أمـوت يومـا مـا، و لكننـي أجهـل كـل الجهـل هـذا المـوت الذي لا أستطيـع تجنبـه "
و رغـم جهـل الإنسـان لفعـل المـوت ،فإنـه يظـل يحـس وقـعه، و يستشعـر آلامـه، و يصطـلي بناره مـن خـلال تجـربـة الآخـر الحبـيب/ العـزيز/ القريـب.
إن قارئ • شعـر مفـدي زكريـا، وخاصـة مـا جـاء فـي ديـوان اللهـب المقـدس تستوقفـه ظاهـرة جديـرة بالتسجيـل و توقـف الدارس عندهـا.
هـذه الظاهـرة تتجـلى فـي رؤيـة الشـاعـر للمـوت و الحيـاة، و في كيفيـة بنائـه للثنائيـة الضديـة: المـوت /الحيـاة.
إن كلمـة المـوت فـي نصـوص الشـاعـر تتعدى معناهـا البيولوجـي الضيـق ( أي توقـف نشـاط الخلايا الحيـة ) لتصبـح عـلامة لغويـة حـرة تتعدد دلالتهـا بتعدد ورودهـا فـي سيـاق النـص الشعـري، فالمـوت فـي شعـر مفـدي زكريـا كما لا حظنا يتمظهـر فـي مستويـات ثلاث.
مـوت الوطـن /حيـاة الوطـن:
ففي قصيدته التي أصبحت نشيدا للدولة الجزائرية نقرأ:
قسمــا بالنـازلات الماحقــات
و الدمـاء الزاكيـات الطاهـرات
نحـن ثرنـا فحيــاة أو ممـات
و عقدنـا العـزم أن تحيـا الجـزائـر
و بالرغـم مـن أن الشاعـر يقابـل لفظيا بيـن الحيـاة و الممـات إلا أنـه يتـرك اللفظتيـن تشعـان بمعـان يؤكدهـا السيـاق ، فليـس الموت هـنا مـا يقـابـل الحيـاة بالمعـنى اللغـوي للكلمتيـن ، و ليـس الحياة المعنيـة هنـا هـي حيـاة الجسـد .
إن المـوت الذي يتحدث عنـه الشـاعـر في هذا المقطوعة الشعرية يأخذ بعدا دلاليـا آخـر مخالفـا للمـوت الذي يحدث بهدم البنيـة، أو بأخذ الروح. فالمـوت الذي يعنـيه الشـاعر هنـا هـو المـوت الحضـاري، أي مـوت الوطـن، أو حيـاة الوطـن ككيـان بشـري لـه خصوصياتـه المتميـزة، و لهـذا استعمـل الشـاعر ضميـر الـ: نحن فـي الشـطر الأول مـن البيـت الثانـي: نحـن ثرنـا فحـياة أو ممـات..
و حدد في الشطر الثاني المخصوص بهذه الحياة:
.....و عقدنا العزم أن تحيا الجزائر
هـذا المخصـوص الذي يتردد ذكـره عـلى شكـل لازمـة أربعـة مـرات فـي القصيدة، يـؤكـد القضيـة المركـزية للشاعـر المتمثـلة فـي التضحيـة بالنفـس من أجـل حيـاة الوطـن .
مـوت الجسـد /حيـاة الوطـن:
وأقض يامـوت في ما أنـت قاض
أنا راض إن عـاش شعبـي سعيـدا
يفتتـح الشاعـر البيـت بفعـل أمـر « وأقض يا موت" والأمـر يكـون عـادة مـن آمـر إلـى مأمـور أقـل مـنه مرتبـة، ينتظـر مـنه تطبـق أوامـره، غـير أن المتأمل لهـذا الأمـر يجـده يتضمـن نـوعا من الاستسلام للمأمـور،و الـرضـوخ لـه عـن طواعيـة. و نلتمـس أيضـا فـي هـذا الأمـر نـوعا من الاطمئنـان، و الرضا المشروطـين بتحـقيق هـدف نبيـل، يتمثـل فـي توفـير حيـاة جديدة للوطـن. فالمـوت هنـا يأخذ بعـدا دلاليـا عميقـا، و يتحـول إلـى حيـاة.
فزبانـة الذي يتحـدث الشاعـر باسمـه ،لـم يكـن ينظـر إلـى الحيـاة في بعدهـا الضيـق، و لـم تكـن تهمـه حيـاة الأشخـاص كأشخـاص طبيعيـين، و إنمـا كان يحمـل مـعه هـم حيـاة الوطـن كشخـص اعتباري بلغـة – القانـون الدستـوري- و بالتالـي هانـت عنـده التضحيـة بالنفـس من أجـل استمـرار حياة الشخـص الاعتباري، الذي هـو الوطـن الجزائـري.
و مـا يـؤكـد ما أذهـب إليـه مـن زعـم قـول الشاعـر:
أنـا إن مـت فالجـزائـر تحـيا
حـرة مستقلـة لـن تبيـدا
فالأنـا الفـردي للبطـل"زبانة" يضحـى مـن أجـل استمـرار حيـاة الأنـا الجماعـي "الوطن".
و يتجـلى إيمان البطـل بهذه التضحية، و رسـوخ هـذه القناعـة لديه فـي استعماله أداة " لن " التـي ينفـي بهـا الإبادة عـن الوطـن فـي الحاضـر، و يمتـد فعلهـا إلى المستقبـل:
أنـا إن مـت فالجـزائـر تحـيا
حــرة مستقيلــة لــن تبيـدا
و يمكن لنا أن نستخلص من هذا البيت ثنائية جديدة يمكن تسميتها ب:
موت الشخص الطبيعي/حياة الشخص الاعتباري.
وهكذا نكون أمام حياة يميل منحناها إلى التناقص، و يتجه نحو الانعدام هي حياة البطل (الشهيد زبانة)في مقابل حياة أخرى يستمر منحناها في التصاعد، و يطمح إلى الديمومة هي حياة الوطن المفدى بالروح. فكلما سقط شخص من الأشخاص الطبيعيين إلا و كان ذلك بمثابة إضافة لبنة جديدة في بناء صرح الشخص الاعتباري"الوطن"، و ضمان ديمومة الحياة الحرة لديه.
- الذبيح /الصاعد
ثنائية موت الجسد/خلود الروح.
قام يختال كالمسيح وئيدا
يتهادى نشوان يتلو النشيدا
باسم الثغر كالملائك أو كالط...
فل يستقبل الصباح الجديدا
شامخا أنفه جلالا و تيها
رافعا رأسه يناجي الخلودا
رافلا في خلاخل زغردت تم...
لأ من لحنها الفضاء البعيدا
يبدأ الشاعر قصيدته بفعل" قام " هذا الفعل الذي يدل على القيام الإرادي، « ويدل على حركة الجسم الذاتية غير الملاقية لغيرها".
و يتبع الشاعر فعل قام بأفعال، و أوصاف ترسم للمتلقي الجو النفسي للموصوف "زبانة" قام يختال"يتهادى نشوان" "باسم الثغر"، يستقبل الصباح الجديدا"، شامخا أنفه"، «يناجي الخلودا"، " رافلا في خلاخل"..
و لا نكاد نجزم أننا حقيقة في عرس، و أن الموكب سينتهي بنا إلى مكان حددناه، و رسمنا أبعاده في الذهن حتى يصدمنا الشاعر بصورة تحطم كل ما بنيناه من رؤى، و أفكار عن القصيدة:
و امتطى مذبح البطولة مع
راجا و وافى السماء يرجو المز يدا
فنرجع نبحث عن مفاتيح جديدة للولوج إلى دهاليز النص الشعري، بدءا بعنوان القصيدة:الذبيح/ الصاعد، ووقوفا عند الجملة الشعرية "" امتطى مذبح البطولة" و من الجملة تنمو علاقات هرمية تتشابك بها سائر عناصر النص لتكون دلالاته الكلية".
إن هذه الجملة ترتسم أمامنا أسئلة عديدة، وتتشابك عندها خيوط كثيرة، فنضطر إلى دخول النص الشعري برؤيا جديدة، تتجاوز القراءة الحرفية "و القراءة الحرفية هي قراءة أهل الظاهر وهم المتمسكون بحرفية النص، الممسكون عن التفسير و التأويل "
هذه الرؤيا الجديدة تجعلنا ندرك أننا أمام نص محجب ليس ما يظهره هي بالضرورة معانيه الوحيدة.
و الدارس الجاد يجب ألا يرضى بما هو جلي، ومكتشف من المعاني،بل عليه أن يلج عوالم النص المجهولة، ذلك أن (النص بحد ذاته بما هو ظاهر مرفوع، وبما هو بعيد وقصي خاصة الشعري منه، التباس وليس كل ظاهر نص غايته وان كان يدل عليها لذلك كان التحليل تتبعا واستقصاء متأنيا لهدا الدال و مدلولات.) .
إن على الدارس أن يسعى إلى اصطياد المعاني الشاردة كما يقول المتنبي .و أن يتعلم فن تتبع أثر المعاني، يقصها، في تأني، و صبر حتى يظفر بما يريد.
و حتى يكتسب عمل الدارس صفة القراءة الجديدة المتأنية ،فإن عليه أن يكتشف من الأثر، ما لم يرد له صاحبه أن يكشف، أو أضرب صاحبه عن البوح به ما لم ينخرط القارئ في لعبة الأدب.
لعبة الأدب هي إذن الإنفراد بالنص، محاورته، استفزازه، و استدراجه للبوح بما أخفاه، و عماه كاتبه من المعاني، فتحقق اللعبة هذه التمتع بالنص، و إمتاع القاري.
و التمتع يتحقق باكتشاف طبقات جديدة لم يصلها التنقيب من قبل، و الوصول إلى مناطق كانت مجهولة من النص، و فتح أبواب،و نوافذ ظلت مغلقة قبل هذه القراءة.
إن نص الذبيح الصاعد رغم بنية شكله التقليدية الخليلة• لا ينقاد بسهولة للقارئ ،ويظل يتمنع عن كل قراءة استهلاكية لا تدخل في مغامرة مع الدال•( بل انه غالبا ما يقاومها بأشكال شتى بدءا من الانغلاق، ووصولا إلى المراوغة، والمفارقة بين الظاهر، والباطن والمعلن والكامن من أهم أوجه هذه المقاومة، وأكثر أصالة، غير إن النص في انغلاقه يشير إلى مفاتيحه، والمسارب ،المداخل المؤدية إلى باحاته، وأعماقه، وفي مراوغته يومئ إلى النواحي أو الاتجاهات، والوجهات التي تتيح التمكن منه و أخذه).
ثنائية سكون / حركة:
إن بنية قصيدة الذبيح الصاعد في انغلاقاتها على القراءة الحرفية تشير ضمنيا إلى مفاتيحها، والمسارب المؤدية إلى باحاتها، فقراءة الجملة الشعرية الذبيح/ الصاعد المتصدرة للقصيدة قراءة حرفية تولد لدينا نوعا من التوتر على مستوى التصور بقلبها للثنائية حركة/سكون التي ينبني عليها الكون، وتحويلها إلى ثنائية عكسية جديدة تكسر المنطق العقلي سكون/حركة، ذبيح /صاعد، وتكسر معها الميثاق الشعري الذي يربطها ببنية القصيدة التقليدية التي غالبا ما تعتمد على وضوح الصورة الشعرية (وأدوات رسوم الصورة الشعرية حسب ما أورد بعض البلاغيين والأسلوبيين يمكن ردها إلى مايلي: التشبيه/الاستعارة/ الرمز).
هذا القلق المعرفي الذي يخلقه لنا عنوان القصيدة الذبيح/الصاعد بقلبه للمنطق العقلي يجعلنا نحتار في تصنيفها، إن كانت ضربا من الاستعارة ،أو التشبيه، أو الرمز، ويدفعنا هذا القلق إلى الاستنجاد بمستوى آخر من مستويات التفسير، والتأويل هوا لمستوى ألحلمي (فاللغة تتجاوز الحس ، والعقل معا ، تتحرك كما يتحرك الحلم، وهنا يكون الخطاب الشعري في الواقع خطابا غير عادي وغير مألوف، ففي قصيدة الحلم يتجلى الإبداع في اللغة، ففي هذا المستوى يتجاوز الخطاب وصف الأشياء كما هي في حدودها الواقعية، ويتجاوز التركيب الذي يستند إلى المقاييس العقلية، والنسب المنطقية، ففي قصيدة الحلم، لا نطرح التساؤل عن العلاقات الممكنة، وغير الممكنة، وإنما نتتبع الصورة وهي تنمو في القصيدة ،نموا تلقائيا من غير أن نعتمد على الموازنات، والتشبيهات بين الأشياء...إن الصورة تنمو باستمرار إلى أن تصل إلى حدود الرمز، أو إلى حدود الأسطورة."
فالصورة الشعرية في نص مفدي زكريا بلغت بالفعل حدود الرمز ذبيح/صاعد، وأظهرت براعة الشاعر في ابتكار صورة شعرية جديدة.
ورغم الابتكار، والجدة التي تمتاز بها هذه الصورة الشعرية المتفردة في القصيدة بمحاولتها الجمع بين متنافرين ذبيح/صاعد إلى أن إرجاعها إلى المستوى الحلمي، واتخاذه منطلقا لتحليل النص الشعري"الذبيح الصاعد" لا يحل الإشكالية، بل يظل القلق المعرفي قائما، يلاحقنا، يعترينا كلما عثرنا على أمارات(دلائل) خلال رحلتنا عبر خارطة النص الشعري" كالمسيح، كالكليم، كالروح..."
هذه الأمارات تجعلنا نهتدي إلى أننا أمام استعارة قائمة على علاقة المشابهة "وليس تغيير المعني بالطبع عملا مجانيا، إذ يوجد بين المدلول الأول، والثاني علاقة مغايرة، ونحن بهذا التغيير ننتج أنواعا مختلفة من المجازات. إذا كانت العلاقة هي المشابهة نكون بصدد الاستعارة..."
ويمكنا أن نقوم بمحاولة رصد الدلالات المتخفية وراء هذه الصورة الشعرية من خلال البحث عن مستوياتها الدلالية:
الذبيح/ الصاعد
المستوى الأول:
المستوى هذا يظهر عدم مطابقة الوصف للموصوف، ذلك أن العلاقة بين الذبح الذي هو توقيف للحركة، وبين الصعود الذي هو استمرار للحركة تبقى متنافرة.
المستوى الثاني:نحاول فيه الانتقال بالتحليل إلى مستوى آخر أعمق فنلجأ إلى التأويل الذي لا يكتفي بما هو ظاهر لعلنا نقف على تفسير لهذه المفارقة(ذبيح/صاعد) و التي تتصدر القصيدة، و التي نعتبرها النواة الدلالية الكبرى التي تتفرع عنها جميع الدلالات الأخرى.
إن القراءة التأويلية تجعنا نكتشف أننا أمام وجود استعارة تاريخية قديمة(صلب المسيح)•وإسقاطها على لحظة تاريخية معاصرة (إعدام الشهيد زبانة) .
أن قراءة هذه الصورة "الذبيح الصاعد" تبقى مقبولة إذا أخذناها على مرجعية دينية إسلامية، لأن المسيح عليه السلام من المنظور الإسلامي لم يصلب، بل رفعه الله إلى السماء، وزبانة لم يقتل ،لأن الشهداء لا يموتون ،بل يظلون أحياء عند ربهم يرزقون. وعلى هذا ف" إن الاقتصار على المعنى الأول يجعل الكلمة منافرة بينما تستعيد هذه الملاءمة بفضل المعنى الثاني، الاستعارة تتدخل لأجل نفي الانزياح المترتب على هذه المنافرة ".
إن الاستعارة في «الذبيح الصاعد " تظل غامضة لأنها اقرب إلى « حقيقة الذات » الشاعرة » منه إلى « حقيقة الموضوع17. »
هذه الحقيقة التي لا يمكن إدراك كنهها دون العودة إلى القصيدة للبحث عن دليل• نهتدي به ونحن ندخل دهاليز القصيدة، ونبحر عبر متاهاتها، فنقرأ في البيت الأول من القصيدة
قام يختال كالمسيح وئيدا
يتهادى نشوان يتلو النشيد
هذا الدليل الشارد "المسيح" يستوقفنا وجوده في النص الشعري فيحيلنا على مرجعية دينية، نفسية تاريخية، وندرك أننا بإزاء استعارة من نوع خاص.
إن هذه الاستعارة يجب ألا نفهمها على أن الشاعر يشبه بطل قصيدته "زبانة " الإنسان العادي بالمسيح النبي الرسول، وبالتالي يصبح من الصعب تقبل هذه الاستعارة على الأقل من المنظور العقائدي، لأننا نكون أمام تنافر كلي بين المشبه "زبانة " وبين المشبه به "المسيح " أي إحلال "زبانة "محل الأنبياء، والرسل، وإنما يجب أن نفهم أن ما فعله الشاعر لا يعدو كونه استعارة لحظة تاريخية، وموقف (حالة نفسية ) .
فالمسيح عليه السلام لم يفرغ عندما حاولوا صلبه، لإيمانه أنه على حق ،وان الله سينصره ، كما أن زبانة لم يفزع عندما سيق إلى المقصلة لإيمانه أنه يسير في طريق الشهادة ،وان الله وعد الشهداء الجنة، ولن يخلف وعده.
إن الشاعر ينطق من رؤية تؤطرها خلفية دينية، وفكرية إسلامية تؤمن بالآية الكريمة ( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) . فالمسيح عليه السلام لم يصلب بل رفعه الله إليه (بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما ) .
وكذلك "زبانة " لم يمت في نظر الشاعر، وإنما تم هدم البنية فقط أي الجانب المادي من الجسم، في حين صعدت روحه إلى خالقها لتجزى الجزاء الأوفى، إيمانا منه بالآية الكريمة ( ولا تحسبن الدين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) .
فالفرنسيون توهموا خطأ قتل "زبانة "كما توهم من قبل المسيحيون صلب عيسى عليه السلام.
زعموا قتله وما صلبوه ليس في الخالدين عيسى الوحيدا
لفه جبرائيل تحت جناحي... ه إلى المنتهى رضيا شهيدا
فعيسى في الاعتقاد المسيحي صلب .
وفي اعتقاد الشاعر رفع الله إلى السماء.
وزبانة في الاعتقاد الفرنسي قتل.
وفي اعتقاد الشاعر صعدت روحه إلى السماء للحياة الأبدية.
هذه الاستعارة التاريخية ستتوضح أكثر عبر مسار القصيدة، خاصة ونحن نقف عند الجملة الشعرية "امتطى مذبح البطولة ".هذا الفعل "امتطى " الذي يشعرنا بحدوث تغيير على مستوى الفعل بالانتقال من حركة سابقة هي حركة المسير "يختال، وئيدا، يتهادى "، إلى حركة لاحقة، مغايرة ،هي حركة الركوب والقفز الإراديين(امتطى مذبح البطولات). وتشعرنا الحركة الثانية المتولدة عن المذبح بحدوث ميل (ووافى السماء)، وانحراف على مستوى حركة الفاعل حيث يعرج البطل من المذبح إلى السماء، و(تعبر أفعال هذه المجموعة...يعرج...عن الانحناء، والميل، وقد يكون ذلك في جسد الفاعل، أو في مسار حركته).
هذه النقلة التي حدثت على مستوى الفعل، وكسرت خطية الحدث لم يصاحبها تغيير في مستوى الزمن النفسي لدى البطل "زبانة " أي الانتقال من حالة الإحساس بالفرح الذي ترسمه ظلال الصورة الشعرية في الموقف الأول "رافلا في خلال.." إلى حالة الإحساس بالحزن في الموقف الثاني " امتطى مذبح البطولة.."وهو ما يجعلنا نعيد النظر في رؤيتنا للمكان الذي سبق وأن رسمناه في الذهن، وتتحول وجهة البطل عكس ما اعتقدناه من قبل، أي من السير في موكب الفرح (العرس ) "رافلا في خلاخل زغردت.."
إلى السير في موكب الحزن (المأتم )، والامتطاء الإرادي للمذبح.
هذه العلاقة "المذبح " تجعلنا نستجمع حقلا دلاليا نرمز إليه بألف ويتكون من:
المذبح
الذبيح
اصلبوني
اشنقوني
هذا الحقل الدلالي الذي يمكن أن نسميه بالمأتم و يتكون من إشارات لغوية يدل ظاهرها على الفناء، والسكون، والحزن في مقابل حقل دلالي آخر سبق و أن استجمعنا بعض عناصره من قبل ونرمز إليه بباء:
يختال
نشوان
يتهادى
باسم
هذا الحقل الدلالي باء نطلق عليه" العرس" و يتكون من دلائل لغوية تدل في مظهرها على الاحتفال، و ترسم ظلالها جوا من الفرح.
و يمكننا أن نقترح قراءة لفضاء القصيدة بمحاولتنا الموازنة بين الحقلين الدلاليين ألف، و باء على النحو التالي:
إن القراءة السطحية تظهر أن العلاقة بين الحقلين الدلالين ألف، و باء متنافرة تنافر جو المأتم، و جو العرس، بل أن العلاقة بينهما تمثل مجموعة خالية بلغة الرياضيين، بينما القراءة الباطنية تظهر لنا أن الحقل الدلالي ألف يشترك مع الحقل الدلالي باء في نقطة تعتبر نواة الدلالة في الحقلين وهي الفرح، غير أنه لا يمكن إدراك هذه العلاقة إلا بالعودة إلى البنية الاحالية لنص الذبيح الصاعد و القيام بمحاولة رصد الدلالات المتخفية وراء الكلمات، من خلال البحث عن مستوياتها الدلالية المتضمنة في السياق اللغوي للقصيدة.
القراءة الحرفية للحقلين الدلاليين ألف، و باء:
الحقل الدلا لي ألف الحقل الدلالي باء
المذبح يختال
الذبيح باسم
اصلبوني نشوان
اشنقوني يتهادى
و هكذا فإن العلاقة بين الحقلين تبدو في الظاهر منعدمة بينما هي في الباطن تشترك في نقطة جوهرية وهي العرس و الفرح، فالحزن الظاهري يتحول في القراءة الثانية إلى فرح ،و يتحول المأتم إلى عرس، و الموت إلى حياة أبدية، لأن الشهيد في الفكر الإسلامي يزف إلى الجنة كما يزف العريس إلى عروسه.
حركية القصيدة
ثنائية التصاعد/ التنازل
إن المتأمل لحركية النص الشعري "الذبيح الصاعد" يجدها تلائم نفسية البطل ورؤية للكون والإنسان والحياة.
و على هذا الرؤيا الشعرية المستند إلى مرجعية ثقافية خاصة يمكن قراءة حركة البطل وهو يخترق الأمكنة، فنلاحظ أن الحركة تصاعدت لا تتوقف عند محطة الذبح (الموت )وإنما تظل مستمرة تصاعدية إلى ما لا نهاية، بحيث تبدو على مستوى التصور العادي الظاهري غير منطقية، مما يجعلنا نضطر للاستنجاد بمستوى آخر من مستويات القراءة، والتأويل لتحديد الحيز الغيبي المتخفي وراء السماء و الذي يقصده الشاعر في هذا البيت:
"ووافي السماء يرجو المز يدا "
بنية الحيز
مصطلح الحيز:
لعل من ابرز المشكلات التي تواجه الباحث العربي في الوقت الراهن ،إشكالية نقل، وترجمة المصطلح من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، ولعل هذه المشكلات تكون أكثر تعقيدا حين تتعلق بنقل وترجمة المصطلح النقدي والالسني الأجنبي.
ولعل جمود حركة الترجمة في الوطن العربي، وانكماش دور مجامع اللغة العربية، وعجزها عن متابعة مسار التطورات العلمية، والمعرفية التي يشهدها العالم هي التي جعلت الباحث العربي يلجا إلى اجتهادات فردية كثيرا ما تكون غير دقيقة.
هده الاجتهادات الفردية بدلا من أن تثري مصطلحات اللغة العربية ساهمت في خلق إشكالية جديدة ،لا تقل خطورتها عن خطورة غياب المصطلح نفسه، فقد ألفيا المصطلح الأجنبي الواحد ينقل إلى اللغة العربية بأسماء متعددة تبلغ أحيانا حد التضارب، حتى أنها – في الكثير من الحيان -توقع القارئ العربي في حيرة، وتدخله في متاهات "والحق أننا نصطدم بالاختلاف والتضارب في اصطناع المصطلحات النقدية والألسنية بين المشرق، و المغرب من وجهة،وبين أي ناقد، وناقد عربي ،أو بين السني عربي آخر من وجهة أخرى ،فهده الآلاف المؤلفة من المفاهيم المستحدثة في الكتابات النقدية، والألسنية ، و السيميائية في الغرب لا تزال تثير في أنفسنا من الهم ما تثير من أجل العثور على ما يقابلها من مصطلحات ملائمة في اللغة العربية، ومن هذه المصطلحات لفظEspace » " « الذي ألفينا معظم النقاد في المشرق (كمال أبو ديب عبد الله الغدامي _ وفي المغرب أيضا يترجمونه إلى الفضاء ) .
وقد وجدنا ماهر عبد القادر محمد علي في كتابه مشكلات الفلسفة يترجم لفظ ( Space (بالمكان وعبارة Space Absolute بالمكان المطلق رغم أن إضافة كلمة Absolute للفظ Space تجعل المعنى الحقيقي ينصرف إلى الفضاء المطلق لان من صفة المكان التحديد ومن صفة الفضاء الاتحديدية.
ولعل عمل عبد المالك مرتاض في اصطناع، ونقل المصطلح- حسب رأينا- تبقى من التجارب الرائدة في الوطن العربي كونها تتحرى الدقة، وتراعي أصول، وقواعد الترجمة العلمية، فهو يأتي إلى المصطلح الأجنبي يقلبه على كافة أوجهه المختلفة (الدلالية_ الاشتقاقية _الأتمولوجية ) حتى إذا خبر أصله ،وعرف أصله، تخير له ما يقابله و يلائمه في اللغة العربية.
فقد ألفيناه يترجم لفظ "Espace " إلى الحيز ،ويفرق بينه وبين المجال ،والمكان، والفضاء "إنا نميز بين المجال و المكان والفضاء و الحيز الذي أثرناه بالاستعمال من بين هذه المصطلحات كلها للياقته في رأينا لمفهوم الحركة الاتجاهية ،والخطية والطولية والعرضية معا، سواء علينا أكانت هذه الحركة أفقية أم عمودية أم مائلة أم أي شيء آخر ،وسواء أكانت تجري في فراغ حقا أم كانت حركة تحدث على نحو ما من التصور في ذهن الشخصية أو مدلول النص المطروح للتشريح ،إن المكان يعني الجغرافيا ،وإن الفضاء يعني الأجواء العليا لا سيادة لأي بلد فيها ،والفضاء يعني الفراغ بالضرورة أما المجال فقد يعني الحيز الأعلى الذي يقوم فوق وطن ما. بينما الحيز في تصورنا واستعمالنا الذي دأبنا عليه قادر على أن يشمل كل ذلك بحيث يكون اتجاها، وبعدا، ومجالا، وفضاء، وجوار وفراغ، وامتلاء، وخطا في أي شكل من أشكاله الهندسية
الكثيرة. "
فالحيز يصبح بهذا المعنى الذي يورده عبد الملك مرتاض، ونتبناه في هذه الدراسة أشمل من مصطلح المكان،والفضاء، فهو قد يكون حيزا متخيلا يرسمه الخيال الشعري وتجسده الصورة الشعرية
أو ترسمه صور الكلمات.
بنية الحيز في الذبيح/ الصاعد
الحيز المحدد المعالم:
إذا كان المذبح في الاستعمال العادي للغة يوحي بالفناء، وانعدام الحركة والتحول من حالة الحياة،إلى حالة الموت، فإن الشاعر قد أضفى على هذه الكلمة "العلامة " بعدا دلاليا أخرجها من الاستعمال العادي للغة ،وحولها إلى إشارة حرة.
( البيت الأول من القصيدة )
قام يختال كالمسيح وئيدا
يتهادى نشوان يتلو النشيدا (1)
( البيت الثاني من القصيدة )
وامتطى مذبح البطولة معر
اجا و وافى السماء يرجوا المز يدا
الحيز اللآمتناهي
ثنائية الأرض/ السماء
وامتطى مذبح البطولة معر
اجا و وافي السماء يرجو المز يدا
إن بطل "الذبيح الصاعد "لا يعرف التوقف عند
مكان محدد ينطلق من الأرض، ويظل يخترق الأمكنة بحثا عن المكان الذي يوفر له الاستقرار الأبدي، فيبدأ باختراق "المذبح " هذا المكان المحدد بأبعاده المعرفية "المفصلة " الدال على الفناء و انعدام الحركة، يتحول إلى مكان عبور لا تتوقف عنده الحياة، ويتم اختراقه أيضا إلى حيز آخر غير محدد الأبعاد "السماء " .
إن الحيز اللآمتناهي " السماء " يتم اختراقه أيضا من طرف البطل هذا الحيز الأخير نجهل عنه كل شيء ، نجهل موقعه ،أبعاده يمكن أن نسميه الحيز الغيبي.
ويتناص بيت مفدي زكريا
وامتطى..........
ووافى السماء يرجو المزيدا
في الرؤيا مع بيت الشاعر النابغة الجعدي
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وإنا لنرجوا فوق ذلك مظهرا
فالنابغة الجعدي عندما سأله الرسول محمد عليه الصلاة والسلام
وقد انشد الشاعر بين يدي رسول الله هدا البيت قال رسول الله عليه الصلاة والسلام إلى أين يا نابغة ؟
قال إلى الجنة .
فضحك الرسول عليه الصلاة والسلام وقال إلى الجنة إن شاء الله ،واعتقد لو قدر الله للشاعر مفدي زكريا أن يعود إلى الحياة وسألناه عن قوله
"ووافى السماء يرجو المزيدا "
لكان جوابه مطابقا لجواب النابغة يؤكد ما نذهب إليه قول مفدي زكريا
زعموا قتله...... وما صلبوه
ليس في الخالدين عيسى الوحيد
فالخلود توحي بالمكان الغيبي أي الدار الآخرة لان من صفة هذه الأخيرة الخلود أي يخلد فيها الإنسان أما في الجنة وإما في النار .
إن التناقض في قصيدة الذبيح الصاعد لا يقتصر على بيت النابغة الجعدي وإنما هناك بنيات نصية متنوعة (دينية_ تاريخية _ تراثية _ ) تفاعلت وانصهرت في نص الذبيح الصاعد ،لان كل نص بشري هو في الحقيقة تناص كما تقول جوليا كريستيفا julai Kristeva .
ويذهب أمبراطو إيكو إلى أن التناص هو "تحويل وتمثيل عدة نصوص يقوم بها نص مركزي يحتفظ بريادة المعنى " (1)
فكل نص حسب كريستيفا Kristeva وإ يكوEco
إذن هو عبارة عن تراكمات، وتفاعلات، وتحولات نصية، إنه محصلة لقراءات نصوص سابقة قد تختفي معالمها أو تظهر على خريطة النص الجديد المنجز ، وهذا يجعل من العسير على القارئ العادي القبض على هويتها وتحديد كينونتها إذ فعل التناص يشتغل في الواقع على لعبة الخفاء والتجلي ، " لكن ذكاء القارئ وثقافته الواسعة تجعلانه يضع يده على التناص بين النصوص " (2) .
قائمة المصادر والمراجع
1. المصحف الشريف_ رواية حفص_ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
2. مفدي زكريا_ ديوان اللهب المقدس_ الشركة الوطنية للنشر والتوزيع.الجزائر.
المراجع
1.كمال أبو ديب_ في الشعرية_ مؤسسة الأبحاث العربية.لبنان1984ص 21.
2. أبو اوس_ إبراهيم الشمسان_الفعل في القرآن تعديته،ولزومه_ ذات السلاسل للطباعة والنشر .الكويت
3.علال سنقوقة_ المتخيل والسلطة_ منشورات رابطة كتاب الاختلاف الجزائر ط1/2000.
4.عبد الله محمد الغدامي_ تشريح النص_ دار الطليعة. بيروت.
5.احمد الطريسي_ تحليل الخطاب الشعري_ دار توبقال .المغرب.
6.جان كوها_بنية اللغة الشعرية_ت.محمد الوالي ومجمد العمري _دار توبقال .المغرب .
7.عبد الملك مرتاض_ا.ي دراسة سيميائية تفكيكية لقصيدة أين ليالي أمجمد الديب_ ديوان المطبوعات الجامعية_ الجزائر.
8.ماهر عبد القادر محمد علي_مشكلات الفلسفة_ دار النهضة العربيةبيروت1984.
المجلات والدوريات
1.علي حرب قراءة مالم يقرأ نقد القراءة_الفكر العربي المعاصر .ك 2/شباط 1989
2.سامي سويدان_النص اللازم، النص المتعدي_ الفكر العربي المعاصر.تموز/آب 1988
3.عبد العزيز بن عرفة_ القراءة الإبداعية_مجلة الثقافة 48/86 تونس.