السلام عليكم و رحمة الله وبركاته،
يسرني موافاتكم بهذا العمل الموجود أدناه :
آليات الخطاب النقدي العربي الحديث
في مقاربة الشعر الجاهلي
بحث في تجليات القراءات السياقية
البريد الالكتروني: unecriv@net.sy E-mail :
aru@net.sy
موقع اتحاد الكتّاب العرب على شبكة الإنترنت
http://www.awu-dam.org

الدكتور: محمد بلوحي
آليات الخطاب النقدي العربي الحديث
في مقاربة الشعر الجاهلي
بحث في تجليات القراءات السياقية
دراســة
من منشورات اتحاد الكتاب العرب
دمشق - 2004
الإهداء
إلى كل روح عربية
تسعى للتأسيس لمنهج مصيرها
من عمق جذور تاريخها وإبداعها.
أهدي هذا الإشراق الثالث.
***
المقدمة:
يسعى هذا البحث لتفحص المقولات الكبرى للمناهج النقدية الحديثة في أصولها الغربية، وكيف استطاع الخطاب النقدي العربي الحديث أن يستثمرها في مقاربة التراث العربي وبخاصة منه الشعر الجاهلي، بفعل التطور الذي لحقه على مستوى الرؤية المعرفية والأدوات الإجرائية ، ومن ثم يركز هذا البحث على تتبع المتصورات الجوهرية لقراءة القراءة، لأنه يشتغل على المتن النقدي وليس على النص الإبداعي.
فالمناهج النقدية الحديثة وبخاصة السياقية -[ ونقصد بالنقد السياقي تلك الممارسة النقدية التي تقارب النص الإبداعي معتمدة في ذلك المؤثرات الخارجية (سواء أكانت تاريخية أم نفسية أم ميثيودينية أم اجتماعية) والتي أحاطت بميلاد النص الشعري واحتضنت تكونه، فكان لها التأثير المباشر أو غير المباشر]- منها عبر مستوياتها المختلفة وأصولها المعرفية وتطبيقاتها الميدانية هي موضوع هذه الدراسة، وليس الأعمال الإبداعية، ومن ثم فحقل بحثها ليس المعرفة وإنما معرفة المعرفة، باعتبار أن النص في جوهره حامل لمعرفة أولى، وأن الممارسة النقدية هي معرفة ثانية تشتغل على معرفة أولى، ومن ثم نجد أن هذا البحث يسعى للاشتغال على معرفة المعرفة، وذلك أمر من الصعوبة بمكان، وأن الاشتغال عليه يتطلب معرفة واسعة بالمناهج النقدية في أصولها المعرفية الأولى، كما يستدعي معرفة دقيقة بقضايا التراث العربي وبخاصة الشعر الجاهلي، وبذلك يدرك هذا البحث حجم التحدي الذي يعمل من أجل تخطيه، وأن ذلك أمر يشقى الباحث من أجل التحكم فيه.
وجدت القراءة العربية الحديثة في الشعر الجاهلي عبر مسارها الطويل ميدانا خصبا لتطبيق أدواتها الإجرائية ورؤاها المعرفية، سواء أكانت هذه الأدوات ذات طابع سياقي أو نسـقي، فالشـعر الجاهـــلي نـص متميِّ ز متـفرد له من خصوصية الأصالة والتفرد القسط الوافر، وهذا ما جعله نصاً لا يرفض أي قراءة تحاول أن تستنطق جوانبه من أجل الكشف عن بعضها، أو محاولة استنــطاق ما غمض منها، ومن ثم أثبت أن النصّ الشعري الجاهلي نصٌّ متمنع دائما، وتلك خاصيّة النُّصوص الإبداعية الراقية ذات البعد الإنساني.
إن قناعتنا أن ما أثير حول الشعر الجاهلي، وما كتب عنه لم يكن يدعي في يوم من الأيام أنه أمسك بحقيقة هذا النص، وأن مجال الاجتهاد فيه قد أُغلق، ومن ثم فبقاء النَّص الجاهلي مرهون بخاصيّة التفتح على كل القراءات، وبقدرة القراءة على استنطاق ما تمنع فيه بُغية محاولة الكشف عنها، ولكنها دائماً تجده متمنعاً، كانت الدافع الرئيس للخوض في هذه القضايا النقدية التي أثيرت من حول النص الشعري الجاهلي، فتمنعه نابع من لغته البريئة المشبعة بالرؤى الإنسانية، والتي لا تتحمل التعسف في الطرح، والادعاء في قول الفصل.
كما شجعني للخوض في مسائل مقاربات الشعر الجاهلي البحث الذي أنجزناه في السنوات الماضية حول "الخطاب النقدي المعاصر من السياق إلى النسق (الأسس والآليات)"، والذي صدر لنا عن دار الغرب في الجزائر، والذي حاولنا فيه الوقوف على الأسس النظرية، والأدوات الإجرائية لكلِّ قراءة ،سواء أكانت هذه القراءة قراءة سياقية ( التاريخية، النفسية، الاجتماعية، الأسطورية، جمالية)، أم قراءة نسقية (بنيوية، أسلوبية، شعرية، سيميائية أو تفكيكية)، ولكننا أدركنا أن هذا العمل لا يكتمل إلا بإتباع ذلك بعمل يبحث في التجليات التطبيقية لهذا الخطاب في النقدي العربي الحديث في مقاربته لعمل إبداعي تراثي وبخاصة الشعر الجاهلي، باعتباره أصل النصوص الشعرية العربية الذي أسس للخطاب الشعري العربي عبر جميع تحولاته الكبرى، وكيف قارب النقد العربي الحديث ظواهره الأساس، وبخاصة النقد السياقي منه باعتباره المقاربة العربية الحديثة الأولى التي استمدت رؤاها وأدواتها الإجرائية من النقد الغربي باتجاهاته الثلاثة (التاريخية، النفسية، الأسطورية)، وكان سعينا في ذلك إتمام التنظير بالتطبيق، إدراكا منا أن مثل هذا البحث يجمع بين التراث وقضاياه المتشعبة، والحداثة النقدية ومقولاتها المتشابكة، ولم أكن أتحمس للتك الدعوات التي كانت تُروج للفصل بين التراث والحداثة، وتعمل لتبرير مقولة الفصل بينهما، اعتقادا منها أن الحداثة لا تقوم إلا على أنقاض التراث، وتلك دعوات أثبت البحث مجانبتها كبد الحقيقة، فالتراث لا يثمن إلا بالوقوف على مسائله وفق رؤى، وأدوات تستمد من أصول معرفية أثبتت الممارسة النقدية جدَّتها في تفحص كثير من الإشكاليات التي تثار من حول الإبداعات الكبرى، إيماناً منها أن الفكر النقدي هو الذي يثير السؤال أكثر من ادعاء القول الفصل فيها ابتعاداً عن المعيارية، والأخذ بالنسبية التي أصبحت القاعدة الأساس التي يتبناها الفكر المنهجيُّ، وبذلك أدرك النقد العربي الحديث؛ وهو يقارب الشعر الجاهلي وفق رؤية سياقية، أن هذه المقاربة لا يمكن أن تتحقق إلا باستيعاب المفاهيم الكبرى للقراءة الحديثة في مظانها الغربية.
إن الشعر الجاهلي أثبت أصالته وتفرده من خلال قدرته على التجاوب مع الخطاب النقدي العربي الحديث، وبخاصة في توجهه السياقي، هذا الخطاب النقدي الذي حاول نقل الممارسة النقدية من مستوى أفقي يحتكم إلى المعيارية إلى مستوى عمودي منطلقه الأساس طرح السؤال، ليترك لمبدأ الاحتمال والتنوع والتعدد العيش الدائم، وبذلك وضع الأرضية النقدية التي مهدت للطرح النسقي الذي يتبنى مبدأ مقاربة النص الشعري الجاهلي انطلاقا من نسقه العام الذي بني في فضائه، ومن خلال بنيته اللغوية المميِّزة له، إيماناً منه أن النص يجب أن يقارب لذاته وبذاته، تأسياً بطرح الألسني الحديث ( فردينان دي سوسير) الذي نادى بضرورة دراسة اللغة دراسة تزامنية، لذاتها وبذاتها، هذا الطرح، وكيف تعامل مع الشعر الجاهلي هو الذي سنفرد له بحثاً كامــلاً ـ في دراسة لاحقة والتي شرعنا في وضع تصورنا الأولي لها ـ حتى يتأتى لنا الإلمام بمجمل الأطروحات النقدية الحديثة التي حاولت أن تقارب النص الشعري الجاهلي، وتكمل الشق الثاني من المقاربات التي تعاملت مع النص الجاهلي، وتنير الطريق أمام القارئ العربي حتى يأخذ تصوراً متكاملاً -و لو نسبياً- عن مسار النقد العربي الحديث في مقاربته للنص الشعري الجاهلي.
فالممارسة النقدية العربية الحديثة قلّما وجدت ميداناً خصباً مثل الشعر الجاهلي في التراث العربي لتطبيق مقولتها، فإن وجدت تأكد لنا أن هذا التراث يحمل من الخصوصية الإنسانية والإبداع الأصيل القسط الوافر، ولذلك وجدنا أن الخطاب النقدي العربي الحديث كان يتعامل مع مثل هذه الظواهر التراثية بخلفية الرسالة المفتوحة التي لا يحدد شفراتها تأويل، بل يظل نصها مفتوحاً يرفض الميل إلى الأجوبة التي تدعي اليقينية في الطرح.
لقد كان الشعر الجاهلي موضوع مقاربات نقدية متعددية، وكل هذه المقاربات أجهدت نفسها في مدارسته، وحاولت الاقتراب من عالمه، بأدوات إجرائية مختلفة اختلاف المنطلقات المعرفية والأدوات الإجرائية التي تتبناها ، مما أعطى ثراءً نقدياً وشجع الخطاب النقدي العربي الحديث على محاولة الاجتهاد، الاجتهاد الذي أدرك أن النص الشعري الجاهلي رسالة ذات شفرات غير محددة تحديداً يقينياً، بل هو نص يخترق الزمن ليعيش في اللازمان، وأن أصالته نابعة من تفتحه لكل قراءة جادة تحاول أن تتعامل مع خطابه الشعري بأدوات فيها من الجدَّة والأصالة، لتفك شفراته دون السقوط في المعيارية، وإنَّما تعمل من أجل طرح السؤال لتنبثق منه أسئلة متعددة.
وبعد فحص المادة والإلمام بجل جوانبها تراءى لنـا أن نتنــاول الموضوع "آليات الخطاب النقدي الحديث في مقاربة الشعر الجاهلي [بحث في تجليات القراءات السياقية] " والمؤسس على جوهر قراءة القراءة من خلال الخطة التي كانت تبدو لنا أنها تقودنا إلى الغايات، فعقدنا لذلك: مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة.
أما الأول فخصصناه للقراءة التاريخية، حيث بسطنا التصورات العامة لهذه القراءة، وتتبعنا مقولاتها وأدواتها الإجرائية، وكيف حاولت القراءة العربية الحديثة استثمارها في مقاربتها للشعر الجاهلي بالبحث في قضاياه الكبرى، كإشكالية أولية الشعر الجاهلي، ومصادره وأصوله، وكيف تعاملت الفيلولوجيا مع قضية النحل والانتحال التي أثيرت من حول الشعر الجاهلي منذ العصور القديمة، باعتبارها مسألة أثارت الكثير من المعارك النقدية، وما طرح مرجليوث وطه حسين ببعيد.
تناولنا في الفصل الثاني القراءة النفسية للشعر الجاهلي بالمدارسة والفحص، حيث وقفنا على أطرها المرجعية ومقولاتها الكبرى، حتى يتضح لنا مدى استثمار القراءة العربية الحديثة الأطروحات والمنطلقات المعرفية لهذا التوجه، ودرجة الاستيعاب والتمثل وهي تقارب الشعر الجاهلي من خلال قراءتها للمقدمة الطللية في بعدها النفسي، والمكان والزمان، والقلق، كعوامل رئيسة في تشكيل الإطار النفسي للنص الشعري الجاهلي.
خصصنا الفصل الثالث للقراءة الأسطورية للشعر الجاهلي، فمهدنا بتوطئة ركزنا فيها على الأصول المعرفية لهذه القراءة والأدوات الإجرائية التي كانت توظفها لمقاربة النصوص الإبداعية، وكيف استطاعت القراءة العربية الحديثـة أن تستوعب هذه الأصول المعرفية والأدوات الإجرائية لمقاربة النص الشعري الجاهلي، من خلال مدارستها لميثيوديتية الشعر الجاهلي، وبخاصة في بحثها للمكون الميثيوديني للصورة في النص الشعري الجاهلي عبر قراءة لصورة المرأة والحيوان والأجرام السماوية، مؤكدة على أن النص الشعري الجاهلي -والصورة فيه على وجه الخصوص- ذات طبيعة ميثيودينة، لذا لا يمكن أن نقارب الشعر الجاهلي إلا إذا كشفنا عن أصوله الميثيودينية.
ربما يلاحظ القارئ الكريم أننا لم نعقد فصلاً للقراءة الاجتماعية للشعر الجاهلي باعتبارها إحدى أبرز القراءات السياقية، والعلة في ذلك أننا لم نقف – حسب إطلاعنا - على قراءات جعلت من الأطروحات الاجتماعية أدوات إجراءات لمقاربة الشعر الجاهلي، وما كان منها وجدناه مبثوثاً ضمن الأطروحات النفسية والأسطورية.
وضمن بحثنا هذا حاولنا اسختلاص جملة من النتائج التي توصنا إليها، وأبرزنا الإضافات النوعية التي أغنت بها القراءة العربية الحديثة -ذات البعد السياقي- الفكر النقدي الحديث في الثقافة العربية، ومهدت الطريق إلى بروز إشكاليات جديدة، حاولت القراءة النسقية مقاربتها، وهذا ما نعتزم البحث فيه في بحث لاحق شرعنا في وضع تصور أوليٍّ لـه، حتى يكون حلقة مكملة لهذه الحلقة، يضيف إسهاماً جديداً في حقل المعرفة النقدية، وبخاصة حقل[نقد النقد].
والله ولي التوفيق
د. محمد بلوحي
***
الفصل الأول
القراءة التاريخية
1 - القراءة التاريخية (مدخل نظري)
2 – جينالوجيا (جذور) الشعر الجاهلي
3 - مصادر الشعر الجاهلي
4 – التحليل الفيلولوجي للشعر الجاهلي
1 - القراءة التاريخية (مدخل نظري):
القراءة التاريخية في الخطاب النقدي الأدبي، إحدى القراءات القديمة التي واكبت الظواهر الأدبية، وحاولت مدارستها، وتفسيرها وتدوين أخبارها ومعطياتها وأسسها، وهي تسعى إلى تفسير نشأة الأثـر الأدبي، وربطه بزمانه ومكانه وشخصياته، حرصاً منها على البعد التاريخي للظاهرة الأدبية، ولذلك نجدها في كثير من طرائقها تشبه الدراسات التي تهتم بتاريخ الأدب، إن لم نقل إن تاريخ الأدب مرحلة أولى من مراحل تجسيد القراءة التاريخية في الخطاب النقدي الحديث ، عدتها المادة التي تنحصر في الرواية والأخبار، ووسيلتها التاريخ الذي يعبر في جوهره عن الذاكرة الإنسانية بمختلف نشاطاتها المادية والفكرية، ويدرس الإنسان بوصفه كائناً لـه ماضٍ، وهذا ما يجعلنا ندرك أن التاريخ يطلعنا على أفكار الإنسان الذي ينتسب لمجتمع ما، أو حضارة ما، وأفعاله وهذا ما عبر عنه "ابن خلدون" "بحقيقة التاريخ".
تحولت هذه الصلة في العصر الحديث وفي القرن التاسع عشر تحديداً إلى حضور مكثف للتاريخي الذي اتخذ طابعاً منهجياً مؤسساً، وذلك بفضل جهود : " سانت باف"، و" تين "، و" فيلمار"، " وبرنتيار" ، و" هنيكان " و"لانسون"، متأثرين بدورها بالتاريخ الطبيعي الذي تمخض عن فلسفة العلوم الطبيعية بعامة وعلوم الأحياء بخاصة.
ركزت القراءة التاريخية على تحقيق النصوص وتوثيقها باستحضار حياة المؤلف وجيله وبيئته، كما اهتمت بشرح الظواهر الإبداعية، فعمدت إلى إبراز العوامل الجغرافية والدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية،كما سعت إلى دراسة الأطوار التي مر بها أي جنس من الأجناس الأدبية، ورصد الأقوال التي قيلت في عمل ما أو مبدعه للترجيح بينها ، ومن ثم تعمد على المرجّح من الأقوال لمعرفة العصر والملابسات التاريخية المساهمة في إنتاج ذلك العمل.
إن استناد القراءة التاريخية إلى الملاحظة والاستدلال، وكذا إلى الحس والتجربة مثلما فعلت بعض المدارس الأدبية كالبرناسية والواقعية والطبيعية النقدية، يوحي إلى الباحث أنها قد تأثرت بالفلسفة الوضعية التي أقامها " أغوست كنت A.Conte"، حيث تلح على أن المعرفة المثمرة التي تضيف إلى مسار الفكر الإنساني هي معرفة الحقائق وحدها، وأن العلوم التجريبية هي التي تزودنا بالمعارف اليقينية ، وأن الفكر الإنساني لا يستطيع أن يحمي نفسه من الزيغ في الفلسفة والعلوم، إلا إذا اتخذ التجربة منهجاً لـه ، ومن ثم يتخلى عن النزعات الذاتية التي تحتكم إلى منطق الذات، وأ ن الحقائق في ذاتها لا يمكن إدراكها ،لأن الفكر لا يستطيع إدراك ذلك وإنما لا يدرك منها سوى العلاقات ثم القوانين وذلك منهج العلوم التجريبية.
فالقراءة التاريخية لا شك أنها نبهت بقوة إلى أهمية ما هو خارج النص واستيعاب سياقاته،و بذلك تمكن أصحابه كيف يخرجون (( وينتقلون من الوقائع إلى القيم ، ومن الأبحاث المتخصصة إلى التأويلات والتركيبات))(1)، إلا أنها في الوقت ذاته أسرفت في المطابقة بين الأدب والبيئة ، وجعلته بمنـزلة الظل ينساق وراءها؛ ذلك أن هذا الربط لن يخفي بعض الوجوه في المقاربات النقدية فقط، ولكنه سيلقي عليها ظلالاً في التاريخ تلازمها ،وما أكثر ما تفسد هذه الظلال بعض حقائق الإبداعات الأدبية الأصيلة ، وما أكثر ما تخفيها أو تظهر على غير ما يجب أن تظهر عليه. وهكذا حاولت القراءة التاريخية أن تتخلص من المفاهيم الميتافيزيقية التي تسيطر على التاريخ قبل ظهور الفكر الوضعي الذي أعاد النظر في هذه التصورات الميتافيزيقية للتاريخ. إن فلسفة التاريخ التي تعمل من أجل تحديد العوامل الأساسية المؤثرة في سير الوقائع التاريخية، والقوانين العامة المسيطرة على المجتمعات الإنسانية وتطورها عبر العصور، هي الأسس نفسها التي تعتمد عليها القراءة التاريخية في التعامل مع الظواهر الأدبية، بوصفها جوهر التعبير عن روح التاريخ، لأن الإبداع الأدبي عمل حضاري يرقى إلى مستويات سامية في التعبير عن روح أي أمة، لذلك نجد الكثير من الدارسين يهتمون أيما اهتمام بالأعمال الأدبية، لدراسة تاريخ الأمم وإبراز قيمها الحضارية.
تتخذ القراءة التاريخية من حوادث التاريخ السياسي والاجتماعي وسيلة لتفسير الأدب، وتعليل ظواهره وخصائصه. وهذا المنهج لا يستقل بنفسه، فلا بد أن يكون فيه قسط من "المنهج الفني" لأن التذوق والحكم ودراسة الخصائص الفنية ضرورية في كلِّ مرحلة من مراحل المنهج التاريخي، ينضاف إلى ذلك عملها من أجل التحقق من صحة الروايات والأخبار التي تؤسس للظاهرة الأدبية، أو إحاطتها بمظاهر الشك والنحل والانتحال، خاصة إذا تعلق الأمر بدراسة ظاهرة أدبية يعتمد في بنائها على الرواية الشفهية.
فالتراث القديم في مجمله يعتمد على الرواية الشفهية التي تتباين مضامينها، ووقائعها وأحداثها. فإذا كان ما سبق محاولة للاقتراب من ماهية القراءة التاريخية وبعض سماتها وحدودها وطريقة تعاملها مع الظواهر الأدبية، فماذا عن فعاليتها وممارساتها في النقد العربي؟
تعد الدراسات التاريخية في النقد العربي من أقدم الدراسات وأعرقها نشأة وتداخلاً مع النقد الفني في كثير من القضايا ،إذ نلفي كثيراً من الأحكام النقدية تعتمد في أسسها على التصورات التاريخية. وبخاصة ما لاحظه النقاد الجاهليون والإسلاميون من تشابه بين الشعراء على المستوى العام الشعري أو في بعض المعاني الخاصة ومن ذلك نظرتهم إلى الشعراء الأربعة الجاهليين: "امرئ القيس" و"النابغة الذبياني" و"زهير بن أبي سلمـى" " و"الأعشى" على أنهم يمثلون طبقة لما يوجد في أشعارهم من قدر مشترك من السمات والخصائص.(2)
أما إذا انتقلنا إلى عصر التدوين فإننا نجد مترجمين ونقاداً كثيرين من أمثال "ابن سلاّم الجمحي" ( - 231 هـ ) و"الجاحظ" ( - 255 هـ ) و"ابن قتيبة" ( - 276 هـ ) و"أبي الفرج الأصفهاني" ( - 356 هـ) يجمعون بين التدوين والتأريخ في التعامل مع الشخصيات الأدبية والقضايا النقدية، حيث دوّنوا الظواهر الأدبية ونسبوها إلى أصحابها وذكروا المناسبات التي قيلت فيها، وكلها قضايا تمت بصلة قوية إلى القراءة التاريخية.
وقلّما خلا كتاب من كتب التراجم والنقد القديم من الملمح التاريخي الممزوج بالنقد الفني، حتى صار من الصعب على الدارس في كثير من الأحيان التمييز بين القراءتين، بل قد نجد في بعض المصادر أن الرؤية التاريخية مهيمنة على كتابات القدامى من مثل كتاب " الأغاني" الذي يثبت فيه أبو "الفرج الأصفهاني" النصوص ويرويها مسلسلة عن الرواة ويصحح بعض الروايات ويُضعِفُ بعضها، ويذكر مناسبات النصوص وما دار حولها من حوادث وروايات، ويُعرف بالشاعر وطبقته ومزاجه"؛ وقد نحا نحوه الكثير من المترجمين الذين جاءوا من بعده من أمثال "أبي علي القالي"( - 967 م) في الأمالي و"الثعالبي" ( - 1038 م) في يتيمة الدهر.
أما في العصر الحديث ومع بداية النهضة فإننا نجد أن المنهج التاريخي قد اعتُمد في جل الدراسات الأدبية العربية حيث تجلّى أوّل ما تجلى عند "حسين توفيق العدل" في كتابه "تاريخ الأدب" الذي يذهب فيه إلى أن تاريخ أدب اللغة تابع في تقسيمه للتاريخ السياسي والديني في كل آن ، لأن الأحوال السياسية أو الدينية تكون في العادة عامة ؛ فإما أن تبعث الأفكار وتحرك الميولات لمزاولة المعارف، وإما أن تكون سبباً في وقوف الحركة الفكرية في الأمة بما يلحق السياسة أو الدين من ضعف، باعتبار أن ابتداء زهو اللغة العربية وقيامها بمقتضيات الملك والسياسة إنما كان منذ ظهور الإسلام، فكان الداعي الأول الذي بعث من همم العلماء لخدمة اللغة هو الدين طلباً للوصول إلى معاني القرآن الكريم، وتعرف الشريعة السمحة... ولم تزل الهمم منصرفة إلى خدمتها والتدوين بها إلى أن انتاب البلاد الإسلامية ما انتابها من تفرق القائمين بها منذ العصور المتوسطة إلى هذا العهد ووقفت الحركة الفكرية ،وانقطع سند التعليم إلا في القليل كما انقطع تلاحق الأفكار...و على هذا رأينا أن نقسم الكلام على تاريخ اللغة العربية إلى خمسة عصور:
عصر الجاهلية – عصر صدر الإسلام – العصر الأموي – عصر الدولة العباسية والأندلس – عصر الدول المتتابعة إلى العهد الحديث.
لقد اعتمد "حسين توفيق العدل " على التقسيم التاريخي ، وهي قراءة لم تتعود عليها الدراسات النقدية العربية من قبل ، وبذلك أسس لقراءة جديدة فتحت الباب أمام الدراسات الأدبية، وتلاه نقاد آخرون تبنوا الطريقة المنهجية نفسها في الدراسات النقدية مع إضافات بسيطة ومنهم "الإسكندري" في كتابه الوسيط و"أحمد حسن الزيات " في مؤلفه تاريخ الأدب العربي و" حسن توفيق العدل " و"محمد حسن نائل المرصفي" وغيرهم من دارسي تاريخ الأدب العربي في بداية النهضة العربية الحديثة .
ظهر جيلٌ ثان حمل لواء النقد التاريخي ، حاول تطوير آليات هذه القراءة وإعطائها المرونة الكافية للتعامل مع أمهات القضايا النقدية في تلك الحقبة التاريخية،ومن بينهم "جرجي زيدان" في مؤلفه "تاريخ آداب اللغة العربية" و" طه حسين" في مؤلفيه " في ذكرى أبي العلاء المعري" و" في الأدب الجاهلي " و" أحمد أمين" في سلسلته " فجر الإسلام ، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام" ومصطفى صادق الرافعي في " تاريخ آداب العرب " وغيرهم من مؤرخي الأدب في العصر الحديث؛ حيث انكبت الدراسات على رسم المعالم التاريخية للمتون الأدبية حتى يتسنى دراستها دراسة منهجية.
تعاملت القراءة التاريخية مع النص الأدبي على أنه وثيقة تاريخية، كان ينبغي بيان صدقها التاريخي أو كذبها، ولهذا لم تلتفت إلى القيم الفنية الجمالية،و لم تقف على الإضافات النوعية التي أسدتها الظواهر الأدبية لحركة الإبداع ، فلم تبحث في النص من حيث شكله الفني، ومعماريته الجمالية ، وتشكيله الإيقاعي، فاهتمت اهتماماً بالغاً بتاريخية الظواهر الإبداعية، ومرد ذلك إلى التأثير الكبير للتفكير الوضعي والنـزعة التجريبية في الدراسات الأدبية، التي تجلى تأثيرها في النقد العربي الحديث "بتين" و"سانت بيف" و"برونتير" ثم تلاه "غوستاف لانسون".
لا يعني هذا أن النقاد التاريخيين العرب كانت لهم تصورات علمية لفلسفة التاريخ ، كما أنهم لم يرتبطوا بمفاهيم صارمة لتاريخ الأدب المرتكز على الأسس المعرفية للبحث العلمي الخالص ، لهذا ألفينا " طـه حسين " حريصاً على إبراز دور الذوق بوصفه عاملاً من العوامل التي يعتمد عليها المؤرخ للأدب في دراسة ظاهرة من الظواهر. حيث يقع تاريخ الأدب وسطاً بين موضوعية العلم وذاتية الأدب؛ (( لأن تاريخ الأدب لا يستطيع أن يعتمد على مناهج البحث العلمي الخالص وحده ، وإنما هو مضطر معها إلى الذوق ، هو مضطر معها إلى هذه الملكات الشخصية الفردية التي يجتهد العالم في أن يحلل منها ، فتاريخ الأدب إذن أدب في نفسه من جهة لأنه يتأثر بما يتأثر به مأثور الكلام من الذوق وهذه المؤثرات الفنية المختلفة .و تاريخ الأدب علم من جهة أخرى ، ولكنه لا يستطيــع أن يكون بحثاً" موضوعياً" " OBJECTIF " كما يقول أصحاب العلم ، وإنما هو بحث " ذاتي " " SUBJECTIF " من وجوه كثيرة. هو إذن شيء وسط بين العلم الخالص والأدب الخالص ، فيه موضوعية العلم، وفيه ذاتية الأدب ))(3). وهذا ما يدل على وعي القراءة التاريخية بقصور إجراءاتها في مقاربة النص الأدبي، وعلى الرغم من أن "طـه حسين" يؤكد دور الذوق ، إلا أننا لم نلمس عنايته بالقيم الفنية في جل دراساته للثرات الأدبي العربي. وإنما اهتم بالظواهر الإبداعية من حيث هي ظواهر تاريخية خالصة.
كان للقراءة التاريخية أهمية علمية في التوثيق للظواهر الإبداعية من حيث نشأتها ومواصفاتها، ومن حيث أخبار مبدعيها وما أضاف لها الرواة من خيالهم المتمثل في تلك القصص القريبة من إبداع الخيال أكثر من أن تكون حقائق تاريخية، بالإضافة إلى انكبابها على جمع التراث الإبداعي وبخاصة الشعري، وتحقيقه تحقيقاً علمياً وفر المجال العلمي الخصب للقراءات اللاحقة وبخاصة القراءة النفسية والاجتماعية لتطبيق الكثير من مقولاتها على هذا التراث؛ وبذلك فهي مدينة بالشيء الكثير لهذه الرؤية التاريخية.
إن تطوَّر المعرفة بحكم ما استجد في البحث العلمي، وتطعيم النقد الأدبي بمعطيات العلوم الإنسانية في التعامل مع الكثير من الظواهر الإبداعية وبخاصة التراثية منها كالشعر الجاهلي، وعلى وجه الخصوص علم النفس، وعلم الاجتماع، أدى إلى تجاوز القراءة التاريخية إلى مناهج سياقية أخرى، وبخاصة النفسية منها، نظراً لما توافر لها من تراكمات معرفية، وأدوات إجرائية، حوَّلت الكثير من المفاهيم النظرية التي تفرعت عن مدارس علم النفس، وعلم الاجتماع المختلفة إلى أدوات نقدية، وجدت فيها القراءات السياقية ميداناً رحباً في مجال التفسير.
كان الشعر الجاهلي من الموضوعات التراثية التي وجدت فيها القراءة العربية ذات المنحى التاريخي الميدان الخصب لتطبيق الكثير من رؤاها ومقولاتها، وأدواتها الإجرائية، نظراً لخصوصية طابعه من حيث البيئة التاريخية والاجتماعية والسياسية والثقافية التي نشأ فيها، بوصفه أحد المنابع التي نهلت منها الثقافة العربية عبر عصورها المختلفة، وبشتى اتجاهاتها.
يتميَّز الشعر الجاهلي بهذه الخصوصية التي جعلت منه حقلاً رحباً لكثير من المقاربات ذات المنحى السياقي أو النسقي، والقراءة التاريخية إحدى المقاربات التي انكبت على رسم المعالم الوثائقية للشعر الجاهلي، فانبرت إما مدافعة عنه بمدارستها لجملة الظواهر والإشكالات التي أثيرت من حوله، ساعية بكلِّ ما أوتيت من جهدٍ من أجل الإحاطة بها وفق منهج علميٍّ مؤسس، أو مشككة في جوانب كثيرة من أسباب وجوده، والمحيط الذي أنتجه، والطرق التي اعتمد عليها في نقله، والرجال الذين عملوا من أجل توثيقه ونقله من الطابع الشفهي إلى طابع كتابي موثق.
ومن جملة القضايا التي ناقشتها القراءة التاريخية الحديثة وهي تتعامل مع الشعر الجاهلي قضية " أولية الشعر الجاهلي" و" مصادر الشعر الجاهلي" و" التحليل الفيلولوجي للشعر الجاهلي"، التي سنحاول في هذا الفصل معالجة الأطروحات التي تبنتها هذه القراءة في مدارستها لهذه القضايا الثلاث، والأدوات الإجرائية التي اعتمدت عليها في الطرح والمناقشة، مركزين على عيِّنات منها، نظراً لكثرة الأسماء والمؤلفات التي تناولت هذه القضايا، ومنها:
مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب، وجرجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية، وناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، وإحسان سركيس: مدخل إلى الأدب الجاهلي، وبدوي طبانة: معلقات العرب دراسة نقدية تاريخية في عيون الشعر الجاهلي، والأمير شكيب أرسلان: الشعر الجاهلي أمنحول أم صحيح النسبة، ونجيب محمد البهبيتي: المعلقات سيرة وتاريخا،و سيد حنفي حسنين: الشعر الجاهلي دراسة مراحله واتجاهاته الفنية "دراسة نصية"، وصلاح مصيلحي عبد الله: العبث والانتحال في الشعر العباسي، وعلي الجندي: في تاريخ الأدب الجاهلي، ومحمد أحمد الغمراوي: النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي، وعفت الشرقاوي: دروس ونصوص في قضايا الأدب الجاهلي، وحسين عطوان: مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي، وسعد ظلام: من الظواهر الفنية في الشعر الجاهلي، وفتحي أحمد عامر: في مرآة الشعر الجاهلي دراسة فنية تحليلية مقارنة، ومحمد عبد المنعم خفاجي: دراسات في الأدب الجاهلي والإسلامي، ومحمود محمد شاكر: المتنبي "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، وغيرها كثير من الدراسات، وقد وقع الكثير منها في التكرار والترديد لنفس المادة التاريخية حتى لتجد نفسك تدور من حول نفس المادة العلمية وأنت تقرأ أكثر من مؤلف، وهذا ما جعلنا ننتهج في التعامل مع القضايا التاريخية التي أثارتها هذه الدراسات آلية الوصف كآلية من آليات البحث، مع التحليل والمقاربة عندما نرى في ذلك ضرورة علمية، حتى نقف على خصوصية بعض النتائج التي توصل إليها هذا البحث أو ذاك.
2 - جينالوجيا (جذور) الشعر الجاهلي:
إن بداية ظهور الفن بعامة والشعر بخاصة عند الإنسان قضية موغلة في القدم، لا يمكن الجزم فيها بحكم، ولا سيما أن الأدلة المادية قليلة، أو منعدمة في بعض المواطن، فإذا أراد الباحث أن يقارب تراثاً شعرياً كتراثنا الجاهلي - اعْتُمِد في الحفاظ عليه على الرواية الشفهية التي تنازعتها الأهواء والعصبيات - سيصطدم أول ما يصطدم بتباين الآراء والقراءات وتضاربها، وكل قراءة تدعي لنفسها ملك حقيقة الفصل في قضية بداية ظهور الشعر الجاهلي.
اختلف القدماء من الرواة والمدونين والنقاد في أولية الشعر الجاهلي، وألقت هذه القضية بثقلها على القراءات الحديثة، بل وجدت فيها كثيراً من الأقلام ميداناً يجب التمحيص فيه والتدقيق، بالعودة إلى المصنفات التراثية، بل وإلى الكتب المقدسة علّها تجد نصوصاً تقوي بها حجتها وتدعم بها مذهبها.
يرجع اختلاف القدماء في هذه المسألة بالأساس إلى الزخم الذي واكب عملية التدوين في العصر العباسي، والذي كان يهدف من ورائها دارسو الشعر الجاهلي إلى تدوين أكبر قدر ممكن من الأخبار والأشعار قبل اندثارها بذهاب حامليها من الرواة، فلم يمحصوا الصحيح فيه من الموضوع، لأن هدفهم كان الجمع أولاً ثم التمحيص ثانياً، وذلك بخلاف تدوين الحديث النبوي الشريف الذي راعى فيه المحدِّثون مقاييس جنَّبت كثيرا تدوين ما وضع على رسول الله كذباً وذلك من أجل المحافظة على المصدر الثاني من مصادر الشريعة الإسلامية. كان القصد من وراء تدوين أخبار شعراء الجاهلية وشعرهم المحافظة على اللغة الصحيحة لوضع قواعدها، وضبط أحكامها، وكان هذا الاهتمام بالتدوين يقع في الدرجة الثانية إذا ما قورن بمسألة الحديث النبوي التي تتعلق بالشريعة، بل كان بعض الرواة والمدونين من ينظر إلى مسألة تدوين أخبار الشعراء الجاهليين وأشعارهم على أنه من قبيل الترف الفكري الذي لا يرقى إلى مسألة تدوين الحديث النبوي الشريف.
لقد فصل بعض القدماء في مسألة أَوَّلية الشعر العربي، فذهبوا إلى أن عمره يمتد بين القرن والقرنين قبل ظهور الإسلام على أكثر تقدير، إذ نجد الجاحظ يقرر أن عمر الشعر العربي قصير بالمقارنة مع عمر الإنسانية السحيق. فهو ((حديث الميلاد، صغير السن، أول من نهج سبيله، وسهل الطريق إليه، امرؤ القيس بن حجر، ومهلهل بن ربيعة ... فإذا استظهرنا الشعر، وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام - خمسين ومائة عام -، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام))(4)،أما ابن سلام الجمحي فيما يرويه عن عمر بن شبة أن (( للشعر والشعراء أولٌ يوقف عليه، وقد اختلف في ذلك العلماء، وادعت القبائل كل قبيلة لشاعرها أنه الأول ... فادعت اليمانية لامرئ القيس، وبنو أسد لعبيد بن الأبرص، وتغلب لمهلهل، وبكر لعمر بن قميئة والمرقش الأكبر، وإياد لأبي دؤاد ... وزعم بعضهم أن الأفوه الأودي من أقدم هؤلاء، وأنه أول من قصد القصيد، قال : وهؤلاء النفر المدعى لهم التقدم في الشعر متقاربون، لعل أقدمهم لا يسبق الهجرة بمائة سنة أو نحوها ))(5)، ولم تقتصر الإشارة إلى هذه المسألة عند هذين العلمين، بل نجد أن جل الرواة قد ألمحوا إليها في مصنفاتهم ضمن أخبارهم أو تعاليقهم، ولكنهم أشاروا إلى المسألة دون الخوض والتمحيص فيها والتقليب في مضمونها.
يدرك المتأمل في هذه الروايات والأخبار أن جلها يتفق على فترة التأريخ لعمر الشعر الجاهلي ما بين القرن والقرنين كبداية للشعر العربي، وهذا ما جعل المستشرق كارل نالينو ينتصر لقول الجاحظ ومن ذهب مذهبه من (( العلماء العرب الذين قالوا بمدة مائة وخمسين سنة تقريباً للشعر الجاهلي، لم يبعدوا عن الصواب إذا فرضنا أنهم أرادوا بذلك ما وصل إلينا من الأشعار القديمة ))(6). إن هذه الإشارة الأخيرة في النص يقرن فيها فرضية هذا المنحى بفرض أن هذا الاتجاه صائب إذا أراد به أصحابه ما وصل إلينا من الأشعار القديمة، أما إذا أخذنا بما لم يصل إلينا، فذاك ما يفتح باب القول بأن المدة التي أشارت إليها المصنفات القديمة والتي ذكرنا بعضها فيما سبق غير دقيقة وغير معبرة عن أوليات الشعر العربي القديم.
فالتضارب الذي وسم مواقف الكثير من القدماء من إشكالية أوَّلية الشعر العربي هي التي فتحت المجال أمام الكثير من المستشرقين لإبداء تحفظ كبير حيال الجزم في هذه الإشكالية، والقول بأنه (( ليس من الواضح متى بدأ العرب في نظم الشعر، فبعضهم يرجعه إلى آدم، والبعض يدعي تقديم قصائد عن إسماعيل، وعلى الرغم من أن ملوك جنوب الجزيرة العربية أَلَّفُوا نقوشهم بلغاتهم ولهجاتهم، فإن الأشعار التي اهتموا بنظمها، حسبما يقول الأثريون المسلمون، إنما كتبت بالعربية التي كتب بها القرآن، لكــن يبدو أن الرأي العام يقرر أن الشعر العربي - على الشكل الذي استقر عليه فيما بعد - بدأ قبل ظهور الإسلام ببضعة أجيال قليل))(7). فالشك هو المقياس الأساس الذي تبناه المستشرقون منذ البداية في التعامل مع هذه الإشكالية التي اعتمدت جل أطروحاتها على موروث استعان في نقله له على الرواية الشفهية التي لا ترقى إلى مقام الدليل الموثق سنداً، أو مادياً بواسطة الكشوف الحفرية أو المخطوطات الموثقة.
إذا كانت بعض الدراسات العربية الحديثة تسعى جاهدة إلى القول بأن جذور الشعر العربي موغلة في القدم، فإن كثيراً من المستشرقين وبخاصة مرجوليوث على وجه الخصوص الذي حاول إثبات أن البداية الحقيقية للشعر العربي إنما ظهرت بعد الإسلام لا قبله (( والكمية الهائلة من النقوش التي ترجع إلى ما قبل الإسلام والتي نملكها الآن مكتوبة بعدة لهجات، ليس فيها شيء من الشعر... ولا يمكن أن تستنتج من النقوش العربية أنه كانت لدى العرب أية فكرة عن النظم أو القافية، على الرغم من أن حضارتهم في بعض النواحي كانت متقدمة جداً... فإن كان القرآن يتحدث عن الشعر على أنه شيء يحتاج إلى تعلم، فمن المعقول أن نفترض أن يشير إلى تلك الصنعة التي تستلزم العلم بالأبجدية؛ لأن القافية العربية تقوم في تكرار نفس المجموعة من الحروف الساكنة، والعلم بنظام نحوي، لأن النظم يتوقف على الفارق بين المقاطع الطويلة والقصيرة، وارتباط بعض النهايات ببعض المعاني. فيمكن إذن أن يكون ما يشهد عليه القرآن هو أنه قبل ظهوره كان بين العرب الكهان المعروفين بأنهم "شعراء"؛ ومن المحتمل أن لغتهم كانت غامضة، كما هي الحال لأي ألوان الوحي ))(8). وهذا الاستنتاج يقوم على قاعدة فيلولوجية طبقها المستشرقون في دراستهم للشعر العربي القديم.
فمفهوم الشعر والشعراء في الجاهلية والملتبس بكلام وتعاويذ الكهان، وما كان يصدر عنهم من كلام مسجوع مبنيٍّ على نغمٍ موسيقيٍّ متجانس وإيقاع متناغم يتداخل في كثير من الصفات مع الإيقاع الشعري الجاهلي هو الذي خَيّل لمرجوليوث وجعله يقرّ ويؤكد أن الذي نَصَّ عليه القرآن من شعر ما هو إلا سجع الكهان، وشتان بين ما هو شعر وما هو سجع للكهان، وأنهما جنسان وإن التقينا في بعض الخصوصيات التعبيرية فإنهما يختلفان في الكثير منها، لذلك فإن مذهب مرجوليوث يحتاج إلى سند علمي يؤكده، وإلا كان الحكم مبنياً على فرضيات تخمينية لا تجد من النصوص ما تشد به عضدها.
إن إشارة المستشرق كارل نالينو فتحت الباب أمام القراءة العربية الحديثة لتتجاوز الروايات والأخبار القديمة، وتؤسس لقراءة تذهب إلى أن أولية الشعر العربي القديم موغلة في القدم، بل القول أن أول شاعر عربي كان نبياً، وذلك إشارة إلى سيدنا إسماعيل عليه السلام، فنجد نجيب محمد البهبيتي يعنون الفصل التاسع من مؤلفه [الشعر العربي في محيطه التاريخي القديم] بأن أبا الشعر العربي الأول نبيٌّ وهو إسماعيل أبو الشعر العربي، نشأ بعمله في العاربة، واتخذ أول أشكاله على صورة أناشيد يتغنى بها المصلون في صلاتهم بالمعبد، ينظمها لهم إمامهم الديني الذي تولى قيادتهم الدينية بعد أن ترك أبوه له رعايتهم وتعليمهم دين التوحيد الجديد ... ولذا وجد إسماعيل نفسه مسؤولاً عن الصغيرة والكبيرة فيه فهو الإمام، وهو ناظم الأناشيد، وهو مرتلها، والمصلون من ورائه يرددون، والصلاة في المعابد الأولى كلها كانت أناشيد منظومة، تُغنى وتصحبها الموسيقى وإسماعيل هو الموجه لهذا كله، وهو القائم به وعليه. وقد أكسب هذا الماضي الأول الشعر قدسية النبي التي لزمته حتى آخر العهد الجاهلي حتى إن العرب الذين لقنوا هذا المعنى في تاريخهم كله لما تقدم إليهم النبي بالقرآن باعتباره وحياً من الله قالوا لـه: بل هو شعر مثل الذي كان يُوحى من قبله للشعراء، فشأنه فيما أوحي إليه شأن غيره من الشعراء فيما يوحى إليهم: أي يدافعونه عن ملك ظنوه طالبه؛ وهي قراءة تنطلق من فرضية تحتاج إلى أدلة موثقة تعضد به ما تذهب إليه، لأن مسألة نسبة بداية الشعر العربي القديم إلى إسماعيل عليه السلام تحتاج إلى ترو وتمحيص دقيق حتى لا نبني أحكاماً علمية بهذه الأهمية على فرضيات غير مؤسسة.
يربط البهبيتي قدسيَّة الشعر عند العرب بالاعتقاد الذي كانت العرب تعتقده من أن الشاعر كان يقوم في قومه مقام النبي، ويحتج بقول أبي عمرو بن العلاء الذي يرويه أبو حاتم الرازي في الزينة؛ بحيث كان الشعراء في الجاهلية يقومون من العرب مقام الأنبياء في غيرهم ، ويبني عليه البهبيتي حكماً يلتبس فيه عليه بين ما هو شعر وما هو وحي، وحجته في ذلك قراءة رواية أبي عمرو بن العلاء دون المساس من دلالتها الأساسية أو جوهرها بشيء؛ وبذلك يذهب (( إلى القول بأن الذين كانوا يقومون في العرب مقام الأنبياء في الجاهلية كانوا ينورون لهم طريقهم، ويوسعون لهم آفاقهم بالشعر الذي كان العرب ـ شأنهم في هذا شأن العالم القديم ـ يرونه إلهاماً يتنزل على الشاعر من وحي قوة قدسية تختار الشاعر من بين الناس لتهب له من العلم ما تصطفيه به دونهم. فهو كيان مقدس يلتف على قوة مقدسة تتحكم فيه، وتعتلج بقلبه، وتفور به، فيهيج على لسانه قولاً منسجماً مستوياً مواجاً، ينتقل أثره إلى قلب سامعه، فيتجاوب القلبان بالأصل ورجع صداه ويمتزج النفسان بمعنى واحد، وكأنهما كيان واحد ))(9)، وتلك موازنة عجيبة من البهبيتي بين ما هو وحي وما هو شعر، وكأننا به لا يفرق بين مصدر كل واحد منهما، بل ويجعل كليهما من مصدر بشري، وذاك ما يدعو إليه الاستقراء، لأن مصدر كل منهما معروف لدى العام والخاص، ولا حاجة لنا بالتفصيل فيه، فالنبي موحى إليه لا دخل له في ما يوحى إليه إلا من جهة التبليغ، أما الشاعر فهو المبدع الخلاق لما يقوله، أما إذا كان يصطلح ويستعمل لفظي النبوة والوحي على غير ظاهر معناهما، بل على دلالة أدبية تنـزاح فيها اللفظة عن معناها الأصلي إلى معنى ثان يراد به الإلهام والتفرد قياساً لما ورد في قول النبي (صلى الله عليه وسلم ) لما سمع قول الشاعر الجاهلي:
سَتُبْدِي لَكَ الأَيَامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً
ويَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوَّد
فقال:(( هذا من كلام النبوة ))(10)، فذاك رأي مؤسس، لأن اللفظة تأخذ دلالاتها بحسب المعنى الذي يقصد إليه.
يحاول البهبيتي أن يؤسس لرأيه القائل بأن الشعر العربي منبعه إسماعيل عليه السلام، ويورد ما أورده ابن رشيق في العمدة (( حكى أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين النيسابوري أن كعب الأحبار قال لـه عمر بن الخطاب وقد ذكر الشعر: يا كعب هل تجد للشعراء ذكراً في التوراة ؟ فقال كعب : أجد في التوراة قوماً من ولد إسماعيل، أناجيلهم في صدورهم ينطقون بالحكمة، ويضربون الأمثال، لا نعلمهم إلا العرب ))(11)، وانطلاقاً من هذا النص يصبو البهبيتي إلى التأسيس لطرحه السابق، وبعد قراءة نص ابن رشيق ومناقشته مناقشة مستفيضة يخلص في النهاية إلى أن الشعر العربي الأول نشأ في حضن المعبد، وكان نبعه إسماعيل. وهذا هو سر ارتفاع الشعر في معيار القيمة حتى يمس القدسية باعتباره فتحاً من فتوح إسماعيل، وهو سر ارتقاء الشعراء إلى منزلة تضعهم عند العرب موضع الأنبياء في غيرهم من الأمم، وتصير أشعارهم في صدورهم بمنزلة أناجيل الأنبياء في أسفارهم ، وهي نتيجة تبرر علو منـزلة الشعر والشعراء عند العرب في الجاهلية، وتفصح عن جانب من سر اهتمامهم بهذا الفن من القول حتى سموا ما جاد منه بالمعلقات، فعلقت في صدوهم ورووها أباً عن جدّ حتى وصلت إلينا، لكن الذي ينقص رأي البهبيتي؛ النصوص الموثقة التي يعتمد عليها في مثل هذا الطرح، حتى يرقى إلى درجة الطرح العلمي المؤسس، وإلا بقي مجرد افتراض يجد الآخذ به نفسه في نهاية الأمر كمن يجري وراء سراب بقيعة يحسبه ماء حتى إذا وصل إليه لم يجد شيئاً.
إن كنا لا ننفي نشأة الشعر عموماً وعند العرب خاصة نشأة دينية، ونرى في هذا الرأي جانباً من الصحة، ولكنه لا يرقى إلى درجة اليقين، خاصة وأننا نبحث في مسألة لا نملك عليها من الأدلة الموثقة الشيء الكثير، بل ما زالت ميداناً خصباً للبحث والتنقيب، معتمدين في ذلك على العلوم الحفرية، علنا نجد ما يفسر كثيرا من جوانب مسألة أولية الفن عامة عند العرب والشعر بخاصة. وهذا ما جعل بروكلمان يقر بصعوبة الفصل في مسألة أولية الشعر عند العرب، فشعر العرب كان -حسب تصوره- (( فناً مستوفياً لأسباب النضج والكمال، منذ ظهر العرب على صفحة التاريخ، ولا تستطيع رواية مأثورة أن تقدم لنا خبراً صحيحاً عن أولية الشعر، وإذاً فلا يسعنا إلا أن نستخلص من الملابسات المشابهة عند شعوب بدائية أخرى نتائج معينة يمكن تطبيقها أيضاً على العرب، إذا قدمت الأحوال الممكن التعرف عليها عند هؤلاء نقاطاً يعتمد عليها في ذلك ))(12).
بذلك يأخذ بروكلمان بمنهج تطبيق الملابسات المشابهة التي وجدت عند الأمم البدائية الأخرى لاستخلاص فرضية حول أولية الشعر عند العرب، مشيراً إلى صعوبة الفصل في هذه المسألة لانعدام الرواية المأثورة التي تقدم الخبر الصحيح الذي يفصل في القضية، وبذلك يؤكد لنا أن أي قول يذهب إليه أي باحث في هذه المسألة هو قول احتمالي لا يقيني، خاضع لمبدأ الأخذ والرد، ولكن على الرغم من هذه الإشارة المبكرة لبروكلمان إلا أن كثيراً من القراءات العربية الحديثة خاضت في هذه المسألة محاولة في بعض الأحيان القول فيها بلغة الجزم، وفي بعض الأحيان الأخرى بلغة الاحتمال.
إن ارتباط الشعر بالحياة العامة للعرب منذ القدم جعل بعض القراءات تربط أولية الشعر الجاهلي بالكثير من المحطات الهامة في حياة الأمة العربية في سيرورة تاريخها الطويل، خاصة وأنها كانت أمة تقطن في موطن لزمته الكثير من الظواهر الطبيعية وما ينتج عنها من آثار أخلاقية واجتماعية وسياسية، كان على العربي الاهتمام بها أيما اهتمام حتى يوفر لنفسه أسباب البقاء، ومن أهمها الماء والكلأ وخصوبة الأرض، والدفاع عن النفس والحياض.
يشير جواد عليّ إلى أن أوَّلية الشعر الجاهلي لا يمكن أن نقر ببدايتها بنحو قرن أو قرنين قبل ظهور الإسلام كما ذهبت إلى ذلك رواية الجاحظ وغيره، ويصف ذلك بالخطل في الرأي، والفساد في الحكم، إذ يؤكد أن (( الشعر أقدم من هذا العهد بكثير، وقد أشار المؤرخ (سوزيموس) zosimus إلى وجود الشعر عند العرب، وهو من رجال القرن الخامس للميلاد، إلى تغني العرب بأشعارهم، وترنيمهم في غزواتهم بها، وفي إشارته إلى الشعر عند العرب دلالة على قدم وجوده عندهم، واشتهاره شهرة بلغت مسامع الأعاجم، فذكره في تاريخه. في سيرة القديس (نيلوس ) Nilus المتوفى حوالي سنة 430 بعد الميلاد، أن أعراب طور سيناء كانوا يغنون أغاني وهم يستقون الماء من البئر،... والأشعار المرويَّة في كتب التواريخ والأدب عن حفر آبار مكة وغيرها من هذا القبيل، فقد روي أن ( عبد المطلب ) لما حفر بئر (زمزم)، قالت (خالدة بنت هاشم ):
نَحْنُ وَهَبْنَا لِعَدِيِّ سِجْلَهُ
في تُرْبَةٍ ذَاتُ غَذَاةٍ سَهْلَةٍ
تُرْوِي الحَجِيجَ زَعْلَةً فَزَعْلَةً
و أن عبد شمس قال:
حَفَرْتُ خَمًّا وحَفَرْتُ رَمًّا
حَتَّى أَرَى المَجْدَ لَنَا قَدْ تَمَّا ))(13).
كما يورد نصوصاً كثيرة في التغني بالماء وحفر الآبار. والماء من المصادر الأساسية التي ألبسها العربي القديم لبوس القدسية لما لحياته وحياة الخلق من حوله من ارتباط بوجودها، من هنا يمكن ترجيح الرأي الذي ينتصر إلى ربط أولية الشعر عند العرب بحفر الآبار واستخراج الماء، لذا نجد في كتب السير شعراً قيل في حفر بئر زمزم، وفي آبار أخرى، مما يدل على أن العرب كانوا قبل هذا العهد، إذا حفروا بئراً، قالوا شعراً فيها، وهو شعر يمكن أن نسميه شعر الآبار، وهو يعود ولا شك إلى عرف قديم، قد يتقدم على الميلاد بكثير، وهو يجب أن يكون من أقدم ما قيل من شعر، لما للبئر من أهمية في حياة العرب، وبذلك يفصل جواد علي في ربط مسألة أوَّلية الشعر الجاهلي بالبحث عن الماء، فيذهب - بخلاف البهبيتي - إلى إرجاع أولية الشعر عند العرب إلى التغني بالماء وبوجوده، لما للماء ومصادره من أهمية بالغة في حياة العربي في صحراء قاحلة وجود الماء فيها أهم من العبادة والمعابد، وهو رأي تؤسس لـه النصوص الشعرية المأثورة والتي أورد البعض منها اعتماداً على ما ورد في فتوح البلدان، والروض الأنف، وسيرة ابن هشام وغيره من المصادر التراثية التي اهتمت بالموضوع وما ورد فيه من أشعار مأثورة، وإن كانت لا تشكل قصائد مطولة وإنما البيت أو البيتين، لأن العربي في ذلك الوقت لم يكن مهيأ لقول القصائد الطوال، ولكن على الرغم من هذه الأبيات الشعرية القليلة التي تظهر وأنها نُتف شعرية، إلا أنها تشكل نصوصا مؤسسة يمكن الاعتماد عليها في التأريخ لأولية الشعر العربي.
لم تقصر القراءة الحديثة القول في البحث عن أوَّلية الشعر الجاهلي وبخاصة عند جواد عليّ على ما ورد في الماء من أشعار بل ذهبت إلى القول بأن أولية الشعر عند العرب ارتبطت بالحياة اليومية في سلمها وحربها، معاشها ومعادها، إذ لم يقتصر التغني بالشعر على حفر الآبار وحدها، وإنَّما تغنى به عند بنائهم بناءً أو حفرهم خندقاً، أو إقامتهم سوراً، أو قيامهم بزرع أو حصاد، وفي أعمال أخرى يناط القيام بها إلى جماعة في الغالب، وكذلك في الغارات وفي الحروب، ورووا أن من الشعراء الجاهليين من كان يتغنى بشعره، وأن حسان بن ثابت أشار إلى التغني بالشعر بقوله :
تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا كُنْتَ قَائِلُهُ
إِنَّ الغِنَاءَ لِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ
و لا بد أن تكون في الأهازيج وفي أشعار الحج، أنغام يرنم على وقعها الشعر، الذي هو شعر الغناء. فإننا نجد في النتف الباقية من الجمل التي يقولها الحجاج في أثناء حجهم، آثار شعر كان مقروناً بالغناء. ونظراً لوجود تماس مباشر بين هذا الشعر وبين الحياة العامة، فإن في استطاعتنا القول أنه قد يكون من أقدم أنواع الشعر عند العرب، وهو شعر لم ينبع من ألسنة الشعراء المحترفين، وإنما خرج على كل لسان، وساهم فيه كل شخص : رجل وامرأة، مثقف وجاهل، حكيم وسوقي. وهو بعد نابع من صميم الحياة، ومن باطن القلب، للترفيه عن النفس، ولتخفيف التعب، ومازال الناس يتغنون عند وقوع مثل هذه الأمور لهم، وهو غناء لم يحظ ويا للأسف بالرعاية والعناية، لذلك لا نجد له ذكراً في الكتب إلا في المناسبات، وهي قراءة نجد أصولها فيما يذهب إليه كارل بوخر K.Bucher في مؤلفه العمل والنغم والذي أشار إليه كارل بروكلمان فأورد فيه خلاصة رأي بوخار الذي يذهب فيه إلى ((أن حركات العمل الطبيعية المنتظمة، لاسيما حركات العمل الجماعي، كانت تحث من تلقاء نفسها على التغني بأغان موزونة مصاحبة للعمل وميسرة لـه تيسيراً نفسياً. وقد رويت لنا عن العرب أيضا مثل هذه الأغاني التي تصحب العمل))(14). وهو ربط لأولية الشعر عند العرب بالثقافة الشعبية والأصول الأنثروبولوجية.
تمثل الثقافة الشعبية عند الكثير من الدارسين - وبخاصة عند المهتمين بالدراسات الشعبية والأنثرولوجية - المهد الأول للفن بعامة والشعر بخاصة، لا سيما عند أمة كالأمة العربية وعمق ارتباطها بالشعر كفن قولي، لأنه كان المناسب لأمة ترتحل أكثر مما تستقر، وهي قراءة تحمل الكثير من الجوانب التي تؤسس لمذهبها إذا ما راعينا إيغال القضية في القدم، وقلة الأدلة المادية التي تقطع دابر الشك باليقين، وبذلك لا يجد الدارس لمثل هذه القضايا إلا الافتراض والبناء على بعض الأدلة الشفوية خاصة ما تعلق منها بالعادات والتقاليد المأثورة عن الأمة العربية والتي توارثتها الأجيال أباً عن جَدٍّ مشافهة، وتعلق بها العام والخاص، المثقف والجاهل، الحكيم والسوقي، الرجل والمرأة، فأصبحت ممارسة يومية للترويح عن النفس من عناء الحياة ومتاعبها.
فالقول بشعبية أوَّلية الشعر العربي قول يرتاح له الباحث باعتبار أن الفن عامة والشعر خاصة لم يولد متكاملاً في بنيته الخارجية والداخلية كما وصل إلينا في معلقاتهِ وإنما سبقته محاولات متكررة انفرادية وجماعية حتى استوى على عوده بالشكل الذي وصل إلينا في معلقاته وغيرها من القصائد والمقطوعات التي زخرت بها المصنفات الأدبية القديمة.
إن ربط جواد عليّ أوّلية الشعر العربي بالأناشيد والغناء المتصل بالحياة اليومية للعربي، جعله يلمّح إلى إمكانية ربط أولية هذا الشعر بالطقوس السحرية كما يربط ذلك الغربيون، لأن بين الشعر والسحر صلة كبيرة، بل رأى البعض منهم أن الغرض الذي قصد إليه من الشعر في الأصل هو السحر، ودليل ذلك أن الغناء عند الشعوب البدائية، ليس متسقاً مع نغم العمل وإيقاع اليد العاملة، فنجد الغناء عند البناء أو الجر أو الحفر، أو الزرع لا يتسق مع نوع حركة العمل، وإنما كان يسلي العمال ويسعفهم بقوى سحرية، وهو الغرض من جميع فن القول عند البدائيين، أي تشجيع العمل بطريق سحري ، وهي قراءة تستمد أصولها من القراءة التي ذهب إليها ( برويس ) Preuss في كتابه الحضارة العقلية عند الشعوب البدائية ـ والتي أوردها بروكلمان في مؤلفه السالف الذكر كذلك ـ إذ يرى أنه ((افتراض لا يقوى على النهوض أمام الحقائق الثابتة في علم الأجناس البشرية، وليس بمقنع لتفسير ما وجده الباحثون عند الأمم البدائية، فإن آثار الغناء المصاحب لحركات العمل الإيقاعية المنتظمة قليلة نادرة، على حين تصاحب الأغاني في كلِّ مكان من الأرض أعمالاً غير مرتبطة بنظم الإيقاع، كالغزل والحياكة، والجدل، مما لا يمكن أن يشتمل على وحدة إيقاعية؛ فلم يكن الغناء في مثل هذه الأحوال متسقاً مع نغم العمل تسهيلاً لـه كما تقدم، وإنما كان الغناء يسلي العمال ويسعفهم بقوى سحرية. وإذا فلا بد أن يكون الغرض الذي قصد إليه الشعر في الأصل، ما دام لم يكن مقصوداً منه مجرد المسامرة، هو الغرض من جميع فن القول عند البدائيين، وتشجيع العمل بطريق سحري ))(15)، حتى يجعل من العامل عاملاً منتجاً.
يرى بروكلمان أن المنحى السحري للشعر عند العرب لم يتجل في كل الأغراض الشعرية، بل ظهر في غرض الهجاء دون سواه فمن قبل أن ينحدر الهجاء إلى شعر السخرية والاستهزاء، كان في يد الشاعر سحر يقصد به تعطيل قوى الخصم بتأثير سحري. ومن ثم كان الشاعر، إذا تهيأ لإطلاق مثل ذلك اللعن، يلبس زياً خاصاً شبيهاً بزي الكاهن. ومن هنا أيضاً تسميته بالشاعر، أي العالم، لا بمعنى أنه كان عالماً بخصائص فن أو صناعة معينة، بل بمعنى أنه كان شاعراً بقوة شعره السحرية، كما أن القصيدة كانت هي القالب المادي لذلك الشعر، وبذلك نجد بروكلمان يقصر ارتباط أولية الشعر عند العرب بالسحر في غرض الهجاء، وفي المرحلة الأولى لظهور هذا الغرض عند العرب، أما جواد عليّ فيعمم ذلك على الشعر الذي كان يصاحب العمل، وبذلــك ينتصـر لرأي (برويس Preuss).
أما مرجليوث فينفي وجود الشعر عند العرب ولو كان موجوداً لأُثّر في ((الكمية الهائلة من النقوش التي ترجع إلى ما قبل الإسلام والتي نملكها الآن مكتوبة بعدة لهجات، ليس فيها شيء من الشعر ... ولا يمكن أن نستنتج من النقوش العربية أنه كانت لدى العرب أية فكرة عن النظم أو القافية، على الرغم من أن حضارتهم في بعض النواحي كانت متقدمة جداً... فإن كان القرآن يتحدث عن الشعر على أنه شيء يحتاج إلى تعلم، فمن المعقول أن نفترض أنه يشير إلى تلك الصنعة التي تستلزم العلم بالأبجدية، لأن القافية العربية تقوم على تكرار نفس المجموعة من الحروف الساكنة، والعلم بنظام نحوي، لأن النظم يتوقف على الفارق بين المقاطع الطويلة والقصيرة، وارتباط بعض النهايات ببعض المعاني. فيمكن إذن أن يكون ما يشهد عليه القرآن هو أنه قبل ظهوره كان بين العرب الكهان المعروفين بأنهم "شعراء”؛ ومــن المحتمل أن لغتهم كانت غامضة، كما هي الحال في ألوان الوحي ))(16)، وهو طرح معروف يكاد ينفرد به مرجليوث حول أصل الشعر العربي القديم ومدى صحته، فالعرب لم يعرفوا الشعر ولم ينظموه وأن ما عرف عنهم ما هو إلا ضرب من سجع الكهان وما شابهه من الكلام ذي الإيقاع المتجانس، وأن اسم الشاعر اختلط عند العرب باسم الكاهن، وهو رأي فيه من الغلو الذي لا يصمد أمام الشعر الوافر الذي وصل إلينا من الفترة العربية قبل الإسلام، وإن داخله بعض النحل بفعل الرواية الشفهية.
إن الاختلاف في الطرح حول أولية الشعر الجاهلي هو السمة الرئيسة التي تميزت بها جلّ الدراسات التي تعرضت لهذا الموضوع، وهذا ما حدا بيوسف خليف في مؤلفه دراسات في الشعر الجاهلي إلى الوقوف على هذه الحقيقة، لأن الباحثين مختلفون حول طبيعة هذه التجارب والمحاولات التي بدأ بها الشعر العربي قبل حرب البسوس. وبين نظريتان أساسيتان: نظرية قديمة ذهب إليها العلماء العرب منذ عصر التدوين، ونظرية حديثة يذهب إليها بعض المستشرقين، ويتابعهم فيها بعض الباحثين المحدثين، ويرى أن النظرية القديمة تذهب إلى أن أول نشأة الشعر العربي كانت عبارة عن مقطوعات قصيرة أو أبيات قليلة العدد، يرتجلها الشاعر في مناسبات طارئة ليعبر بها عن انطباعات سريعة مؤقتة، ثم أخذ الشعراء يطيلون في مقطوعاتهم، ويزيدون من عدد أبياتهم، خاضعين في ذلك لسٌنَّة التطور الحتمية وقانون النشوء والارتقاء الطبيعي، حتى تكاملت لهم القصيدة العربية الطويلة في صورتها المعروفة على يد المهلهل في أيام حرب البسوس.
فالمهلهل أخو كليب أول من قصد القصائد الطوال وضمنها الغزل، وذاك ما تذهب إليه بعض الروايات في المصادر القديمة مثل الأغاني، كما تؤكد بعض الروايات في المصدر نفسه أن أول شاعر هو امرؤ القيس، وهو المتأخر زَمناً بقليل عن زمن المهلهل، وهذا ما حدا بالمستشرق مرجوليوث إلى القول بأن (( الدعوة الخاصة بالمهلهل إنما تستند إلى اسمه، فمعناه:"صانع النسيج الرقيق" والمراد هنا"النسيج الشعري"، بينما تفسير الاسم بمعنى " الصانع" أدى إلى هذه الفكرة العجيبة وهي أنه كان أول شاعر انحرف عن جادة الصدق ))
(17)، وهي تخمينات وتأويلات لا ترقى إلى مصاف الحجج العلمية الدامغة التي تستند إلى براهين مادية ذات طابع علمي.
فإذا كان البحث في أوّلية الشعر الجاهلي ينسب للمهلهل أو لامرئ القيس - وهما المتأخران زمنياً- أمر يجد فيه الباحث صعوبة، فما بالنا بالرأي الذي يذهب إلى أن أولية الشعر العربي تعود إلى آدم أو إسماعيل عليهما السلام أو عاد وثمود، علما أننا لا نقيم في النسب ما فوق عدنان، ولا نجد لأولية العرب المعروفين شعراً، فكيف بعاد وثمود؟... ما لسان حمير وأقاصي اليمن اليوم بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا، فكيف على عهد عاد وثمود(18).
إن مسألة اللسان الذي كتب به الشعر الجاهلي الأول جعلت القراءة الحديثة تثير بجلاء قضية تطور اللغة العربية في حد ذاتها والمراحل التي مرت بها حتى وصلت إلينا كما هو الحال عليه في النص الشعري الجاهلي، مستوية موحدة في لغة قريش، لأن (( لغة الشعر الجاهلي وهي التي يقال لها اللغة العربية الفصحى - والتي نزل بها القرآن الكريم - هي فرع من مجموعة من اللغات عرفت عند المستشرقين باسم "اللغات السامية"؛ وقد انكبت على دراستها منذ قرنين من الزمان على الأقل مجموعة كبيرة من علماء الغرب يبحثون أصولها وقواعدها وعلاقاتها بعضها ببعض معتمدين في دراساتهم على ما اكتشف من نقوش وكتابات ومخربشات لهذه اللغات في الجزيرة العربية وجنوبي العراق وفي الشام وسيناء ))(19). إن هذه اللغات السامية التي تتألف من قسمين: لغات سامية شمالية تمركزت في العراق مثل البابلية والأشورية والكلدانية، وأخرى تمركزت في الشام مثل الكنعانية، والفينقية والآرامية، والعبرية والأوجارينية، والسريالية والنبطية وغيرها، وثانية سامية جنوبية من اللهجات العربية المختلفة: ويقصد بها: عربية قريش واللهجات الصفوية، والثمودية واللحيانية، وهي لهجات عربية شمالية، وجنوبية مثل المعينية، والسبئية، والقتبانية والأوسانية، والحضرمية، والحميرية. فمسألة أولية الشعر العربي تفضي إلى طرح السؤال طرحاً حاداً بأيِّ لغة كتب أول نص شعري جاهلي؟، وكيف استوى عبر المراحل حتى وصل إلى لغة قريش فوصلنا بها في المقطوعات والقصائد التي حوتها مدونات الشعر العربي القديم؟.
إن الخوض في مسألة اللغات السامية بين شمالية وجنوبية، والتطورات التي لحقت بنظام اللسان حتى استوى على تكوينه الأخير من اسم وفعل وحرف وأيهما الأول الفعل أم الحرف أم الاسم، ومسألة النطق والكتابة وتطور الكتابة العربية حتى مراحل نضجها الأخير مسائل في غاية الصعوبة والتعقيد والفصل فيها يحتاج إلى دراسة معمقة لا يسمح بها المقـام ها هنا بالإضافة إلى أسانيد علمية قوية موثقة.
وهذا ما يصعب على أي قراءة الفصل فيه، مما يبرهن على أن الفصل في أوّلية الشعر العربي مسألة محفوفة بالمخاطر والقول في أن أول شاعر عربي كان نبياً- كما ذهب إلى ذلك البهبيتي – أو عاد وثمود مسألة تحتاج إلى تدقيق النظر، وأن الجهود التي بذلت عن أوّلية الشعر العربي لم تتعد نتائجها مرحلة الفروض التي لم يثبت منها فرض بصورة علمية حتى الآن، وهذا ما يؤكده بروكلمان إذ قال:(20 )(( لا تستطيع رواية مأثورة أن تقدم لنا خبراً صحيحاً عن أولية الشعر - عند العرب - إذاً لا يسعنا أن نستخلص من الدراسات المشابهة عند شعوب بدائية أخرى نتائج معينة يمكن تطبيقها أيضا على العرب ))، فالبحث العلمي اليوم بوسائله المتميزة من حفريات واجتماعيات وعلم مقارنة اللغات السامية يمكن له أن ينير طريق البحث في أوّلية الشعر العربي إذا توفرت لـه الوسائل الكفيلة بذلك، وإلا بقى البحث في هذه المسألة ضرباً من الافتراضات التي لا تستند على سند ماديٍّ عتيد.
إن التأريخ لأوَّلية الشعر العربي بعصر المهلهل وامرئ القيس، أي بخمسين ومائة عام أو مائتي عام قبل ظهور الإسلام - كما ذهب إلى ذلك الجاحظ - مذهب لم تستسغه القراءة الحديثة معتمدة في ذلك على أن الشعر العربي الذي استوى على هذه الدرجة الفنية الراقية والصنعة المتميزة والموسيقى المبدعة يبرهن على أن هناك مراحل متقدمة تعد بالقرون كانت فترة اختمار وتبلور واستواء قبل أن ينضج بهذا الشكل المتميز عند أقدم شاعرين وصل إلينا شعرهما كالمهلهل وامرئ القيس.
تؤكد القراءة الحديثة في مسألة أوَّلية الشعر العربي أن اللغات السامية ترجع في كتاباتها إلى نوعين من الخطوط، الخط المسند وهو الخط الذي دُونت به اللهجات العربية الجنوبية، ثم الخط المشتق من الخط الآرامي المتأخر وخط النبط وبه كتبت اللغات السامية، والخط المسند أقدم عهداً من الخط المشتق وهو خط العرب الأول، وهناك خط ثان مأخوذ من الخط النبطي والذي يعرف عند المستشرقين بالخط العربي الشمالي، فهو الذي شاع بعد ذلك وخاصة على أيدي اليهود والنصارى الذين كانوا يكتبون به حتى كاد يهيمن على الخط المسند، وكان خط العرب عند ظهور الإسلام .
أما بأية لغة كتبت النصوص الأولى من الشعر العربي فتلك مسألة وقفت أمامها القراءة الحديثة وقفة حذر نظراً لقلة الأدلة المادية التي تسند عليها فرضياتها مادام (( أن كل النُّصوص التي وصلتنا كانت لهجات عربية أخرى، منها ما هو بعيد عن العربية الفصحى، ومنها ما هو قريب منها وخاصة نقش النمارة النبطي ))(21). فالعربية التي وصلنا بها الشعر الجاهلي هي لغة قريش وبها نزل القرآن الكريم، مما جعل القراءة الحديثة تحاول الوقوف عند التعليل الذي يمكن أن تنتهجه لمعرفة كيفية توحد اللهجات العربية تحت راية لهجة قريش واتخاذها لغة رسمية، خاصة وأن اللهجة تشتمل على ألفاظ وعناصر بعضها قديم جداً يعود عهدها إلى أقدم اللهجات السامية، وبعضها يمثل التطور الذي مرّ على اللهجات في جزيرة العرب وفي بادية الشام وأطراف العراق، هذا المتأخر ما يشير إلى ابتعاد معناه عن معنى الكلمة الأم، ووروده في معان جديدة تولدت من ذلك التطور.
و لما كان النظر إلى هذه المسألة صعباً بسطت القراءة الحديثة أطروحات وفرضيات حاول فيها الباحثون من أمثال - علي جواد طه في المفصل، وشوقي ضيف في العصر الجاهلي ومن قبلهم المستشرقون نولدكة وجويدي وفيشر وبلاشير- تتبع المسألة والميل إلى الرأي الذي يقول: إن القبائل العربية الشمالية اصطلحت فيما بينها على لهجة أدبية فصحى كان الشعراء على اختلاف قبائلهم وتباعدها وتقاربها ينظمون فيها شعرهم، فالشاعر حين ينظم شعره يرتفع عن لهجة قبيلته المحلية إلى هذه اللهجة الأدبية العامة، ومن ثم اختفت جملة الخصائص التي تميزت بها كل قبيلة في لهجتها، فلم تتضح في شعر شعرائهم إلا قليلا جداً، واختلف هؤلاء الباحثون في أي لهجة وقع عليها الاتفاق لجعلها اللغة الأدبية ذات الطابع الفصيح، وهل كان هذا الاتفاق بدافع العامل السياسي أو الثقافي، باعتبار أن الجزيرة العربية شهدت تحولات عديدة كبرى مروراً ببروز قبائل في نظم الشعر على قبائل أخرى مما أهل لغتها لأن تكون لغة أدبية - وذلك ما يذهب إليه المستشرق نالينو - حيث جمع اللغويون والنحاة منها مادتهم اللغوية، وهي قبائل مَعْد التي وحد ملوك كندة كلمتها تحت حكمهم قبل منتصف القرن الخامس الميلادي، وفي رأيه أنها تولدت من إحدى اللهجات النجدية وتهذبت في زمن مملكة كندة، وصارت لغة أدبية بين العرب، أما بروكلمان فكان يرى أن الفصحى كانت لغة فنية قائمة فوق اللهجات وإن غذتها جميعاً، وكلها قراءات تقوم على فرضيات تحاول من خلالها التأسيس لتأويلات مختلفة.
هذه الفرضيات والقراءات هي التي حاول حنفي حسنين أن يتتبعها، وهي التي جعلته ينتهي إلى أنها جميعاً تمثل فروضاً علمية لم يثبته أي باحث منهم، وإنما هي حدس يختلفون فيه، وبه كثير من التعميم ، مما جعله يؤكد أن عوامل دينية وسياسية واقتصادية ساعدت لهجة قريش على السيادة خلال القرن السادس الميلادي فأصبحت لغة الشعر، وأن قريش استطاعت أن تدمغ هذه اللغة الأدبية الموحدة بطابعها الخاص، وبلهجتها المستقلة، نتيجة لمركز القوة الديني والاقتصادي الذي كانت تحتله خلال القرن السادس الميلادي وقبيل ظهور الإسلام، حتى إذا نزل القرآن الكريم وجد البيئة اللغوية التي تفهمه دون عناء على الرغم من اختلاف اللهجات، فقبله كان الشعر الجاهلي يجوب آفاق الجزيرة يحمل مشعل اللهجة الواحدة، فيجد الآذان العربية كلها تطرب لـه وتتحمس لاستقبــاله، وبذلك ندرك أن الشعر الذي سبق توحيد اللهجة لم تحفظه العرب، ولم تروه لأنه قيل بلهجات متفرقة استعصى على العرب الحفاظ عليها وعلى شعرها، ولو بحث الدارسون في التراث الشعبي كالأغاني والأناشيد والأهازيج لوجدوا بواكير الشعر العربي في هذه الألوان من الأشعار نظراً للارتباط العميق بالنفس في المرحلة الأولى لتبلور الحس الشعري لدى العربي، هذا الحس الذي ولد مقاطع الغناء والأناشيد والأهازيج الحماسية نظراً لارتباطها بحياته الوجدانية والمعاشية والسياسية وكان الرجز السيد الغالب على هذه المقاطع الغنائية لبساطة موسيقاه وقربها من النثرية المسجوعة ذات الإيقاع المؤثر كالمقطوعة التي أنشدتها هند بنت عتبة ونسوة من قريش في غزوة أُحد لتحميس فرسان قريش من المشركين لمجابهة جيش المسلمين، والتي يروى أنها من إنشاد أعرابيات في يوم قار لتحميس الفرسان المقاتلين:
إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِق
ونَفْرِشُ النَّمَارِق
أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِق
فِرَاق غَيْر وَامِق (22)
و بذلك تحاول هذه الأطروحات أن تذهب إلى أن في مثل هذه المقطوعة الشعرية تبلورت بواكير الشعر العربي سواء أكان في لهجاته المحلية أم في اللغة الأدبية قبل أن يخطوا إلى مرحلة القصيدة ذات المواضيـع المتميزة والأخيلة الراقية والموسيقى المتعددة في بحورها المعروفة.
و لئن حاولت القراءة التاريخية أن تفصل في إشكالية أوَّلية الشعر الجاهلي، بتبنيها الأطروحات التي فصلنا فيها سلفاً، إلا أننا ندرك أن المسألة شائكة لا يمكن الفصل فيها بقول، وإنما تبقى المسألة خاضعة للتخمينات والفرضيات التي لا تستند إلى السند العلمي القائم، لأن الإشكالية موغلة في القدم وفرضياتها مبنيَّة على الاحتمال الذي لا يرقى إلى القول الفصل، على الرغم من أن القراءة التاريخية حاولت بكلِّ ما أوتيت أن تبحث في الإشكالية، ويبقى جهدها جهداً يستحق التقدير، كما يعتبر جهداً علمياً أثرى المكتبة العلمية وزودها برؤى لم يكن لها أن تصل إليها لو لم يبذل روادها جهداً من أجل التأسيس لمقاربة إشكالية أولية الشعر الجاهلي، كما لم تقف القراءة للشعر الجاهلي عند هذه الإشكالية بل تعدتها لتبحث في إشكاليات اتصلت مباشرة بما وصل إلينا من نصوص هذا الشعر، فعملت من أجل دراسة وتمحيص مسألة مصادر هذا الشعر وبخاصة ما وصل إلينا عن طريق الرواة .
3 - مصادر الشعر الجاهلي:
كان العرب في العصر الجاهلي يعتمدون في نقل أشعارهم على المشافهة مما كان لها أثر بالغ في جعل موضوع الرواية والرواة العصب الأساس الذي ارتكزت عليه القراءات الحديثة في كثير من الإشكالات التي أُثيرت حول الشعر الجاهلي ، خاصة وأن القراءات الحديثة قد وجدت نفسها تبحث في هذا الشعر الذي يمتد عمره في التاريخ العربي السحيق، ولم يُلتفت إلى تدوينه إلا في العصر الأموي مع انتقال العرب من طور الثقافة الشفهية إلى طور الاهتمام بالتدوين والكتابة كآلية لحفظ أصول الدين، وأصول اللغة العربية بما فيها الشعر الجاهلي بوصفه أحد الأصول الأساسية لهذه اللغة، يضاف إلى ذلك أنه يمثل ميراث الأجداد والحضارة في عمقها الاجتماعي والثقافي وحتى العقائدي، لذا كان لزاماً على الرواة أن يبادروا إلى تدوينه في قراطيس تحفظه من تلاعب عوامل الدهر بعد أن لبث أمداً طويلاً يعتمد في نقله على الرواية الشفهية.
لقد كان لتسرب الوضع في الرواية الشفهية للشعر الجاهلي بفعل عوامل عديدة منها العصبية الدينية وغيرها، كما كان الأمر بالنسبة للحديث النبوي الشريف في عصر ما قبل حركة التدوين في العصر العباسي الدور الأساس في إثارة إشكالية النحل والانتحال حول الشعر الجاهلي، بدءاً من عصر التدوين عند كثير من العلماء القدماء كابن سلام وغيره.
الرواية الشفهية وتدوين الشعر الجاهلي من الإشكالات التي تدارستها القراءة العربية الحديثة من أجل البحث في إشكاليات هذا الشعر، فعدها طه حسين في مؤلفه " في الشعر الجاهلي" من المرتكزات الأساسية التي تدعم طرحه في الشك في هذا الشعر، فبعد أن فرغ في طرح الأسباب العامة التي رآها كانت تحمل على الانتحال ، والتي تتصل بظروف الحياة السياسية والدينية والفنية للمسلمين، أراد أن يفصل في الأسباب التي تتصل بأشخاص أولئك الذين نقلوا إلينا شعر العرب ودونوه، وهؤلاء الأشخاص هم الرواة كحماد الراوية وحماد عجرد وحماد الزبرقان ومطيع بن إياس وأبي عمرو الشيباني، فكان لفساد مروءتهم وأخلاقهم الدور الرئيس في إمعانهم في الوضع في الشعر الجاهلي (( فإذا فسدت مروءة هؤلاء الرواة وأحاطت بهم مثل هذه الظروف، كان من الحق علينا ألا نقبل مطمئنين ما ينقلون إلينا من شعر القدماء ))23، وبذلك تثير القراءة العربية الحديثة للشعر الجاهلي من خلال "طه حسين" إشكالية مصادر هذا الشعر لتفتح المسألة لكثير من الأقلام للبحث والتنقيب، واضعة نصب عينيها تجلية الحقيقة العلمية وفك الكثير من الخيوط التي تركتها عملية تدوين الشعر الجاهلي.
انبرت كثير من المقاربات للبحث عن مصادر الشعر الجاهلي، هادفةً إلى تجلية الحقيقة من حول هذا الشعر، ومن القراءات الرائدة في ذلك دراسة ناصر الدين الأسد التي وسمها بـ "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية"، فخاض فيها الدروب الوعرة في قضايا تدوين هذا الشعر وفق منهج استقصائي واضح المعالم، معتمداً في ذلك على جهاز معرفي دقيق، فعمل من أجل إثبات كل ما يستند إلى سند علمي واضح المعالم في مسألة الشعر الجاهلي، وتوجس من كل ما لم يسنده المنهج العلمي، منطلقاً في إثبات المصادر الرئيسة للشعر الجاهلي من النصوص والروايات في حد ذاتها، وذلك ما يقره في مقدمة المؤَلف: (( وقد بذلت أقصى الجهد في أن أنهج نهجاً علمياً خالصاً: لا أميل مع الهوى، ولا أتعصب لرأي، ولا أعتسف الطريق من أمامي اعتسافاً. بل لعل من الصواب أن أذكر أني، حين دخلت في الموضوع، لم يكن يحفزني إلا الموضوع نفسه، ولم يكن نصب عيني غاية بذاتها أتوخاها وأرمي إلى إقامة الدليل عليها، غير المجردة التي سينتهي إليها البحث الموضوعي وحده؛ فقد كان قلبي مع هذا الشعر حين كنت أقرأه، وكان عقلي عليه حين كنت أقرأ عنه، فأردت أن أصل إلى اليقين يجتمع عنده اقتناع العقل واطمئنان القلب معاً. ولم يكن أمامي سبيل لذلك إلا أن آخذ نفسي بتحري المنهج العلمي الدقيق، وألتزم حدوده التزاما تَرخُص فيه )) (24)، لأن الكثير من القراءات العربية الحديثة - وبخاصة التي أثيرت حول الأطروحات التي تبناها ودافع عنها طه حسين في مؤلفه " في الشعر الجاهلي"- اتسمت بالاندفاع العاطفي الذاتي لا التحليل العلمي ومن أمثلة ذلك ردود مصطفى صادق الرافعي في كتابه " تحت راية القرآن".
فالمنهج العلميُّ الرصين في تحقيق مصادر صحة الشعر الجاهلي جعل القراءة التاريخية العربية الحديثة تبحث في الوسائل التي اعْتُمِدَ عليها في نقل هذا الشعر، حتى كُتِب ودُوِّنَ، فأثارت قضية الرواية والرواة حيث خصص ناصر الدين الأسد فصلاً كاملاً في مؤلفه لهذه المسألة سماه " الرواية والسماع".
إن ارتباط رواية الشعر الجاهلي بالشفهية هو الذي جعل القراءة التاريخية العربية الحديثة تركز عليها بوصفها المنفذ الذي يمكن أن يُطعن من خلاله في صحة الكثير من الشعر الجاهلي، كما حدث مع المستشرقين وطه حسين، كما اعتبرتها قراءات أخرى دليل إثبات على صحة هذا الشعر مع ناصر الدين الأسد في المؤلف السابق الذكر، وعز الدين إسماعيل في كتابه " المصادر الأدبية واللغوية في التراث العربي".
شكل السماع أساساً للرواية عند العرب قبل ظهور التدوين، وذلك ما راحت تبحث فيه القراءة العربية الحديثة، فاعتبرت الرواية المتصلة من الجاهلية حتى القرن الثاني الهجري لم يشبها تقطيع أو انقطـــاع؛ إذ ((أن رواية الجاهلية: أشعارها وأخبارها، لم تنقطع منذ الجاهلية، بل لقد اتصلت في زمن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وخلفائه الراشدين، واستمرت طوال القرن الأول حتى تسلمها العلماء الرواة من رجال القرن الثاني، ولم تكن ثمة فجوة تفصل هؤلاء الرواة العلماء عن العصر الجاهلي، وإنما تلقفوه عمن تقدمهم، وورثوه عمن سبقهم، رواية متصلة، وسلسلة محكمة ، يأخذها الخلف عن السلف، ويرويها الجيل بعد الجيل، حريصين عليها معنيين بها. ولم يشغلهم عن إنشاء الشعر وروايته، وذكر أخبار العرب وأيامهم ومفاخرهم ومثالبهم، في مجالسهم ومحافلهم، شاغل من الحرب أو فتنة، حتى لقد رأينا المسلمين الأولين، والمشركين من كفار قريش، لا ينقطعون عن إنشاد الشعر الجاهلي واستنشاده وروايته والتمثل به وتعلمه وحفظه، فأين هذا كله من قول ابن سلام وغيره، إن العرب تشاغلت عن الشعر لما جاء الإسلام " وتشاغلوا بالجهاد وغزو فارس والروم، ولهت عن الشعر وروايته. فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب بالأمصار، راجعوا رواية الشعر"))(25)، وبذلك يؤكد صلابة الطرح الذي يعتمد في القول بصحة الشعر الجاهلي انطلاقاً من اتصال الرواية دون انقطاع مما يقلِّل من حظوظ التلف.
حُوفظ على اتصال الرواية الشفهية من حقبة زمنية إلى أخرى، بحيث كانت في العصر الجاهلي وعلى زمن الرسول (صلى الله علية وسلم ) والخلفاء الراشدين وطِوَال الفترة الأمية، ولتأكيد هذه الحقيقة فصَّل فيها ناصر الدين الأسد مستشهداً بعدة روايات وأخبار متواترة تثبت ذلك وتؤكده.
و الأمر نفسه تثبته قراءة عز الدين إسماعيل في مؤلفه "المصادر الأدبية واللغوية في التراث العربي"، فيؤكد أن رواية الشعر الجاهلي كانت متصلة من الجاهلية إلى أوائل القرن الثاني الهجري، لأن العرب أدركــوا ((منذ الجاهلية، وفي إطار النظام القبلي، قيمة الشعر والشاعر في حياتهم، ومن ثَمَّ كان احتفالهم بنبوغ شاعر منهم، وحرصهم على حفظ شعره وروايته جيلاً بعد جيل، لا يملون من هذا ولا يسأمون ... ومع عناية القبيلة كلها بشعر شاعرها كان لكل شاعر راوية خاص، وهو تقليد ظل مستمراً إلى عهد جرير والفرزدق في العصر الأموي ... فاتصلت حلقات الرواة الشعراء من الجاهلية إلى عصر بني أمية ))(26)، وبذلك تـثبت القـراءة العربية الحـديثة صحـة الشعـر الجاهلي في أغـلب ما وصـل إلينا.
إن هذا الطرح نفسه يتبناه طاهر مكي فيذهب إلى أن الرواية المتصلة للشعر الجاهلي لم تفتر ولو لفترة قليلة حتى حل عصر التدوين. (( وقد اضطلع الشعراء أنفسهم بدور هام في الرواية، فكانت لهم المدرسة التي يتعلمون فيها صوغ الشعر ونظمه، والتمرس بأساليب الكلام وفنون القول، ومن أراد أن يصبح شاعراً لزم واحداً من فحولهم، يحفظ عنه، ويروي له، ويرسم خطاه، ولدينا معلومات لا بأس بها عن اتصال هذه الرواية... ويصبح دور الراوي أكثر أهمية بعد وفاة الشاعر، لأنه يتعدى مهمة نشر القصائد إلى جمعها، وإظهار الظروف والمناسبات التي أوحت إليها، وتفسير الإشارات التاريخية التي تتضمنها، ويصبح بحكم الواقع أميناً على تراث هو ثمرة حياة صانعه، ومناط اهتمام القبيلة التي ينسب فيها ))(27)، فذلك يعزز الأطروحات التي تسعى إلى إثبات صحة الشعر الجاهلي من روايته، فتجعل من قضية الرواية والرواة عنصر إثبات لا عنصراً يعزز ما ذهب إليه الشكاك من مستشرقين وعرب .
أثارت جل القراءات التاريخية العربية الحديثة ذات الطابع التاريخي - التي درست الشعر الجاهلي- قضية الرواية والرواة وعلاقتها بالشعر الجاهلي، لما لها من أهمية في إثبات صحة النص الشعري الجاهلي ونسبته إلى شعراء هذه الفترة من تاريخ الأمة العربية، ومحاورة بالحجة والمنهج العلمي الرصين ما أراد أن يثبته بعض المستشرقين والعرب من انتحالٍ للشعر الجاهلي.
لم تتوقف القراءة التاريخية العربية الحديثة عند مسألة إثبات اتصال رواية الشعر الجاهلي سماعاً في الكثير من الأخبار، بل درجت تبحث في مسألة الرواة في حد ذاتهم، فأتت على التفصيل في طبقاتهم وما أُثر عنهم من أخلاقيات في الرواية والأمانة والموضوعية العلمية، وكان ديدنها في ذلك التمحيص الدقيق في مسألة لها علاقة مباشرة بأول مصدر من مصادر الشعر الجاهلي "الرواية الشفهية".
صنفت القراءة التاريخية العربية الحديثة الرواة إلى طبقتين، طبقة الرواة الهواة وطبقة الـرواة المحترفين؛ فـ (( كان الرواة الهواة يلازمون شاعراً بعينه، يسمعون منه، ويحفظون شعره، ويتتلمذون له، ويحتذون فيما ينظمون نظمه، إلى أن يستقيم لهم فنهم، ويستطيعوا أن يصدروا عن موهبتهم الخاصة، فهم يروون شعره ليس من أجل إذاعته فحسب، بل من أجل أنفسهم أيضاً، فالرواية عندهم تدريب وهواية))(28)، فكانت ميزة الرواة الهواة أنهم يعتمدون في الغالب على الرواية الشفهية ولا يعتمدون على الكتابة إلا نادراً، وذلك ما جعل روايتهم لا ترقى إلى رواية الجيل الذي جاء من بعدهم، والذي امتاز بالاحترافية في الرواية باعتماده على الكتابة والتدوين، ينضاف إلى ذلك أن بعض هؤلاء الرواة الهواة لم يكونوا يلتزمون بالرواية لشاعر واحد فقط، بل كانوا يسمعون لأكثر من شاعر، ويحفظون لهم جميعاً، مما جعل روايتهم لا ترقى في نظر القراءة العربية الحديثة إلى درجة الرواية المحترفة التي يمكن أن تجعل منها مصدراً أساسياً في تدوين الشعر الجاهلي، على الرغم من أنها حلقة أساسية في رواية هذا الشعر لا يمكن إهمالها.
أما الطبقة الثانية - والتي تتشكل من أمثال المفضل الضبي والأصمعي وأبي عمروالشيباني - فتنظر إليها القراءة التاريخية العربية الحديثة من حيث أعلامها مثل الأمانة العلمية والتوثيق الرصين والاحتراف المتمكن، فكان لها الدور الرائد في تقويم ما اعوج في مسار رواية الشعر الجاهلي، ينضاف إلى ذلك أنها اعتمدت في تدوينها على وضع المصنفات التي مازالت إلى يومنا هذا ذُخر التراث العربي، وبذلك نقلت رواية الشعر العربي من مرحلة الشفهية البدوية إلى مرحلة الرواية الكتابية ذات البعد الحضاري المتمدن.
كان للتدوين في نظر القراءة التاريخية العربية الحديثة في أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث الدور الرئيس في التوثيق للشعر الجاهلي، بحيث انبرى ثُلة من الرواة الثقاة من مثل المفضل الضبي والأصمعي وأبو عمرو الشيباني إلى جمع مادة هذا الشعر في مختارات ودواوين شعراء وقبائل كما كان الأمر مع أبي عمرو الشيباني الذي جمع أشعار أكثر من ثمانين قبيلة ، فـ (( كان هؤلاء الرواة لا يدونون إلا ما يستوثقون منه، بل كانوا يرحلون إلى الصحراء للتحقق من صحة ما سمعوه. قالوا إن أبا عمرو الشيباني دخل البادية ومعه "دستيجتان" من حبر، فما خرج حتى أفناهما في كتابة ما سمع من الأعراب. كما كان بعض الأعراب يفدون الحواضر لإشباع نهم الرواة فيما يدونون ))(29)، وهكذا نذر هؤلاء الرواة الثقاة العدول أنفسهم لتعقب الوضاع والمنتحلين ليميزوا الصحيح من الزائف، ويؤسسوا لرواية صحيحة تكون أساس الشعر الجاهلي، وينتشلوا النصوص الصحيحة من الأخبار التاريخية المملوءة بالوضع والتحريف، التي كانت تقف وراءها عوامل كثيرة منها العصبية، والنزعات الدينية والمذهبية والطائفية.
يرى الدارسون المحدثون في" المفضل الضبي " أبرز العلماء الرواة الثقاة لأنه ((كان راوية عالماً بأخبار العرب وأيامها وأشعارها ولغاتها، وقد أخذ عنه كثيرون من علماء الطبقة الثانية، وفي مقدمتهم الفراء والكسائي وابن الأعرابي، وإليه ينتهي إسناد كثير من الروايات الشعرية لدواوين الشعراء ودواوين القبائل على السواء ))(30)، فبمثل المفضل الضبي انتقلت رواية الشعر الجاهلي من يد الرواة الهواة ورواة الأخبار التاريخية إلى يد الرواة العلماء بالشعر واللغة العربية، فمفضلياته تعد من أوثق مصادر الشعر الجاهلي، لأن صاحبها من الرواة الثقاة، على أنها تصور جوانب الحياة الجاهلية بأيامها وأحداثها وعلاقة القبائل بعضها ببعض، وبملوك الحيرة والغساسنة.
فالرواية المؤسسة هي السمة الرئيسة للمفضل الضبي في تعامله مع رواية الشعر الجاهلي. فالفحص والتمحيص والتوثيق من المقاييس الأساسية التي اعتمدها لقبول أي نص شعري جاهلي، وتلك ميزة الرواة العلماء، وهي المقاييس التي اعتمدتها رواية الرواة العلماء في التعامل مع رواية الشعر الجاهلي حتى أصبحت منهجا علمياً مأثوراً، فـقد (( كان لعلماء الرواية قواعد خاصة التزموا بها في فحص الشعر الجاهلي ودراسته، وتمحيصه وتوثيقه، ولم يقبلوا منه إلا ما ثبتت صحته، ولم يرووا منه إلا ما اطمأنوا إلى سلامته من الوضع والنحل، وكان حرصهم شديداً، في تحديد مصادرهم، لذلك كانوا يتحرزون جيّداً عن مخبريهم من الأعراب وغيرهم، وكان حرصهم أشد عند أخذهم من الرواة الشعراء الذين قد يدخلون شعرهم الذاتي في ثنايا القصائد والمقطوعات التي يروونها لآبائهم ولقبائلهم ))(31)، وبذلك كانت تسعى القراءة التاريخية الحديثة إلى التفصيل في مسألة الرواية والاستقصاء في مسائلها وأعلامها بغية إقامة الحجة العلمية في مسألة القول بأن ليس كل الشعر الجاهلي موضوعاً منحولاً، بل إن جل نصوصه موثقة من قبل علماء ثقاة حكّموا مقاييس علمية صارمة في التعامل مع روايته معتمدين على منهج قوامه التمحيص والتوثيق والتثبت.
تُعد الأصمعيات أيضا من "الدرر الشعرية" التي عمل صاحبها في تدوينها على أساس علميٍّ صارم مستمد من المقاييس التي سار عليها "الضبي" من تمحيص وتوثيق وتثبت، وهي كالمفضليات في الثقة بها، فعمل الأصمعي فيها بالإسناد عمن قبله في كثير من المواطن، وهو الذي لم يكن معروفاً عند الطبقة الأولى من الرواة العلماء، وبذلك أرسى أساساً صلباً للرواية باعتماده الإسناد، متأثراً في ذلك بعلوم الحديث النبوي الشريف وخاصة التجريح والتعديل، ((فالأصمعي ومن في طبقته من علماء المدرستين: البصرية والكوفية، كانوا الطبقة الأولى من الرواة العلماء، وأن من بعدهم قد روى عنهم، وأسند روايته حتى ارتفعت إليهم ثم انتهت عندهم، وأنهم لم يكونوا يسندون إلا في القليل النادر))(32)، فأضاف الأصمعي معلماً توثيقياً آخر لرواية الشعر الجاهلي، كان الدعامة القوية على صحة هذا الشعر وتمييزه من المنحول الموضوع، لذلك رأت القراءة العربية الحديثة في الأصمعيات عيوناً من الشعر العربي القديم التي يمكن الاعتماد عليها في تقديم الحجة على صحة الشعر الجاهلي، وأن منهج العلماء الرواة في رواية هذا الشعر لم يكن منهجاً مهتزاً ولا مضطرباً، وإنما كان منهجاً علمياً صارماً إدراكاً من الأصمعي ومن العلماء الرواة الآخرين.
إن قضية رواية الشعر الجاهلي قضية لابد وأن تُضبط بضوابط علمية صارمة حتى يُخْرج الصحيح من المنحول في هذا الشعر، وبذلك تُجَنب الثقافة العربية إشكالات تترتب عنها تبعات تسيء إلى التراث العربي في جملته.
إن الشعر الجاهلي مصدر أساس في التأسيس للعلوم اللغوية، والدينية في التراث العربي، فالمسألة لا تخص الشعر الجاهلي بعينه فقط، وإنما تتعداه إلى كل التراث العربي وإلى الهُوُّيَة العربية، وهذا ما وعاه الرواة العرب القدماء فلم يكونوا ليعرفوا نشر شيء من الأخبار والآثار، إلا بعد تمحيصه، فلم يقعوا في نقل كل ما اتصل بسمعهم حتى لا يتخذه الخصم حجة عليهم.
ولقد بلغوا درجة من التدقيق أنهم يوردون عشرين أو ثلاثين رواية كل منها بأسانيدها الوافية حتى يملؤوا بها عدة صفحات لأجل تحرير جملة واحدة قالها السلف، ويمحصوا كيف كانت تلك الجملة، وقد تكون الرواية لا تختلف عن الأخرى إلا بكلمة أو حرف وقد يكون المعنى واحداً. وقد وصلوا من هذا المدى إلى حد أن عدّه بعضهم إفراطاً وضياعاً للوقت، وعابوه عليهم وتهكموا منهم. ولكن هذا التهكم لا ينفي شيئا من الحقيقة، وهي أنهم نصحوا في النقل وتثبتوا في الرواية، ولم يملوا على الناس، بل نقلوا ما نقلوه وتركوا الحكم للقارئ. وبالإجمال وصلوا من تحرير الرواية إلى سدرة المنتهى التي تجعل فضاء الوضع فيها محدوداً حتى لا نقول نادراً، وذلك بفعل التحري العلمي الذي انتهجه الرواة العلماء في مسائل الشعر الجاهلي ومسائل التراث العربي عامة.
واصلت القراءة التاريخية الحديثة بحثها في مصادر الشعر الجاهلي إلى إثبات أن هذه المصادر لم تعتمد فقط بعض عيون الشعر الجاهلي كالمفضليات والأصمعيات وإنما تبرز كذلك في مصادر أخرى لا تقل أهمية من حيث القيمة العلمية من المصدرين السابقين.
عُدَّت مجموعة الدواوين سواء أكانت فردية أم جماعية من المصادر الرئيسة للشعر الجاهلي، فبحثت في الدواوين الفردية ففصلت القول في أصول روايتها وأنواعها والنسخ المختلفة التي خلفها الرواة والقيمة العلمية لرواتها ورواياتهم والنسخ التي أثرت عنها، منتهجة في ذلك طريقة عرض الروايات على بعضها بعض بغية التحقق والتمحيص، فعرضت الكثير من المقطوعات التي وردت في الدواوين بمختلف نسخها على نظيراتها التي وردت في المفضليات والأصمعيات، وعقدت موازنة بينهما من أجل تجلية الحقيقة العلمية والقيمة الصحيحة للروايات.
بحثت أيضاً في دواوين القبائل بوصفها مصدراً آخر من مصادر الشعر الجاهلي، فتوسعت في ذكر مصادرها وسيرة من صنعوها وما بقي منها، وتطرقت إلى الفرق بينها وبين الدواوين الفردية، محاولة منها لوضع تعريف لها بالمقارنة مع ديوان الشاعر الفرد، متحدثة عن ديوان الهذليين بوصفه أنموذجاً تراثياً، وعدد الشعراء الذين رُوِي لهم فيه وكذا الأشعار التي وردت فيه، مع البحث في أصول رواية هذه الدواوين وأنواعها وطبعاتها ونسخها والقيمة العلمية لهذه النسخ والروايات.
تناولت القراءة التاريخية الحديثة المختارات الشعرية الجاهلية كالمفضليات والأصمعيات وحماسة أبي تمام وجمهرة أشعار العرب بالدرس والتمحيص العلميين فعمدت إلى كل ما لـه علاقة بتحقيق روايتها وأسانيدها والترجمة لأصحابها وذكر قيمتها العلمية في تاريخ رواية الشعر الجاهلي.
لم تهمل هذه القراءة البحث في المصادر التراثية الكثيرة التي تضمنت في طياتها أشعار الجاهلية، كالمصنفات النحوية مثل "الكتاب" لسيبويه، ومصنفات التاريخ والسير كسيرة ابن إسحاق، والمصادر الجامعة كالبيان والتبيين والحيوان للجاحظ، لما للأشعار الجاهلية الواردة فيها من قيمة علمية ورواية موثقة تحرى فيها أصحابها المنهج العلمي والإسناد المتواتر، ولما للشعر الجاهلي الوارد فيها من قيمة فنية وتاريخية وعلمية.
و لعل من أهم القراءات العربية الحديثة التي أولت اهتماماً علمياً مستفيضاً لهذه المصنفات التراثية لما لها من أهمية علمية في تحقيق مصادر الشعر الجاهلي ودحض مقولات الشكاك فيه قراءة ناصر الدين الأسد " مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية" فخصص للدرس والتفصيل في مسائل هذه المصنفات التراثية الباب الخامس بأكمله، كما نجد الطرح نفسه تبنته قراءة عز الدين إسماعيل "(33)، والعمل نفسه قام به طاهر أحمد مكي في مؤلفه " دراسة في مصادر الأدب " ، منتهجين في ذلك منهجاً وصفياً استقصائياً مبنياً على تتبع الظاهرة في منابعها الأصلية، وموازنين بين الروايات من أجل تجلية الحقيقة العلمية والعلمية لا غير، من غير تعصب لقول أو مذهب أو رأي، وإنما مبتغاهم الأول والآخر هو التحقيق العلمي في هذه المسائل الشائكة التي أسالت الكثير من الحبر وأثارت معارك نقدية ومساجلات علمية.
فمصادر الشعر الجاهلي في أصولها الأولى هي المنبع الذي أسس لحقيقة الشعر الجاهلي، لذلك عملت القراءة التاريخية من أجل التعمق في مسائلها، والإحاطة بإشكالياتها، منتهجة في ذلك المنهج التاريخي ذو الطابع الوصفي الاستقصائي المبني على مرتكزات علمية مبتعداً قدر المستطاع عن النزعات الذاتية، ففصل في مسألة الرواية وما أثير من حولها من درس مؤكداً أن هذه المسألة هي أساس التراث العربي برمته، وأن العلماء العرب وضعوا علماً خاصاً حُدد بمقاييس صارمة، كانت الأساس في رواية الشعر الجاهلي رواية علمية. فعملت القراءة التاريخية من أجل التأسيس لقراءة فيلولوجية في التعامل مع الشعر الجاهلي في رواياته ونصوصه من أجل تحقيقها ورفع اللبس عما أثير حول صحتها، لتمحيص وتمييز الصحيح من المنتحل.
4 - التحليل الفيلولوجي للشعر الجاهلي:
تسعى الفيلولوجية إلى تأسيس علم يبحث في التحقق من صحة الموروث العلمي والثقافي للأمم وتمييز الصحيح منه من المنسوب، خاصة ونحن نعلم أن التراث العالمي القديم وخاصة العربي منه كثيراً ما وصل إلينا عن طريق الرواية الشفهية، لهذا فهو يحتاج إلى تحقيق نصوصه لأن أن بعض هذه النصوص شكك الدارسون في تاريخها وصحتها.
يعد النحل والانتحال من الظواهر الأدبية والنقدية التي عرفها التراث العربي القديم، وهي ظاهرة لا تقتصر عليه وحده فقط، بل نجدها عند الأمم القديمة الأخرى وبخاصة ما تعلق بالتراث الإغريقي القديم كملحمتي هوميروس الإلياذة والأوديسة. وهذا ما جعل الدارسين الغربيين يهتمون كثيراً بالدراسة والبحث في نشأة هذا التراث القديم وطرائق حفظه وروايته والتحقق من صحة نسبه، وذلك راجع إلى أنّ التراث الإغريقي لم يكتب في أوائل عهده، وإنّما اعتمد في نقله على الرواية الشفهية فلم يكتبا منذ أن نُظِما، بل بقيا محفوظين في صدور الرجال ترويهما الأجيال المتعاقبة، وينشدهما الأفراد في المجالس والمحافل، فشفهية التراث اليوناني في أول عهده هو الذي دفع الدارسين إلى الاهتمام بتحقيقه خوفاً من امتزاجه بالقصائد والأغاني الشعبية في العصور الوسطى عند الأمم الأوروبية فوازنوا بين ملحمتي هومر والملاحم الأوروبية التي نظمت في عصور أكثر حضارة وأوفر علماً من عصور الإلياذة والأوديسة من مثل إلياذة "فرجيل"، والفردوس المفقود لـ"ملتون". وذلك بغرض التحقق من صحة مصادر التراث الإغريقي القديم ونصوصه حتى لا يمتزج بالآداب التي كُتبت من بعده، خاصة وأنّ قضية الرواية الشفهية للتراث القديم تطرح إشكاليات عدة يجب التحقيق فيها لدرء الشبهة والتحقق من صحة النصوص.
و بفعل قدم ظاهرة "النحل والانتحال" وتأثيرها في الرواية الشفهية للتراث الأدبي الإغريقي القديم، نجد تأثيرها امتد أيضاً إلى تراثنا القديم، وبخاصة ما اعتمد في نقله على الرواية الشفهية لفترة من الزمن سواء أطالت هذه الفترة أم قصرت (( فعرفها العصر الجاهلي كما عرفها العصر الأموي والعصر العباسي، بل لا تزال، يعرفها عصرنا الحاضر الذي نحيـا فيـه))(35)، وهي ظاهرة لم تقتصر على الشعر فقط بل تعدّته إلى كل ما يمت إلى الأدب العام بسبب: كالأنساب والأخبار. بل لقد بدأ الكذب والوضع يعم حتى مسّ الحديث النبوي الشريف في حياة الرسول فقال: زاجراً مثل هؤلاء الوضاع: ((من تعمد عليّ كذبا فليتبوأ مقعده من النار))(36)، وازداد الأمر استفحالا بعد وفاته بسبب اعتماد الحديث النبوي الشريف على الرواية الشفهية طيلة القرن الأول الهجــري، وهذا ما دفع بعلماء الحديث إلى الاجتهاد في جمع الحديث النبوي الشريف مؤسسين بذلك لعلم قائم بذاته "علم الجرح والتعديل" بهدف تنقية الحديث من الشوائب التي لحقت به.
لم يكن أمر الوضع والنحل في التراث العربي القديم ليخفى على الرواة العلماء خاصة ما تعلق بأخبار الجاهلية وأشعارها مع القرن الأول الهجري، إذ نجد جملة من الرواة والنقاد القدامى قد تفطنوا إلى خطر هذه الظاهرة، فنبهوا إلـيها، ومنهم "ابن سلام الجمحي" في الطبقات الذي يقول:و كان أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها "حماد الراوية" وكان غير موثوق به كان ينحل شعر الرجل غيره ويزيد في الأشعار. إنها إشارة صريحة من "ابن سلام" إلى أن إشكالية النحل والانتحال موجودة في التراث العربي القديم سواء ما تعلق بروايته أم بنصوصه، وهو ما فتح المجال أمام الكثير من النقاد القدامى إلى الاهتمام بهذه الظاهرة؛ فالجاحظ يشير إلى الموضوع والمنحول على ثلاث طرائق، فهو حيناً ينسب الشعر إلى شاعر بعينه ثم يعقب عليه بما يفيد شكه فيه، وهو حينا ثانياً يقطع قطعاً جازما بأن هذا الشعر أو ذاك منحول موضوع مصنوع وكل ذلك من غير دليل أو حجة وإنّما يرسل القول إرسالاً، وهو حيناً ثالثاً يقطع بأنّ الشعر منحول ثم يُورد من الحجج ما يراه كفيلا بدعم رأيه، وبذلك يُدرك أنّ "الجاحظ" بوصفه عَلَماً من أعلام النقد القديم لم يُهمل هذه الظاهرة بل نبه هو كذلك إليها وبين طرقها وأساليب تسربها إلى التراث القديم. أمّا "ابن قتيبة" فقد أشار إلى النحل والوضع في موطنين من كتابه " الشعر والشعراء " إذ أورد في الموطن الأول قول الأعشى:
إِنَّ محَلاًّ وإِنَّ مُرْتحلاً
وإِنَّ فِي السَّفَرِ مَا مَضَى مَهَلا
إِسْتَأْثَرَ الله بِالوَفَاءِ وبِالحَمدِ
وَوَلَّى المَلاَمَةَ الرَّجُلاَ.
ثم عقَّب عليها بقوله : "و هذا الشعر منحول، ولا أعلم فيه شيئاً يُستحسن"
(37)، وهو نص يثبت أن ابن قتيبة - هو كذلك - يقرّ بوجود ظاهرة النحل والانتحال في الشعر الجاهلي دون التفصيل في مسائلها.
أما إذا خصصنا الحديث عن ظاهرة النحل والانتحال في الشعر الجاهلي، والشك في رواياته ورُواته فإننا نجدها مسألة أفاض فيها الكثير من العلماء والنقاد القدماء منذ القرن الثاني للهجرة، وتجلت بوضوح في القرنين الثالث والرابع الهجريين، معتبرينها قضية جزئية لا تهم الفكر والتراث العربي ولا تضره في شيء، ويكفي أي باحث أن يتصفح - على سبيل المثال لا الحصر- كتاب "طبقات الشعراء " لابن سلام الجمحي ليجد فيه إقراراً بظاهرة النحل والانتحال التي قد لحقت الشعر الجاهلي في الكثير من مواطن روايته. ففي ((الشعر مصنوع مفتعل، وموضوع كثير لا خير فيه ))(38)، وفي ذلك إقرار بوجود الوضع والانتحال في تاريخ الشعر العربي القديم.
لقد أتى ابن سلام الجمحي في الطبقات على ذكر أسباب هذا الوضع والانتحال، فنسب فساد الشعر وهجنه وغثائه إلى محمد بن إسحاق بن يسار ... فَقبِل الناس عنه الأشعار، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر، أُتِينا به فأحمله. ولم يكن له عذر، فكتب في السِّيَر أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعراً قط، وأشعار النساء فضلاً عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود، فكتب لهم أشعاراً كثيرة ... أفلا يرجع إلى نفسه فيقول: من حمل هذا؟، ومن أداه منذ آلاف السنين … نحن لا نقيم في النسب ما فوق عدنان، ولا نجد لأولية العرب المعروفين شعراً، فكيف بعاد وثمود ؟ فهذا الكلام الواهن الخبيث... وقال أبو عمر بن العلاء في ذلك: ما لسان حمير وأقاصي اليمن اليوم بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا، فكيف على عهد عاد وثمود، مع تداعيه ووهيه؟ فلو كان الشعر مثل ما وضع لابن إسحاق ومثل ما روى الصُّحُفِيُّون، ما كانت إليه حاجة ولا فيه دليل على علم ، فالرواية الشفهية التي كانت الأساس الكليّ للشعر الجاهلي في نقله من جيل إلى جيل قد لحقها من التحريف ما لم يستصغه عقل علمي ثاقب من مثل عقل ابن سلام، فرواية شعر ونسبته إلى عاد وثمود مثلاً لا يوجد له حجة ولا مسوغات علمية عند رجل مثل ابن سلام.
يذكر ابن سلام في الطبقات إلى جانب إسحاق بن سيار من أحد أعمدة رواية الشعر الجاهلي وروادها حماد الراوية فيقر أنه أول من جمع أشعار العرب وساق أحاديثها، وكان غير موثوق به، وكان يَنحَلُ شعر الرَّجُلِ غيره، وينحله غير شعره، ويزيد في الأشعار، ويحتج على ذلك بقصيدة نسبها حماد إلى الحطيئة في مديح أبي موسى الأشعري، وهي من وضع حماد، فيعجب ممن يأخذ عنه، وهو الكاذب اللحان.
يرجع ابن سلام عوامل للنحل والانتحال في الشعر الجاهلي إلى كذب الرواة للتكسب بالرواية والتملق للأمراء وسادة القبائل والعشائر، وأخرى خاصة التفاخر بين القبائل بعودة العصبية القبلية إلى المجتمع العربي في العصر الأموي، بعد أن حاول الإسلام تهذيبها والتقليل من فاعليتها داخل المجتمع والتكريس لفكرة الأمة المبنية على الأساس الديني وروحه، لكن الكثير من هذه المبادئ سرعان ما خبت وعاد العامل العصبي ليطفو على السطح، فكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأشعار، فقالوا على ألسنة شعرائهم، ثم جاء الرواة بعد، فزادوا في الأشعار التي قيلت، كما كان للعامل الديني والسياسي دور كذلك في ظهور النحل والانتحال في الشعر العربي القديم.
إن لظهور الإسلام بكتابه وتعاليمه وتغييره السياسي والاجتماعي والفكري دوراً في ابتعاد العرب وانشغالهم عن رواية الشعر والاهتمام به فترة ليست بالقصيرة، لكن لما استقر العرب في الحواضر حاولوا رواية شعرهم، فلم يجدوا مدوناً يعتمدون عليه، وأن الكثير من حفاظ هذا الشعر قد هلكوا في الحروب والفتوحات، وهو ما دفع أبا عمرو بن العلاء إلى القول إن (( ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافراً لجاءكم علم وشعر كثير ))39. والجلي من كل هذه النصوص والملاحظات التي دونها النقاد القدماء وبخاصة ابن سلام حول ظاهرة النحل والانتحال التي لحقت الشعر الجاهلي أن مسألة تحقيق هذا التراث مسألة غاية في الصعوبة والتعقيد.
تشابكت عوامل عديدة - منها ما هو ديني ومنها ما هو سياسي ومنها ما هو عصبي ومنها ما هو ذاتي - في التأسيس لظاهرة النحل والانتحال، وبذلك كان ابن سلام والنقاد القدامى الآخرون من السباقين إلى التنبيه إلى ضرورة إرساء قواعد لقراءة تتعامل مع الشعر الجاهلي تعاملاً يحكمه منهج علمي متميز ومحكم توصلوا بواسطته إلى ضبط الكثير من القضايا الشائكة في رواية الشعر الجاهلي والتدوين لـه، فقد سبقوا المستشرقين في إثارة هذه المسألة ومقاربتها مقاربة علمية بعيدة عن النزعة الذاتية لتحقيق القدر الكافي من العلمية في التعامل مع مثل هذه الظواهر، فقلبوها من جوانب عدة.
ألمح ابن سلام إلى ظاهرة النحل والوضع في الشعر الجاهلي لما كان يُعتمد في روايته على الشفهية، مما جعل بعض الدارسين يثيرون إشكالية الشك في الكثير من أخبار الجاهليين وقصصهم وأشعارهم، ففتحت المجال أمام الكثير من القراءات الحديثة للشك في جزء هام من هذا التراث العربي والقول بأنه موضوع مصنوع مفتعل.
لم يتوقف الشك عند القدامى فقط، بل تعداه إلى نقاد العصر الحديث فوقفوا موقف الريبة والشك في كثير من أخبار القدامى. وما يهمنا في هذا المقام هو نظرة القراءة التاريخية الحديثة إلى الشعر الجاهلي، وما تشكل حول أحداث هذا الشعر وأخباره وبنائه الفني في فترة الرواية الشفهية، مما جعل عامل النحل والوضع يتسرب إلى كثير من جوانبه، فدفع ببعض الدارسين إلى الشك في الوجود التاريخي للشعر وخاصة الوجود التاريخي لشعرائه وقصصهم ونصوصهم وصحة نسبها، وهذا ما سنقف عنده بالتفصيل.
أعاد المستشرقون قضية تحقيق نصوص الشعر الجاهلي إلى الواجهة، بإثارة جملة من الأسئلة حول هذا التراث، وخاضوا في قضاياه من خلال عدة مقالات وفي ثنايا بعض المؤلفات، ومن هذه المقالات نذكر ما خصص بكامله لهذه المسألة.
يعد مرجليوث من أبرز المستشرقين الذين أثاروا قضية توثيق الشعر الجاهلي والقول بالوضع في كثير من نصوصه وأخباره في القراءة الحديثة من خلال مقاله الذي نشر في مجلة الجمعية الملكية الأسيوية سنة 1925، فنفى فيه كون الرواية الشفهية هي التي نقلت إلينا الشعر الجاهلي، وأنها هي التي احتفظت به حتى انتهى إلينا، وأنها نمط من الرواية غير موثوق بها نظراً لطول الزمن واختلاف الرجال النقلة، ولذلك صار (( أول سؤال ينبغي أن نسأله هو: لو افترضنا أن هذا الأدب صحيح، فكيف حفظ؟ لا بد أنه حُفظ إما شفاها، أو كتابة. والفرض الأول يبدو أنه كان الرأي الذي أخذ به الرواة العرب، وإن لم يكن الرأي الذي أجمع عليه الكل... ثم إن البدو كان ينظر إليهم على أنهم غير جديرين بالثقة وأنهم متهورون في أقوالهم عن الأشعار؛ ومن هنا فإن نُقولهم الشفوية لا تلقى إلا القليل من التصديق بها))(40)، مع العلم أن الرواية المتواترة لهذا الشعر لم تنقطع حتى وصل إلى عهد التدوين في العصر العباسي بل بقيت حية مستمرة. وهذا ما يؤكده المستشرق "لابل" في مقدمته لديوان عبيد بن الأبرص.
اتخذ مرجليوث من حماد وخلف الأحمر دليلاً للقول بفساد رواية الشعر الجاهلي، إذ الجماعون الأوائل للشعر كانوا - مثل حمّاد - في الغالب أشخاصاً ذوي وازع ضعيف في انتحال الشعر، وبعد حماد بوقت قصير كان خلف الأحمر، المتوفى سنة 180 هـ، وعنه أخذ أبرز الرواة، وكان هو الآخر سيء السمعة؛ وقد أورد ابن خلكان، عن أبي زيد، أنه كان أذاع في الكوفة قصائد منحولة بوصفها قصائد قديمة، وحين أصابته علة اعترف بجريمته لأهل الكوفة، ولكن وجود مثل هؤلاء الرواة المشكوك في ثقتهم لم يمنع من وجود رواة آخرين عرفوا بالثقة والورع في الرواية مثل أبي عمرو الشيباني والأصمعي وأبي عبيدة، فجعل حماداً وخلف الأحمر الأصل في رواية الشعر الجاهلي، وعليه فالشك فيه جملة وتفصيلاً أمر فيه من المغالاة التي لا سند علمياً وعقلياً لها، مع أننا لا ننفي وجود المنحول في الشعر الجاهلي، ولكن لا يمكن أن يجعل منه الغالب الطاغي الذي يجعلنا نشك في الشعر الجاهلي جملة وتفصيلاً.
ذهب مرجليوث إلى أن هذا الشعر لا يعبر عن الحياة الدينية الجاهلية، إذ ((لو وجهنا انتباهنا إلى البنية الباطنية، وجدنا في هذه القصائد ملامح تثير الدهشة على الأقل. إن شعراء غالبية الأمم لا يشكون أبداً في ديانتهم، والعرب المسجّلون على النقوش كلهم صرحاء وفي هذا الموضوع؛ فمعظم النقوش تذْكر واحداً أو أكثر من الآلهة ومن الأمور المتعلقة بعبادتهم.... وربما تخيل المرء أن المواد المتعلقة بهذه الموضوعات كانت ضئيلة جداً، إذ الإشارات إلى الديانة في القصائد الموجودة نادرة، فأحد الشعراء يذكر أن ديانية تتفق مع ديانة قوم آخرين؛ لكنه لا يخبرنا أي ديانة كانت ديانته، وجو الشرك الذي نجده في النقوش غير موجود في هذه القصائد ))41، وبذلك يطرح مرجليوث شكه في الشعر الجاهلي من خلال أن هذا الشعر لا يعبر بصدق عن الحياة الدينية للمجتمع الجاهلي وهو الطرح نفسه الذي تبّناه طه حسين من بعده.
الشعر الجاهلي عند مرجليوث لا يمثل لهجات القبائل المتعددة في الجاهلية في بلاد العرب، كما لا يمثل الاختلاف المعلوم بين اللغة العدنانية في الشمال واللغة الحميرية في الجنوب، وإنما يمثل لغة واحدة هي لغة قريش، فكل هذه القصائد نظمت بلغة القرآن، وإن عثرنا هاهنا وهناك على كلمة أو شكل يقال أنه ينتسب إلى قبيلة بعينها أو منطقة من المناطق. فإن افترضنا أن فَرْض الإسلام على قبائل شبه الجزيرة العربية قد وحدّ لغتهم، لأنه زودهم بنموذج لسلامة اللغة لا نزاع فيه وهو القرآن... لكن من الصعب أن تتصور وجود لغة مشتركة قبل مجيء الإسلام بهذا العامل الموحِّد، لغة تختلف عن لغات النقوش وانتشرت في كل أرجاء شبه الجزيرة العربية. فلا بد أنه كانت من القبائل المختلفة، أو على الأقل مجموعات القبائل، اختلافات واضحة في النحو والألفاظ. والمجموعة التي جمعها الأب شيخو تبدأ بشعراء جنوبي الجزيرة العربية، ولغتها هي لغة القرآن، وفي داخل جنوبي الجزيرة العربية نفسها جاءت النقوش بلهجات عديدة، وبعضها قريب العهد بزمان النبي، وهي لا تفهم إلا بصعوبة، لأن العون الذي تقدمه العربية الكلاسيكية ضئيل بالنسبة إليها. ومع ذلك فإن الرواة المسلمين حين يروون أشعاراً لأحد ملوك حضرموت وهو الذي نظمها بنفسه، فيما يقولون، بحروف حميرية، فإنها مع ذلك بلغة القرآن، ومن المفروض أن شعبه يفهمها، وفيها من التعارض بين لغة النقوش وهي التي تحمل الصيغة العلمية الموثقة وبين لغة الشعر ذات الطابع الشفوي المروي.
يحاول مرجليوث التشكيك في الشعر الجاهلي من داخل النص الجاهلي معتمداً في ذلك على بعض الألفاظ والتراكيب التي وردت فيه والتي تحمل - حسب اعتقاده - صيغة إسلامية مثل القسم الدائم بالله وهو شائع في دواوين الجاهليين، وآراؤهم في أفعال الله هي ممّا لا يستطيع مسلم أن يرفضه، وتسبق أقوال القرآن في أدق تفاصيلها تقريباً. فالشك عند مرجليوث هو الأصل في نسبة الشعر الجاهلي وفي التعامل معه بوصفه موروثاً اعتمد على الشفهية في الرواية لا الكتابة (( فلربما نثق بأقوال " الأغاني " بمقدار ما يتضح أنها تستند إلى مواد مكتوبة؛ فإن كانت لدينا مجموعة الأشعار التي جمعت بأمر الخليفة المهدي، لكنا واثقين أن هذه القصائد كانت موجودة في عام 158هـ. وإذا بدا الجامع لها شخصاً ناقداً وصادقاً إلى حد معقول، فإننا سنثق فيه لو أخبرنا أنه جمع مادته من وثائق أسبق بكثير من ذلك التاريخ. لكن إذا كان لدينا، بدلاً من الاعتدال والصدق، حكايات طويلة عن أناس عاشوا مائتي سنة، وعن مجموعات من القصائد دفنت تحت القصور، وهياكل عظمية هائلة على رؤوسها ألواح مكتوب عليها - فسيكون لدينا ما يبرر رفضنا كل شيء على أساس أنه مكتوب، يعتمد على نقل شفوي طوال مدة لابد أن يكون قد نسي فيها كل ما كان حُفظ - فإننا نستطيع أن نتأكد تأكداً مضاعفا أن أقوال هذا المؤلف لا ينبغي أن نثق فيها، في أي موضوع كتب أو روي ))(42)، وذلك حكم عام وغير علمي اعتمد في إصداره على رواية أو اثنتين دونهما صاحب الأغاني يرى فيهما مرجليوث بوادر الشك. لقد عمم شكه في الشعر الجاهلي من خلال روايات تلاعبت بها أهواء الرواة وخاصة غير الثقاة منهم مثل حمّاد وخلف الأحمر.
فمبدأ الشك من حيث هو مبدأ علمي يجب أن نستعين به من أجل البحث عن الحقيقة وتوثيقها، وأن نجعل من الشك مبدأً للوصول إلى اليقين لا أن نشك من أجل أن نكرس الشك في حد ذاته، ونجعل منه هاجس القراءة الأوحد والأخير، والأصل في التعامل مع الشعر الجاهلي، وذلك ما لم تقف عليه قراءة مرجليوث، كما رد المستشرق أ - برنيليش على أطروحات مرجليوث الموغلة في الطرح حول صحة الشعر الجاهلي في مقال عنونه بـ" في مسألة صحة الشعر الجاهلي".
لا يعد مرجليوث أول المستشرقين الذين أعادوا قضية الشك في الشعر الجاهلي إلى واجهة البحوث العلمية في القراءة التاريخية الحديثة، بل يعد المستشرق الألماني تيودور نيلدكه أول الباحثين المحدثين الذين أعادوا إثارة القضية من جديد في بحثه الموسوم بـ"من تاريخ ونقد الشعر العربي القديم"سنة 1861، ثم تلاه "هـ . ألقرت" ببحثه الموسوم بـ" ملاحظات عن صحة القصائد العربية القديمة" سنة 1872 فحاول استقصاء الأبيات المنحولة وتحديدها، كما استقصى أخبار ونقد الرواة وخاصة خلف الأحمر، وبذلك مهدت الدراسات الاستشراقية حول الشعر الجاهلي للقراءة العربية التاريخية الحديثة لإعادة إثارة قضية الشك في هذا الشعر من جديد ولكن وفق رؤية ومعطيات جديدة أسهم في تأسيسها التطور العلمي الحديث وآلياته ومناهجه المحدثة.
أعادت القراءة العربية الحديثة إثارة قضية النحل والانتحال في الشعر الجاهلي من جديد إلى الساحة النقدية مستفيدة في مقاربتها من الأطروحات الاستشراقية، وكان أول من أعاد الإشكال إلى الواجهة من العرب المحدثين مصطفى صادق الرافعي في مؤلفه " تاريخ آداب العرب "، حيث خصص باباً كاملاً للرواية والرواة، جمع فيه جل ما أثاره القدماء حول موضوع الشك في بعض الشعر الجاهلي، وعمل الرواية والرواة في التأسيس لظاهرة الانتحال، مكتفياً في الكثير من المواطن على الجمع والسرد دون التدخل للبحث والاستقصاء في حيثيات المسألة ومحاورة الروايات والنصوص، فجمع منها الصحيح والمشكوك فيه، فلم يرق بحثه إلى الطابع العلمي الممحص في الظاهرة، بل غلب عليه التعجل في الحكم والجمع، كما حاول أن يحصي البواعث الأساسية لظاهرة الانتحال عند العرب في الفترة الإسلامية فأرجعها إلى الأسس الآتية:
أ - إقبال القبائل على وضع الشعر وخاصة منها التي قل شعرها في الجاهلية حتى تعوض النقص الذي فاتها، وكانت أبرز هذه القبائل قريش.
ب - الشواهد الشعرية لما كان من حاجة ماسة إليها من قبل اللغويين والبلاغيين من مدرسة الكوفة والبصرة، لتحتج بها في المسائل النحوية واللغوية، (( والكوفيون أكثر الناس وضعاً للأشعار التي يستشهد بها، لضعف مذاهبهم وتعلقهم على الشواذ واعتبارهم منها أصولاً يقاس عليها ))(43).
ج - اختلاف بعض المذاهب الكلامية مثل المعتزلة وحاجتها للشواهد التي يعتمدون عليها في تأويل بعض المسائل الخلافية كمسألة الكرسي.
د - استشهد بالقصص والأخبار كابن إسحاق في السيرة لاستهواء قلوب العامة من الناس، فاختلط فيها الصحيح بالأساطير، مما اضطرهم في كثير من المواطن إلى تدعيم أخبارهم وقصصهم بأشعار ينسبونها في بعض الأحيان إلى الإنس وأخرى إلى الجن.
هـ - الإطناب في الرواية والمغالاة فيها.
و بهذا لم يخرج الرافعي في إثارته للمسألة عما قال به القدماء وأثاروه، فلم يزد عنهم قليلاً أو كثيراً، بل كان أميناً في الجمع والإثارة.
أخذ الموضوع مع طه حسين بعداً جديداً مغايراً لما عرف عن القدماء والمحدثين من العرب، متأثراً إلى حد كبير ببعض أطروحات المستشرقين وبخاصة مرجليوث، فحمل النصوص أكثر مما تتحمل، واعتسف في الاستنتاج والاستنباط، ومال إلى الظن والافتراض، وجعل من الخبر الواحد قاعدة عامة، ومن الحالات الفردية أساساً لنظرية شاملة، فشك في الشعر الجاهلي جملة وتفصيلاً، واعتبره موضوعاً منحولاً، وبذلك سلك مسلك مرجليوث في تعامله مع هذا الشعر، ومن سار على نهجه من المستشرقين.
طه حسين(44) من أبرز الباحثين العرب الذين عرضوا بجرأة الطرح - بمنهج المستشرقين - في موقفه من الشعر الجاهلي؛ إذ يقرّ منذ البداية أن ((أول شيء أفاجئك به في هذا الحديث هو أنني شككت في قيمة الشعر الجاهلي وألححت في الشك، أو قل ألح علي الشك، فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إن لم يكن يقينا فهو قريب من اليقين، ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه شعراً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك في أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئاً ولا يدل على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي، وأنا أقدر النتائج الخطرة لهذه النظرية، ولكني مع ذلك لا أتردد في إثباتها وإذاعتها، ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلى غيرك من القراء أن ما تقرؤه على أنه شعر امرئ القيس أو طرفة أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء من شيء؛ وإنما هو انتحــال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين ))(45).
فطه حسين يرفض الكثرة المطلقة من الشعر الجاهلي بدعوى أنه منتحلٌ بعد ظهور الإسلام، ولا يمثل شيئاً من الحياة الجاهلية، ولا يدل على شيء منها، ولذلك لا ينبغي الاعتماد عليه في استخرج الصورة الصحيحة للعصر الجاهلي، بل إن استخراج الصورة الصحيحة لهذا العصر تكون من غير الشعر الجاهلي، فهو يزعم مع هذا كله أن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يضع، وأنَّا نستطيع أن نتصوره تصوراً واضحاً قوياً صحيحاً. ولكن يشترط، ألا نعتمد على الشعر، بل على القرآن من ناحية، والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى ، فالشعر الجاهلي لم يعد - في نظر طه حسين - مصدراً من المصادر التي يعتمد عليها في رسم ملامح البيئة الجاهلية في جانبها الديني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي وحتى الثقافي، بل نجد ذلك في القرآن والتاريخ والأساطير.
يؤسس طه حسين شكه في الشعر الجاهلي على نظرية منهجية واضحة المعالم مستمدة في كثير من أطروحاتها مما ذهب إليه المستشرقون وبخاصة مرجليوث، مخالفاً بذلك ما عرف عن العرب القدماء من اضطراب في الرؤيا وانطباعية في الأحكام، عبر إشارات متفرقة وعابرة.
يقسم طه حسين طرحه المبني على الشك في مؤلفه "في الشعر الجاهلي" إلى ثلاثة محاور:
1 - الدوافع التي دفعته إلى الشك في الشعر الجاهلي.
2 - الأسباب التي يرى أنها أدت إلى نحل الشعر الجاهلي.
3 - قسم ثالث خصصه للشعراء الذين يرى أنه قد مسهم الوضع.
فالدوافع التي أدت بطه حسين إلى الشك في الشعر الجاهلي هي:
- أن هذا الشعر لا يمثل الحياة الدينية والعقلية واللغوية للعرب في الجاهلية، فالحياة الدينية للعرب في العصر الجاهلي لا يعبر عنها الشعر لأن هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين فيُظهر لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس والمسيطرة على الحياة العملية؛ وإلا فأين تجد شيئاً من هذا في شعر امرئ القيس أو طرفة أو عنترة! أو ليس عجيباً أن يعجز الشعر الجاهلي كله عن تصوير الحياة الدينية للجاهليين!، ومن أراد أن يتعرف إلى هذه الحياة التي كانت العصب الروحي والعقائدي للعرب في الجاهلية، يعود إلى الدين الذي كانت له سطوة قوية على العربي في جاهليته، فكيف بالشعر الذي لا يصور هذه الحياة لا من قريب ولا من بعيد؛ القرآن - بحسب طه حسين – هو المصدر الرئيس الذي يمثل لنا شيئاً آخر، يمثل لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال، فإذا رأوا أنه قد أصبح قليل الغَنَاء لجأوا إلى الكيد، ثم إلى الاضطهاد، ثم إلى إعلان الحرب التي لا تبقي ولا تذر...فالقرآن إذن أصدق تمثيلاً للحياة الدينية عند العرب من هذا الشعر الذي يسمونه الجاهلي ، ولذلك فمرآة الحياة الدينية الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن الكريم لا في الشعر الجاهلي.
- الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة العقلية لأنه وجد في العامل الديني وما صحبه من جدال دعامة على القول بأن العرب في الجاهلية كانوا على قدر وافر من السمو العقلي والحضاري، (( فالقرآن الكريم لا يمثل الحياة الدينية وحدها؛ وإنما يمثل شيئاً آخر غيرها لا نجده في الشعر الجاهلي، يمثل الحياة العقلية قوية، يمثل قدرة على الجدال والخصام أنفق القرآن في جهادها حظاً عظيما أفتظن قوماً يجادلون في هذه الأشياء جدالاً يصفه القرآن بالقوة، ويشهد لأصحابه بالمهارة، أفتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين! كلا! لم يكونوا جهالا ولا أغبياء ولا غلاظاً ولا أصحاب حياة خشنة جافية؛ وإنما كانوا أصحاب علم وذكاء وأصحاب عواطف رقيقة وعيش فيه لين ونعمة ))(46)، ومن قال بجهل وغباوة أهل الجاهلية فإنه غير مدرك لمعنى الجاهلية، فهي ليست بالمعنى المنافي للعلم، وإنما تعني الغلظة في السلوك والمعاملة، وأصدق دليل على تمكنهم من ناحية المعرفة هو هذا الشعر قبل القرآن، فهو مقياس يدل على سمو ذوق الجاهلي وإتقانه لصنعة فن القول في معانيها وشاعريتها ورؤيتها ودلالاتها وبناها التركيبية، فما رُوي عن الجاهليين من شعر، دليل على عمق قدرتهم العقلية، وليس قدرتهم العقلية كما وصفها القرآن الكريم حجة لنقض الشعر الجاهلي، فهي حجة لصحة هذا الشعر لا للقول بوضعه، وهي نقض لمذهب طه حسين في توجهه العام.
- الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة السياسية للعرب بالجاهلية، في علاقاتهم مع جيرانهم من الأمم الأخرى كالفرس والروم، بل صورت لنا الروايات والأخبار التاريخية أن هؤلاء العرب كانوا قبل الإسلام أمة منعزلة تعيش في صحرائها لا تعرف العالم الخارجي ولا يعرفها العالم الخارجي؛ وهم يبنون على هذا قضايا ونظريات، فهم يقولون إن الشعر الجاهلي لم يتأثر بحضارة الفرس والروم. وأنّى له ذلك! لقد يقال في صحراء لا صلة بينها وبين الأمم المتحضرة. كلا! القرآن يحدثنا بشيء غير هذا، القرآن يحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم بل كانوا على اتصال قوي قسمهم أحزابا وفرقهم شيعا. أليس القرآن يحدثنا عن الروم وما كان بينهم وبين الفرس من حرب انقسمت فيها العرب إلى حزبين مختلفين حزبٌ مشايع أولئك، وحزب يناصر هؤلاء.
- الشعر الجاهليُّ لا يصور ذلك التمايز الطبقي الذي كان موجوداً في المجتمع الجاهلي، بين طبقة غنية مسرفة في ملذات الدنيا وطبقة محرومة من أدنى شروط الحياة، كما لا يصور تلك العلاقة الاقتصادية التي كانت تربط العرب بمن حولهم من الأمم بخلاف القرآن الكريم الذي (( يصف اتصالهم الاقتصادي بغيرهم من الأمم في السورة المعروفة { لإيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ...} وكانت إحدى هاتين الرحلتين إلى الشام حيث الروم، والأخرى إلى اليمن حيث الحبشة أو الفرس ))(47).
يرى طه حسين في مسألة الشعر الجاهلي واللغة مبرراً كبيراً للشك في هذا الشعر لأن هذا الشعر الذي يسمونه جاهلياً لا يمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحاً، ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم كثيرا من الشعر قوماً ينتسبون إلى عرب اليمن إلى هذه القحطانية العاربة التي كانت تتكلم لغة غير لغة العرب، والتي أثبت البحث الحديث أنها لغة أخرى غير اللغة العربية، ولكننا حين نقرأ الشعر الذي يضاف إلى شعراء هذه القحطانية في الجاهلية لا نجد فرقاً قليلاً ولا كثيراً بينه وبين شعر العدنانية. نستغفر الله! بل لا نجد فرقاً بين لغة هذا الشعر ولغة القرآن، فكيف يمكن فهم ذلك أو تأويله؟ أمر ذلك يسير، وهو أن هذا الشعر الذي يضاف إلى القحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء، لم يقله شعراؤها وإنما حمل عليهم بعد الإسلام لأسباب مختلفة، وجوهر هذا الطرح أن اللغة القحطانية بعيدة كل البعد عن اللغة العدنانية عامة واللغة القرشية خاصة، بل بين اللغتين فروق جوهرية تثبتها النقوش الحميرية التي اكتشفت استناداً إلى ما أورده أبو عمرو بن العلاء - والذي أورده طه حسين على أنه دليل ثان على صحة طرحه - (ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا )، وهو الطرح نفسه الذي نجد لـه حضوراً في مقال مرجليوث الذي فصلنا فيه القول سابقاً، مما يبين المرجعية التي استند عليها طه حسين في هذا التحليل الذي يرى فيه دعامة لشكه في صحة الشعر الجاهلي، وخاصة منه ما ينسب إلى الشعراء الجنوبيين وفي مقدمتهم امرؤ القيس، وبذلك ينفي صحة هذا الشعر المنسوب إلى الشعراء القحطانيين.
لم يتوقف طه حسين عند هذا الحد، بل يذهب إلى التشكيك في الشعر المنسوب إلى شعراء الشمال من القبائل العدنانية باعتبار عامل اختلاف اللهجات فيما بين هذه القبائل، ((فالرواة مجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل أن يظهر الإسلام فيقارب بين اللغات المختلفة ويزيل كثيراً من تباين اللهجات... ولكننا لا نرى شيئاً من ذلك في الشعر العربي الجاهلي، فأنت تستطيع أن تقرأ هذه المطولات أو المعلقات التي يتخذها أنصار القديم نموذجاً للشعر الجاهلي الصحيح، فسترى أن فيها مطولة لامرئ القيس وهو من كندة أي من قحطان، وأخرى لزهير، وأخرى لعنترة، وثالثة للبيد، وكلهم من قيس، ثم قصيدة لطرفة، وقصيدة لعمرو بن كلثوم، وقصيدة أخرى للحارث بن حلّزة وكلهم من ربيعة... كل شئ في هذه المطولات يدل على أن اختلاف القبائل لم يؤثر في شعر الشعراء تأثيراً ما. فنحن بين اثنين: إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان وقحطان في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي‌‍‌‌‌‍‌‌‌‍‌‌‍‍‍‍! وإما أن تعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل وإنما حمل عليها حملاً بعد الإسلام. ونحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى. فالبرهان القاطع قائم على أن اختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلى عدنان وقحطان، يعترف القدماء أنفسهم بذلك كما رأيت أبا عمرو بن العلاء، ويثبته البحث الحديث ))48.
أنهى طه حسين دوافع شكه في صحة الشعر الجاهلي بالحديث عن عامل اختلاف اللهجات بين قسمي الجزيرة العربية وبين قبائلها، فيؤكد يقينه المطلق من أن هذا الشعر منحول موضوع، فإن لم يكن كله فأغلبه، ولكنه لم يكتف بهذه الدوافع، بل يعنت نفسه في التفصيل في مسائل يرى أنها أسباب مباشرة حملت على وضع الشعر الجاهلي وانتحاله بعد الإسلام، فحددها في العامل السياسي والديني والقصصي والشعوبي والرواية والرواة.
أما عامل السياسة فيقصره طه حسين في العصبية ويخص بها قريشاً والأنصار دون الطوائف السياسية الأخرى في العصر الأموي لأن العصبية وما يتصل بها من المنافع السياسية قد كانت من أهم الأسباب التي حملت العرب على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين...إن مؤرخ الآداب مضطر حين يقرأ الشعر الذي يسمى جاهلياً أن يشك في صحته كلما رأى شيئاً من شأنه تقوية العصبية التي يؤيدها تأييداً فريق من العرب على فريق. ويجب أن يشتد هذا الشك كلما كانت القبيلة أو العصبية التي يؤيدها هذا الشعر قبيلة أو عصبية قد لعبت - كما يقولون - دوراً في الحياة السياسية للمسلمين.
ظهر العامل الديني في انتحال الشعر الجاهلي في عدة أوجه منها:
انتُحل لإثبات صحة النبوة وصدق النبي، وهو ما كان موجهاً إلى عامة الناس من اختلاف للأشعار على لسان الجن والإنس باسم الدين لتدعيم الأخبار والأساطير، وفي كتب السير والتاريخ أمثلة كثيرة، وآخر وضع لتعظيم شأن النبي من ناحية نسبه وأسرته في قريش؛ وثالثٌ انتحله هؤلاء القصاص والمفسرون لتفسير أخبار الأمم البائدة التي وردت في القرآن الكريم كعاد وثمود، وهو ما أشار إليه ابن سلام وأنكره إنكاراً شديداً في الطبقات؛ ورابعٌ يعود لمدارسة القرآن في لغوياته فأراد الكثير أن يثبتوا عربية ألفاظه وأساليبه وتراكيبه ومعانيه فأجهدوا أنفسهم من أجل إيجاد لكل لفظة قرآنية ما يطابقها في كلام العرب حتى يثبتوا أن هذا القرآن أُنزل بلسان عربي مبين.
وبذلك كان للعامل الديني الحضور القوي والمتميز - حسب طه حسين - في توفير الأسباب لانتحال الشعر وإضافته للعرب دون التمييز في ذلك، حتى أصبح وجه الانتحال ظاهراً للعيان، كما كان لوجود بقايا الديانات السماوية من حنفية ويهودية ونصرانية في شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، دور أساس في وضع الشعر، فكان يوظفه أتباع هذه الديانات في الدفاع عن وجودهم في ربوع شبه الجزيرة العربية من خلال نسبة عدة أشعار لشعرائهم، كأمية بن أبي الصلت والسموءل وعدي بن زيد وغيرهم من الشعراء الكتابيين حتى ينافسوا الشعراء الوثنيين.
كما كان لعامل القص دور في وضع الشعر (( ومن هنا نستطيع أن نقول مطمئنين أن مؤرخ الآداب العربية خليق أن يقف موقف الشك - إن لم يقف موقف الإنكار الصريح - أمام هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين، والذي هو في حقيقة الأمر تفسير أو تزيين لقصة من القصص أو توضيح لاسم من الأسماء أو شرح لمثل من الأمثال ))(49)، فكل ما يروى عن عاد وثمود وطسم، وجديس، وجرهم، وتبع، وحمير، وشعراء اليمن وأيام العرب وحروبها وعلاقاتها بالأمم الأجنبية قبل الإسلام موضوع لا أصل لـه والكثرة منه موضوعة من غير شك.
إن الشعوبية عامل رابع من عوامل الوضع في الشعر الجاهلي، حدثت نتيجة للخصومة بين العرب والموالي، ابتداء من العصر الأموي، حتى ليعتقد طه حسين جازماً أن هؤلاء الشعوبية قد انتحلوا أخبارا وأشعارا كثيرة وأضافوها إلى الجاهليين والإسلاميين، ولم يقف أمرهم عند انتحال الأخبار والأشعار، بل هم قد اضطروا خصومهم ومناظريهم إلى الانتحال والإسراف فيه، وبذلك أدخلت النزعات الشعوبية الشعر الجاهلي في متاهاتها العصبية، فكان الأعاجم يضعون الشعر الذي يسرف في ذكر عيوب العرب ومثالبهم، والعرب يضعون الشعر للدفاع عن العرب وعرقهم ونسبهم، ويرفع من أقدارهم.
و لما كانت الرواية والرواة عصب حفظ الشعر الجاهلي، فإن طه حسين يؤكد تلاعب الرواة بالأخبار، إما فسوقاً واستهتاراً منهم وإما لغرض شعوبي دفين، وحمّاد وخلف وأبو عمرو الشيباني رواد في ذلك، ولعل أهم هذه المؤثرات التي عبثت بالأدب العربي وجعلت حظه من الهزل عظيماً، مجون الرواة وإسرافهم في اللهو والعبث...اعترف هو مَنْ هو للأصمعي أنه وضع غير قصيدة...وهناك طائفة من الرواة غير هؤلاء ليس من الشك في أنهم كانوا يتخذون الانتحال في الشعر واللغة وسيلة من وسائل الكسب، وكانوا يفعلون ذلك في شيء من السخرية والعبث، نريد بهم هؤلاء الأعراب الذين كان يرتحل إليهم في البادية رواة الأمصار يسألونهم عن الشعر والغريب.و بالحديث عن الرواية والرواة يختم طه حسين مناقشته وعرضه للدوافع والأسباب الأساسية التي جعلته يشك في الشعر الجاهلي وقيمته الفنية.
إن الذي لم يدركه طه حسين في طرحه، أن القدماء لم يتعاملوا مع موضوع الرواية والرواة تعاملاً سطحياً، بل عملوا كل ما في وسعهم لبناء منهج علمي مؤسس، فجعلوا من الإسناد جزءاً أساسياً في رواية الأخبار، وما اعتمادهم على الإسناد في رواية الخبر إلا لهدف الموازنة بين الروايات والتحقيق بينها، إقتداءً وتأثراً بالمنهج الذي انتهجه علماء الحديث الشريف في التدوين والتحقيق، فنسجوا على منوالهم. ولكن هذا لم يمنع من أن الرواية الأدبية كانت (( أصلاً قائماً بذاته، وقد وجدت عند العرب منذ الجاهلية، فكان علماء النسب الجاهليون ومن أدرك منهم الإسلام يأخذون علمهم بالنسب عن شيوخ هذا العلم ممن تقدمهم أو عاصرهم، وكذلك كان رواة الشعر والأخبار الجاهلية ))(50). فالرواية الأدبية عند القدماء التزمت الإسناد في غالب الأحايين، ولكنها لم تهتم به اهتمام علماء الحديث، ونحن نقصد بالإسناد، الإسناد المتصل، لا الإسناد المرسل المنقطع.
فهذا الضرب الثاني من الإسناد يكاد يكون ملتزماً في رواية الأدب التزاما لا إخلال فيه، ومن هنا كان هذا الإسناد الملتزم في الرواية الأدبية إسناداً مرسلاً أو منقطعاً، وبذلك فليس للرواية الأدبية إذن علم للسند ونقده، بل ليس للرواية الأدبية سند كالسند الذي عرفه الحديث النبوي الشريف، وقصارى السند في الأدب حين يوجد أن يكون دليلاً على أنّ الرَّاوية قد لقي العلماء، وأخذ علمه من أفواههم في مجالس العلم، ولم ينقله في صحيفة، وبذلك ندرك أن المنهج المتبع في الرواية وفي الإسناد، وفي منهج القياس أو غيرهما من المناهج لم يكن خاصاً بعلم أو فرع معرفي دون آخر. فمنهج الرواية بالإسناد تجده - إذن - عند رواة الحديث وعند رواة الشعر، وعند رواة الأخبار والقصص وعند أهل العلم بالنسب، وذلك ما لم يراعه طرح طه حسين في تعامله مع قضية الشعر الجاهلي.
يختم طه حسين مؤلفه "في الشعر الجاهلي" بذكر أسماء من الشعراء الجاهليين بأسمائهم، حيث يعدهم من أهم المسائل التي مسها الوضع والانتحال في شعرهم وأخبار سيرهم وهم امرؤ القيس وعلقمة وعبيد بن الأبرص وعمر بن قميئة والمهلهل وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وطرفة بن العبد والمتلمس، فيختار الأدلة التي تثبت مذهبه في الانتحال من سيرهم ومن أشعارهم.
تعد الروايات الأدبية مصدر التراث العربي القديم، ولئن شكَّك "طه حسين" في رواية الثقاة فإنّه يشكِّك في مصادر التراث العربي بعامة. وهو منهج على الرغم من أنّه يدعي العلمية إلا أنّه لا يلتزم بأبسط قواعد العلمية التي تؤكد صحة الخبر حتى يثبت وضعه وانتحاله. ومذهبنا هذا غير مبني على دافع عاطفي وإنّما أساسه أنّ الرواية الشفهية مصدر أغلب التراث العالمي القديم. فلماذا الطعن في التراث العربي دون غيره من التراث العالمي الآخر؟ علماً بأنّ التراث العربي يعد محدثا إذا ما قورن بالتراث العالمي الآخر، وبذلك ندرك أن طه حسين كان يجرب منهجاً أكثر مما كان يريد أن ينصف في دراسته لموضوع الشعر الجاهلي إنصافاً مبنياً على أسُس علمية وحجج بينة.
يعتمد منهج طه حسين في مدارسة الشعر الجاهلي على منهج " ديكارت" المبني على قاعدة الشك في الظواهر من أجل تحقيقها، فيقر أنه يسلك (( في هذا النحو من البحث مسلك المحدثين من أصحاب العلم والفلسفة فيما يتناولون من العلم والفلسفة. أريد أن أصطنع في الأدب هذا المنهج الفلسفي الذي استحدثه"ديكارت" للبحث عن حقائق الأشياء في أول هذا العصر الحديث ))
(51)، والقاعدة الأساسية لهذا المنهج هي أن يتجرد الباحث بحسب طرح طه حسين من كل شيء كان يعلمه من قبل، وأن يستقبل موضوع بحثه خالي الذهن مما قيل فيه خلوا تاماً، فلا ميول دينية أو تاريخية أو عرقية، بل يجب على الباحث أن يتجرد من كل ذلك حتى يكون موضوعيا في طرحه.
إن الكثير من تلك الأطروحات في البحوث تطغى عليها الميولات الشخصية والجماعية فتلبسها لباسها لا لباس العقل والموضوعية، وهو طرح فيه من العلمية الكثير إذا ما استثمر استثماراً علمياً لا استثماراً مغرضاً حتى يصبح الشك عند طه حسين هدفاً وغاية لا وسيلة توصل إلى الحق واليقين، وكأن طه حسين أصبحت هوايته الشك ظناً منه أنها الطريق العلمي الأوحد، إذ النتائج اللازمة لهذا المذهب الذي يذهبه المجددون عظيمة جليلة الخطر، فهي إلى الثورة الأدبية أقرب منها إلى شيء آخر، وحسبك أنهم يشكون فيما كان الناس يرونه يقيناً، وقد يجحدون ما أجمع الناس على أنه حق لا شك فيه، لكن قيمة منهج ديكارت لا تكمن في أنه يجعل من الشك منهجه ومبتغاه، وإنما كان يطلب بشكه مخرجاً من الشك في حد ذاته ليوصله إلى اليقين، ينضاف إلى ذلك أنه طبق منهجه في مسائل مختلفة فأثمرت في بعض الجوانب وتثمر في أخرى، أثمرت معه في الرياضيات إذ ابتكر فيها الهندسة التحليلية حتى نسبت إليه، ولم تثمر في مجالات المعرفة ذات الطابع الإنساني إلا بشكل قليل.
ينطلق ديكارت في منهجه من قواعد معروفة لديه ليهتدي بها العقل في الوصول إلى الحق، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
1 - ألا نقبل شيئا قط على أنه حق من غير أن نكون على بيِّنة من أنه كذلك. أي أن نتجنب العجلة والهوى، وألا نُضمن قضايانا من الحكم أكثر مما يتمثل للعقل تمثلاً هو من التمييز والوضوح بحيث لا يبقى للشك فيه مجال.
2 - أن نجزّئ كل مشكلة نمتحنها إلى أكثر ما يمكن أو إلى ما يتطلبه حل المشكلة من الأجزاء.
3 - أن نسير في تفكيرنا على ترتيب ونظام مبتدئين بأبسط الأشياء وأسهلها معرفة لنرتقي بالتدريج إلى علم أعقدها.
4 - أن نقوم في كل حالة بتعداد هو من الكمال، وباستعراض هو من السعة، بحيث نكون على ثقة من أننا لم نفلت شيئاً(52).
و هي قواعد أوردها ديكارت لأول مرة في رسالته " مقال في المنهج"، والتي كان يهدف من ورائها إلى تنوير العقل وإمداده بالمنهجية العلمية في تتبع الظواهر، للبحث فيها من أجل التأسيس لعلمية العلوم، لكن طه حسين خلط بين الشك المخرج من الشك، فجعل الشك القاعدة الأساسية لمنهجه في التعامل مع الشعر الجاهلي، فبدل أن يتخلص بالشك من الشك وقع فيه، بل جعله ديدنه ومبتغاه، وصرح بذلك منذ بداية البحث ولم يرجئ ذلك إلى النهاية لعلنا نفهم أن هذا الحكم جاء نتيجة طبيعية للبحث والاستقصاء والتمحيص والتدقيق في تفاصيل إشكالية الشعر الجاهلي، فهو المنطلق من فكرة مسبقة مبنية على يقينية إنكار الشعر الجاهلي، وذاك الزيغ عينه عن المنهج العلمي.
يلمس القارئ في مقاربة طه حسين للشعر الجاهلي منذ البداية أنه يعطي الصدارة والأهمية والأولوية في مقاربته للمنهج والرؤيا التي استمد منها آليات المقاربة أكثر من اهتمامه بالموضوع في حد ذاته، وبذلك يقع في فك طغيان المنهج على حساب الموضوع، الموضوعي هو أن تكون الأداة القرائية - المنهج - وسيلة لمقاربة الموضوع لا غاية في حد ذاتها.
تمكن طه حسين بهذا الطرح أن يقدم الموضوع القديم بمنهجية جديدة تنقل الإشكال من الطابع الجزئي المحدود الذي تميز به عند القدماء، إلى طابع شمولي أخذ مسار المعركة النقدية والمنهجية والفكرية، فاتسعت رقعتها لتخرج من الإطار المخصص لها إلى إطار الحياة في شتى مجالاتها، وكان السبب المباشر في اتساع رقعة هذه الإشكالية مساسها بالمثل الأعلى للشعر العربي -الشعر الجاهلي-. فالمساس به مساس بقدسية اللغة العربية لغة القرآن المقدس، بخاصة وأن هذه اللغة هي المقدس الذي لا يمكن المساس به وبمرجعيته عند الجيل السابق لطه حسين، جيل المحافظين.
فالمعركة التي تبناها طه حسين في طرحه لإشكالية الشعر الجاهلي هي معركة ذات أبعاد حضارية قبل أن تكون ذات أبعاد نقدية، وكان ذلك بفعل تأثره بأساتذته المستشرقين الذين تتلمذ على أيديهم سواء أكان ذلك في الجامعة الأهلية بمصر أم في فرنسا من أمثال جويدي ونللينو وفييت، حيث كان منهجهم في مقاربة التراث وإشكالياته يعتمد على آليات منهج تاريخ الأدب الذي يركز على تحقيق الظواهر الأدبية.
بينما كان المنهج العربي وبخاصة في الجامعة المصرية يعتمد في تعامله مع النصوص الأدبية على المناهج اللغوية الذوقية التي تعتبر امتداداً لمنهج المرصفي، فكان ولوع طه حسين بمنهج الاستشراق أكثر من المنهج العربي معتبراً أن (( مذهب الأستاذ المرصفي نافع كله إذا أريد تكوين ملكة في الكتابة وتأليف الكلام وتقوية الطلاب في النقد وحسن الفهم لآثار العرب. وليس يريد الأستاذ أكثر من ذلك، وهذا المذهب وحده لا يكفي لإجادة البحث عن الآداب وتاريخها على المنهج الحديث. والمذهب الذي أحدثته الجامعة في درس الآداب بمصر نافع كله لاستخراج نوع من العلم لم يكن به عهد مع شدة الحاجة إليه. وهو تأريخ الآداب تأريخاً يمكننا من فهم الأمة العربية، خاصة، والأمم الإسلامية عامة، فهماً صحيحاً حظ الصواب فيه أكثر من حظ الخطأ ونصيب الوضوح فيه أوفر من نصيب الغموض ... ولست أزعم أننا لسنا في حاجة إلى درس الآداب على المنهج القديم، بل أقول إننا في حاجة إلى المنهجين معاً))
(53)، وهي دعوة واضحة إلى التركيز على آليات المقاربة التاريخية؛ وبخاصة تحقيق الظواهر مع المزاوجة القليلة بالمنهج العربي، وإن كانت هذه الدعوة تحمل تلميحاً مبطناً إلى أن المنهج العربي أصبح قاصراً في مواجهة إشكاليات التراث العربي، وأن الخلاص يكمن في تبني المنهج الغربي بكل ما يحمله من رؤى.
فالإشكال الذي يطرحه منهج طه حسين في مقاربة للشعر الجاهلي إشكال تعدى حدود الظاهرة الأدبية من حيث هي ظاهرة أدبية إلى الطرح ذي البعد الصدامي بين نمطين من التفكير، نمط قديم ونمط حديث (( كان لابد لطه حسين وجيله من الطبقة الوسطى أن يحققوه: تحطيم القداسة التقليدية على المستويات المختلفة، حتى يستطيعوا أن ينتقلوا حقاً بمجتمعهم إلى مرحلة ثقافية اجتماعية سياسية جديدة هي مرحلة الرومانسية في الفن والليبرالية في الفكر، مرحلة سيطرة الطبقة الوسطى، ومن أجل هذا كان لابد من إحلال المنهج الوضعي/ البشري محل الميتافيزيقي للأشياء وللعالم، أي ليقيموا مقدساتهم بدلا من المقدسات السابقة))(54)، لذا أعطى طه حسين الصدارة والاهتمام الكلي للمنهج على حساب الموضوع حتى غاب الموضوع الأساس أمام المنهج وآلياته، فأصبح الشك هو المبتغى وليس دراسة إشكالية انتحال الشعر الجاهلي.
أثار طه حسين بكتابه هذا ومذهبه في الشك في الشعر الجاهلي والقول بانتحاله كله في كثير من المواطن وبنسب متفاوتة في مواطن أخرى، معركة نقديّة كان لها الدور البارز في التأسيس لقراءة فيلولوجية متميزة، بحثت في الموضوع بحثاً مستفيضاً، فكانت النقود لكتاب "في الشعر الجاهلي" متفاوتة في منْحاها وأطروحاتها وأساليب معالجتها للموضوع، منها ما اعتدل في النقد فغلب عليه الطرح العلمي الرزين، ومنهم من غالى في النقد حتى اشتط وغلب عليه الطابع الشخصي الذي أبعده عن الطرح العلمي.
ومن أهم المؤلفات التي برزت في ذلك "نقد كتاب الشعر الجاهلي " لمحمد فريد وجدي، وكتاب "الشهاب الراصد" لمحمد لطفي جمعة، وكتاب "نقض كتاب الشعر الجاهلي" لمحمد الخضر حسين، وكتاب " محاضرات في بيان الأخطاء العلمية والتاريخية التي اشتمل عليها كتاب في الشعر الجاهلي" لمحمد أحمد الغمراوي مع مقدمة مفصلة للأمير شكيب أرسلان، وفصول من كتاب "تحت راية القرآن" لمصطفى صادق الرافعي، والتي حاول ناصر الدين الأسد في مؤلفه "مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية" إحصاءها والتعريف بأطروحات كل واحد منها (55).
زامنت المعركة النقدية حول قضية الشعر الجاهلي محاضرات طه حسين وهو يلقيها على طلبته في الجامعة، وكان من الرواد الذين خاضوا هذه المعركة أبو الفهر محمود محمد شاكر الذي دوَّن أحداث هذه المعركة في بواكــرها الأولى وبشكلها الأوليِّ في مقدمة كتابه "المتنبي رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" التي عنونها بـ " قصة هذا الكتاب، وقصتي مع الشعر الجاهلي"(56).
حاول أن يجسد فيها طبيعة المعركة النقدية التي أثارتها محاضرات طه حسين وهو يلقيها على طلبته في مدرج الجامعة المصرية بالقاهرة، وكانت هذه المعركة ذات طابع سجالي يحمل الكثير من التساؤلات عن المصدر الأساس لهذه الأطروحات والهدف الرئيس منها، وأنها أطروحات مستهلكة لاكتها ألسنة استشراقية قبل أن يطرحها طه حسين، فكانت هذه السجالات خير دليل على نباهة الحس العلمي عند المتلقي العربي، مما مهد الطريق لفصول أخرى في المعركة النقدية حاولت فيها القراءة العربية التاريخية أن تأخذ مسار أكاديمياً لاحقاً.
ينطلق محمود محمد شاكر في نقضه لأطروحات طه حسين في محاضراته حول الشعر الجاهلي من مرجعية تستند في أساسها على إطلاعه الواسع على الشعر الجاهلي، بحيث عايش هذا الشعر قراءة وحفظاً منذ صباه، فخبر الكثير من دقائق هذا الشعر انطلاقاً من النص الجاهلي، وثانيها إطلاعه على كتابات المستشرقين حول الشعر الجاهلي وبخاصة مقال مرجليوث " نشأة الشعر الجاهلي" فكان كل ما أراد أن يقوله: أنه يشك في صحة الشعر الجاهلي، لا، بل إن هذا الشعر الجاهلي الذي نعرفه، إنما هو في الحقيقة شعر إسلامي وضعه الرواة المسلمون في الإسلام، ونسبوه إلى أهل الجاهلية، وسخفا في خلال ذلك كثير. ولأني عرفت حقيقة الاستشراق، لم ألق بالاً إلى هذا الذي قرأت، وعندي من هذا الفرق الواضح بين الشعر الجاهلي والإسلامي.
فالمستشرقون ينطلقون في تعاملهم مع الشعر الجاهلي على أنه نقش مقبرة عادية قديمة، مكتوب بلغة ماتت ومات أهلها، مدفوعين إلى ذلك لا من منطلق المنهج العلمي الذي يعمل من أجل تجلية الحقيقة العلمية، وإنما بدافع الهوى والضغائن، كما أنهم يكتبون إلى ملقٍ لا دراية لا بلغة العرب ولا بآدابها، لذلك يستطيع القارئ العربي العارف بخبايا العربية وجمالياتها، وبخاصة في الشعر الجاهلي إدراك افتراء هؤلاء المستشرقين على هذا الشعر، فمنهج الاستشراق في التعامل مع الشعر الجاهلي غير مبني على تذوق سليم لجمالية هذا الشعر في بنيته اللغوية والدلالية المتفردة والمتميزة.
لاحظ محمود محمد شاكر بعد حوار له مع زميله عقب الاستماع إلى محاضرات طه حسين أن اتكاء الدكتور على منهج ديكارت خاصة ما ورد في كتابه " مقال في المنهج " هو الأساس العلمي في تعامله مع الشعر الجاهلي - كما يدعي - ولكنه في الحقيقة يحمل الكثير من المغالطات والتهويل تنم عن سوء فهم لآليات هذا المنهج وغاياته العلمية، وأن تطبيق طه حسين لهذا المنهج ليس من منهج ديكارت في شيء. وأن ما يقول به في محاضراته ما هو إلا سطو مجرد على مقالة مرجليوث، وأن ما جاء به طه حسين لا يزيد على أن يكون "حاشية " على هذه المقالة، مجرداً من الإحساس الحقيقي بالشعر الجاهلي في لغته وجمالياته، وبذلك كانت المحاضرات تزييفا فظيعا لهذا الشعر وسطوا، مما يهز قواعد الآداب التي نشأ عليها هذا الشعر هزاً عنيفاً.
فتعامل طه حسين مع الشعر الجاهلي وفق الرؤية السالفة الذكر، هو الذي أثار المعركة النقدية منذ الوهلة الأولى، وليس أدلّ على ذلك ما يذكره محمود محمد شاكر في قصته مع الشعر الجاهلي وما دار بينه وبين أستاذه من خصام نقدي في مدرج الجامعة، مؤكداً أن مرجعية طه حسين في التعامل مع الشعر الجاهلي لم تكن مرجعية ذات أصول عربية بريئة تبتغي الغاية العلمية في تحقيق الشعر الجاهلي وتمحيصه وفق آليات القراءة الفيلولوجة، بل كانت في الأساس ذات مرجعية استشراقية مبطنة لا بغاية علمية بريئة وإنما بغاية غير مؤسسة على أساس علمي، وأن طه حسين لم يكن إلا صدى لأطروحات المستشرقين، بل كان مبلغاً وداعياً لها بقلم ولسان عربيين.
و على الرغم من الطابع الشفهي السجالي الذي اتسمت به بداية المعركة النقدية في مدرج الجامعة أيام إلقاء المحاضرات، إلا أنها كانت بمثابة الخطوة الأولى التي استكشفت الكثير من الجوانب الخفية حول الإشكال الذي طرحه طه حسين ومرجعيته الفكرية والمنهجية، فمهدت للتأسيس لمرحلة ثانية من المعركة النقدية حول الشعر الجاهلي اتسمت بالطرح العلمي الأكاديمي الهادئ الذي ناقش الإشكالية في جوانبها العلمية والمنهجية المبنية على الدراسة المتفحصة لجل الإشكاليات العالقة بالشعر الجاهلي.
تعد مقاربة ناصر الدين الأسد من بين أهم الإسهامات العلمية التي أُنجزت للدفاع عن قيمة الشعر الجاهلي، فامتازت بالطرح العلمي المتميز والمناقشة الهادئة باستقصاء موضوع الشعر الجاهلي، فنقض الكثير من أطروحات طه حسين حول الشك في الشعر الجاهلي بمنهج واضح بعيد عن التعصب والاندفاع الذاتي، فاستهل الموضوع بعرض مفصل للمكونات الأساسية للمجتمع العربي في الجاهلية في شبه الجزيرة العربية، ثم انتقل إلى التفصيل قي قضية الكتابة وأدواتها وموضوعاتها في العصر الجاهلي وكتابة الشعر الجاهلي وتدوينه وتقييده، ثم أفاض في مسألة الرواية والسماع واتصال حلقة الرواة من الجاهلية حتى القرن الثاني الهجري، وطبقات الرواة والإسناد في الرواية الأدبية وكيفية توثيق الرواة وتضعيفهم، وإشكالية الانتحال وكيف أثارها القدماء والمستشرقون، والقراءة العربية الحديثة.
اختتم ناصر الدين الأسد بحثه المستفيض الذي جاوز الستمائة صفحة بباب خصصه لدواوين الجاهلية المفردة منها ودواوين القبائل والمختارات الشعرية كالأصمعيات والمفضليات والأشعار المبثوثة في المصنفات العلمية الأخرى كالكتب الأدبية اللغوية والسير وغيرها. فاعتُبِرَ هذا المؤلف بحق من القراءات الممنهجة علمياً، الواضحة الطرح، الأكاديمية في العرض والمناقشة، لا تنتصر إلى المسألة إلا إذا وجد الدليل إلى ذلك، مبيناً أن الشعر الجاهلي حقيقة لا شك فيها على الرغم من أن المسائل التي أثيرت حول صحته سواء أكانت عند القدماء أم المحدثين من مستشرقين أو عرب وبخاصة عند طه حسين فيها نصيب من الطرح العلمي الصحيح، ولكنها لا تجعلنا نغالي فننكر أغلب هذا الشعر ، فهو حقيقة وجدت ونقلت إلينا بأمانة في كثير من المواطن.
و بذلك طرحت القراءة التاريخية الحديثة إشكالية الشعر الجاهلي طرحاً فيلولوجياً بكلِّ ما تحمله من مزالق على بساط البحث والمناقشة، فأثارت بطرحها الشك في الشعر الجاهلي معركة نقدية أسهمت إلى حد كبير في إثراء الثقافة العربية الحديثة، ورفعت اللبس عن كثير من المسائل التي ظلت أمداً طويلاً من المسائل المستعصية في تاريخ الثقافة العربية، فأجهدت القراءة العربية الحديثة نفسها بتحقيق رواياته ونصوص الشعر الجاهلي، وتمحيص مسائله حتى ترقى به إلى مصاف التراث العالمي ذي الجذور العميقة التي لا تتزعزع، بالآليات العلمية المؤسسة على رؤية واضحة المعالم، ولا تنتصر إلى مسألة من مسائله حتى تُفَصِّل فيها وتقلبها من جميع أوجهها، منتهية في كثير من نتائجها إلى أن التحقيق الجاد للشعر الجاهلي يؤكد أن الشعر حقيقة لا يمكن إنكارها، وإن دارت حوله الشكوك التي أسسها أصحابها في كثير من المواطن على جزئيات من أجل الشك في كله، مؤكدة أن الشك في الفرع لا يرقى إلى الشك في الكل.
ندرك في آخر هذا الفصل أن القراءة التاريخية الحديثة عمدت في تعاملها مع إشكالات الشعر الجاهلي بشرح الأثر بالعودة إلى التاريخ، وكأن الأثر يفصح عن زمان تأليفه وأحوال عصره، فيكشف وقائعه وعاداته وأخلاقه. لذلك يعتمد الناقد في استخلاص هذه الظواهر على وقائع الظاهرة الأدبية إيماناً منه أن الظاهرة الأدبية تحتوي مضمون زمانها في كل أبعاده الحضارية والإنسانية. كأنها حدث تاريخي، كما يتحرى تطابق الروايات والأخبار الواردة في الظاهرة والواقع التاريخي، وبذلك يجعل من النقد بطرحه هذا وعاء للتاريخ، وكأن الأعمال الإبداعية كتبت لتدعم الواقع التاريخي لا العكس.
تعالج القراءة التاريخية الحديثة الظاهرة الأدبية على أنها نتاج محدد في الزمان والمكان، ولتفسـير العمل .الإبداعي فإنه يتحرى السبب، فيعلله بالزمان وبذلك يتحول العمل الإبداعي إلى شاهد حضاري، ليدرجه في خط تاريخي معين.
كما تسعى القراءة التاريخية إلى توثيق الظاهرة الأدبية معتمدة على أسس راسخـة ومتينة، فتحرص على توثيق الروايات والأخبار بصورتها الأصلية، كما صدرت عن المبدع، دون تحريف أو تدليس، لذلك تهتم أيما اهتمام بمصادر الروايات والأخبار، وتعمل من أجل تحقيقها ، والتشكيك في كل ما ترى فيها من أوجه الريبة والظن. فتنفي عن نفسها الاحتمال وتضع نصب عينها إما الصدق في الخبر وإما الشك فيه ثمّ نفيه.

هوامش الفصل الأول:
1 - ر. م . ألببرس : الاتجاهات الأدبية الحديثة - تر : جورج طرابيشي - ص:119.
2- ينظر ابن سلام : طبقات فحول الشعراء .
3 - طه حسين : في الأدب الجاهلي - - ص:33.
4 - الجاحظ: الحيوان - تح: عبد السلام هارون - 1/74.
5 ـ ابن سلام : طبقات فحول الشعراء - ص:3
6 ـ كارلو نالينو: تاريخ الآداب العربية - ص68.
7 - ديفيد صمويل مرجوليوث: نشأة الشعر العربي - ضمن كتاب: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي: تر- عبد الرحمن بدوي- ص:93 - 94.
8 - المرجع السابق - ص:90 -91.
9 - نجيب محمد البهبيتي : الشعر العربي في محيطه التاريخي القديم - ص 72.
10 ـ ابن عبد ربه: العقد الفريد - تح: أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأنباري - 5/ 271
11 ـ محمد نجيب البهبيتي: الشعر العربي في محيطه التاريخي القديم - ص 75.
12- كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي - تر: عبد الحليم النجار - 1/44
13 - جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - 9/410
14 - كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي - تر- عبد الحليم النجار - 1/44 - 45.
15 - المرجع السابق - 1/45
16 - ديفيد صمويل مرجليوث - نشأة الشعر العربي - من كتاب: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي: تر: عبد الرحمن بدوي - ص:90-91.
17 - المرجع السابق - ص:95.
18 - ابن سلام : طبقات فحول الشعراء - ص: 11
19 - سيد حنفي حسنين: الشعر الجاهلي مراحله واتجاهاته الفنية (دراسة نصية) - ص:8
20 - بروكلمان: تاريخ الأدب العربي - 1/44.
21 - سيد حنفي حسنين: الشعر الجاهلي مراحله واتجاهاته الفنية (دراسة نصية) - ص:19.
22 - الطبري: التاريخ - 2/208.
23 - طه حسين :الشعر الجاهلي - ص: 134.
24 - ناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية - ص: 7.
25 - المرجع السابق - ص:220 - 221.
26 - عز الدين إسماعيل : المصادر الأدبية واللغوية في التراث العربي - ص: 57 - 58.
27 - طاهر أحمد مكي : دراسة في مصادر الأدب - 1/18 - 19 .
28 - أحمد جمال العمري : شروح الشعر الجاهلي - 1/60.
29 - سعد ظلام : من الظواهر الفنية في الشعر الجاهلي - ص: 52.
30 - عز الدين إسماعيل : المصادر الأدبية واللغوية في التراث العربي- ص: 69.
31 - أحمد جمال العمري : شروح الشعر الجاهلي - ص:68.
32 - ناصر الدين الأسد : مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية - ص:578.
33 - المصادر التراثية واللغوية في الترث العربي - من ص: 51 إلى 378.
34- ارتبطت الفيلولوجيا بمعناها الخالص بتفسير النصوص وتحقيقها ودراسة المصادر القديمة، وعمدتها في ذلك المنهج التاريخي، فهي من أصعب الفنون، ولاسيما "فن القراءة" الذي يبتغي معانيه محتويات الوثائق التي دونت بلغة إنسانية. وتتمثل مهمة الفيلولوجيا في معرفة دلالة الوثيقة المكتوبة وقصدها وبيئتها والثقافة التي أحاطت بها في زمن تدوينها. لقد أصبحت الفيلولوجيا تصطنع معارف حديثة ومناهج علمية في تحقيق النصوص القديمة وحتى الحديثة. ونحسب أن خير من حدد تعريف المقاصد الكبرى للفيلولوجيا من الدارسين العرب "صبحي صالح" في ذكر المآخذ النقدية التي سجلها على دراسات إبراهيم أنيس؛ حيث قال : " ليس فيها تحقيق للنصوص، ونقد للوثائق، وموازنة بين المذاهب، مع أن اللغة –و لاسيما العربية- لا تدرس إلا من خلال النصوص، فهي أصوات تسمع ثم تحفظ، ثم تنتقد، وهي بذلك –كعلوم الدين- لا ينقل منها شيء بغير دليل يثبته، أو رواية تشهد له، أو برهان يقوم عليه". وإذا أجملنا هذه المآخذ سنستخلص المبادئ العامة للفيلولوجيا، وهي على النحو التالي: 1 - تحيقيق النصوص. 2 - نقد الوثائق . 3 - الموازنة بين المذاهب. 4 - النقل عن طريق الدليل والإثبات. 5 - اعتماد الرواية مع البرهان.
35 - ناصر الدين الأسد - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية - ص:321
36 - البخاري - صحيح البخاري - 1/52.
37 - ينظر ابن قتيبة: الشعر والشعراء - تح: محمد يوسف النجم وإحسان عباس - 1/15
38 - ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء - ص4.
39 - المصدر السابق - ص25.
40 - ديفيد صمويل مرجليوث - نشأة الشعر العربي - من كتاب: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي: تر عبد الرحمن بدوي - ص: 96-97.
41 – المرجع السابق- ص 110.
42 – نفسه - ص:124
43 - مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب - 1/355.
44 - في مؤلفه " في الشعر الجاهلي " - والذي اتخذناه مصدرا في بحثنا هذا، نظرا لأهميته وجرأة ما يعرض فيه من أطروحات، بدل من مؤلفه الثاني المعدل " في الأدب الجاهلي".
45 - طه حسين: في الشعر الجاهلي - ص:19.
46 – المرجع السابق- ص:31-32 .
47 – نفسه - ص:24.
48 – نفسه - ص:44-45.
49 – نفسه - ص:116.
50 - ناصر الدين الأسد : مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية - ص: 55.
51 - طه حسين: في الشعر الجاهلي - ص:23.
52 - ينظر محمد أحمد الغمراوي: النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي - ص:117.
53 - طه حسين: ذكرى أبي العلاء المعري - ص:ي.
54 - سيد البحراوي : قراءة في الشعر الجاهلي - ضمن كتاب: طه حسين العقلانية، الديموقراطية، الحداثة.
55 - ينظر ناصر الدين الأسد - مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية - من ص: 402 إلى 421.
56- ينظر محمود محمد شاكر: المتنبي رسالة في الطريق إلى ثقافتنا - من ص:6 إلى 48.

الفصل الثاني
القراءة النفسية
1 - القراءة النفسية (مدخل نظري).
2 - المقدمة الطللية.
3 – المكان والزمان.
4 - القلق.
1 - القراءة النفسية ( مدخل نظري):
يعد علم النفس من بين العلوم الإنسانية التي كان لها الأثر البالغ في دفع الحركة النقدية الحديثة، وإمدادها بأدوات إجرائية مكنتها من قراءة النص برؤية جديدة، محاولة بناء أسس حداثية لنقد يعتمد على معايير علمية في التعامل مع الظواهر الأدبية.
وقد عرف النقد القائم على التحليل النفسي منذ القدم ، حتى عد "أرسطو" أبا شرعياً لهذه القراءة ، إذ تتخلل تشريحاته النفسانية كل مؤلفاته ، وخاصة في البويطيقا ، وتنطوي على مبادئ اتخدت فيما بعد دعائم أولية للحقائق النفسية، وتجلت بشكل بارز في نظرية "المحاكاة" التي ربط فيها وظيفة الفن بالتطهير " الكتارسيس " في صورة نفسية "الشفقة والخوف". لكن آراء "أرسطو" لم تصبح اتجاهاً نقدياً إلا بعد ظهور نتائج الدراسات النفسية الحديثة التي ربطت بين اللغة واللاشعور، وكذلك بعد أن ألف فرويد كتابه "تفسير الأحلام" عام 1900، كما أفاض أتباع "يونغ" في الحديث عن الأسطورة والرمز.
كان لمدرسة التحليل النفسي الفرويدية الريادة في تحليل الآثار المُبدَعَة وصولاً إلى نفسية المبدع، ومن ثم اتخذت الأثر المُبدَع حقلاً من حقول التحليل النفسي؛ وذلك بوصفه رمزية انتجتها دواعي النشاط اللاشعوري، لجعلها مادة خامة ومرجعاً أساساً، لسَبْر الأغوار النفسية من أجل الوصول إلى نظريات علمية؛ وذلك لأنه من الأشياء الغريبة التي لا يمكن تعليلها أنَّ علم النفس والأدب يتناولان موضوعات واحدة، نعني الخيال، والأفكار، والمشاعر مجتمعة وهذا ما يؤكد العلاقة الحميمة بين الإبداع وعلم النفس.
انطلق "فرويد" من مسلمات المنهج النفسي في تفسير الإبداع الفني، معتمداً على عقدة "أوديب " ، التي يتطابق فيها تاريخياً الدين ، والأخلاق ، والروح الاجتماعية ، والفن . إذ يعد الخيال من مصادر الفن - في نظره -، فعن طريقه تُلبى الرغبات اللاشعوريـة. فالشاعر هو الشخص الذي يتمتع بخيال واسع ومتطور ومتميز، يستطيع أن يجسد رغباته اللاشعورية في قالب أسطوري، فتتحول الرغبات لديه إلى وسيلة للإرضاء الذاتي في مخيلته أو في مخيلة الآخرين ؛ (( لأنّ قوة المخيلـة الشعرية القادرة على السيطرة على الـجماهير وجذبها وراءها إلى العالم الخيالي والمتخيل ، تكتسب - كما يؤكد "فرويد" - أهمية كبيرة؛ لأنه يكمن في أساسها الشعور الشامل بالارتباط العاطفي بالأدب البدائي ))(1). لذلك يصعد الخيال والإبداع الأسطوري رغبات الإنسان اللاشعورية. فالفن شكل متميـِّز خاص في لغته ، يهادن بين مبدأين متعارضين "مبدأ الواقع" و"مبدأ اللذة" عن طريق إبعاد الدوافع غير المقبولة اجتماعياً من وعي الإنسان ، ويساعد الفن في إبعاد النَّزعات الواقعية من حياة الإنسان وفي المحافظة على التوازن النفسي. فالإبداع تطهير ذاتي وانحلال للرَّغبات اللاشعورية في النشاط الفني الإبداعي المقبول اجتماعياً.
إن النص الإبداعي هو الأساس الأول "لفرويد" في اكتشافه لنظرية اللاشعور من خلال دراسته لرواية "الإخوة كرامازوف" "لدوستويفسكي"، ومسرحية "هملت" "لشكسبير" ولوحة الرسام "ليوناردو ديفنتشي" "الموناليزا"، فـ (( قد أخذ فرويد من شخصية في المسرحية الشعرية ... الاسم الذي أطلقه على مجموعة الطاقات التي تؤلف أسس نظريته النفسية، وتحتوي كتبه ... قدرا كبيراً من الفقرات التي تدرس الانفعالات ... وسلوك الشخصيات في القصصي، كما لو كانوا أناساً حققيين يتعرضون للتحليل النفسي ))(2)، ومن ثمّ فتحت نظرية اللاشعور مجالات واسعة في النقد الأدبي ، وقد قام "فرويد" نفسه بتطبيق ما توصل إليه من الفن ، حيث ربط بين الفن والحلم، وجعل الفن كحلم الحالم أو كحلم اليقظة وجعل المبدع شخصاً يحلم في أوج الضحى. فالمبدع يبدع عوالم خيالية ليست على شاكلة "اليومي" في حياة الإنسان، وعليه ورد تفسير الأحلام مرادفاً لتفسير الإبداع، ومن ثم انجرت عنه إجراءات التأويل للعصابات، لذلك فتأويل الأحلام استناداً إلى الرموز كان فاتحة لتحليل الإبداع وتبرير مسألة التداعيات وميكانيزمات الخيال في أثناء عملية الإبداع. ذلك أن مهمــة تأويل الأحلام عند فرويد (( تعمل بالتحديد على إرجاع العلاقات والصلات بين أفكار الحلم إلى ما كانت عليه قبل زوالها واختفائها))(3)، ولعل هذه العملية هي التي ولدت حقول التحليل والقراءة وأبعاد التأويل للنص الأدبي، فلبنات الإبداع عند فرويد تتمثل في التوزيع الثلاثي: الإدراك والخيال والحلم. فالحلم لدى فرويد يُعطي الأفكار الكامنة نمطاً تعبيرياً شبيهاً بالكتابة المصورة.
فالفن بعامة والأدب بخاصة إرواء لحالات مكبوتة في النواة المركزية للنَّفس، وتحقيقها لهذه المكبوتات التي لم يشبعها الواقع يتم في مطلق الخيال. إذ الرغبة الجنسية الشهوانية هي الدافع الحافز لخيال الناس بما في ذلك الإبداع الشعري، وتشكل هذه الرغبات اللاشعورية حسب "فرويد"، المضمون الخفي للمؤلفات والأعمال الأدبية والفنية ذاتها ؛ ولهذا خصَّ "فرويد" الشعراء والأدباء بمكانة خاصة ، فهم في نظره المكتشفون الحقيقيون للاوعي عند الإنسان، لذلك نجده قد (( أنكر في خطاب ألقاه في الاحتفال بعيده السَّبعين أنه ليس صاحب الفضل في الكشف عن العقل الباطن، وقال: إنَّ الفضل الصحيح يعود إلى الأدباء ))(4)؛ وبذلك يبرز "فرويد" بالمنطق العلمي أنّ الفن أب للعلوم، وبهذا تتوطد علاقته بعلم النفس.
من هنا يتبيَّن لنا اهتمام مدرسة التحليل النفسي الفرويدي بالفن بعامة والأدب بخاصة، وكشفها للعلاقة الوثيقة بين علم النفس والأدب ، لاعتماد كل منهما على الأسس المعرفية التي يحملها الآخر. إنَّ التحليل النفسي لا يستطيع الوصول إلى جوهر الإبداع الفني... وإن الدراسة التحليلية النفسية غير قادرة على تفسير عبقرية الشاعر ؛ ولهذا يعترف "فرويد" بأن العمل الإبداعي ذو أبعاد معرفية متعددة ، وحقل متشعب الأدغال ، (( وقد يكون الحلم منطلقاً لخلق أدبي أو فني ولكن لا يجب أن يعزى إليه رمز دون تحليله باعتباره تعبيراً عن الحياة النفسية اللاواعية، وما يجب تفسيره في هذه الحالة هو الصفة الجمالية للحلم. وليس بوسع التحليل النفسي أن يقوم بهذا لأن التحول الذي ينشأ عنه الفن لا يتم في مناطق الغريزة والنزعة المكبوتة دون سواها ))(5)، وما دور التحليل النفسي إلاَّ الكشف عن جانب أو بعض الجوانب الخفية فيه ، تاركاً الجوانب الأخرى لمناهج علمية مختلفة ذات أسس معرفية وأدوات إجرائية مغايرة.
إن الغرض الأخير من التحليل النفسي للفن هو البحث عن المضمون الكامن وراء المضمون الظاهر للعمل الفني...فهُم يؤكدون من خلال المضمون الكامن للنص العلاقة اللاشعورية بالحالة الذهنية أو النفسية لمنشئه؛ ونتيجة لهذا فإننا نجد القراءة النفسية للأثر الأدبي تربط دائماً الحالة الذهنية بعملية الإبداع الفني منتهجة إحدى الطرائق التالية:
أ - البحث عن عملية الخلق والإبداع.
ب - الدراسة النفسية للأدباء بأعيانهم لتبيان العلاقة بين مواقعهم وأحوالهم الذهنية وبين خصائص إنتاجهم الأدبي.
و الطريقة الثانية هي التي جعلت القراءة النفسية في بعض دراساتها تجعل الغرض الأساسي لها في دراسة الإبداع استكشاف الجوانب الخفية للمبدع ، لا استكشاف الأسس الإبداعية للعمل ذاته ، على أن الملاحظ أنَّ الكثير من تلك الدراسات النفسية قد اهتمت - وهذا واضح منذ البداية - بتحليل شخصية الفنان من حيث هو فرد؛ فإذا تعرضت هذه الدراسات لشيء من إنتاجه الفني فإنما يحدث ذلك لأهمية خاصة لهذا الإنتاج في ذاته، فتجعلنا نستبصر بمشكلاته ، وبالحلول الكلية أو الجزئية التي وصل هو إليها ولهذه المشكلات. وهذا ما جعل كثيراً من النُّقاد يدعون إلى ضرورة عودة القراءة النفسية إلى مقاربة النص الإبداعي لذاته لا لمبدعه. التحليل النفسي، وإن يكن قد أضاف الكثير بالتأكيد، ومازال من الممكن أن يُضيف المزيد في سبــيل فهــم أفراد الفــنانين، من حيث هم شخصيات. فإن أجل المجالات نفعاً التي يستخدم فيها دارس الأدب النظرية الفرويدية هو مجال تفسير الأدب ذاته. لذا يجب على القراءة النفسية أن لا تصب كل اهتماماتها على المبدع محاولة تطبيق نظرياتها تعسفياً عليه ، جاعلة منه إنساناً عصابياً؛ إذ ارتبط الشعر عند "فرويد" بالعصاب ، وصار الشاعر الذي دفعته الرومانسية إلى مصاف الأنبياء رجلاً مصاباً بالعصاب ، وصار الشعر هترات غير الأسوياء، فالشاعر عند "فرويد" شهواني على رغمه. لذلك كان على القراءة النفسية أن تولي اهتماماً بالعمل الإبداعي ذاته، على أساس أنه المادة الخام التي يجب التعامل معها دون التركيز على شخصية المبدع.
لم تقف القراءة النفسية عند آراء "فرويد" ونتائجه ، بل سار تلاميذه في توسيع نظريته في التحليل النفسي، محاولين تطبيق آرائه، وتوسيعها من خلال توظيفها في مقاربة النصوص الإبداعية ، ومن أهم هؤلاء التلاميذ "أرنست جونز"Ernest Jones و"أتورانك" Ottorank و"شارل مورون" Charles Mauron. غير أنَّ هناك من التلاميذ من انشقوا عن "فرويد" وخالفوه الرأي؛ وبذلك نادوا بنظريات أخرى كان لها أثر بالغ في فهم الإبداع وتفسيره. ومنهم "ألفريد أدلر"Alfred AdLR الذي تقوم نظريته على أن الحياة النفسية للفرد يحكمها الشعور بالنقص أو الدُّونية ، بخلاف نظرية "فرويد" التي ترى أنَّ الحياة النفسية للفرد يحكمها "الليبيدو"، كما نجد أن "أدلر" لا يعطي أهمية كبيرة للاوعي عند الإنسان، بل إنه لا يفصل بين الوعي واللاوعي. إلاَّ أنّ نظريته لم يكن لها التأثير الكبير في الأدباء والنقاد . أما الثاني فمثله "يونغ" الذي يتجلى إسهامه في نظريته حول "النماذج العليا واللاشعور الجمعي"، ويجعل منهما الأساس الذي تقوم عليه العملية الإبداعية، فالنماذج العليا تقع في جذور كل فن، متصفة بالرسوبية التي يكون لها دوراً فعالاً في تشكيل الرؤيا الفنية، أما اللاشعور الجمعي فيختزن الماضي الجنسي للأمم منذ عصورها البدائية، ويتجلى في الأعمال الإبداعية متخذاً من الأشكال الرمزية أداة للتعبير عنه، وبذلك فهو نمط من اللاشعور استمد وجوده وراثة.
تلك هي الأسس النظرية للقراءة النفسية في مصادرها الغربية ممثلة في رائدهـا "فرويد" وتلميذيه "آدلر" و"يونغ" وجهودهما في المقاربات النقدية للأعمال الإبداعية الكبرى. فهل كان للقراءة النفسية نصيب في النقد العربي قديمه وحديثه؟
إن المتتبع لمسار القراءة النفسية في النقد العربي يجد جذورها الأولى قد برزت منذ العصر العباسي، خاصة عند "ابن قتيبة" في مقدمته للشعر والشعراء، وتبعه في ذلك "أبو هلال العسكري" في "الصناعتين"، والقاضي الجرجاني" في "الوساطة"؛ واتضحت ملامح النقد النفسي بشكل جليٍّ عند "عبد القاهر الجرجاني" في كتابيه" أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز". إلا أنّ آراء هؤلاء الأعلام لم تَعْدُ أن تكون مجرد إشارات ضمن أحكام نقدية ذات أبعاد سيكولوجية ، لافتقار أصحابها إلى رؤية نقدية واضحة ذات أسس معرفية دقيقة ، جعلتهم لا يتعمقون في القضايا النقدية ذات الطابع السيكولوجي إلا ظاهراً دون الغوص في أعماقها.
إن ما افتقر إليه النقاد العرب القدامى ، اكتسبه النقاد العرب المعاصرون بعد إطلاعهم على المنهج السيكولوجي الغربي ، وهذا ما دفعهم إلى محاولة هضم هذا الاتجاه ، والتعمق في أسسه المعرفية ، ثم الانتقال إلى تطبيقه على الإبداع العربي؛ لذلك (( فإن تأثير التحليل النفسي على الأدب العربي الحديث كبير للغاية – حتى وإن أنكر من شاء له أن ينكر – واستطاع الكتاب الرومانسيون وأصحاب الكلاسيكية الجديدة أن يجدوا لدى "فرويد" و"يونغ" و"أدلر" وغيرهم مجالا لاهتماماتهم النقدية ))(6)؛ فأسس الرومانسيون العرب وأصحاب الكلاسيكية الجديدة للمنهج النفسي في النقد العربي الحديث.
كانت الانطلاقة مع جماعة الديوان بزعامة "العقاد" "المازني" و"شكري" التي عكفت على دراسة الموروث الرومانتيكي الغربي مع نظيراتها "جماعة أبولو" و"الرابطة القلمية"؛ إذ حاولت هذه الجماعات إدخال المذهب الرومانتيكي إلى الأدب العربي الحديث ، ومن ثمّ الاتجاه النفسي إلى النقد العربي الحديث. فالنقد النفسي لم يكن ليأخذ مكانة في النقد العربي الحديث ، في الأقل، بالمرحلة التي ظهرت فيها ، لولا ذلك الموروث الرومانتيكي الذي علّق عليه الباحثون في الشعر العربي الحديث..كجماعة الديوان وشعراء المهجر وجماعة "أبولو" وغيرهم ممن قاموا بمحاولات فردية لإدخال المذهب الرومانتيكي إلى الأدب العربي الحديث ، ومن ثمّ فالاتجاه النفسي في النقد العربي الحديث كان نتيجة مباشرة لروح العصر. وتكيفاً مع التطور النقدي الذي ظهر على الساحة النقدية الغربية والعربية.
اتجه النقد النفسي العربي بعد هذه الإرهاصات اتجاهاً جاداً، فدعا "أمين الخولي" إلى اصطناع علم النفس في دراسة غوامض التجربة الفنية، وفعل ذلك في دراسة "حياة أبي العلاء المعري"، ثم تبعه "محمد خلف الله أحمد" في دراسته "من الوجهة النفسية في دراسة الأدب ونقده"؛ كما تجسد ذلك من خلال حديث "محمد مندور" عن فكرة الذوق في مؤلفه "الميزان الجديد"؛ كما وجد "العقاد" و"النويهي" في بعض أعلام العصر العباسي: "بشار بن برد" و"أبي نواس" و"ابن الرومي" و"المتنبي" وإبداعهم المادة المناسبة ، نظراً لما عرفت به هذه الشخصيات من سمات خاصة ، فبادر "العقاد" إلى دراسة "أبي نواس" و"ابن الرومي" محاولاً تطبيق جملة من النظريات النفسية على هذين الشاعرين وجعلهما حقلاً خصباً لإبراز جملة من العقد ومظاهر الشذوذ من سيرتهما وإبداعهما ومراجعتها على ضوء الأبحاث السيكولوجية. ونحا نحوه "النويهي" في دراسته للشخصيتين السابقتين؛ إلاّ أنّ ما ميَّز الدراستين عند الناقدين توصلهما إلى نتائج مختلفة في نوع العقد التي كانت أساس التركيبة النفسية عند الشاعرين، ومدى تأثيرها في النص الإبداعي متفقين على الطابع العصابي لديهما.
لم يتوقف هذا الاتجاه عند هذين العالمين، بل برزت أسماء أخرى مثل "محمد كامل حسين" و"حامد عبد القادر". أما في ميدان الدراسات الأكاديمية فظهرت عدة أبحاث تصدرها بحث "مصطفى سويف" "الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة" الذي حاول فيه قراءة النص الأدبي وتفسيره بناء على معطيات علم النفس التحليلي ، ودراسة أسرار الخلق الفني في ضوء المنهج التجريبي في علم النفس أو المنهج التكاملي ، وقد أثر في كثير من الباحثين والنقاد مثل "مصري حنورة" و"عزالدين إسماعيل"و"فاروق خورشيد"، وأفاد منه كل من كان يبحث في عملية الخلق الفني وصلتها بالعالم الباطني الذي يصدر منه خيال الفنان.
لم تتوقف القراءة النفسية في النقد العربي الحديث عند دراسة الأعلام، بل حاولت التعرض للظواهر الشعرية التي يمثلها جملة من الشعراء. ومن الظواهر الشعرية التي كانت حقلا للدراسات النفسية المقدمة الطللية في القصيدة الجاهلية عامة والمعلقات خاصة في مقاربتي "يوسف اليوسف" " مقالات في الشعر الجاهلي" و" بحوث في المعلقات" التي أثار من خلالها جملة من القضايا السيكولوجية مستفيداً في ذلك من علم النفس الحديث.
وبذلك أثارت القراءة النفسية نقاشاً واسعاً في أوساط الثقافة النقدية العربية ولا سيما في تلك النتائج التي كان ينتهي لها. وقد وصفها خصوم النقد النفسي بالتمحلات، والإسقاطات الغريبة على النص الأدبي، والاهتمام المبالغ فيه بتراجم الأدباء وأسرار حياتهم، وبخاصة الشق المرضي منها. وتعامل مع الأدباء والشعراء وكأنهم مصابون بالعصاب والعقد النفسية والجنون، وهذا ما يوضحه السجال الذي دار بين طه حسين من جهة والعقاد والنويهي من جهة أخرى، والذي عبر عنه طه حسين في الكثير من المقالات والتي جمعت في كتابه "خصام ونقد". أما محمد النويهي فنجده يشيد بالغزل العفيف الذي ظهر في العصر الإسلامي. ويتحدث عن دوره في بناء القصيدة ،إذ تجاوز التقليد المحض الذي كان شائعاً في الشعر الجاهلي، فيقول : ((أما الآن فهو القصيدة كلها، وهذا في حد ذاته تحطيم هام لتقليد من أهم التقاليد الجاهلية، ولكن أنظر الآن إلى نوع هذا الحب، فهو ليس الحب الجسد الذي نعرفه في الشعر الجاهلي، بل هو حب روحي لا شك في سموه على أغراض الجسد ))(7)، وبذلك يؤكد لهذا النوع من الإبداع البعد الروحي النفسي.
و إذا كان التفسير النفسي للأدب ظهر للوهلة الأولى على أنه منهج يدعو إلى الريبة والاحتياط ،إلا أنه مع مرور الزمن أصبح واسع الانتشار، ولا سيما عندما ترسخت أصوله في الدراسات الجامعية، واتضحت معالمه من خلال التطبيقات النقدية، على جميع الأجناس الأدبية، ومنها على وجه الخصوص النص الشعري القديم والحديث. وبدأت الدراسات النقدية تكتسح الشعر القديم وتعيد قراءته، ومنها: قراءة يوسف اليوسف للشعر الجاهلي وبخاصة معلقاته، وللشعر العذري والعقاد لأبي العلاء المعري وابن الرومي وأبي نواس وجميل بثينة، والنويهي لابن الرومي وأبي نواس، ولكن هذه القراءات على ما لها من إسهامات نوعية في مقاربة الظاهرة أكثر من غيرها من القراءات الأخرى خاصة التاريخية، إلا أنها سقطت في التفسير الميكانيكي للعلاقة بين النص وصاحبه واتكأت على النقد السيري، وتراجم الأدباء، وبالغت في الجوانب المرضية لدى الفنان، واهتمت بعقده وخفاياه وأسراره النفسية. فأضحت القراءة تتعامل مع النص على أنه وثيقة نفسية؛ فالكلمات ليست أصواتاً تلفظ، أو خطوطاً ترسم، وإنما الكلمة رمز وتجسيد ودلالة على موضوع يتعداها.... لغة بديلة خاصيتها هي الإغماض والتعريف ومجانية الدقة التي تطلع إليها لغة العقل السوي. هذه التعمية وليدة محاولة عنيدة للإخفاء. هذا البوح المعمى الذي تتسم به لغة السلوك اللامعقول يفضي بنا إلى الصيغة الأولى لمعنى تلك الأفعال الغامضة فهي توفيق بين ميول متنافرة متضاربة وهي كذلك معان متضاعفة، فالمعنى في المجال النفسي، بنية رمزية حافلة بأبعاد، ولها دقة خاصة رغم تعميتها وتعريفها، فالظاهرة الإبداعية تتركب من تضاد، وتفاعل وتكيف بين البواعث الغريزية التي يمثلها مبدأ اللذة ومطالب الواقع التي يمثلها مبدأ الواقع. فالصبغة الدرامية التي تتميز بها الأعمال الإبداعية الكبرى إنما منبعها الصراع بين [مبدأ اللذة ومبدأ الواقع].
إن تعامل النقد النفسي مع الظواهر الإبداعية بخلفيات معرفية ترتكز في أساسها على [مبدأ اللذة ومبدأ الواقع] جعله يقع في الأحكام المعيارية التي ترى ضرورة التخلي عن الواقع الخارجي نهائياً والانطواء في الواقع الباطني، والبحث في الجانب العصابي للأعمال الإبداعية، ويغفل بذلك الجوانب الإبداعية والجمالية للعمل الإبداعي، ويجهد نفسه في البحث في سير الشعراء وأخبارهم الشاذة، ليؤكد نتائجه التي يبغي الوصول إليها.
2 - المقدمة الطللية:
المقدمة الطللية في القصيدة الجاهلية من المظاهر الفنية التي اقتربت منها القراءة القديمة والحديثة محاولة ملامستها بمنحى نفسي وفق رؤى وأدوات ومقولات مستمدة من المعارف الخاصة بحقل علم النفس، وذلك بفعل تميز هذه المقدمة بخصوصية تشبَّث الشاعر الجاهليّ بها كمبدع، والإنسان الجاهلي كمتلق، فكانت بفعل الزخم الفكري والنفسي الذي تعبر عنه محط اهتمام القراءة، فالمقدمة الطللية في القصيدة الجاهلية لما تحمله من الدلالات ذات أبعاد نفسية تدخل داخل الإطار النفسي العام هي التي أهلتها لأن تحاول المقاربة النفسية أو ذات الطابع النفسي إلى مقاربتها، بغية تفكيك العلاقة الرابطة بينها وبين الإنسان الجاهلي لتبين عن مكنونات النفس الجاهلية في أبعادها المرتبطة بالمكان والمتمثل في بقايا الديار، والزمن المتمثل في الماضي بكلِّ ثقله، في أفراحه وأتراحه.
لقد كانت إشارة ابن قتيبة وهو يتحدث عن النسيب في القصيدة الجاهلية من بواكير القراءات التي حاولت أن تربط المقدمة الطللية في القصيدة الجاهلية بالجو النفسي العام سواء أكان للشاعر أم للمتلقي، بحيث اعتبر أن لجوء الشاعر الجاهلي للمقدمة الطللية في صدر قصائده لتكون عاملاً لذكر رحيل أهل الديار من مكان لآخر بحثاً عن المرعى، وأن الشاعر إنَّما عمد إلى النسيب كأسلوب للتعبير حيث كان يهدف إلى استمالة القلوب، وصرف الوجوه إليه، ليستدعي به إصغاء الأسماع إليه(8)، وهي قراءة ركز فيها ابن قتيبة على عاملين أساسيين عامل اجتماعي وعامل نفسي، فبتضافر هذين العاملين كانت المقدمة الطللية وكان التعلق بها سواء أكان ذلك عند الشاعر أم عند المتلقي الجاهليين، وبذلك حاول ابن قتيبة بفضل حسه المرهف ورؤيته النقدية الثاقبة أن يؤسس للقراءة النفسية لظاهرة الطلل في الشعر الجاهلي، على الرغم من أن المقاربة لم ترتكز على أسس معرفية ذات صلة بأسس معارف نفسية متبصرة، إلا أن الفضل يعود إليها في التنبيه على المنحى النفسي للظاهرة، وأن الوقوف عليها لمدارستها وفق رؤية نفسية متبصرة مبنية على معارف علم النفس ستفجر كوامن جمة، وتغوص من خلالها إلى أعماق النفس الجاهلية، فتكشف عن قدرة الشاعر الجاهلي على التعبير عن جوهر النفس الجاهلية من خلال اللحظة الطللية في بعدها الوجودي النفسي.
قراءة ابن قتيبة هي التي جعلت الكثير من القراءات الحديثة تتنبه إلى الجوانب النفسية في المقدمة الطللية، ولكن هذه الأخيرة ترى تقصيراً في قراءة ابن قتيبة من حيث الإحاطة الدقيقة بجوانب الظاهرة، مما جعل يوسف اليوسف يذهب إلى القول بأن تفسير ابن قتيبة ((يركز الطللية على ركيزتين إحداهما اجتماعية والأخرى نفسانية، ولكن هاتين الركيزتين لا تضرب جذورهما في أعماق تربة أو أرضية صلبة، أي أنهما يتضمنان تفسيراً ينظر إلى الطللية من السطح. إن رحيل أهل الدار لا يمكن أن يكون إلا ظاهرة لجوهر ينبغي الكشف عنه، كما أن ظاهرة الترحال البدوي لا يمكن أن تكون إلا سبباً مباشراً فحسب للطللية، أما الأسباب اللامباشرة، الأسباب الأعمق غورا والأشد فعلاً في نفسية الشاعر، فهي ما لا يكشف عنه رأي ابن قتيبة، الذي يبدو صحيحاً للوهلة الأولى، مع أنه في الحقيقة هش لا يصمد أمام النقد، نظراً لافتقاره إلى التعامل مع الأسباب الحقيقية للطللية ))(9)، باعتبارها لحظة تعبيرية لها خصوصيتها المتفردة في التراث الشعري العربي.
إن نقد تفسير ابن قتيبة للطللية، يحمل بهذا التصور كثيراً من التحامل المبني على التعامل مع النص النقدي القديم وفق رؤية حديثة مرتكزة على أسس جد متأخرة بالمقارنة مع زمن ابن قتيبة، فالاعتماد على أسس علم النفس الحديث في تفسير الطللية هو الذي دفع بيوسف اليوسف إلى نعت رأي ابن قتيبة بالهشاشة التي لا تصمد أمام النقد، ولكن بالمقارنة مع زمن ابن قتيبة فإننا نجد أن تفسير هذا الأخير يحمل الكثير من الجدة والإبداع في التأويل واستقراء الظواهر ومقاربتها، خاصة وأن النقد على زمن ابن قتيبة لم يكن نقداً مؤسساً على نظريات وأسس معرفية ومقولات مؤسسة، وإنما كان يمتاز بالطابع الانطباعي التأثري الذي يسعى إلى التأسيس لنفسه لطابع ممنهجٍ علميٍّ، وبذلك يمكن القول إن تفسير ابن قتيبة فيه من الحس النقدي الذي ينم عن نباهة في التفكير ورهافة في الحس وجدة في الطرح، فهو تفسير يحمل من الالتفاتة النقدية التي تستحق الاهتمام، لأنها وضعت اللبنة الأولى في طريق التفسير النفسي للظاهرة الطللية في الشعر الجاهلي.
تعد سهير القلماوي من الأقلام النقدية التي كان لها فضل السبق في الإشارة إلى بذر النواة الأولى للقراءة التي ترى في الطللية الجاهلية أنها تعبير نفسي ذو خاصية وجودية، وذلك في مقال لها وسمته بـ " تراثنا القديم في أضواء حديثة"؛ الذي نشرته في مجلة " الكاتب المصري" العدد الثاني مايو 1961؛ إذ اعتبرت أن الطللية الجاهلية كانت أكثر من كونها بكاء على الحبيب وتعبيراً عن لحظة سعادة انقضت، وإنما هي صرخة متمردة يائسة أمام حقيقة الموت والفناء، لأن الشاعر الجاهلي الذي لم يكن يؤمن بإله ولا جنة ولا ثواب قد أحس حقيقة الفناء وحتمية الموت إحساساً يختلف عن أحاسيسنا نحن اليوم، ويختلف عن إحساس العرب بعد أن أسلموا، وهي إشارة على الرغم من بساطتها إلا أنها تبرهن على أن سهير القلماوي كان لها فضل التنبيه إلى أن الأطلال الجاهلية تعبير وجودي عن مصير الإنسان، وبذلك تسبق المستشرق الألماني فالتر براونه في الخوض في مقاربة الطللية الجاهلية وفق رؤية وجودية.
تعد قراءة المستشرق الألماني فالتر براونه التي نشرها في مجلة المعرفة السورية سنة 1963 والتي وسمها بـ " الوجودية في الشعر الجاهلي " من القراءات الحديثة التي حاولت أن تقارب الظاهرة الطللية في القصيدة الجاهلية وفق رؤية وجودية نفسية، فحاول أن يقدم تفيسراً وجودياً لمقدمات القصيدة الجاهلية بعامة والمقدمة الطللية على وجه الخصوص، فاستهل مقاربته بنقد تفسير ابن قتيبة معتبراً قراءته قراءة قاصرة في الاقتراب من الطللية، وفهما محدوداً لهذه الظاهرة في أبعادها العميقة.
يبني فالتر براونه طرحه في مقاربته للطللية على رؤية ذات منحى وجودي نفسي تتعدى المحدودية المكانية والزمانية (( فموضوع النسيب الصميم هو الموضوع الذي حرك الإنسان في كل زمان ... وهذا الموضوع هو اختبار القضاء والفناء والتناهي ))(10)، وبذلك يعطي مفهوماً خاصاً ومتميزاً لمقاربة الطللية الجاهلية وبخاصة النسيب فيها، رابطاً ذلك بفكرة الوجود التي كانت تؤرق الجاهلي في كل لحظات حياته، سكونها وحركاتها، فالحياة في محدوديتها والموت في مداهمته لكل حيّ هي جوهر الوجود، وهي الأساس الذي تقوم عليه الطللية في جوهرها، ويحاول أن يؤكد طرحه هذا من داخل النص الطللي معتبراً معلقة عبيد بن الأبرص في طرحها الجوهري طرح وجودي فعبيد يقول(11):
أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ مَلْحُـوبُ
فَالْقُطْبِيَّاتُ فَالذَّنُوبُ
وَ بَدَّلَتْ مِنْهُمْ وٌحُوشًا
وغَيَّرَتْ حَالَهَا الخُطُوبُ
أَرْضٌ تَوَارَثَهَا الجُدُوبُ
فَكُلُّ مَنْ حَلَّهَا مَحْرُوبُ
فتساءل فالتر براونه تساؤلات حاول من خلالها أن يطرح فكرة أن الطللية تعبير راق عن الحقيقة السرمدية القائمة على ثنائية الحياة/ الموت، عن القضاء المحتوم الذي ينتظر كل إنسان، فهو إدراك عميق من الشاعر الجاهلي لِكُنْهِ الحقيقة والوجود فـ (( هل هذه الأبيات لشاعر قديم؟ أم لأحد الشعراء الوجوديين في وقتنا هذا؟ أما نعرف صوت هذه الصرخة في الشعر العصري حقيقة؟ ))(12)، فـالحياة تفنى تحت جبر القضاء وظلم المنية، والموت قريب تحت صروف الدهر العاتي، ما أرهب الحياة، إن وجود الإنسان تخيم عليه تجربة التناهي الحقيقي، وبذلك فهي مقاربة تحاول أن تؤكد أن الشاعر الجاهلي ومن بعده الإنسان الجاهلي كان يعاني قلقاً في علاقته مع الوجود من حوله، فهو يبحث عن إجابات من يقينيات كبرى، كالمصير، والحياة، والموت، سر ما بعد الموت، يقينية جوهر الإنسان في حد ذاته، من أين أتى وإلى أين هو ذاهب؟ وبذلك ربط قلق الشاعر الجاهلي بفكرة التناهي في حد ذاتها، بالوجود في يقينياته.
إن تفسير فالتر براونه للمقدمة الطللية هو تفسير مطلق لا تعضده العلاقة الزمانية، أو القرينة المكانية وذلك لكونه ينشد الإنسان المطلق المتعالي عن العلة التي تَسِمُه بميسم العصر أو المحيط لذا فهو يفسر حضوره ضمن حلقة الوجود المطلق، ومن ثم فقد ورد في صيغة تحليلية تجريدية تعزى إلى نمط من الاكتفاء الذاتي أو التجرد يتناظر مع غيره في مجتمعات متحضرة. وعليه فقد ورد الشاعر الجاهلي لدى فالتر براونه في تفسيره ضمن كلية لا تقبل التصنيف أو الارتهان إلى شرط المحيط أو المجتمع أو التاريخ.
إن ربط فالتر براونه قراءته للطللية بالتفسير النفسي الوجودي الذي يجنح إلى المنحى الأنطولوجي والذي يجعل من الشاعر الجاهلي مجرد قطرة شعورية في عالم اللامتناهيات، مما أدى بيوسف اليوسف إلى الوقوف من هذه القراءة موقفاً حذراً غير مؤيد لها، لكون أن فالتر براونه في نظره يتعامل مع الشاعر الجاهلي كما كان مسلوخاً عن أرضيته الاجتماعية، ويفترض - ضمناً- أن الشاعر يقف من الوجود موقفاً أنطولوجياً، أو كيانياً، أو أنه ليس أكثر من قطرة شعورية في سلسلة الإعدامات اللامتناهية، وليس برهة في مشروع تاريخي يؤطره معطى طبيعي واجتماعي معين ؛ لذلك انتهى يوسف اليوسف إلى التركيز على المعطى الحسي المادي والمتمثل في المحيط الاجتماعي والطبيعي، الذي كان من حول الشاعر الجاهلي، فالطللية إفراز لصراع بين الشاعر ومحيطه الطبيعي والاجتماعي، وعليه يجنح يوسف اليوسف في تعقيبه على قراءة فالتر براونه إلى المقاربة المادية الممزوجة بالتفسير الوجودي الكياني، باعتبار أنه (( من البديهي أن يبدي شعر كل أمة مواقف وجودية معينة، ولكن هذه المواقف ليست النزعة الغالبة على الشعور الجاهلي، لا على مطالع قصائده، إذ هو في معظم أحواله يعكس، من جهة، ويخفي وراءه، من جهة أخرى مسألة حضارية كانت تؤرق الوعي الجاهلي. وهذه المسألة، في رأيي، هي قهر الطبيعة للحضارة، وهذا القهر يتجلى على شكلين، افتقار الواقع الطبيعي إلى أسانيد الوجود الحضاري ومقوماته... وتهديم الطبيعة لمنشآت الإنسان الحضارية ))(13)، فقحط الطبيعة في شبه الجزيرة العربية وشحها هي التي جعلت منها موطناً تتوافر فيه عوامل الاندثار الحضاري أكثر من إقامته وبنائه، وبذلك فالوقوف على الأطلال تعبير راق من الشاعر الجاهلي عن هذا الحس الحضاري الذي ارتبط في جوهره عند الإنسان الجاهلي بالإحساس بالاندثار والخراب والفناء، وبذلك أصبحت الطللية تعبيراً عن موقف وجودي وحضاري في آن واحد.
استطاعت قراءة يوسف اليوسف أن تضيف إضافة نوعية إلى مقاربة فالتر براونه، وذلك من خلال المزاوجة بين الوجودية وما يعضدها من حيث المعطى الحسي بأبعاده الثلاثة "الاجتماعي والطبيعي والحضاري"، ومن ثم وفي ضوء هذا الطرح مكَّن يوسف اليوسف قراءته لاستقراء التفاصيل الكلية في مقاربة تسعى أن تلم بدلالة الظاهرة الطللية، وبذلك ربط يوسف اليوسف القراءة ذات البعد الوجودي بقراءة تستند إلى المقومات الواقعية ذات الأبعاد الاجتماعية والطبيعية، والتي تؤسس لقراءة حضارية للطللية الجاهلية، معتبراً أن هذا الموقف الوجودي - في الطللية - هو استقراء بلغة الشاعر انطلاقاً من فهمه لحالة الحضارة المواظبة على انهداميتها في المجتمع العربي القديم، أي أن النزعة الوجودية هنا قد أملتها شروط واقعية لا ميتافيزيقية، ففكرة المصير التي ركزت عليها قراءة فالتر براونه في مقاربتها للطللية الجاهلية والقائمة على الفلسفة الوجودية في جوهرها هي التي جعلتها قراءة تنزع منزعاً ميتافيزيقياً مهملة الأسس الواقعية التي كانت بمثابة الرحم الأول الذي تكونت فيه الطللية في بعدها النفسي والحضاري.
تُعد قراءة عز الدين إسماعيل للطللية الجاهلية من القراءات التي تجلى فيها تأثير قراءة فالتر براونه تأثيراً واضحاً، بل نعتها بعض النقاد - من أمثال حسين عطوان في مؤلفه مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي. ويوسف اليوسف في مقالات في الشعر الجاهلي - أنها في كثير من نتائجها محاكية لها محاكاة كبرى، مما غيب عنها عنصر الأصالة والتفرد، وجعل منها قراءة تابعة لا تنم عن إبداع في مقروئيتها، فالتوجه الوجودي هو الذي فرض ذاته على قراءة عز الدين إسماعيل في مقاربته للمقدمة الطللية التي يرى فيها على أنها (( الجزء الذاتي في القصيدة، الذي يعبر فيه الشاعر عن نفسه؛ عن موقفه من الحياة، والكون من حوله. فصورة الحياة بالنسبة للشاعر الجاهلي تنطوي في نفسه على عناصر خفية أحسها الشاعر إحساسا مهما، وقدر موقفه منها، وربما كان من أبرز هذه العناصر الخفية التي اصطدم بها مع ذلك حسه ، التناقض، واللاتناهي، والفناء ))(14).
إن الاصطدام الذي يولد الصراع النفسي أساس المقدمة الطللية، وهو اصطدام بين الذات الشاعرة والأقطاب الثلاثة للإحساس الوجودي الكوني: التناقض واللاتناهي والفناء، فكانت المفجر الحقيقي للحظة الطللية، (( ومن هذه الرؤية الوجودية تنبعث لدى الناقد فكرة المحدودية التي أصابت ذهنية الشاعر الجاهلي، ضمن محدودية الأفق، ومحدودية الزمن، ومحدودية الإطار العام الذي يوجهه، فأراد أن يتخطى هذه المحدودية المتزامنة بغية الخلاص من القيود المجترة التي لم تجعل حلا لمشاكله التي أرقت هواجسه، هكذا تنمو ذاته المتوهجة إلى الكشف عن أسرار الحياة ))(15)، فالتساؤل عن سر الحياة هو جوهر الصراع الداخلي لدى الشاعر الجاهلي والذي حاول أن يجسده من خلال الوقفة الطللية، باعتبارها شكلاً من أشكال الخلاص الذي كان يمارسه لتخطي المحدودية في الزمان والمكان والمحيط الطبيعي العام من حوله.
فقراءة عز الدين إسماعيل المستمدة في رؤيتها من مقاربة فالتر براونه هي التي أدت بعبد القادر فيدوح لأن يذهب إلى القول لقد كان من ثمرات هذا التفسير الوجودي ما جاء به عز الدين إسماعيل الذي طبع دراسته حول المقدمة الطللية بطابع تحليل المستشرق الألماني فالتر براونه كما اتخذه مفتاحاً لتوجه مسار التحليل النقدي المتبع في دراسته للمقدمة الطللية، ولعل هذا ما يؤكد تأثر عز الدين إسماعيل بفالتر براونه، وليس ما ذهب إليه حسين عطوان بأن
عز الدين إسماعيل قد نسخ رأي فالتر براونه، وهذا ماجعل يوسف اليوسف يستبعد ذلك، معتبراً أن في (( الحقيقة أن عز الدين إسماعيل على الرغم من شدة قرب موقفه من موقف فالتر برانه، يقدم تحليلاً نفسياً للحظة الطللية بعيداً إلى هذا الحد أو ذاك، وقريباً إلى هذا الحد أو ذاك، من تفسير براونه، ولكنه مع ذلك كله ليس نسخاً لـه، وجوهرالاختلاف بين إسماعيل وبراونه هو أن تفسير الأول نفساني حينا، ونفساني - وجودي (براوني) حيناً آخر، بينما نجد أن التفسير الثاني نفساني وجودي فقط، أي لا يخرج العنصر الوجودي من تفسيره، وإنما يضيف إليه عنصراً من خارجه ))(16)، وبذلك يميز بين قراءة فالتر براونه وعز الدين إسماعيل، وأن هذا الأخير كان في قراءته نفسياً ضيقاً، مما حدد أفقه في مسألة التعامل مع الطللية، وبخاصة في التعامل مع العناصر الأخرى الفاعلة في بناء المقدمة الطللية في مستواها الاجتماعي والأنثروبولوجي والحضاري، كما لا نجد أي مصطلح من مصطلحات التحليل النفسي كاللاشعور الجمعي والكبت والإحباط، وغيرها من مقتضيات التحليل القائم على علم النفس، الأمر الذي من شأنه أن يخرج بحث إسماعيل خارج المنهجية النفسانية، بالمعنى الدقيق أو التقليدي للكلمة، ويلحقه بعلم النفس الوجودي، فالتعامل مع الظاهرة الإبداعية برؤية نفسية وفق المقولات الكبرى لهذا العلم ومصطلحاته هي التي تؤهل القراءة لأن تكون ذات طابع نفسي سيكولوجي، أما إذا غابت هذه الأدوات عن لغة التأمل مع الظاهرة فذاك ما يجعلها لا ترقى إلى مصاف القراءات النفسية.
إن الطرح الذي تبناه يوسف اليوسف في تحليله لمقاربة عز الدين إسماعيل هو الذي أدى بالباحث عبد القادر فيدوح كي يدرج هذه المقاربة ضمن محور" المنحى الوجودي النفسي" ، وليس المنحى النفسي أو الاجتماعي النفسي، باعتبار أن هذه القراءة لم تقارب الطللية وفق المقولات الكبرى للتحليل النفسي كتلك التي وردت لدى فرويد أو يونغ، فلم تكن ذات منحى نفسي أو نفسي اجتماعي، وذلك لكون هذه القراءة لم تقارب الطللية في الجانب الوجودي الأنطولوجي الذي يفرز قلقاً وجودياً متسائلاً عن كبرى اليقينيات، من حياة وموت ومصير، خاصة وأن الجاهلي كان وثني الاعتقاد مما جعل الحضور قوياً لهذه الإشكاليات الوجودية.
في حين نجد أن مقاربة عز الدين إسماعيل تأخذ حيزا من التحليل عند إبراهيم عبد الرحمن يكاد يخالف غيره فيه، حيث يرى أن قراءة عز الدين إسماعيل فسرت (( هذه الظاهرة الغزلية تفسيراً نفسياً "فرويدياً" - فرأى فيها انعكاساً لذلك الصراع الأبدي في نفس الإنسان وفي الحياة من حوله بين "إيروس" و"ثاناتوس" أي بين حب الحياة وغريزة الموت أو التخريب التي تعمل، كما يقول " فرويد" في صمت. وتأسيساً على هذا التفسير الفرويدي يصبح الحب والحياة متلازمين في نفس الشاعر، فالحب "ضمان للحياة بما يعرف بغريزة حفظ الذات وغريزة حفظ النوع" ))(17). مما تقدم يتضح أن ما ذهب إليه عبد الرحمن إبراهيم محمد لا يتقاطع فيه مع غيره، بحيث تمكن من التفرد بأطروحات تجلّي أفق المرجعية المعرفية الفرويدية من خلال ثنائية "الحياة/ الموت" وما ترمز إليه نفسياً، ولعل هذا التلازم الرمزي لثنائية "الحياة/ الموت" كان من أساسيات التحليل النفسي الفرويدي اتجاه فكرتي التصعيد والإحباط في لاوعي الذات، وبذلك لامست ملاحظة إبراهيم عبد الرحمن محمد ما لم تتفطن له مقاربة السابقين له.
إذا كان الطابع الوجودي النفسي هو الذي حاولت قراءتا فالتر برانه وعز الدين إسماعيل ملامسته في المقدمة الطللية ومقاربة ملامحها اعتقاداً منها أن القضاء والفناء والتناهي هي العقدة التي حبكت حولها المقدمة الطللية، فإن يوسف خليف قارب هذه المقدمة من زاوية أن الفراغ هو جوهر هذه المقدمة، وأنها كانت حلاً لمشكلة الفراغ التي كان يعاني منها الإنسان الجاهلي، وهذا الفراغ النفسي الذي وجد الشاعر الجاهلي فيه نتيجة أن النظام السياسي والاجتماعي كان مبنياً على نظام القبيلة القائم (( على أساس عقد اجتماعي بينها وبين أبنائها أساسه العصبية القبلية، وأن هذا العقد الاجتماعي فرض على شعراء القبائل عقداً فنياً يجعل من الشاعر لساناً لقبيلته يتحدث باسمها ، ويضع شعره في خدمة قضاياها السياسية والاجتماعية))(18)، ولذلك بنيت القصيدة الجاهلية على ظاهرتين: ظاهرة المنهج الثابت في هيكلها العام القائم على المقدمة الطللية ووصف الرحلة ثم الانتهاء بالموضوع الأساسي، وهو ما اطرد في جل المطولات الجاهلية.
و الظاهرة الثانية ظاهرة العقد الفني بين الشاعر الجاهلي وقبيلته، وبذلك فالقصيدة الجاهلية ذات قسمين: قسم ذاتي والذي يتمثل في هذه المقدمات وقسم ثان غيري وهو الذي يعبر فيه الشعر الجاهلي عن وفائه بالعقد الاجتماعي، ((لاحظنا أن هذه الاتجاهات ارتبطت في كثير من قصائد الشعر الجاهلي بحديث الخروج إلى الصحراء للرحلة أو الصيد -و هي متعة أخرى من متع الحياة في الجاهلية أو وسيلة أخرى من وسائل حل مشكلة الفراغ - اتضح لنا الموقف تماماً، فهذا القسم الذاتي من القصيدة الجاهلية: مقدماته باتجاهاتها المتعددة، وما يتصل بها من حديث الصحراء ، إنما هو - في حقيقة أمره - محاولة لإثبات وجود الشاعر الجاهلي أمام مشكلة الفراغ في حياته، وهي مشكلة لم يجد حلاً لها إلا عن طريق هذه المتع ))(19).
وقراءة عممت الحكم فجعلت من الطرح الاجتماعي النفسي منهجا لها في مقاربة مقدمات القصائد الجاهلية بشتى أنواعها ومنها المقدمة الطللية، فلم تراع خصوصية كل مقدمة، بحيث وفي كثير من الحالات لا يمكن أن نقارب المقدمة الطللية بنفس الرؤى والآليات التي نقارب بها المقدمات الأخرى من غزلية أو خمرية أو فروسية، لأن الذي يقف على الأطلال يصفها فيبكي ويشتكي لا يكون بالضرورة معبراً عن فراغ، إذ إن المشهد مشهد تأمل وإمعان نظر لا مشهد ترف بغية ملء فراغ، ولذا فطرح يوسف خليف لم يراع خصوصية الوقفة الطللية بكل ما تحمله من خصوصيات وعلامات تعبيرية تتفتق بمعان عميقة لها صلة بالنفس ومعاناتها الشخصية والوجودية.
إلا أن طرح يوسف خليف أشار إشارة دقيقة إلى تضافر ما هو اجتماعي مع ما هو نفسي في صنع اللحظة الطللية، وهو الذي مهد الطريق لمقاربة هذه الظاهرة في بعدها الاجتماعي وكان وراء تفجير الكوامن النفسية، وبذلك فتح المجال للعامل الاجتماعي حتى يُؤخذ به في المقاربة، وحتى لا يستبد العامل النفسي الأنطولوجي بالطرح، فتصبح المقاربة ضيقة الأفق، فتقع فيما وقع فيه عز الدين إسماعيل، أو تجعل من العامل الأنطولوجي الميتافيزيقي العامل المسيطر على مقاربة اللحظة الطللية، ولا تعير أي اهتمام للبعد المادي ذي البعد الاجتماعي.
إضافة إلى القراءات السابقة وردت مقاربة قراءة حسين عطوان مفرغة من خصوصية التحليل فجاءت تُدِين وتصنف وتدافع عن المقاربات الثلاث السابقة - قبل أن تقارب المقدمة الطللية - فوسمت قراءة فالتر براونه بأنها قراءة يلفها الغموض ومع ذلك فإنها تتسم بسمتين: الأولى أن حسين عطوان ((ظلم ابن قتيبة حين عنفه وخطأه، إذ حمله وزر غيره، مع أن النص صريح على أنه ينقل هذا الرأي عن بعض أهل الأدب، كما سمعه ولم يزعم أنه له - والثانية - أنه مهما قيل عن العصر الجاهلي من أنه عصر الفراغ الروحي، فلا يصح أبداً أن نسحب صفة الوجودية وما يتبعها من تفكير دقيق وعميق في البقاء والفناء والكون والفساد، على الشعراء الجاهليين جميعاً. ومن أين لهم تلك الأفكار الراقية التي لا يتوصل إلى أمثالها إلا من ضرب بسهم وافر في العلم وتاريخ الأديان؟ وكيف يستقيم ذلك القول مع ما نعرفه من العرب من أنهم كانوا لا يزالون يعيشون في طور السذاجة البدوية؟ ))20، أما قراءة عز الدين إسماعيل فلم تكن إلا نسخاً لأفكار المستشرق الألماني فالتر براونه ثم زادها وضوحاً، ببراهين جديدة من أقوال العلماء والفلاسفة المحدثين ولم يلبث أن نسبها إلى نفسه ، ليخلــص في الأخير إلى أن من يمعن النظر في المقدمات جميعا يراها تدور على معاني الشوق والحنين إلى الماضي، وبذلك فهو يقارب في المقدمات الجاهلية الجانب النوستالجي في بعده النفسي والذي يكون عاملاً مؤسساً لكثير من الصور والتداعيات في العملية الإبداعية، ولكن على رغم من تلميحه إلى مقولة النوستالجيا، لكنه لم يثمر هذا الجانب في مقاربة المقدمة الجاهلية، وإلا لغاص في أعماق المكنونات اللاشعورية التي أفرزت هذه الظاهرة، وهذا ما جعل مقاربته - رغم مؤاخذتها لقراءة فالتر براونه وعز الدين إسماعيل - تقع في السطحية والتعميم ولا تستقرئ الجوانب الخفية في الطللية والتي حاولت القراءتان السابقتان مقاربتها.
تعد مقاربة يوسف اليوسف في مؤلفه "مقالات في الشعر الجاهلي" من المقاربات التي حاولت قراءة الشعر الجاهلي برؤية تستمد آلياتها من المقولات الكبرى للطرح النفسي الاجتماعي والذي يستعين في بعض جوانبه بالخلفيات الأنثروبولوجية لهذا الشعر، فنجده يقر بذلك في مقدمة المؤَلَف مصرحاً أنه حاول توظيف أكبر قدر ممكن من المناهج في دراسة الشعر الجاهلي سواء ما كان منها اجتماعياً أم نفسياً أم أنثروبولوجياً، فدمج بعضها مع بعض بحيث يمكن أن تتعايش جميعا في المقال الواحد، على الرغم من طغيان هذا المنهج أو ذاك في بعض الأحيان، محاولا أن يحقق درجة مرضية من التكامل في النقد، مشددا كثيراً على كون النص الشعري الجاهلي إفرازاً اجتماعياً تبدعه نفس معينة لها أحوالها المعينة وحاجاتها الشخصية، فركز على الذات وعلى الموضوع بحيث نظر إلى الشعر الجاهلي على أنه تعبير ذاتي عن وقائع خارجية مستقلة عن الوعي وصانعة له في الوقت نفسه.
إن الشاعر الجاهلي بوصفه موضوعاً لمجموع هذه المقاربات التحليلية لم تتناوله بوصفه كيانا لـه خصوصيته ومواصفاته التي تعتمدها طبيعة الحضور الذي تماشى مع طبيعة الحياة بكل ما تجليه من معاني الصراع قصد البقاء، فإن هذه المقاربات لم تعتمده إلا شاهداً يعضد رؤاها المعرفية، ويعمق أفقها التصوري ومن ثم فهي تدلل من خلاله على مرجعياتها المعرفية نظراً لكونه يؤكد في نظرها ذلك الجامع لخواص الإنجاز المعرفي لكل مقاربة ترتهن إلى نجاعة التحليل.
المقدمة الطللية من الأشكال الفنية الجاهلية التي يمكن للمقاربة أن تقف من خلالها على إحباطات المجتمع الجاهلي ومكبوتاته ، باعتبارها رمزاً قبل كل شيء نتعرف من خلاله إلى الذات الجاهلية في رد فعلها على الإحباطات ومحاولة تجاوزها، فـالبرهة الطللية – إذن – تلاحم لثلاث لحظات يقوم بينها تجادل تمثيلـي يذوَّب ويصهر كل واحد في الأخرى فيفضي إلى اندغامها جميعاً في تركيبة كلية البنية يعسر فرز أقانيمها الثلاثة كلاً على حدة … وفي ميسورنا أن نحمل هذه العناصر الثلاثة بأنها: القمع الجنسي، والاندثار الحضاري، وقحل الطبيعة، فهي قراءة تتعامل مع اللحظة الطللية بمنهج تكاملي فيه من النفسي وفيه من الاجتماعي النفسي وفيه من الأنثروبولوجي، فالطللية لحظة تعالق بين غريزة الليبيدو في منحاها الفرويدي، والنظرة الحضارية ذات المنحى الاجتماعي والأنثروبولوجي المصبوغ بالتصور اليونغي، والقهر هو العنصر المتواجد في العناصر الثلاثة، قهر "النحن" لكلِّ ما هو فردي، وقهر الطبيعة لكل ما هو مادي في الطبيعة، بخاصة وأن البيئة التي كانت مهداً لهذه الظاهرة هي بيئة قحل وانحباس للمطر، وبذلك فالطبيعة تمارس فعل الهدم الذي يصيب كل ما هو مادي، فتنشر فيه الخراب والموت بعد ما كان يعج بالحياة والحركة، والرسم الدارس الذي كان يقف عليه الشاعر الجاهلي ما هو إلا رمز لهذا الخراب والدمار الذي مارسه قهر الطبيعة على الحضارة، مما يُجسد في صورة تماثل القهر الذي كان يمارسه المجتمع على الفرد بفعل الرقابة، فالطبيعة قاهرة للحضارة في جانبها المادي والمجتمع قاهر للإنسان الفرد في جانبه النفسي، مما يفضي إلى القول أن الأساس في اللحظة الطللية هو الكبت ذو البعد النفسي الذي آل إلى كبت حضاريٍّ، وبذلك نلاحظ أن يوسف اليوسف في قراءته لطللية الجاهلية يركز على مقولة الكبت ويجعل منها آليةً أساسية في التعامل مع هذه الظاهرة .
إن اعتماد الطبيعة في مقاربة يوسف اليوسف ليدلل من خلالها ثنائية الانهدام ومسألة القهر، ومن خلالها ينتهي إلى اللحظة الطللية كي ينفذ إلى سلوكات تعبر عن القهر والكبت، لأن الطبيعة من مبررات الوجود الإنساني وفي مقابلها يتأسس البعد الحضاري الذي يدرأ عري الإنسان وقهره، ولعل هذا التقابل بين الطبيعة والحضارة يُجليه فرويد حين يرى ((أن الطبيعة لا تطلب منا أن نحد من غرائزنا، بل ترخي لها حبل الحرية كاملاً لكن لها طريقتها ... في تقييدها ... وبسبب هذه الأخطار التي تتهددها بها الطبيعة اختصرنا المسافات وأوجدنا الحضارة التي من مبررات وجودها تمكيننا من الحياة المشتركة ... إن المهمة الرئيسة للحضارة، مبرر وجودها الأول؛ أن تحمينا من الطبيعة))(21)، ولعل هذا الطرح هو من مرجعيات يوسف اليوسف في قراءته للطللية الجاهلية.
فالكبت من أكبر الظواهر النفسية التي ركز عليها التحليل النفسي؛ إذ يُعد النواة الأساسية لدراسة النفس الإنسانية في باطنها ، وتفسير السلوك الصادر عنها، محــاولاً على أساسه الغوص في أعماقها من أجل معـــرفة دوافعها الباطنية، إذ إنّ (( نظرية الكبت هي حجر الزاوية الذي تقوم عليه كل عمارة التحليل النفسي ))(22). ومن ثمّ تتضح أهمية الكبت في الكشف عن الكثير من الجوانب النفسية.
فهو (( الشحنة الانفعالية "للهو" أو "الأنا" أو "الأنا الأعلى" التي تولد القلق، وقد تمنع من الانطلاق إلى سطح الشعور، أو قد تتصدى لها شحنات انفعالية مضادة، أو القضاء على شحنة انفعالية أو وقفها بواسطة شحنة انفعالية مضادة يسمىكبتاً))(23). فالتركيب المعقد للنفس في انفعالاتها وشحناتها العاطفية خاصة في تدخل "الهو" تمثل الجانب الغرائزي المادي الذي يحاول دفع السلوك اللاّشعوري للانطلاق إلى سطح الشعور، حتى تتحقق على أرض الــواقع، ولكن "الأنا الأعلى" الذي يمثل مجموعة القيم الروحية والاجتماعية والأخلاقية تحاول أن تقف في وجه "الهو" حتى لا يطفو على السطح، ويتجسد في سلوك الإنسان. هذا الصراع بين "الهو" و"الأنا الأعلى" ينتج عنه كبت لكثير من السلوك والذي يكون مصدراً لكثير من النّصُوص الإبداعية.
إن الحديث عن علاقة الإبداع بالكبت ، حديث يقودنا إلى عمق الدوافع الكامنــة وراء ولادة النص الإبداعي في علاقته بالمبدع، والمحيط الذي وُلد فيه، على أساس أن النص الإبداعي نتيجة تفاعل بين واقع اجتماعي أو سياسي أو حضاري بشكل عام ، ونفسيةٌ المبدع. ((فالإبداع كالحلم، ومادام الحلم يتبدى على شكل صورة، فإن تلك الصورة التي تتبدى للحالم وللشاعر رموز لمكونات اللاشعور ))(24)؛ فالنص الإبداعي - وفق هذه النظرية - ما هو إلاّ رموز تجسدت على شكل صورة لغوية حاملة لمكونات لاشعورية، وذلك ما تسعى قراءة يوسف اليوسف لتأسيس له في مقاربتها لطللية الجاهلية.
إن نظرة "فرويد" إلى الإبداعات الفنية الكبرى لا تخرج عن كونها تؤكد الطابع الكبتي للإبداع؛ إذ إنّ المبدعات الفنية عنده ليست إلاّ تعبيراً عن روافد الطفولة، ودوافعها الملحة. ويؤكد هذه النظرة أحدُ أتباع "فرويد" بقوله: ((تبرهن لنا سيكولوجية اللاشعورية برهانا قاطعاً لا مراء فيه ، على أن الخلق الفني ليس في جميع تجلياته ، إلاّ ظاهرة بيولوجية نفسية ، إلاّ تعويضاً تصعيدياً عن رغبات غريزية أساسية ظلت بلا ارتواء بسبب عوائق من العالم الداخلي أو العالم الخارجي ))(25)؛ ومن ثمّ يصبح النص الإبداعي مجالاً من المجالات التي تفرغ فيها المكبوتات النفسية.
إن علاقة الكبت بالإبداع يؤكدها فرويد حين يقدم مسألة الكبت في مقابل المعادل الموضوعي الذي يتمثل في الفن وذلك حين يرى أن ((الإنسان القوي... هو ذاك الذي يتوصل إلى تحويل تخيلات الرغبة إلى وقائع ... أقصد أنه إذا كان يملك هبة الفن ... كان في مستطاعه أن يحول أحلامه إلى إبداعات جمالية عوضاً عن أعراض مرضية))(26)، تأخذ الصبغة الإنسانية.
بهذا الطرح يلغي يوسف اليوسف البعد الوجودي المتعالي للحظة الطللية، ويضفي عليها - منذ البدء - طابعاً مادياً غريزياً، مستمداً رؤيته في التعامل مع هذه الظاهرة من التفسير الفرويدي الذي يجعل من اللبيدو مقولته الكبرى وآليته الأولى في مقاربته للأعمال الإبداعية، فالكبح الجنسي وحظره، وهي النواة الأساس التي تعتمد عليه مقاربته للطللية، وندرك ذلك من خلال الحضور الكبير للمصطلحات النفسية ذات المنحى الفرويدي في قراءته من مثل: القمع الجنسي - اللبيدو - الاحتجاز الجنسي - تفريغ المشحون الجنسي - الكبح الجنسي - الحظر الجنسي - الإشباع الغريزي - الانطفاء النفسي والارتواء للطاقة الداخلية - احتباس هذه الطاقة داخل الأنا27، فبهذا الحضور القوي للمعجم النفسي ذي المنحى الفرويدي في مقاربة يوسف اليوسف للطللية الجاهلية، نلمس أنه يسعى للتأسيس لمقاربة تقوم وفق المقولة الكبرى للمقاربة النفسية ذات الطابع الإكلينكي التي ترى أن جوهر الأعمــال الإبداعية يقوم على تجسيد الصراع القائم بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع،و التي عبر عنها هو من كون الطللية تفريغا لمقولة التضاد بين الذات وموضوعها الساحق لها، وفي اتخاذ هذا التضاد شكل قطبين متنازعين، أولهما الشاعر وثانيهما الواقع، وبذلك يرتسم الصراع بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع كمقولة نقدية نفسية.
يعطي فرويد أهمية كبرى لمسألة اللاوعي التي تزود مقاربة الأعمال الإبداعية بأدوات من أجل إثبات العلاقة القائمة بين المبدع وعملية الخلق الإبداعي، واعتبر العملية الإبداعية كالحلم، لأن (( كل حلم سيبدو بعد التحليل الكامل تحقيقا لرغبة))(28). هذه الرغبة مكبوحة من طرف الواقع بكل مؤثراته وقيوده سواء أكانت دينية أم اجتماعية أم سياسية، وبذلك لا يمكن الغوص إلى كنه وأعماق العمل الإبداعي - عند فرويد - إلا عبر الغوص في أعماق الذات المبدعة والإحاطة بما حولها من سياقات ومن عمليات نفسية في ترسباتها ورغباتها، فهي محاولة للكشف عن العلاقة المناقضة بين الوعي واللاوعي، بين مبدأ الواقع ومبدأ اللذة.
فالمبدع عصابي الطبع مريض نفسيا، فـ (( هو في الآن نفسه انطوائي، يقترب من العصاب، فهو تحت وطأة دوافعه المهتاجة، يود انتزاع الاحترام، والنفوذ، والغنى، والمجد، وحب النساء، لكن ليس لديه الإمكانيات لتحقيق رغباته هذه، لذلك، وككل رجل غير راض عن وضعه يتحول عن الواقع ويركز انتباهه وغريزته الجنسية لا على الرغبات التي اصطنعتها حياته الخالية، الأمر الذي يقوده بسهولة إلى العصاب ))(29)، فعصابية المبدع هي جوهر مقاربة فرويد للأعمال الإبداعية، والنزوات الجنسية هي صلب اهتماماته، تتشكل في حياة الإنسان منذ صباه، فالأثر الإبداعي تعبير عن هذه الدوافع النفسية ذات البعد الشبقي التي ترسبت في لاشعور الإنسان منذ صباه، وقد استعان للبرهنة على هذا المنحى بمقاربة ليوناردو دافنتشي في "الموناليزا"، ودستويفسكي في " الإخوة كرمازوف"، و" أوديب" في الأسطورة اليونانية، وشيكسبر في مسرحية " هاملت".
فالغرائز الجنسية المكبوتة هي جوهر الأعمال الإبداعية باعتبار أن هذه المكبوتات في اللاشعور هي التي ((تسهم بقسط لا يستهان به في إبداعات الفعل البشري في ميادين الثقافة والفن والحياة الاجتماعية ... وتحتل الميول الجنسية بين جملة القوى الغريزية المكبوحة جماحها على هذا النحو مكانة بارزة ... وكل فرد يسهم في البناء الثقافي يكون عرضة لأن تتمرد غرائزه الجنسية على هذا الكبت ))(30)، فالغرائز الجنسية تتلبس لغة التمرد على الكبت من خلال صنع الفضاء العام للنص الإبداعي، ولغة الطللية الجاهلية - حسب طرح يوسف اليوسف- تملك من المواصفات التي تجعل منها لغة فيها من الكمون الجنسي النصيب الأوفر.
تجلى الطرح الفرويدي في مقاربة يوسف اليوسف للطللية الجاهلية في مقاربته لمقدمات امرئ القيس؛ ((لأنها تعبير عن أزمته الخاصة أكثر مما هي كشف عن لاشعور جمعي، وكذلك يجب الانتباه إلى تشديده على المسألة الجنسية تشديداً تكاد البرهتان الأخريان أن تختفيا معه، أو لنقل تغدوان أمراً ثانوياً بالإضافة إلى المحبوبة التي تشكل محور الطللية لديه، فصورة الماء وحس القحل ومفهوم الهدم الحضاري لا تمثل إلا حضوراً ليس بالكبير، في حين تمتلك الأزمة الجنسية ثقلا وامتلاء يكفيان للاعتقاد بأن امرأ القيــس ذاتي النزعة ويتحدث بلسان الجماعة))(31)، مما أكسب مقدمات امرئ القيس بكائية ذاتية فردية قلّما نلمسها في المقدمات الجاهلية، هذه البكائية النابعة من معاناة دافعها المباشر أزمة جنسية عميقة، وأن تميز مقدمات امرئ القيس بالبكائية المفرطة وإلحاحه عليها لا يعبر إلا عن العمق الذي بلغه القهر في روحه، مما جعله يلح على استحضار الماضي كعامل تعويض عن الواقع المقهور، الماضي الموسوم بطابعه الشبقي المتمادي فيه، ولعل الإكثار من ذكر أسماء النساء في مواطن مختلفة من مقدماته دليل على شبقية طللية امرئ القيس وذلك بخلاف مقدمات الشعراء الجاهليين الآخرين، و(( أن المعلقة تجهر بهذه الصلة بغير لُبس. فبعدما يضطره القهر إلى التصريح بأن شفاء "عبرة مهراقة" تسكبها العين، تراه يسترجع من الماضي ما أسلفه إياه من خبرات ونقاط ممتازة انكشفت فيها السعادة وتجلت "أم الحويرث وأم الرباب، دارة جلجل، عقر الناقة للعذارى، خدر عنيزة، الحبلى والمرضع، ظهر الكثيب، وبيضة الخدر"))(32)، وكلها أسماء علقت بالماضي السعيد لامرئ القيس فكان حضورها في الحاضر المنتكس كعامل تعويض ممزوج ببكائية متميزة تركت بصماتها على شعر امرئ القيس في الكثير من مقدمات شعره مثل(33):
عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ المُحِيلِ لأَنَّنَا
نَبْكِي الدِيَّارَ كَمَا بكي ابْنُ خِذَامِ
و قوله(34):
ظَلِلْتُ، رِدَائِي فَوْقَ رَأْسِيَ، قَاعـداً أَعُدُّ الحَصَى، مَا تَنْقَضِي عَــبَرَاتِي
و قوله كذلك(35):
فَسَحَتْ دُمُوعِي في رِدَائِي كَأَنَّهَا
كُلًى مِنْ شَعِيبٍ ذَاتُ سَحٍّ وتَهْتَانِ
فبكائية مقدمات امرئ القيس مرتبطة بلاشعور فردي أفرزه عمق القهر الذي عايشه الشاعر، فهو بكاء تعويضي عن اللحظات المسلوبة من الذات بفعل تراكمات الواقع، وبذلك نلمس مرجعية مقاربة يوسف اليوسف لمقدمات امرئ القيس المعتمدة بالأساس على المقولة الكبرى للتحليل النفسي، والقائلة بأن الفن تعبير عن القهر اللبيدي النابع عن الصراع بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع، وهذا الطرح الأحادي المرجعية هو الذي أوقع يوسف اليوسف في حشر أسيقة تاريخية خاصة بسيرة امرئ القيس وشخصيته على نص فيه من الذاتية ومن الجماعية ومن الفنية والجمالية ما يجعله بنية في نسقها العام والخاص تحيل على منظومة من المعاني والرُؤى، نكون قد طمسنا الكثير منها إن تعاملنا معها وفق رؤية واحدة ومحدودة المرجعية.
و مما يجعلنا ندرك تعسف يوسف اليوسف في تطبيق مقولة أن الإبداع الفني نتيجة للصراع بين مبدأي اللذة والواقع هو أنه لم يكتف بممارسة ذلك على المقدمة الطللية عند امرئ القيس وبخاصة في المعلقة، بل يعمم ذلك على المعلقة كلها وعبر جميع لوحاتها باعتبار (( أن اجتراء التلبية الجنسية هو الذي يشغل الشطر الأول من المعلقة ( من البيت 1 - 47 )، وأن اللحظات اللذية، التي سبق أن مارسها، والتي تستعيدها الآن، ليست إلا مظهراً لاشعورياً للتعبير عن النقص في الإشباع الجنسي بالدرجة الأولى، وليست لمجرد التعويض عما ألم به للتو، فكأنما هو يقول: هذا هو حالي على الدوام، غير مكتمل الارتواء، ولعلّ هذه اللاتلبية هي الدافع اللاشعوري الكامن وراء ابتكار القصيدة برمتها. ولذا أجدني ميالاً إلى القول بأن المعلقة، على الرغم من التشطير الذي يلحق بموضوعاتها، ومـن الهويّ التي تفصل بين جزئياتها، ليست إلا وحدة متجانسة ينظمها سلك واحد هو تحسس القهر ))(36)، قهر أفرزه الصراع بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع، فهو صراع ذاتي ذو طابع نفسي، وبذلك ينحو يوسف اليوسف في مقاربته لمعلقة امرئ القيس في كليتها منحى نفسياً إكلينيكياً، وأهمال المناحي الأخرى في المعلقة، حتى بلغ به الأمر حد تخير المفردات والتراكيب ذات المنحى الجنسي التي توجد في المعلقة من أجل التبرير لمقاربته.
بالمرجعية نفسها اقترب يوسف اليوسف من معلقة امرئ القيس في مؤلفه الموسوم بـ"بحوث في المعلقات"، إذ يؤكد أن المعلقة تبدأ كما هو مألوف لدى الجاهليين، بالبرهة الطللية، حيث يتجلى قمع العلاقات العشقية على أشده، وحيث يبتدع الألم في كلية حضوره ، ولتأكيد شبقية معلقة امرئ القيس تلحظ أنه يركز على الوقوف على الألفاظ والتراكيب الدالة على هذا المنحى ذي الطابع القهري الاحتجاجي النكوص الذي يصور بلاغة الكبح، فاللذة هي بؤرة التوتر التي تسيطر على ماهية الطللية والمعلقة في مجملها عند امرئ القيس، لذلك نجد حضوراً قوياً للماضي بكل لذائذه والحاضر بكل كبحه وقهره، فخلع الماضي على الحاضر يؤدي دور التعويض داخل الذات في مواجهة الواقع الحاضر، فبلاغة الجنس عند امرئ القيس وخاصة في معلقته التي تجلي مسألة التصادم بين الأنا من حيث هي طبيعية ذات كنه غريزي لبيدي، وبين التاريخ من حيث هو اصطناع قهري، بين الغرائز المتلظِّية للإشباع وبين الاصطناعي المؤدي إلى الهيمنة على الأصل، ليخضعه ويرده ويهيمن عليه، فالمعلقة –عند امرئ القيس- في حقيقتها سلسلة من لحظات مأزومة بحدة تقابلها سلسلة من اللحظات التعويضية، فهي لحظة درامية تجسد الصراع الأولي بين مبدأ اللذة ومبدأ الواقع في توجهه الفرويدي.
غير أن جدل الجنس وبلاغة القمع تأخذ في معلقة امرئ القيس منحى غير الذي ركز عليه يوسف اليوسف، بحيث إن القول الشعري كفعل خصوبة وجمال له صلة عميقة بالأنوثة وأنهما يشتركان في دلالة قيمة الشهوة، فالقول الشعري له شهوة، والأنثى كشهوة هي قول، والخيال هو الأداة الفعالة في المزج بين العالمين لنقل الرؤيا الإبداعية من النظرة الأفقية المركزة على أن جمالية المرأة هي أنوثة الجسد، إلى النظرة العميقة التي تقول إن جمالية المرأة هي الجسد والأنوثة، فالطللية الجاهلية وعند امرئ القيس وفي معلقته بشكل خاص منشطرة بين الذات والواقع الخارجي وإن شاعرية امرئ القيس هي الفاعل الإيجابي في إيجاد اللغة المحاكية للذات والواقع معا، وبين الأنوثة الجسد، والجسد الأنوثة كانت إبداعية امرئ القيس، وبذلك فشعر امرئ القيس يجلي فضاءات الإشباع الإيروسي في كثير من الصور البلاغية.
و في المنحى نفسه يتضح أن التوجه الفرويدي يركز حضوره في مقاربة قصي الحسين، من حيث جهة المعطى الليبيدي للإبداع وذلك خلال بحثة الذي نشره في مجلة الفكر العربي المعاصر ووسمه بـ " جدل الجنس – قراءة لبلاغة المقموعين في الشعر العربي- معلقة امرئ القيس نموذجاً"، ومما هو ملاحظ على هذه المقاربة أنها تأخذ بالكثير من المقولات ذات طابع التحليل النفسي التي وظفها يوسف اليوسف في مقاربته للمعلقات الجاهلية، وتؤكد عليها، وتحاول أن تلامس إشكالية الجنس في الشعر العربي القديم متخذة من معلقة امرئ القيس أنموذجاً تطبيقياً لتؤكد أن امرأ القيس المتفاعل مع أثقال البيئة والمجتمع، عبر أعشار اللحظات الدرامية المتصلة، يحاكي هذه المعاناة فنيا، حين ينسج عالم المعلقة المذهل، ونحن نراه في حركيته العامة يحاول الإجهاز على الواقع القاسي الذي كان وراء قهره وارعوائه، فالقهر وافاه طفلاً في المطلع الطللي وأخرسه كهلاً في الخواتم:
كأن السباع فيه غرقى عشية
بأرجائه القُصوى، أنابيشُ عُنْصُل(37)
و بين بيت المعلقة الأول وبيتها الأخير، تتشكل حركة امرئ القيس، الشاعر المقهور، بشفافية رائعة، حيث نقع على الكشوف الوجدانية الممزقة في الذات المنطمسة المقهورة، والتي تحاول أمامنا النهوض على قدميها، كمحاولة للتعبير عن وجودها رغم قوى القمع والقهر. قمع وقهر ذو بعد جنسي لا اجتماعي، وبذلك ندرك أن هذه المقاربة ذات تحليل نفسي فرويدي هي المصدر الأساس الذي أخذت منه الأدوات الإجرائية لقراءة طللية امرئ القيس خاصة ومعلقته عامة، ولم تحاول هذه المقاربة أن تلتفت إلى الطللية بشكل خاص والمعلقة بشكلٍ عام كنسق متكامل يحل خطابه شفرات متعددة الدلالات سواء أكانت نفسية أم اجتماعية أم حضارية أم لغويَّة جمالية.
غير أننا نجد يوسف اليوسف يمزج وبشكل بارز الرؤية الفرويدية برؤية تستمد أدواتها الإجرائية والمنهجية من فلسفة يونغ، فيقارب المقدمات الطللية الجاهلية الأخرى- غير مقدمة معلقة امـــرئ القيس - وبخاصة مقدمة معلقة كل من زهير ولبيد والنابغة وفق رؤية شمولية، تركز على أبعاد ثلاثة يرى فيها المكوِّن الرئيس للبرهة الطللية، فهي تجمع دلالة القمع الجنسي وقحل الطبيعة والانهدام الحضاري وليؤسس لمقاربته يعود للبحث في المكونات التاريخية والأنثروبولوجية للمجتمع الجاهلي والحضارات التي تعاقبت على بلاد العرب منذ أقدم العصور، والهزات المناخية والبيئية التي لحقت بها المجتمع عبر تاريخه الطويل بدءاً من خراب سد مأرب، ومروراً بالدمار الذي لحق حضارات ثمود ومدائن صالح والتي وصفها الله في القرآن ((إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد ))(38)، مما جعل الإنسان في بلاد العرب يعيش حالة لا استقرار مع المكان، فهو كثير النزوع إلى الترحال، ولكنه ترحال كان مفروضا عليه إما بفعل قحل الطبيعة وإما انهدام الحضارة، فالإنسان العربي كان وإلى غاية العصر الجاهلي في صراع دائم ومستمر مع الطبيعة، والطللية الجاهلية شكل من الأشكال التعبيرية التي عمد إليها الجاهلي ليجسد الجوهري من مآسيه، لذلك لا يكون فَضْلَةً من القول إذا نظرنا ((إلى الطللية على أنها شكل بدائي صحراوي، أو نمط عربي خاص من أنماط طقوس الخصب والانفعال أمام الشح الذي تمارسه الطبيعة على الإنسان، مدغوماً وبشكل أساسي بعنصري الانهدام الحضاري، ممثلاً في المنزل الخرب، والانسلاب الجنسي، ممثلاً بالحرمان من المحبوبة الراحلة ... وربما أفضى بنا مثل هذا المذهب إلى القول بأن المجمتع الجاهلي كان يرى رؤية مخزونة في اللاشعور الجمعي، وربما في الشعور الجمعي، لأن المجتمع كان واعيا لاندثاراته التاريخية الغابرة بدليل حفظه لأساطير ذلك الاندثار ))(39)، لذلك فإن مرجعية يونغ الفلسفية هي الرؤى الأساس التي انطلق منها يوسف اليوسف في قراءته لنماذج من المقدمات الطللية في المعلقات الجاهلية، والتي تأخذ بنظرية "النماذج العليا واللاشعور الجمعي" ودورها الرئيس في عملية الإبداع، بل وتجعل منها الأداة الإجرائية الكبرى في قراءة الأعمال الإبداعية، متجاوزة بذلك مقولات فرويد الكبرى في قراءة الأعمال الإبداعية، والتي تستمد عمقها من فكرة الأخذ بليبيدية الفن.
فالنماذج العليا هي صورة لاشعورية أو رسوبية نفسية لتجارب ابتدائية لا تحصى، شارك فيها الأسلاف في عصور غابرة ، وقد ورثت في تكوين الذات وسلوكاتها عبر أنسجة الدماغ بطريقة ما، فهي - إذن - نماذج أساسية قديمة لتجربة إنسانية مركزية ، وترى "مود يودكين" أنَّ هذه النماذج تقع في جذور كل شعر، أو كل فن آخر ذي ميــزة عاطفية خاصة. وبذلك تؤكد "موديو ديكن" الصفة الرسوبية للنماذج العليا، ودورها في تشكيل الرؤية الفنية.
أما اللاشعور الجمعي فيختزن (( الماضي الجنسي ، وهو الذي ولَّد الأبطال الأسطوريين البدائيين ، ولا يزال يولد أخيلة فردية مشابهة للرجل المتمدن. وهو الذي يجد تعبيره الأكثر في رمزية تتجاوز حدود الزمان غير أنها مألوفة نسبيا وهي رمزية ما تزال تتكرر أبداً))(40)؛ فالحياة النفسية عند "يونغ" تتكون من الوعي واللاوعي الجماعي، واللاوعي الفردي. فاللاوعي الفردي أو الشخصي يتكون أساساً من المضامين التي كانت في وقت من الأوقات شعوراً، ولكنّها أضحت مضمرة نسياناً أو كبتاً، أما مضمون اللاوعي الجماعي فلم يكن أبدا لـه حضور في الشعور أو الوعي، ولم يكتسب فرديا، بل استمد وجوده وراثة ، متشكلا في النماذج العليا واللاشعور الجمعي، والمبدع ليس كالإنسان العادي، بل هو الأكثر قدرة على الإفصاح عن هذه الرواسب الموروثة بأشكال رمزية دون وعي منه وذلك بفعل تأثير ضغط اللاشعور الجمعي، (( وتبعا لذلك فإن عمل الفنان لابد من أن يشبع الحاجة الروحية للمجتمع الذي يعيش في كنفه، بمعنى أنه لابد من أن يضطلع بمهمة إعادة التوازن النفسي إلى الحقبة التاريخية التي ينتسب إليها، وسواء أشعر الفنان بذلك أم لم يشعر، فإن عمله الفني لابد أن يعني في نظره شيئا أكثر مما تعنيه حياته الشخصية، أو مصيره الفردي، لأنه هو نفسه ليس سوى مجرد أداة في يد عمله الفني ))(41).
فالمقدمة الطللية في قراءة يوسف اليوسف تعبير عن اللاشعور الجمعي المعبر عن الكبت الجنسي والتهدم الحضاري والمحل الطبيعي،أخذ الطابع الرمزي الذي يأخذ تصوره من الترسبات البدائية للإنسان الجاهلي، فالمقدمة الطللية الجاهلية تعبير عن ترسب بأعماق الإنسان العربي تكونت بفعل التراكمات النفسية ذات الطابع الحضاري الجمعي، ترسب عبر الزمن في اللاشعور الجمعي بفعل النسيان، وبذلك أخذ طابع اللغة المنسية، فالشاعر الجاهلي من خلال الطللية تجلت لديه هذه المكبوتات وانعكست بفعل امتلاك الطاقة اللغوية على إظهار هذه الرواسب الموروثة، فأخذت مظهراً رمزياً يجلي الكثير من الدلالات والمضامين الجمعية الضاربة في أعماق القدم، توارثت في العصر الجاهلي عن طريق الأسلاف منذ العهد الأولى لحياة الإنسان العربي الأول، والأصل متكونة من غرائز ترسبت في الذهنية مع تعاقب الأجيال، وهي ما تشكل جوهر النماذج الأولى الأصلية بوصفها تضم طرائق طبيعية للتفكير البدائي، باعتبار أن الأشكال الفنية ومنها الطللية نمط (( أولي ذو صبغة رمزية، تلعب وظيفتها التعبيرية حيثما لا توجد مفاهيم شعورية، أو حيث تكون متعذرة لأسباب داخلية أو خارجية))(42)، وهكذا نلاحظ أن يوسف اليوسف يعطي للطللية الجاهلية بعداً ميثولوجياً من حيث التكوين العميق، بوصفها رمزاً يجسد العمق اللاشعوري الجمعي للإنسان الجاهلي في صورته العميقة ذات البعد الجنسي المتواشح بحس الانهدام الحضاري.
فقراءة يوسف اليوسف تستمد أصولها المعرفية وأدواتها الإجرائية من رؤية يونغ المبنية على أن الأعمال الإبداعية تعبر عن النماذج العليا واللاشعور الجمعي، وبذلك اعتبر أن اللحظة الطللية ليست لحظة آنية ولا فردية، وإنما هي لحظة ذات حس جماعي أخذت قناع اللغة المنسية فكانت ترجمة لاشعورية عن الرغبة في الخلاص من حالة حضارية متهدمة تتسم بالتحول العميق إلى حالة حضارية أسمى، وهو إحساس عميق بقهر الطبيعة وقسوة الواقع في عالم الوعي من أجل التأسيس لفلسفة التجاوز نحو واقع أرقى، وذلك هو عمق الطللية الجاهلية.
3 - المكان والزمان:
يصعب على القراءة الفصل بين المكان والزمان إذا ما تناولت أي عمل إبداعي بالقراءة، ذلك لكون أن امتزاجهما في جوهره امتزاج عضوي في صنع الموقف داخل العمل الإبداعي، لأن المكان والزمان أكثر اقتراناً وأشد التحاماً مما يتصور الفلاسفة... فالشعراء بسبب هذا الاقتران كثيرا ما يستعيرون الألفاظ الدالة على الزمان للتعبير عن المكان، فالتجربة الفنية يتكون فيها الموقف بحسب طبيعة المكان والزمان، وتشابكهما فيما بينهما وفيما بين العناصر الأخرى المكونة للعمل الإبداعي، من لغة ومضمون وموقف وغيرها من العناصر، لأن ((الارتباط جوهري بين الزمان والمكان، إذ في بعض الأحيان نعتقد أننا نعرف أنفسنا من خلال الزمن، في حين أن كــل ما نعرفه هو تتابع في أماكن استقرار الكائن الإنساني الذي يرفض الذوبان، والذي يوجد حتى في الماضي - حين يبدأ البحث عن أحداث سابقة - ليمسك بحركة الزمن. إن المكان في مقصوراته المغلقة التي لا حصر لها، يحتوي على الزمن مكثفاً، وهذه هي وظيفة المكان اتجاه الزمن، إلى جانب وظائف أخرى ترتبط بتقنيات النص، وبنوعه الأدبي، بل بالموضوع المعالج أيضا ))(43)، ومن ثم تأتي صعوبة الفصل بينهما، وإذا تحتم ذلك فلغرض القراءة والقراءة لا غير، وما يقتضيه حقلها من تمفصلات تجلي وشائج النص.
يمثل المكان والزمان عنصرين أساسيين في الأعمال الإبداعية الكبرى بجميع أجناسهـا ( شعراً ونثراً)، بل ويأخذان بعداً درامياً في صنع الفضاء الإبداعي داخل الأعمال الأدبية، وبذلك يشكل المكان والزمان قطبين أساسيين في العمل الإبداعي، يؤديان دوراً أساساً في تكوين هوية الكيان الجماعي للشعوب، كما يعبر عن المقومات الثقافية والمعرفية والجمالية لكل شعب من الشعوب، وبذلك يصبح المكان والزمان رمزا إنسانياً يأخذ في كثير من دلالاته منحى جماليا، يعبر عن موقف وجودي يتعدى المحدود الفيزيائي إلى اللامحدود المعرفي، فتتشرب دلالاته أبعــاداً إنسانية عرفانية كونية، يعبر فيها المبدع عن لحظة الخصوصية ذات الثنائية السرمدية: المأساوي والتفاؤلي.
فالأعمال الإبداعية لا تكتسب البعد الإنساني إلا من خلال تشابك عناصر التجربة، وبخاصة في بعدها المكانُ زماني، فعلى قدر وعي الأديب بالواقع الذي يعايشه، وإدراكه لطبيعة الصراعات والعلاقات فيه يتضح موقف الفكر إزاءه، وتتحدد فلسفته في التعبير الفني معه، وإن أي فصل بين عناصر التجربة الفنية لا يكون إلا فصلاً ميكانيكيا، وإن البعد الجمالي للعمل الإبداعي لا يتجلى إلا من خلال تشابك هذه العناصر، فتفكيك هذه العناصر لا يكون إلا بغرض القراءة والتفكيك ، باعتبار أن العمل الإبداعي ما هو (( إلا محصلة لجميع العلاقات المتشابكة بين الذات والموضوع، لا الماضية فحسب، وإنما المستقبلية أيضا، ولا ينحصر في الأحداث الخارجية وحدها، وإنما يشمل أيضاً التجارب الذاتية))(44)، باعتبار أن العمل الإبداعي بنية واحدة متشابكة في علاقاتها ببعضها بعضاً، والمكان يكتسب جماليته من خلال هذا التشابك داخل العمل الإبداعي.
يحتل المكان والزمان حيزاً متميزاً في صنع الفضاء الشعري داخل النص الشعري الجاهلي، حيث جعل الشاعر الجاهلي من المكان والزمان تيمة متميزة أخذت مستويات متعددة، جعلت من النص الشعري عالماً فسيحاً، فتجاذبته لتصنع منه فضاء يتموج بين الأنس والحلم، بين الوحشة والألفة، بين الغربة والارتياح.
يتسع الإحساس بالمكان والزمان في الشعر الجاهلي لينبثق من كل الموجودات الطبيعية التي كانت تحيط بالشاعر الجاهلي، والتي عج بها شعره، فالصحراء والجبال والطلل، والسماء والنجوم، القمر والشمس، والليل والنهار، كلها مظاهر تحيل على المكان والزمان في فضائه الواسع، والتي كان لها حضور قوي في تشكيل الصورة عند الشاعر الجاهلي، بل اتخذ منها أدوات فنية وتعبيرية للتعبير عن إحساسه بالمكان والزمان في طابعهما الفيزيائي وطابعهما الشعري الممزوج بالحس الانفعالي الذاتي والجماعي.
وقفت القراءة العربية الحديثة على حضور المكان والزمان في الشعر الجاهلي من حيث هو حضور لـه علاقة بالرؤية النفسية ذات البعد الوجودي الأنطولوجي، تكون بفعل البيئة العربية الجاهلية بطبيعتها المتميزة أوجدت أول لبنة في تكوين الإنسان العربي في الفضاء الجاهلي، عندما برز أول إحساس بالمفارقة بينه وبين محيطه الطبيعي، فكوّن لـه ذلك الإحساس شعوراً عميقا بثنائية الموت والحياة، مما كون لـه بعد التأمل في فنائه ومصيره المحدق أمام خلود الطبيعة، فظهرت من ثم "العلاقة" بينه وبينها، هذه العلاقة التي صورها هو في شعره أولا ثم اتخذ موافقة منها ثانياً، ولم تكن هذه العلاقة المجسدة هنا المقابلة بين الثابت الخالد والفاني المندثر في الشعر الجاهلي إلا دعامة من دعامات تكوين الإنسان الجاهلي(45) في بعده النفسي.
هذا الإحساس ذو الطابع الأنطولوجي هو الذي جعل الشاعر الجاهلي يرى أن مجرد الضرب في الفلوات والقفار ممتطياً ظهر ناقته حركة وفعل هام وجوهري في تقييم الإنسان العربي لنفسه وبنفسه. فحضور الصحراء كمكان والليل كزمان في صنع الفضاء الشعري داخل القصيدة الجاهلية، وما يرافقهما من تجسيد للقلق والوحشة والخشونة وقسوة الطريق إلا أنماطاً من التعبير التي عمد إليها الشاعر الجاهلي لإثبات الذات أمام المكان والزمان في بعدهما الوجودي، وبذلك فحضور الطبيعة في الشعر الجاهلي لم تكن مجرد مظاهر طبيعة أو بيئية في شعره، بل كانت عنصراً قوياً من عناصر بيان العلاقة بين هذا الإنسان وبين المكان حوله. ولذا نراه قد حول المظاهر القفرية إلى تقييم لـه هو وإثبات وجوده وقدرته بدلا من امتثال لها والبكاء أمامها، وهنا وضعت الطبيعة الجاهلية اللبنة الثانية في تكوين الإنسان الجاهلي، لبنة حب التحدي وإثبات الذات، على الرغم من إحساسه العميق بالحقيقة السرمدية التي تتجسد في نفسه أولاً، والطبيعة من حوله ثانياً، فهو الهالك الفاني، والطبيعة الثابتة اللابسة لثوب البقاء والخلود. ومن هذه الصلة يحدث للشاعر الجاهلي التصور والتأمل، ومن الوحدة تنجم جملة من الأحاسيس العاطفية، وإذ يظل المطلق الأرضي هو الحافز على التيه النفسي والخيال، والتفرد، يظل يجذب الذات نحو الحركة في الداخل ، ومن ثم ندرك كيف أن القراءة العربية الحديثة استطاعت بفعل تزودها بالمفاهيم النفسية ذات المنحى الوجودي، أن تقف على جوانب متميِّزة لحضور المكان والزمان في الشعر الجاهلي، فلم تقف عند البعد الفيزيائي لهذه الظواهر الطبيعية بل قرأت دلالاته الأنطولوجية في صنع الفضاء الشعري داخل القصيدة الجاهلية.
تؤكد القراءة العربية الحديثة على أن حضور المكان والزمان في الشعر الجاهلي كان نتيجة تأمل الشاعر الجاهلي من حوله في تلك البيئة الصحراوية المكشوفة، إذ وجد أن مظاهر الطبيعة الأرضية والسماوية قد فرضت نفسها عليه، وأجبرته على التأمل فيها، (( وبما أن هذا الشاعر فنان يستطيع أن يعكس رؤيته الداخلية وشعوره الدفين على ما أمامه من " موجودات" ومظاهر، فقد أداه هذا التأمل إلى ملاحظة مظاهر الخلود والاستمرار والتتابع، ومن ثم وجد فيها الزمن وخلوده ومدى قصر حياته هو بالنسبة إلى الزمن ذلك الخلود، رأى هناك تبايناً ومفارقة، فهناك خط متغير... يعيش هذا ويموت، ثم يعيش آخر ويموت في حلقات متصلة، ويتمثل هذا كله في الإنسان وسائر الأحياء، وهناك خط ثابت، لا يحيا ولا يموت، وإنما مستمر في البقاء ... ثابت أزلي، وقد أثر هذا المظهر الأخير بأشكاله المتعددة في الشعر الجاهلي واتخذ شكلين:
الأول: ما هو ممثل للثبات المستقر في نظر الشاعر الجاهلي، لا حركة فيه البتة، بل هو ساكن جامد، ويمثل هذا الجبل أولاً ثم ما يشابهه من تلال ورمال وصحراء ونحو ذلك.
الثاني: ما هو ممثل للثبات في " تتابع" فهو ثابت لتتابعه المتشابه لا لسكونه وجموده، فحركته متكررة أزلية لا تنتهي، وذلك مثل الشمس والقمر والنجوم والبرق والسحاب ونحو ذلك.))(46).
ركزت القراءة العربية الحديثة على حضور تيمة الجبل كظاهرة طبيعية في الشعر الجاهلي، فقرأت من خلال حضوره كمكان فيزيائي حضور الزمان لا كقيمة فيزيائية وإنما كقيمة أنطولوجية وجودية لها طابع نفسي، فحضور الجبل في الفضاء الشعري الجاهلي كان يستمد منه الشاعر صفات فوق البشر وبخاصة صفة الخلود، وهي التي كانت تؤرق الشاعر الجاهلي، وبذلك نلاحظ أن حضور الجبل كمكان فيزيائي كان يؤدي دور خلق الفضاء الزماني من خلال قيمة الخلود، إضافة إلى إشباعه بدلالات أخرى من مثل دلالة الصمود والتحدي والعز والشموخ وكلها دلالات كان يسعى الشاعر الجاهلي إلى الاتصاف بها من أجل إثبات ذاته أمام جبروت الطبيعة القاهرة له، وبذلك ولدت صورة الجبل في نفس الشاعر الجاهلي صورة الخلود التي كان يأمل في امتلاكها، ولكنه كان يدرك من جهة أخرى أن ذلك طموح غير مُدرك.
بذلك صاحبت فكرة البقاء والخلود لدى الشاعر الجاهلي، فكرة بقاء الجبل كظاهرة طبيعية، فكل شيء عند الشاعر الجاهلي يزول وينتهي، وله فترة زمنية محددة، إلا هذه الجبال التي كان الشاعر الجاهلي يراها صباحا مساء، والتي شاهدت حتف آبائه وأجداده، والجبال لم تتغير أحوالها، ولم تتبدل أشكالها، وسوف تكون شاهدة حتى على من هم من بعده كذلك، فنظرة الشاعر الجاهلي للجبل لم تكن نظرة مجردة، بل حاول أن يضفي عليها من نفسه المسحة الخاصة، ومن مشاعره الشعور الإنساني المتسم بالعظمة والقوة، والصبر والثبات، ((وهكذا كان الجبل بما فيه من بقاء وثبات وشموخ، رمزاً حقيقياً للخلود، يراه الشاعر أمامه كمظهر بيئي يمثل الجانب العكسي للفناء والنهاية التي يعرف الأحياء لجتها، لأن الشاعر في ذكره له يتجاوز وصفه وشكله إلى أشياء وأبعاد أكبر وأوسع، فأصبح المكان ممثلا لشيء زمني، وهنا اتحد المكان مع الزمان اتحاداً قوياً في صورة الجبل، أي اتحد الجبل "المكان" مع الخلود " الزمان "))(47) وبذلك نلاحظ كيف أن القراءة العربية الحديثة استطاعت أن تقف على البعد المكاني والزماني للجبل في الشعر الجاهلي، فحضور المكان الممزوج بالزمان في الشعر الجاهلي لم يكن من منظور فيزيائي بل أخذ بعداً نفسيا أنطولوجيا وجودياً.
اعتبرت القراءة العربية الحديثة أن مقاربة المكان في الشعر الجاهلي ومحاولة فهم دوره في تكوين الفضاء الشعري والنفسي داخل القصيدة الجاهلية له من الأهمية الكبرى في فهم الشعر الجاهلي برمته، لأن الإنسان الجاهلي كان عدوه الأول في بيئته هو المكان " الصحراء" في حد ذاته، فـ (( الصحراء هنا هي الخارج، والصحراء عدوّ: لا تعطي؛ وهي مكان التغيُّر والغياب. المكان، لذلك، ذو أهمية أولى في فهم الشعر الجاهلي ))(48)، المكان بكل معطياته الطبيعية المختلفة.
سعى الشاعر الجاهلي إلى محاولة تملك المكان باللجوء إلى العمل من أجل إثبات ذاته، وكانت الفروسية والمغامرة هي الصفة التي تحقق له ذلك، فللمكان (( عند الشاعر الجاهلي وجهان: وجه يجذب، ففي المكان وحده ترتسم تحققات الفروسية وأبعاد الفارس. ووجه يخيف، إذ من المكان تأتي مفاجآت السقوط. ومكان الشاعر الجاهلي، لريحه ورمله، نوع من المكان - الزمان: ينحني، يتداخل، ينتقل، يحيِّر ويُضيِّع. إنه المكان - المتاه. من هنا هاجس الشاعر الجاهلي ليجعل من المكان ملجأً. من هنا حسرته حين يرى الأشياء تتهدم وتغيب. فالمكان لغة ثانية خفية في تضاعيف القصيدة. هذا المكان لا يتيح أي شيء إلا بالقوة. تصبح السيطرة والتملك عند الإنسان، المحرك الأول. من هنا كانت حياة الشاعر الجاهلي بؤرة يتلاقى فيها المكان بالزمان، الضرورة والمصادفة. وهكذا يعرض نفسه قصدياً لمصادفات الحياة؛ فمن يملك الشجاعة ليجابه خطر المكان هو، وحده، يعرف كيف يكون سيّد مصيره ))(49)، فإثبات الذات هو السلاح الوحيد الذي رأى فيه الشاعر الجاهلي فعالية في مواجهة المكان، ولا يتحقق إثبات الذات ولا يكون إلا بالفروسية، ولذلك نجد حضوراً قويا للفروسية وخصالها في الشعر الجاهلي.
فالمكان لا يتيح أي شيء إلا بالقوة. تصبح إرادة السيطرة والتملك عند الإنسان، المحرك الأول. من هنا كانت حياة الشاعر الجاهلي بؤرة نفسية يتلاقى فيها المكان والزمان، الضرورة والمصادفة. وهكذا يعرض نفسه قصدياً لمصادفات الحياة؛ فمن يملك الشجاعة ليجابه خطر المكان هو، وحده، يعرف كيف يكون سيد مصــيره، ولا يحقق هذه السيادة إلا إذا عمل من أجل إثبات ذاته، وخير وسيلة لإثبات الذات هو أن يكون فارساً مجابهاً لمصاعب الحياة النابعة من المكان والزمان الذي يعيش بين فكيه.
لم تقف القراءة العربية الحديثة عند البعد النفسي الوجودي الأنطولوجي للمكان والزمان في الشعر الجاهلي فقط، من خلال مقاربتها لبعض الظواهر المكانية التي كان لها حضور في بناء فضاء القصيدة الجاهلية كالجبل، وإنَّما تنبهت إلى ظواهر أخرى كان لها حضور مميز في الشعـر الجاهلي كالمقدمة الطللية في بعدها المكاني والزماني، فقاربت فيها البعد الحنيني " النوستالجي " لما له من ارتباط بالمكان والزمان في بعديهما النفسي.
فالقارئ للشعر العربي قديمه وحديثه ، يلاحظ أن الأدوات الجمالية التي اعتمدها في بنائه الفني تتمثل على وجه الخصوص في "المكان والزمـان والمرأة"، إذ أضفت عليه أبعاداً درامية وحساً مأسوياً أدى دوراً هاماً في إبراز هوية الكيان الجماعي، والتعبير عن المقومات الحضارية للمجتمع العربي، وقد أثرت العوامل البيئية في المفاهيم الجمالية والفنية للمكان والزمان والمرأة، أي في القيمة النوستالجيا لهذه العناصر مجتمعة في النص الشعري، وما يحمله من رؤية إبداعية، وبذلك أصبحت هذه العناصر النوستالجيا إشكالية ذات أبعاد إنسانية ودلالة مأساوية بعثت في النص الشعري أبعاداً درامية، وحساً " تأوهيا " أضفى عليه مسحة جمالية.
إن إشكالية جمالية المكان والزمان المدغومة بعنصر المرأة من الإشكالات التي ظهرت بوادر توظيفها الفني الجمالي في القصيدة الجاهلية ، وتعد المقدمة الطللية في الشعر الجاهلي أبرز معلم فني تجسدت فيه نوستالجية العربي المهموم بحس المكان والزمان والمرأة، على اعتبار أن هذه الأسس الجمالية الثلاثة هي المكون الأساسي للطللية الجاهلية، التي أصبحت طقساً فنياً للقصيدة العربية فيما بعد ، نظراً لما تحمله من أبعاد جمالية، ورؤى معرفية تجسدت فيها رؤية العربي في رحمها الأول المشبعة بالصفاء النفسي. يقول امرؤ
القيس(50):
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ
بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ
و يقول زهير(51):
أَمِنْ أُمِّ أَوْفَـى دِمْنَةً لَمْ تَكَلَّـمِ
بِحَوْماَلـَةِ الدَّرَاجِي فَالمُتـثـلَّمِ
يذهب يوسف خليف إلى أن المقدمة الطللية في القصيدة الجاهليــة كان لها حضورها المتميز لأنها جاءت محاولة لإثبات وجود الشاعر أمام مشكلة الفراغ في حياته، وهي مشكلة لم يجد حلا لها إلا عن طريق هذه المتع التي لم يجد مكاناً للتعبير عنها في زحمة الالتزامات القبلية إلا في مقدمات قصائده سواء أكان هذا التعبير تشبثا بها كما نرى في المقدمات الغزلية والخمرية ومقدمات الفروسية، أم تشبثا بذكرياتها كما نرى في مقدمات الأطلال والبكاء على الشباب والتحسر على طيف الحبيبة الذي تذهب به اليقظة، فالبعد الحنني، النوستالجي، هو الدافع الأساس في التكوين للحظة الطللية في الشعر الجاهلي في بعدها المكاني والزماني الممزوج بعنصر الحبيب، بما يحمله من بعد نفسي ودرامي. لأن العودة إلى المعاجم العربية تجعلنا نقف علــى كلمة "الحنين" الدالة على (( الشوق وشدة البكاء والطرب أو صوت الطرب عن حزن أو فرح))(52)، فالحنين يدل دلالة شاملة؛ إذ يشمل الشوق في حالتي المأساة والحزن والتفاؤل والفرح، فالحنين "النوستالجيا" في المقدمة الطللية برهة زمانية تجمع القطبين في لحظة واحدة، لحظة حضور الماضي المبتغى لما يحمل من فرح وتفاؤل، لينصهر في الحاضر المأساوي من أجل صنع لحظة المستقبل المأمول عبر التجاوز.
تربط قراءة يوسف خليف الحنين في المقدمة الطللية في بعده الزماني بالطيف؛ إذ كانت الطيفية هي التعبير الأبرز عن تشبث الذاكرة بماضيها وأصالتها معاً وكان لها دور فني متميز في تشكيل فضاء القصيدة العربية القديمة، تجسد أول ما تجسد في المقدمة الطللية وأصبح عنصرا فنياً مميزاً وظفه الكثير من الشعراء الذين جاءوا من بعد العصر الجاهلي، يقول "كثير عزة"(53):
أُرِيدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّماَ
تَمَثّـَلَ لي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ
وأما جميل بثينة فيقول(55):
فَمَا سِرْتُ مِنْ مَيْلٍ، وَلاَ سِرْتُ لَيْلَةً
مِنَ الدَّهْرِ ، إِلاَّ اعْتَادَنِي مِنْكِ طَائِفٌ
وَلاَ مَرَّ يَوْمٌ ، مُذْ تَرَامَتْ بِكِ النَّوَى
ولاَ لَيْلَةٌ ، إِلاَّ هَوَى مِنْـكِ رَادِفُ
فالخيال عند الشاعر الجاهلي هو الصانع الأساسي للطَّيْف في الطللية؛ وذلك ما لمحت إليه قراءة "يوسف خليف" إذ ترى أن من خلال الطيف يحاول الشاعر الجاهلي استرداد الماضي المفقود، وبالتالي فهو شكل خفي من أشكال مقاومة الانصياع أمام الزمان السارق للحظة الفرح، أو لنقل هو مظهر لا شعوري من مظاهر إدانة الزمن المسروق. إنه احتجاج مقنع ضد البرهة المفرغة، ومحاولة تعويضية لخلق برهة الفرح المنهوبة، وعليه فالطيف في المقدمة الطللية إدانة للزمن المسروق، ومحاولة تعويضية لخلق برهة الفرح المنهوبة؛ وبذلك يحقق الشاعر الجاهلي حريته اتجاه الردع متيقنا أن الخيال هو المجال الوحيد الذي لا يمكن للقهر أن يقهره، إذ يقوم الخيال عن طريق الطيف بوظيفة تعويضية يحقق التطهير من خلالها. الشيء الذي يجعل منها آلية دفاعية جبارة، وهذا يعني أيضا أن الوظيفة الكبرى للطيف هي صيانة التماسك الداخلي للذات.
فإشارة يوسف خليف إلى الطيف في جانبه الذاتي المرتبط بالمرأة الحبيب حسرت وظيفته في علاقته بالزمن الطللي ، متجاهلة أبعاده الجماعية؛ إذ تعتبر الطللية إحدى النماذج الإبداعية العليا التي اصطفتها فلسفة الخطاب الشعري الجاهلي، لتحمل رسالة الهم الاجتماعي، وإن كان هذا الهم ممزوجاً بالذاتي إلاّ أن فيه صدق التعرف إلى الواقع، وتناقضاته وإدراك الفوارق الموجودة فيه، وقد كانت محنة الشاعر الجاهلي تمثيلا لديمومة الحياة النابضة بالحركة والمجاهدة من أجل صياغة التركيب الكلي للوعي السليم، وأن الشعور المغلق بالزمان هو الصورة الجوهرية لهذا التركيب الكلي للطللية الجاهلية الذي يجعل جميع التركيبات الشعورية الأخرى في حيز الإمكان.
تعد المقدمة الطللية الإطار المحدد لخصوصية اللحظة الدرامية المصورة للذات العربية في تاريخها الأول. هذه النزعة الدرامية التي صنعها الطلل تتضمن بعداً نفسياً يتجلى في صورة المكان الخرب الذي عبث به الزمن. ومما لا شك فيه أن الصورة الشعرية بتكوينها "الزماني" تزيد من خصوصية اللحظة الدرامية للطللية العربية، إذ يشير المكاني الزمان فيها عبر امتزاج جمالي بالمرأة "الحبيب" إلى الحس المأساوي النوستالجي الذي تحمله الطللية العربية في القصيدة الجاهلية، بل نجد من المرأة الحبيب "الحبيب" المثير الرئيس لحس المكان والزمان، مما أضفى بعداً جمالياً على هذه العناصر الثلاثة الممزوج بالطابع النفسي النوستالجي.
أما إذا عدنا إلى حنينية المكان في المقدمة الطللية الجاهلية فإننا نجد أن قراءة "يوسف خليف" لامسته ملامسة سطحية دون أن تقف عند أبعاده الحنينية، خاصة في جانبها الجمالي والنفسي. فالمكان الطللي يحمل بعداً نفسياً داخل النص ، وداخل الصورة الشعرية؛ إلى جانب وظائفه الفنية، وأبعاده الاجتماعية والتاريخية المرتبطة به خاصة في سياقاته المرجعية. فعلاقة الجاهلي بالمكان علاقات شتى تجعل من معايشته له عملية تتجاوز قدرته الواعية في لاشعوره. فالمكان عند الشعراء الجاهليين له جاذبيته التي تساعده على الاستقرار وأخرى تلفظه؛ ولذلك فهو لا يحتاج إلى مساحة فيزيقية جغرافية يعيش فيها، ولكنه يصبو إلى رقعة يضرب فيها جذوره، وتتأصل فيها هويته، ليتحول إلى مرآة ترى فيها "الأنا" صورتها.
وبذلك تعد المقدمة الطللية إحدى النماذج الإبداعية الكبرى التي اصطفاها الخطاب الشعري الجاهلي، لتحمل رسالة الهم الاجتماعي، وإن كان هذا الهم ممزوجاً بالذاتي إلاّ أن فيه صدق التعرف إلى الواقع، وتناقضاته وإدراك الفوارق الموجودة فيه، وقد كانت محنة الشاعر الجاهلي في علاقته بالعالم العلوي والعالم السفلي تمثيلا لديمومة الحياة النابضة بالحركة والمجاهدة من أجل صياغة التركيب الكلي للوعي السليم، وأن (( الشعور المحايث بالزمان هو الصورة الجوهرية لهذا التركيب الكلي الذي يجعل جميع التركيبات الشعورية الأخرى في حيز الإمكان))(55)، من أجل تحقيق فعل التجاوز.
لهذا فالخطاب الجاهلي في المقدمة الطللية يحمل صوراً متعددةً لوظائف الزمان، منها الطابع المأساوي الذي يجسد الحس الساخر من الحاضر باستخراج الذات من الماضي من أجل إنقاذ الحاضر المشلول معتمداً على عنصر الطلل كأداة فنية جمالية، فالذكرى (( لا تُعَلَّمُ دون استناد جدلي إلى الحاضر، فلا يمكن إحياء الماضي إلاّ بتقييده بموضوعةٍ شعوريةٍ حاضرةٌ بالضرورة... لا بد لنا من معاودة وضع ذكرياتنا، شيمة الأحداث الفعلية ، في وسط من الأمل والقلق، في تماوج جدليٍّ. فلا ذكريات بدون هذا الزلزال الزمني.. حتى في هذا الماضي الذي نعتقده ممتلئا ، فإن الذكرى... تعيد وضع الفراغ في الأزمنة غير الفاعلة ، إننا حين نتذكر بلا انقطاع ، إنما نخلط الزمان الغير المجدي وغير الفعال بالزمان الذي أفاد وأعطى. ولا تكون جدلية السعادة والتعاسة مستحوذة إلى هذا الحد إلا عندما تكون متوافقة مع جدلية الزمان. عندئذ نعلم أن الزمان هو الذي يأخذ وهو الذي يعطي))(56)، هو الذي يحقق إثبات الذات أمام الحاضر المتحدي، فإذا تحقق التحدي كان إثبات الذات ذات الشاعر الجاهلي أمام تحديات الواقع الذي يقهره ويعمل من أجل تدجينه، ومن ثم لم يكن [الزمن] في تعامله مع الذات المبدعة زمانا ليّناً، يترك الحرّية لتلك الذات في اختيار ما ترغبه وتهواه، بل كان زمنا جبريا يفرض عليها ما لا ترضاه وتحبّه، حائلا بينها وبين ما تشتهيه.
فالزمن الجاهلي في الطللية زمن مرتبط في أساسه بالحس الباطني؛ ((هو زمن التجربة الداخلية للعاشق بعيدا عن الزمن الفيزيائي الذي يتحكم فيه الضبط والتدقيق. إنه زمان التجربة الداخلية، أو زمان الحس الباطن… هو الديمومة التي يحياها العقل في صيرورة أفعاله وعملياته ورحالاته الداخلية… هو الزمان النفسي أو السيكولوجي ))،57 ومن هذه المواصفات استمدت الطللية الجاهلية خصوبتها وجماليتها وبقائها، بقاؤها الذي منح لها ميزة الاستمرارية عند المتلقي عبر الأزمنة الطويلة.
إن جمالية المكان والزمان الممزوج بالمرأة " الحبيب" في النص الجاهلي وبخاصة في الطللية تكمن في تحويل الحس إلى مكان شعري يتحول معه المكان والزمان المحسوس إلى مكان وزمان روحي ذي طابع قدسي ، فصورة المكان الخالي الموحي بالخراب والدمار مورد العطاء وحيز الانفعال، ساعدت على تحويله جمالية اللغة الجاهلية ذات المخزون الدلالي الحامل لوجودية العلاقة القائمة بين الإنسان الجاهلي في صفائه والتي حولت المكان والزمان من قيمة دالة على فعل شبقي إلى رمز دال على تأمل وجودي متعال، باعتبار أن كل أماكن لحظات العزلة الماضية، والأماكن التي عانينا فيها من الوحدة، والتي استمتعنا بها، ورغبنا فيها، وتآلفنا مع الوحدة فيها تظل راسخة في داخلنا، لأننا نرغب في أن تبقى كذلك. الإنسان يعلم غريزيا أن الأماكن من الحاضر، وحين نعلم أن المستقبل لن يعيدها إلينا، ونعلم أنه لم يعد هناك إمكانية استرجاعها، حينذاك ندرك حقيقة أن المكان والزمان الفزيائيين لا يمكن استرجاعهما في الواقع المادي، لذلك تقع عملية التعويض باسترجاعهما على المستوى الفني الجمالي، وذلك ما تراه القراءة العربية الحديثة في طرحها الذي يرى في المقدمة الطليلة الجاهلية تعبيراً عن حس نوستالجي نابع من حضور المكان والزمان فيها.
إن الحنين "النوستالجيا" في الشعر الجاهلي - بخاصة في الطللية - مرتبط بالمكان والزمان، والمرأة " الحبيب "عنصر مثير لفعل التداعي الذي يربط بينهما، لذلك فالنص الجاهلي - وبخاصة في الطللية - أعطى الصدارة في التوظيف للمكان المدغوم بالزمان، وجعلهما المركز النوستالجي والمرأة " الحبيب" مرتبطة بهما؛ وذلك ما لم تقف عنده قراءة "يوسف خليف" بل أشارت إلى حنينية المكان والزمان وبخاصة في الطللية، ولكن على الرغم من عمومية هذه القراءة وشموليتها على العناصر الحنينية "النوستالجيا" في النص الطللي؛ فإنّ ذلك لا يشين ولا ينقص من قيمتها النقدية؛ إذ لها فضل ملامسة الحس الحنيني في الشعر الجاهلي، خاصة في توظيفها لعنصري " المكان- الزمان" المدغوم بالمرأة " الحبيب"(58).
فالمقدمة الطللية جمعت بين عنصرين أحدهما يذكر بالفناء، وهو الأطلال، والآخر يذكر بالحياة وهو الحب. وليس اجتماع هذين النقيضين: الحياة والفناء في الموقف الواحد، وارتباط أحدهما بالآخر، إلا تأكيدا لإحساس الشاعر بالتناقض العام الماثل سواء في العالم الخارجي أو عالمه الباطني، ولكن هذا التناقض هو الذي يكوّن سر حياة الإنسان في حد ذاته، بل سر الوجود في كليته والمبني وثنائية الحياة والفناء.
4 - القـلـق :
القلق ظاهرة نفسية مصاحبة لكل نفس بشرية تعيش على وجه الأرض وتتفاعل مع محيطها، لذلك نجد أن جلّ كتب اللغة تجمع على أن القلق لـه دلالة الاضطراب وانتفاء السكينة، فيأخذ دلالتين: أحدهما حسي يتجسد في مادية الشيء فيأخذ حالة الاضطراب المادي حتى يصل به الأمر إلى فقد التوازن المادي الذي يؤدي إلى التقلقل والميلان. وآخر معنوي يصيب المشاعر فيجعل النفس تفتقر إلى السكينة فتصاب بالحيرة والانزعاج والحزن. وقد دلت المعاجم العربية القديمة على هذا المعنى، يقول ابن منظور في اللسان ((القلق: الانزعاج))(59). ونفس المعنى يذهب إليه الفيروز آبادي(60) عند تعريفه للقلق.
أما إذا تأملنا البنية الصوتية لمادة " قلق" فإننا نلاحظ منذ اللحظة الأولى الدلالات الكامنة في كلِّ حرف فيها. فإيقاع " ق " يوحي بالشدة، ويشعر بالاستعلاء والقلقة، وهو يُفضي إلى إيقاع " ل " المستغل المتوسط بين الشدة والرخاوة، ليرتد ثانية، وبسرعة، إلى شدة " ق " وقلقلتها. هذا يعني أن المناسبة بين مادة قلق ودلالتها اللغوية أمر لا يتطرق إليه شك. فالانتقال المضطرب من الشدة إلى الرخوة، والارتداد ثانية من الرخاوة إلى الشدة، يمثلان الحركة العنيفة الحادثة في الأجسام، ويوازنان اضطراب النفس المنكفئة من حال إلى حال. تلك التي تتقاذفها المشاعر المتناقضة، فلا اطمئنان فيها ولا استقرار.
اهتمت الدراسات النفسية الحديثة بالقلق كظاهرة وسلوك نفسي، فركزت منذ البداية للتفريق بينه وبين الهمِّ والخوف، فلاحظت أن الهمَّ والخوف لهما مدلول واحد باعتبار أنهما حالتان نفسيتان تعبر عن حالة نفسية واحدة، وأنهما يتسمان بالوضوح في المنطلق. بينما القلق هو حالة من الخطر ولكنه يتسم بالغموض وعدم وضوح أسبابه وبواعثه، وذلك ما يسبب الحرمان من الاستقرار النفسي، والفشل في التكيف، وفقدان التوازن، ويضفي مسحته على شتى مناحي الحياة النفسية من نوم وعمل وتفكير وشعور(61).
ثمة عوامل كثيرة تكون السبب الرئيس في وجود القلق، منها ما هو واقعي كالشعور بعدم التكيف مع المحيط، ومنها ما هو وجودي كالتفكير في مشكلة المصير، ومنها ما هو نفسي كالشعور بالإحباط والنقص والعجز، وبذلك نلاحظ أن القلق ظاهرة لها علاقة بالنفس الإنسانية في شتى حالاتها، ويأخذ التعبير عنها كثير من الأشكال، ومنها الفن عامة والشعر خاصة.
الشاعر الجاهلي لم يكن بمنأى عن هذا الإحساس " القلق " لذلك نجد للقلق حضورا مميزا في الشعر الجاهلي، سواء أكان ذلك في المعلقات أم في غيرها من النصوص الشعرية. يقول امرؤ القيس وهو يصور علاقته بالليل(62):
وَ لَيْلٍ كَمَوْجِ البَحْرُ أَرْخَى سُدُولَهُ
عَلَيَّ بِأَنْوَاعِ الُهُمومِ لِيَبْتَلِي
فَقُلْتُ لَـُه لَمَّـا تَمَطَى بِصُلْبهِ
وأَرْدَفَ أَعْجازاً ونَاءَ بِكَلْكَلِ
أَلاَ أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَوِيلُ أَلاَ انْجَلِي
بِصُبْحٍ ومَا الإِصْبَاحِ مِنْكَ بِأَمْثَلِ
فَيَا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ
بِأَمْرَاسِ كِتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ
حاولت القراءة النفسية الحديثة أن تقارب ظاهرة القلق في الشعر الجاهلي، من خلال الوقوف على عدة قضايا كان لها الدور الرئيس في حضور القلق كظاهرة نفسية في هذا الشعر، واعتبرت أن الشعر كان من بين الأدوات التعبيرية التي جسد من خلالها الجاهلي هذه الحالة النفسية.
كما حاولت القراءة النفسية الحديثة أن تقارب ظاهرة القلق في الشعر الجاهلي من خلال الوقوف على أبعاده المختلفة سواء أتعلق الأمر بالبعد الإنساني العام أم بالبعد التاريخي الخاص، متخذة من النص الشعري الجاهلي مصدراً لها ومن التاريخ والواقع السياسي والاجتماعي الجاهلي سياقاً مساعداً على ذلك، باعتبار أن الأشعار الجاهلية الحاملة لإشارات القلق وثيقة، منها ينبع التفسير والتحليل، دون إهمال العلاقة الكامنة بين هذه النصوص والسياقات الواقعية الإنسانية؛ البيئية منها والاجتماعية والشعورية. فمشكلات الإنسان الجاهلي القلق هُمُوم إنسانية دائمة، لأن هذا الإنسان يحمل من الخصوصية المتفردة التي ميزته عن باقي الشعوب، تعاونت في صنعها عدة عوامل منها ما هي ذاتية وأخرى تاريخية، ومن ثم (( فالقلق هو الشرط الأساسي للإبداع الفكري والفني، والسمو الشخصي والتضحية، وبكل ما هو فائق في التاريخ البشري، والرغبة في إزالة القلق، إنما تعني الرغبة في إزالة العاطفة... التي هي رمز الحرية والقوة البشرية، وميزة الإنسان على كل ما عداه من المخلوقات))(63)، ولذلك فمقاربة القلق في الشعر الجاهلي، وبخاصة القلق الوجودي من المواضيع الجوهرية الأصيلة التي تميز بها هذا الميراث الشعري العربي، والتي حاولت أن تركز عليها القراءة العربية الحديثة.
تعد قراءة أحمد خليل "ظاهرة القلق في الشعر الجاهلي" من القراءات الحديثة التي أفردت موضوعها للقلق وتجلياته في الشعر الجاهلي، مصرحاً منذ البداية أن قراءته ستجعل من النص الشعري الجاهلي، والشاعر الجاهلي، والواقع الجاهلي عناصر أساسية في مقاربة هذه الظاهرة، متخذة من أطروحات علم النفس الحديث أدوات إجرائية للمقاربة، لأنه (( إذا كان القلق ظاهرة فإنه، في الوقت نفسه، موقف يضطر إليه الإنسان، عندما يشعر أو يتصور أن وضعاً ما يهدد وجوده بالانتقاص، أو التدمير. ومن هنا، فالقلق ليس ضرباً من النزق والطيش، إنه ضرورة وجودية، تستمد سماتها من طبيعة شخصية الفرد، وطبيعة الوضع الذي أثارها، وربما أن الواقع الجاهلي كان يفتقر إلى الاستقرار في أحوال كثيرة، فمن البديهي أن يسجل الشعر ذلك، ويشير عمداً أو عفواً إلى المؤثرات الذاتية والبيئية والاجتماعية التي أدت إلى القلق، أو يصور الأوضاع التي نجمت في الأصل عن الشعور به ))(64)، باعتبار أن الشاعر يحمل همَّ مسؤولية التنبيه إلى مكامن الخطر التي تهدد الإنسان الجاهلي في جوهر وجوده، وذلك ما يؤكد أن الشاعر الجاهلي عاش (( في قلق الاختيار، باحثاً عن حل من دون أن يمكن من العثور عليه))(65)، وبذلك كان القلق العنصر الخِصْب الذي أمدَّ الشاعر الجاهلي ديمومة التحول في التجربة الشعرية التي لا تتحقق إلا بهدم اللحظة السكونية.
ليؤسس أحمد خليل لقراءة القلق في الشعر الجاهلي، يؤكد أن لهذا القلق منحيين أساسيين هما: " القلق الوجودي والقلق الاجتماعي والديني"، وأن القلق الاجتماعي والديني ما هما إلا رافدان مساعدان على تجلي القلق الوجودي في الشعر الجاهلي، باعتبار أن أزمة الشاعر الجاهلي كانت أزمة وجودية في الأساس، وبذلك ركز أحمد خليل على القلق الوجودي في مقاربته للشعر الجاهلي. والزمن عنصر جوهري فيما هو وجودي باعتباره عنصراً يؤسس للشاعر الجاهلي (( حضوره في التاريخ، ويمزق صيرورته بين ماض ينتهي، فلا يمكن امتلاكه ثانية إلى الأبد، وبين مستقبل يسلط عليه الحيرة، ويشعره بالجهل، ويتمرد على كل محاولات التعقيل الملحقة، وليس هذا فحسب، وإنما كان الموت يشكل العقدة المتأبية على الحل. فكم طمح الجاهلي إلى الخلود ! وشد ما رغب في التغلب على الفناء ! بيد أن الإحباط متجسد في الموت، كان يعصف بطموحاته، ويجابهه بالعجز الشامل، ويكرهه على الإذعان للحتمية القاهرة، وهل يمكن النفس الإنسانية أن تكون في مناجاة من القلق وهي تواجه هذا الرهق والتبكيت؟))(66)، وبذلك يقارب أحمد خليل في الزمن العنصر الوجودي الأنطولوجي الكوني وتداعياته في نفس الشاعر الجاهلي، فالقلق المرتبط بالزمن عند الشاعر الجاهلي هو قلق وجودي نابع من التأملات التي كان يطلق لها الشاعر الجاهلي العنان لتغوص به في ماهية الأشياء التي يحكمها قانون الحتمية، وليميز ويفصل أحمد خليل في قضية الزمن وعلاقته بالقلق عند الشاعر الجاهلي نلفيه يعقد لذلك بابا كاملا حاول فيه أن يقارب إشكالية القلق الوجودي في الشعر الجاهلي.
ركَّز أحمد خليل في القلق الوجودي على القلق في الزمان سواء أكان زمناً واقعياً أم كونياً أم مطلقاً، وعلى القلق في المكان من خلال الطلل والقفر، معتبراً أن القلق الوجودي في الشعر الجاهلي لا يمكن مقاربته إلا إذا قاربت عنصرا الزمان والمكان باعتبارهما عنصرين يصعب الفصل بينهما.
يمثل الزمان والمكان عنصرين أساسين في الأعمال الإبداعية الكبرى بجميع أجناسهـا ( شعرا ونثرا)، بل ويأخذان بعدا دراميا في صنع الفضاء الإبداعي داخل الأعمال الأدبية، وبذلك يشكل الزمان والمكان قطبين أساسين من أقطاب العمل الإبداعي، فيؤديان دورا أساسا في تكوين هوية الكيان الجماعي للشعوب، كما يعبران عن المقومات الثقافية والمعرفية والجمالية لكلِّ شعب من الشعوب، وبذلك يصبح الزمان والمكان رمزاً إنسانياً يأخذ في كثير من دلالاته منحى جماليا، يعبر عن موقف وجودي يتعدى المحدود الفيزيائي إلى اللامحدود المعرفي، فتتشرب دلالاته أبعاداً إنسانية عرفانية كونية، يعبر فيها المبدع عن لحظة الخصوصية ذات الثنائية السرمدية: المأساوي التفاؤلي.
اعتبرت القراءة النفسية علاقة الشعر الجاهلي بالعالم من حوله وتفاعله معه من بين المصادر الرئيسة للقلق، بحيث يجسد لنا هذا الشعر أن الزمان والمكان والمجتمع من بين المؤثرات الكبرى في نزوع الشاعر الجاهلي نحو القلق والاضطراب، فالزمن بما يحمله من قضايا كونية أو واقعية، والمكان بما يحمله - هو كذلك - من فلاة وخلاء ووحشة كان من وراء شعور الجاهلي بالقلق والرهبة والذعر، لذلك كان الأثر الجغرافي واضح في القلق إزاء المكان. فالبيئة الصحراوية كانت من وراء ظهور الشعور بالرهبة في القفر، في حين ساعدت البيئة الجبلية على نمو الشعور بالذعر في المراقب، وبذلك كان للمكان الجاهلي بمفهومه المادي معطى أساسي للقراءة النفسية لمقاربة ظاهرة القلق في الشعر الجاهلي، مركزة على تداعياته السيكولوجي ذات البعد الفيزيولوجي أكثر من البعد الوجودي، لأنها ركزت على المكان في بعده العام، ولم تدقق في خصوصية المكان باعتباره حيزاً عرفانياً في بعض جوانبه في الشعر الجاهلي، كما هو الحال مع الطلل في القصيـدة الجاهلية.
يشكل القلق الوجودي المستوى الأول والأساس الذي قرأت منه مقاربة أحمد خليل ظاهرة القلق في الشعر الجاهلي، فقاربت القلق الوجودي عبر مستويين رئيسين "القلق في الزمان والقلق في المكان".
مستويات الزمن الواقعي، والزمن الكوني "الدهر"، والزمن المطلق "الخلود"، هي المستويات الرئيسة التي حاول من خلالها أحمد خليل مقاربة القلق في الزمان باعتباره المستوى الأول الذي يتجسد فيه القلق الوجودي، فالقلق المرتبط بالزمن الواقعي قلق في أساسه نابع من القهر والعماء والإحباط والفرح، ومن يـبحث في الشعر الجاهلي لابد أن يتنبه إلى عقدة خُواف الزمن. فكثير من الشعراء الجاهليين يبالغون في جعل الأمور مرهونة بالأوقات والأزمنة، ويرون في الزمن قوة فاعلة ومؤثرة في مجرى حياة الإنسان، ويشعرون أنهم في سباق دائم مع لحظاته، كما أنه يتراءى لهم ذا إرادة حازمة لا يقبل المهادنة. وأما قدراته الجبارة فتتناول بقوة مختلف جوانب الوجود البشري، إنه يقهر ويقمع، ويغير ويقوض، ويفسد ويصلح، ويهلك ويفني. وهو، لهذا كله، كاشف فعال عما يمكن في الهوية الإنسانية من نقص في القدرات، أو عجز في المعارف، وهو مصدر أساسي للشعور بالغلبة والقهر، والعماء والخيبة والإحباط، وعبرها يتجسد القلق الواقعي الذي يجعل من العوامل المادية أساساً له، وبذلك نلمس تحسس أحمد خليل القلق الوجودي عند الشاعر الجاهلي من خلال انتباهه إلى (( أن الإدراك العالي يفرض تأزما جديدا ))(67)، ومن ثم فالقلق الوجودي عند الشاعر الجاهلي نابع من إدراك عميق لحتميته مع دورة الزمن وتعاقبها.
فالقهر بمفهومه الواقعي مصدر أول من مصادر القلق الوجودي باعتبار الوجود الإنساني ومنها الجاهلي خاضعاً في الأصل لأحكام تلك القوة القاهرة، قوة الزمن التاريخي، لأن ((صيرورة التاريخ وحركيته المتتالية هي التي رسمت معالم القهر في الشعر الجاهلي عبر بنياته ومستوياته، ويجسد هذا الشعر مظاهر القهر الكامن في الزمان [عبر] تأبّي الماضي على العودة إلى ساحة الوجود ثانية. وهذا المظهر ليس غريبا عن مجمل النزعة الجبرية. إنه أحد وجوهها. إذا ما دامت إرادة الزمان هي القاهرة فبديهي أن يخسر الإنسان الجولة معها، وأن يتنازل عن استعادة الماضي، وينكفئ ثانية إلى الحاضر قائلاً في مرارة " دع ذا" أو ما يماثلها))(68)، فالشعور بالقهر اتجاه الزمن هو الذي جعل الشاعر الجاهلي يجسد في كثير من رؤاه إحساسه بالجبرية المتشائمة، بل نلحظ أنها تسيطر على أفقه في التعامل مع إشكالية الإحساس بالقهر إزاء الزمن.
فالقلق الوجودي نابع عن الزمن الواقعي، ولا تكمل صورته من الإحساس بالقهر إزاء الزمن – في نظر أحمد خليل – بل إن العماء الذي يتجسد عبر إحساس الجاهلي بجهله ووقوفه العاجز أمام معرفة المستقبل. فالعجز المعرفي الذي يشعر به الجاهليون إزاء الزمان أعمق مما يبدو عليه من السطحية، إنه الوجه الآخر لمشكلة الحرية ومأساة الحتمية. فالمعرفة من أهم مكونات الحرية. وإن حرية الإنسان تتوزع في المدى الذي تتوزع فيه معرفته. وفي مستوى عجزه وجهله تكون عبوديته للأشياء من حوله، ويكون، من ثم، انحطاطه، ومن ثم فقلق الجاهلي في جوهره في طرح أحمد خليل مرتبط بمسألة معرفية أعمق مما تحاول بعض المقاربات ربطه بعوامل مادية حسية آنية مرتبطة بالمعيشة المادية للإنسان الجاهلي، لأن الشعر الجاهلي - في نظر أحمد خليل - ((نموذج للقلق الوجودي الذي يملأ جوانب النفس الإنسانية، بعد أن تخلص من جميع التركيبات الاجتماعية المتوارثة من عقائد وتقاليد، وعلى هذه النفس أن تسبر غور ذاتها لتستمد قوة حتى تستطيع مواجهة العالم ))(69)، العالم الذي كان يواجهه الشاعر الجاهلي بأسئلة هي في جوهرها وجودية، من دون أن يجد إجابات شافية لها.
كما يجعل أحمد خليل من ثنائية الإحباط والفرح التي تتوافر عليها القصيدة الجاهلية أساساً آخر لمقاربة القلق في الشعر الجاهلي، باعتبار أن الزمن عندما ينمي الشعور بالعماء إنما يسلب الإنسان الجاهلي من حريته، ويكبل إرادته، ويوقعه في الشعور بالقلق والاضطراب. ومن ثم لم يترك الإحباط الجاهليين يشعرون بالسكينة والراحة، وإنما القلق هو عنوان حياتهم في هذا الوجود، لذلك (( ينبئنا الأدب الجاهلي أن أزمنة الفرح هذه قد وجدت. إلا أن وجودها كان عابراً. وهي لم تساعد على تبديد الشعور بالقلق إلا في مجالات ضيقة، بل ساهم إمكان تحققها في دفع الجاهلي إلى أحد موقفين، فهو إما متلهف على اقتناصها، وإما كئيب بسبب إفلاتها من وجوده. وهو على الحالتين ليس بناج من الاضطراب… وعلى الإجمال إنها فرحة المقهور بلحظات الحرية، ونشوة المحروم بشيء من الظفر، وصخب القلوب البريئة فرحاً بمتع، سرعان ما يسلبها الزمن القاهر. فلتمتح النفس البشرية مما سمح به الزمان إذا، ولتنعم بما شاء لها من لذات ))(70)، لذات سرعان ما يكدرها الزمن بتقلباته فيعيش الشاعر الجاهلي قلقا بين سرمدية ثنائيـة الإحباط والفرح، ومن ثم يحقق الشعر عند الشاعر الجاهلي ((القرب من الأصل، لأنه هو الذي يعبر عن فرحة القرب من سره الذي يتجلى ويحتجبه ويهب نفسه ويبخل في آن واحد، بهذا تمتزج الفرحة بالحزن، وتختلط السعادة بالهم ))(71)، فيطل الشاعر الجاهلي على جوهره من خلال الشعر.
وليعمق أحمد خليل طرحه وهو يقارب ظاهرة القلق الوجودي في الشعر الجاهلي كان من الضروري أن يقارب هذا العنصر وعلاقته بالزمن الكوني "الدهر"، فالشاعر الجاهلي أحس وتعمق في الإحساس بدبيب الفناء إلى كيانة، ولأن تجاذبه بين قطبي البداية والنهاية هي التي تقلقه وتكبله، بحيث يجد قدرته محدودة اتجاهها، ومن ثم فإرادة الإنسان الجاهلي مكبلة، لذلك يرى أحمد خليل أنه لا يمكن مقاربة القلق المرتبط بالزمن الكوني دون مقاربة عنصر الإرادة كدافع نفسي يصارع الإنسان الجاهلي بها من أجل البقاء ومواجهة الفناء، لذلك تخوض الإرادة الإنسانية – حسبما يشعر الجاهلي – صراعا عنيفا مع الدهر. إنه يقمعها، ويمنعها من مباشرة الواقع الإنساني، بل يحاول إلغاءها، وهي تقاوم من أجل إثبات الذات وتجاوز المحدودية، فالإرادة هي العنصر الجوهري الذي يعتمد عليه الإنسان الجاهلي في صراعه مع الدهر باعتباره عنصر تدمير، لكنه ((عاش في قلق الاختيار، باحثا عن حل من دون أن يتمكن من العثور
عليه))(72)، وتلك يقينية كبرى لامسها الشاعر الجاهلي وهو يتعامل مع هذه القضايا الوجودية الكبرى، لكن من دون أن يقف على إجابة كافية لها، وهذا ما عمق إحساسه بالقلق، بخاصة وأن إرادته انهارت في كثير من المواطن وهو يجهد نفسه للبحث عن إجابة يقينية لها.
لكن فعل الدهر - حسب طرح أحمد خليل وهو يقارب الفكر الجاهلي - فاعل وفعّال في تخريب كيان وجسم الإنسان الجاهلي، لأن الهرم علّة تبدل أحوال البشر، إنه يلهو بالوجود الإنساني، فاعلا به ما يشاء. وإزاء مشيئته تغدو جهود الإنسان هباء منثوراً. فالضعيف قد ينعم بالمال والولد، وقد يبوء القوي بالفقر والحرمان، فتبوء موضوعية العقل، من ثم، بالخزي. ذلك لأن الدهر قد فرض موضوعيته الخاصة له، تلك الموضوعية التي أربكت فكر الجاهليين، وأقلقت مشاعرهم، وبذلك تعمق قلق الجاهلي اتجاه مصيره ووجوده ككيان إنساني في هذا الوجود.
فقلق الجاهلي فعل نفسي يسعى إلى هدم الواقع المتردي باعتبار أنه (( قلق على ما كان، وقلق على ما سيكون، وموضوعات الأول مثل الخطيئة والشر والحماقة التي تبلغ نهايتها في "الملال"، وهو الذي فيه يتحقق القلق العام على ما كان بالمعنى الأعمق والأشمل. أما تلك الموضوعات، فما هي إلا تمهيدات يخالطها جانب من الأحوال الجزئية، أما القلق في حال "الملال" فهو قلق عام من الوجود كله على هيئة الآنية في سقوطها الشامل، حينما تبلغ مرتبة الشعور بذاتها كاملا تستولي عليه حالة "الملال"؛ أما موضوعات القلق العام على ما سيكون فأهمها التمزق إلى اللقاء الكامل لكل الموجود بعد أن انفصل في حضن الوجود المطلق إلى إمكانية الآنية والنزعة إلى الاتحاد بالكل في نوع من وحدة الوجود الشعرية ))(73)، وبذلك كان عمل الشاعر الجاهلي يطمح لأن ينبه إلى مواطن الخطر التي تهدد جوهر الوجود الإنساني.
وبذلك سما الشاعر الجاهلي بالقلق حتى أصبح تعبيراً عن الوعي الجمالي لحلم الخطاب الشعري الذي أفضى إلى الفجيعة، خيبات الأمل التي مني بها الإنسان، وبذلك تحولت التجربة الشعرية إلى حقيقة محملة بمستلزمات الشرط الإنساني، ومفعمة بالتناقضات الحادة التي تسود الوجود، فأضحى القلق عند الشاعر الجاهلي قلق على ما كان، وقلق على ما سيكون، وموضوعات الأول مثل الخطيئة والشر والحماقة، التي تبلغ نهايتها في "الملال"، وهو الذي فيه يتحقق القلق العام على ما كان بالمعنى الأعمق الأشمل. أما تلك الموضوعات، فما هي إلا تمهيدات يخالطها جانب من الأحوال الجزئية، أما القلق في حال "الملال" فهو قلق عام من الوجود كله على هيئة الآنية في سقوطها الشامل، حينما تبلغ مرتبة الشعور بذاتها كاملاً تستولي عليه حالة "الملال". أما موضوعات القلق العام على ما سيكون فأهمها التمزق إلى اللقاء الكامل لكل الموجود بعد أن انفصل في حضن الوجود المطلق إلى إمكان الآنية والنزعة إلى الاتحاد بالكل في النوع من وحدة الوجود الشعرية.
هذه الوحدة التي سعى الشاعر الجاهلي إلى تحقيقها من خلال بنية النص الشعري عبر مستوياته، فالقلق الوجودي في الشعر الجاهلي من الفضاءات التي وسمت هذا الشعر، والتي حاولت مقاربة أحمد خليل أن تقف عليها بذكاء لأنها من الخاصيات المتميزة في صنع ديمومة النص الشعري الجاهلي وجماليته، كما حاولت أن تقارب فيه الجانب النفسي البعيد عن الطرح الإكلنيكي، بل التفتت إلى البعد النفسي ذي الطابع الوجودي، ومن ثم ندرك كيف أن مقاربة القلق في الشعر الجاهلي كانت من الموضوعات النفسية التي لم تهملها القراءة النفسية للشعر الجاهلي، بل حاولت أن تقاربها لتتلمس فيها العناصر النفسية ذات العلاقة دقيقة بيقينيات الوجود عند الشاعر الجاهلي.
نخلص في الأخير إلى أن - المقدمة الطللية ، الزمان والمكان، القلق - شكلت جملة الظواهر التي حاولت القراءة النفسية مقاربتها في دراستها للشعر الجاهلي، فحاولت أنْ تستخلص من خلال تطبيق أسس المنهج النفسي والتي مؤداها أنَّ الشعر الجاهلي ، ما هو إلاَّ إفراز طبيعي لتعارض "مبدأ اللذة" مع "مبدأ الواقع" في نفسية الشاعر الجاهلي، وبخاصة في مقابلتها للمقدمة الطللية.
فالعمل الفني - في رأي التحليل النفسي - ليس وحيد الجانب. ففيه يتفاعل الاتجاهان المتضادان وأنَّ الحياة النفسية والعقلية تتركب من تضاد وتفاعل وتكيف متبادل بين البواعث الغريزية ومطالب الواقع على نحو ما تعبر عنها التقاليد الاجتماعية والأنظمة الأخلاقية؛ لهذا كلِّهُ اصطبغ الشعر الجاهلي بصبغة الدراما والصراع ، وأصبح الجانب الحزين والتراجيدي يؤلف جزءاً أساسياً من حساسية الشاعر الجاهلي ، لذلك فالشاعر الجاهلي ضرب من الخلاف ، ومعنى من العزاء ، وحاجة إلى الإعلاء ، وقدر من الرفض.
لكن الملاحظ على القراءة النفسية للشعر الجاهلي أنَّها لم تعامل مع هذا التراث الشعري تعاملا "إكلينيكياً" يحمل روح المعيارية في الأحكام النقدية، اللهم إلا في طرح يوسف اليوسف للمقدمة الطللية، حيث جعلت هذه المقاربة من الشاعر الجاهلي فرداً عصابياً، وما يحيط بهم من ملابسات تاريخية وسياسية وحضارية عملاً فعالاً في تشكل تلك الرؤية، ومن ثم نظرت إلى أنَّ النص الإبداعي الجاهلي لا يعدو أن يكون نتيجة تلقائية لشخصيات الشعراء الجاهليين. وفات القراءة النفسية وبخاصة عند يوسف اليوسف في مقاربته للمعلقات أنَّ النص الإبداعي يتحرك حركة ذاتية خاصة به لا حركة تابعة لذاتية صاحبه ؛ وبذلك ندرك أنَّ اهتمام القراءة النفسية بشخصية الشاعر وسيرته في معظم الأحيان ، ما هو إلاَّ هروباً من النَّص ومشقاته، أو تسوية وهمية بين النَّص وصاحبه. إذ من الإسراف أن نظن أنَّ العمل الفني وثيقة تحتاج إلى تجارب "إكلينيكية" لتبرير أطروحات مسبقة ،(( فالفن ليس تعبيراً فحسب، الفن يحتوي على كثير من العناصر التي يضع الفنان يده عليها حين يقرأ تاريخ الفن، ولا تنبع من حاجاته الشخصية وأهدافه الذاتية وقد قال "فرويد" في بعض كتاباته الأخيرة أنَّ العمل الفني لا ينمو على ما يُحبُ ويختار، بل هو يواجه مؤلفه أحيانا مواجهة خلق مستقبل غريب عنه ))(74). وهذا ما لم تدركه القراءة السيكولوجية للظاهرة العذرية ، إذ ذهبت تقرأ الظاهرة من خلال سيرة أعلامها، وتبحث عن مبررات لعصابيتهم وشذوذهم متجاهلة النَّص الشعري الجاهلي، وما يحمله من جمالية ورؤية وجودية وهبته الديمومة والحياة النّابضة التي خلَّدته، وارتقت به إلى مصاف الإبداعات العالمية الكبرى.

هوامش الفصل الثاني:
1- فاليري ليبين: مذهب التحليل النفسي والفلسفة الفرويدية الجديدة - ص: 73 .
2- برنار دي فوتو: عالم القصة - تر: محمد مصطفى هدارة - ص:33.34.
3- فرويد: نظرية الأحلام - ص: 137.
4- ستانلي هايمن - النقد الأدبي الحديث ومدارسه - تر: إحسان عباس ومحمد يوسف نجم - ص:190 .
5 - جان برنيس: المخيلة - تر: خليل الجر - ص:39.
6- أحمد كمال زكي - النقد الأدبي الحديث أصوله واتجاهاته - ص 250.
7- محمد النويهي - ثقافة الناقد الأدبي - ص:273 .
8 - ينظر ابن قتيبة : الشعر والشعراء - 1/20.
9 - يوسف اليوسف: مقالات في الشعر الجاهلي - ص:123.
10- فالتر براونه: مجلة المعرفة - دمشق - 1963 - ع4 / 159.
11- الشيخ أحمد الشنقيطي: شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها - ص:217.218.
12- فالتر براونه: مجلة المعرفة - دمشق - 1963 - ع4 / 159.
13- يوسف اليوسف : مقالات في الشعر الجاهلي - ص: 127.
14- عز الدين إسماعيل: روح العصر - ص:17.
15- عبد القادر فيدوح: الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي - ص:251.
16- يوسف اليوسف : مقالات في الشعر الجاهلي - ص: 129.
17- إبراهيم عبد الرحمن محمد: قضايا الشعر في النقد العربي - ص:116.
18- يوسف خليف: دراسات في الشعر الجاهلي - ص:117.
19- المرجع السابق: ص:119.
20 - حسين عطوان: مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي - ص:218 - 219.
21 - فرويد: مستقبل وهم - تر: جورج طرابيشي - ص:22.
22 - جان لابلاش وج ب بونتاليس - معجم مصطلحات التحليل النفسي - تر: مصطفى حجازي - ص:418.
23 - كالقن هال - أصول علم النفس الفرويدي - تر: محمد فتحي الشنيطي ص:11.
24 - نصرت عبد الرحمن - في النقد الحديث دراسة في مذاهب نقدية حديثة وأصولها الفكرية - ص:189.
25 - سامي الدروبي - علم النفس والأدب - ص:88.
26 - فرويد: مستقبل وهم - ص:60.61.
27 - ينظر يوسف اليوسف: مقالات في الشعر الجاهلي - ص:140-141.
28 - رولان دالبيير: طريقة التحليل النفسي والعقيدة الفرويدية - تر: حافظ الجمالي -
ص: 58.
29 - جان لوي يودري: فرويد والإبداع الأدبي- تر: موريس أبو ناضر- مجلة الفكر العربي المعاصر- ع23/1982- ص:132.
30 - فرويد: مدخل إلى التحليل النفسي - تر: جورج الطربيشي - ص:17.
31 - يوسف اليوسف: مقالات في الشعر الجاهلي - ص:175.
32 – المرجع السابق- ص:177.
33 - الديوان:ص:162.
34 - المصدر السابق:81.
35 - نفسه:173.
36 - يوسف اليوسف: مقالات في الشعر الجاهلي - ص:179.
37 - الديوان: 148.
38 - سورة الفجر الآية: 7.8.
39 - يوسف اليوسف : مقالات في الشعر الجاهلي - ص: 138 - 139.
40 - ستانلي هايمن - النقد الأدبي ومدارسه الحديثة - ص: 245.246.
41 - زكريا إبراهيم: مشكلة الفن - دار الطباعة الحديثة - ص:194.
42 - فاليري ليبين: مذهب التحليل النفسي والفلسفة الفرويدية الجديدة - ص:92.
43 - مجموعة من الباحثين: جمالية المكان - ص : 21
44 - صلاح فضل: منهج الواقعية في الإبداع الأدبي - ص :60
45 - صلاح عبد الحافظ: الزمان والمكان وأثرهما في حياة الشاعر الجاهلي وشعره - دراسة نقدية نصية - ص:20-21.
46 – المرجع السابق- ص:6.
47 - نفسه - ص:09 -10.
48 - علي أحمد سعيد " أدونيس" : مقدمة للشعر العربي - ص:10.
49 - المرجع السابق: ص:15.
50 - الديوان - تح: حنا الفاخوري - ص:60 .
51 - الزوزني - شرح المعلقات السبع - تح: ظافر كوجان - ص:73.
52 - مجد الدين بن يعقوب الفيروز آبادي - القاموس المحيط - 4/218.
53 - الديوان ـ ص:108.
54 - الديوان ـ ص:77.
55 - أموند هوسرل - تأملات ديكارتية أو مدخل إلى الفينومينولوجيا - تر: تيسير شيخ الأرض ص:121.
56 - غاستون باشلار - جدلية الزمن - تر: خليل أحمد خليل - ص:47.
57 - علي عبد المعطي محمد - مقدمات في الفلسفة - ص:254.
58 - ينظر محمد بلوحي: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث دراسة في نقد النقد - 60.61.
59 - ابن منظور: لسان العرب - مادة "قلق" - تقديم الشيخ عبد الله العلايلي وأعد بناءه على الحرف الأول من الكلمة يوسف خياط - 5/154.
60 - ينظر الفيروز آبادي: القاموس المحيط - 3/155.
61 - ينظر منير وهيبة الخازن: معجم مصطلحات علم النفس - ص:21.
62 - الديوان:48.49.
63 - تشارلز فرنكل: أزمة الإنسان الحديث - تر:نقولا زيادة - ص:96.97.
64 - أحمد خليل: ظاهرة القلق في الشعر الجاهلي - ص: 05.
65 - هيجل: المدخل إلى علم الجمال - تر: جورج طرابشي - ص:57.
66 - أحمد خليل: القلق في الشعر الجاهلي - ص:40.
67 - كولون ولسون: سقوط الحضارة - تر: أنيس زكي حسن - ص:86.
68 - أحمد خليل - القلق في الشعر الجاهلي - ص:54.
69 - رجاء عيد: فلسفة الالتزام في النقد الأدبي - ص:146.
70 - أحمد خليل: القلق في الشعر الجاهلي:ص:62-63.
71 - عبد الغفار مكاوي: بين القلب والعقل والشعر والفلسفة - مجلة الفكر العاصر - ع79/1971 - ص:75.
72 - هيغل: المدخل إلى علم الجمال: تر: جورج طرابيشي – ص:57.
73 - عبد الرحمن بدوي : الإنسانية والوجودية في الفكر العربي– 1982 – ص: 120.
74 - مصطفى ناصف ـ دراسة الأدب - ص: 147 .

الفصل الثالث
القراءة الأسطورية
1 - القراءة الأسطورية (مدخل نظري).
2 - "ميثيودينية" الشعر الجاهلي.
3 - المكون "الميثيوديني" للصورة في الشعر الجاهلي:
أ – المرأة.
ب – الحيوان.
ج – مظاهر الكون.
1 - القراءة الأسطورية (مدخل نظري):
ظلت الخلفيات المعرفية التاريخية منها والنفسية والاجتماعية هي المهيمن الرئيس على القراءة الحديثة عبر مسارها السياقي، مستمدة أدواتها الإجرائية وآلياتها ومفاهيمها من المقولات التاريخية والنفسية والاجتماعية الكبرى، لكن مع ظهور علوم جديدة بدأت هذه القراءات تعيد صياغة مفاهيمها وفق رؤية جديدة، ومن علوم كان لها تأثير بالغ في بلورة مفاهيم نقدية جديدة أدت إلى بروز توجه جديد في مقاربة الأعمال الإبداعية، ومن أبرزها علم "الأنثروبولوجيا" بزعامة "تايلر" و"فريز" و"كاسيرار" و"نورثروب فراي".
اهتمت الأنثروبولوجيا بتتبع بدايات الجنس البشري ودراسة تاريخه الموغل في القدم، قصد تفحص الموروث الثقافي البدائي للجنس البشري، فاهتمت بتتبع الأشكال الرمزية للإنسان البدائي، وبخاصة في حقل كل من اللغة والسحر والأساطير، منطلقة من أن هذه الحقول الثلاثة هي جوهر الفلسفة الرمزية للإنسان البدائي، التي ترى أن الإنسان حيوان رامز.
تأثرت القراءة الحديثة في النقد الغربي بالتوجه الأنثروبولوجي، فاستمدت منه آليات نقدية حاولت أن تتعامل بها مع الموروث الإبداعي الإنساني. ولقد كان لفلسفة "كارل يونغ" وخاصة في نظرية "الأنماط العليا واللاشعور الجمعي" الدور الرئيس في التأسيس للقراءة الأسطورية، التي تسعى إلى مقاربة "الميثيوديني" في الأعمال الإبداعية، وأن الرؤى التي تختزنها الأعمال الإبداعية العالمية نابعة من مجموع الصور المخزونة في الذات المبدعة، هذا المخزون الذي صنعته عوامل الوراثة في القديم، ذات الصبغة البدائية والتي تنحدر من طقوس بدائية قديمة، أو من مكرورات أسطورية نسجت في ثوب جديد، والفنان حين يفعل ذلك، يستعيد تلك الصور، إنما يتسلل إلى رحم الحياة التي يقر فيها الجميع، والتي تشكل إيقاع الوجود الإنساني، فتهيء للفنان أن يصل بأحاسيسه ومشاعره للإنسانية جمعاء، لأنه يستمد حيوية إبداعه من حيوية الجنس البشري، ومن هنا يصبح العمل الأدبي الناتج رسالة إلى الإنسان في جميع أجياله، لأن الفنان إنسان جمعي يحمل اللاشعور البشري ويشكل الحياة النفسية اللاشعورية للجنس الإنساني، التي يسميها يونغ باللاشعور الجمعي، مكمن وجود الغرائز والعوامل الفطرية القبلية، ما قبل التاريخ، والتي تتشكل أكثر ما تتشكل في الأسطورة بعناصرها الغامضة والخارقة.
فالعامل القبْلي في كل الأنشطة الإنسانية هو الأساس الذي بنى عليه يونغ نظريته في "النماذج العليا واللاشعور الجمعي"، فالنفس قبل الشعورية للطفل مثلاً ليست وعاء فارغاً يمكن أن يصب فيه أي شيء تحت ظروف خاصة، بل إن الأمر على عكس ذلك، لأن تلك النفس كينونة معقدة ووجود محدد، يبدو بالنسبة إلينا غامضاً لأننا لا نستطيع أن نراه مباشراً، فالإنسان، كائن حي، نفسٌ مشكلة من قبْل، تؤكد حقيقة جنسه الإنساني، ونوعه البشري، وتكشف بالفحص الدقيق والبحث المستمر عن أشكال فطرية موروثة عن أسلافه، تلك الأشكال هي الصور الأولية التي ترتبط ببدايات الجنس البشري، وتصوغ "إنسانية" هذا الكائن، وهذه الصور الأولية تتشكل بوضوح في منتوجات الخيال الإبداعي، حيث يجد مفهوم النمط البدائي استخدامه المحدد، ومن الضروري أن نشير إلى أن الأنماط العليا لا تحدد باعتبار المضمون، ولكن باعتبار الشكل، لأن هذه الأنماط في ذاتها شكلية خالصة مثلها مثل النسق البلوري الذي يشكل قبْلاً البنية البلورية، فليس له وجود مادي في ذاته على الرغم من ذلك يبقى نسقاً ثابتاً(1)؛ فالأنماط البدئية هي الأساس الأول الذي يقوم عليه اللاشعور الجمعي عند يونغ، وتتكون من الصور التي ترسبت منذ أزمنة موغلة في القدم لا يحدها عصر، وهي صور متعددة ومتنوعة، ولا تظهر إلى الوجود إلا في الأحلام أو الأعمال الإبداعية، ولا يكون ظهورها - كذلك - إلا عندما تتشكل حياة الشعور وتتقوْلب في موقف أحادي غير حقيقي عندئذ تتحرك هذه الصور بالفطرة، فتبدو في الأحلام، ورؤى الفنانين أو العرافين لكي تعيد التوازن النفسي للعصر، ومن ثم شكلت نظرية يونغ طرحا كان له التأثير البالغ في التأسيس للقراءة الأسطورية.
كما سعى "تايلر" إلى التأسيس لعلم الأنثروبولوجيا الثقافية منطلقاً من فكرة هي: "يجب أن لا ننسى الأصل"، ويعد مؤلفه "الثقافة البدئية" من الدراسات التي أسست للمقولات الكبرى للقراءة الأسطورية، لأننا نجده يعتمد في دراسته للثقافة البدئية على نظرية داروين عن أصل الأنواع، القائلة بأن الطبيعة لا تتجزأ، وبذلك يرى تايلر أن الثقافة لا تتجزأ، فالأصل فيها واحد، وهذا ما جعله يذهب إلى أنه لا وجود لاختلاف أساس بين عقلية البدائي وعقلية المتحضر، فالأصل فيها واحد، وبذلك يركز في طرحه على فكرة الإرث أو الرواسب في الثقافة الإنسانية، وتلك من المقولات الأنثروبولوجيا الكبرى التي حاول أن يؤسس لها تايلر، معتبراً أن جل الأشكال الثقافية ما هي إلا رواسب للأشكال الأولية لثقافة المجتمعات، هذه الأطروحات التي قال بها تايلر هي التي وجدت صدى واسعاً في القراءة الأسطورية في تعاملها مع الموروث الثقافي، وبخاصة الشعر الجاهلي في قراءتنا العربية الحديثة.
ومن الأصول الأساسية في الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة كتاب "الغصن الذهبي" لـ "سير جيمس فريزر"، الذي سعى فيه جاهداً لتطبيق المنهج الأنثروبولوجي التطوري المقارن من خلال مقاربة الموروث الإنساني بعيداً عن الإطار الإقليمي، وذلك أخذاً بالمقولة الكبرى للطرح الأنثروبولوجي في وحدة الرواسب في الأشكال الثقافية الإنسانية، وبخاصة في الأسطورة التي تحكمها أنساقاً موحدة في الثقافة الإنسانية.
يقوم طرح فرايز في الغصن الذهبي على مقاربة الأسطورة في نسقها البنائي، بوصفها أنموذجاً أولياً عبر به الإنسان الأول عن علاقته بالكون، وأن الممارسة السحرية والدينية في شعائرها الأساسية وطقوسها هي البنى المركزية لجوهر الأسطورة عند الشعوب البدائية، ذلك (( أن ممارسة الطقوس المناسبة وإشغافها بالتعويذ والطلاسم الملائمة يؤديان بالضرورة وبغير استثناء إلى النتائج المرجوة...و لكن العادة أن الساحر لا يستعين بأي قوة أخرى أعلى منه ولا يطلب العون من أي كائن آخر لا يأمن تقلباته أو عناده... ومن هنا كان ذلك التأثير القوي الذي يمارسه السحر والدين كلاهما على العقل الإنساني؛ ومن هنا كانت تلك الاستثارة القوية التي يثيرها كل منهما لطلب المعرفة ))(2)، المعرفة في أصولها الأولى ذات البعد "الميثيوديني".
يعمد فريزر في التأسيس لنظريته في السحر والدين - بوصفهما المحورين الأساسيين في كتابه الغصن الذهبي - إلى المنهج التطوري، متأثراً في ذلك بمنهجية علماء عصره من أمثال داروين وتايلر، ومن ثم يؤسس لمقولة تشابه الجنس البشري في الأساسيات، وأن الاختلاف بين الشعوب إنما هو ناتج عن درجة التطور التي لحقت بكل مجتمع، وبذلك نجد أن الغصن الذهبي كان بالنسبة إلى فريزر الدراسة الميدانية التي تجسد ملامح التفكير التطوري بكلِّ محاسنه وعيوبه عنده، وأنه الدراسة التي استوعبت كمًّا كبيراً من المعلومات التي تعالج أمور السحر والدين، بمنهجية ونظريات ميثيولوجية مؤسسة تسعى - هي كذلك - إلى التأسيس لنظريات عن الدين والسحر والطوطم والتابو وأرواح الموتى وما إلى ذلك، معتمداً في ذلك على تتبع هذه المسائل الميثيولوجية عند الكثير من الشعوب البدائية سواء أكانت من أوروبا أم من إفريقيا أم من آسيا أم من أمريكا، وهكذا استطاع فريزر أن يُمد الدراسات الأنثروبولوجية الأولى بالمنهجية العلمية الكافية للقيام بالدراسات الميدانية بين الشعوب البدائية في حياتها السحرية وممارستها الدينية، وهكذا استعانت الممارسة النقدية بالكثير من الآليات والنتائج التي توصل إليها فريزر.
يعد نورثروب فراي من النقاد الرواد الذين سعوا إلى إقامة منهج نقدي يعتمد في أصوله على نظرية الأنماط البدئية واللاشعور الجمعي، وقد تجلى ذلك في كتابه "تشريح النقد" الذي نشره سنة 1957، ففي هذا المؤلف يضع نورثروب فراي أسساً للقراءة الأسطورية التي تسعى إلى مقاربة الميثيوديني في الأعمال الإبداعية؛ إذ يرى أن (( الوشائج بين الأسطوري والأدبي المجرد تضيء عدة جوانب من التخييل، وبخاصة التخييل الأكثر شعبية وهو على درجة من الواقعية تجعله قابلاً للتصديق في حوادثه ))(3)، فواقعية الأعمال الإبداعية الكبرى لا تتحقق إلا بالتعالق بين ما هو ميثولوجي وما هو أدبي، والتخييل بفاعليته المطلقة هو العنصر الفعال في صنع العالم الميثيوديني داخل النص الأدبي، بل يجعل منه واقعاً أكثر جمالاً من الواقع المعيش.
يذهب نورثروب فراي في تأسيسه للقراءة الأسطورية إلى أنه لدينا في الأدب ثلاثة تنظيمات للأساطير ورموز النماذج البدئية، الأول هو الأسطورة غير المزاحة، وتعني بشكل عام بالآلهة أو الشياطين، وتأخذ شكل عالمين متعارضين يتطابقان تطابقاً مجازياً شاملاً، أحدهما مرغوب فيه والآخر مرغوب عنه. هذان العالمان يتماهيان في الغالب مع وجود الجنة والنار في الديانات المعاصرة لمثل هذا الأدب. هاتان الهيئتان للتنظيم المجازي نسميهما على التوالي الكشفي والشيطاني. الثاني أن لدينا اتجاها عاما سميناه الاتجاه الرومنسي، وهو ينحو إلى الإيحاء بأنماط أسطورية متضمنة في عالم وثيق الصلة بالتجربة الإنسانية. ثالثاً، لدينا الاتجاه الواقعي "عبرت عن اشمئزازي من هذا المصطلح العاطل بوضعه بين قوسين" وهو يشدد على المضمون والتمثيل في القصة بدلاً من التشديد على شكلها. يبدأ الأدب الساخر بالواقعية ثم يميل إلى الأسطورة، والقاعدة في أنماطه الأسطورية أنها توحي بالشيطاني أكثر من الكشفي، ولو أنها تتابع أحيانا ببساطة التقليد الرومانتيكي في التأسلب. وعليه نلاحظ كيف أن نورثروب فراي يولي أهمية بالغة لنظرية الأنماط البدئية في مقاربة الأعمال الإبداعية، وأن هذه الأنماط البدئية تظهر فاعليتها في الأشكال لا في المضامين، لأنها - في حد ذاتها - أشكال وصور كونية قبل أن تكون مضامين، ولذلك فالمقاربة الجادة والمتميزة هي التي تقف أمام النص الإبداعي تتأمله قصد استكشاف منظومته الأسطورية أو التصميم الميثيولوجي له.
فالأعمال الإبداعية في طرح نورثروب فراي نابعة من نسق الأسطورة في وضعها الأول، قبل أن يدخل عليها الإنزياح، فـ (( على مستوى النموذج البدئي تماماً، حيث يكون الشعر نتاج الصنعة في المدينة الإنسانية، تكون الطبيعة حاوية للإنسان، أما على المستوى الكوني فالإنسان محتو للطبيعة، ولا تعود مدنه وحدائقه تجاويف صغيرة على سطح الأرض بل تغدو أشكالا للكون البشري. ولهذا لا نستطيع في الرمزية الكشفية أن نحصر الإنسان في عنصريه الطبيعيين من تراب وهواء فقط، كذلك فإننا في انتقالنا من مستوى إلى آخر ، ينبغي على الرمزية أن تجتاز امتحان الماء والنار…إن الرمزية الشعرية تضع النار في العادة فوق حياة الإنسان في هذا العالم، وتضع الماء تحتها تماماً))(4)، وبذلك يكون لعنصر التعديل والإنزياح الدور الرئيس في صنع عالم النص الإبداعي، هذا العالم الذي ينحدر في الأصل من جذور ميثولوجية، وبذلك ليس هناك أدب جديد، بل هناك أدباء جدد تنحصر حريتهم في التعديل والإنزياح والتحوير ضمن الإطار العام للميثات، ثم لا شيء وراء ذلك. أما وظيفة النقد فتنحصر تحديداً في معرفة الإنزياح الذي أصاب الميثة ، فالشكل الميثولوجي أو الأنماط البدئية، وهي الأصل في الأعمال الإبداعية ثابتة، وإنما المتغير يتجلى بالأساس في مدى القدرة على الإنزياح .
جاء إرنست كاسيرر ليعمق البحث في دور الأسطورة كشكل من أشكال التعبير الرمزية في حياة الإنسان والحضارة الإنسانية، بحيث رأى أن للأسطورة دوراً جوهرياً في دفع حركة التطور الفكري والحضاري، الحضارة التي هي في جوهرها نتاج الطاقة الرمزية التي يملكها الإنسان ويمتاز بها عن الحيوان الذي يعجز عن خلق الحضارة، ومن ثم اعتبر كاسيرر أن اللغة والأسطورة والفن والدين أشكالٌ حضارية تبدعها الطاقة الرمزية التي يمتلكها الإنسان بوصفه مخلوقا رامزا.
سعى كاسيرر من خلال هذا الطرح إلى التأسيس للقراءة التي تعتمد الآليات الميثيولوجية في مقاربة الفن، ومن ثم كان من الرواد المؤسسين للقراءة الأسطورية، لأن (( الأسطورة من أقدم المؤثرات وأعظمها أثراً على الحضارة الإنسانية. وهي وثيقة الصلة بكل الأفعال الإنسانية الأخرى. فهي لا تنفصل عن اللغة والشعر والفن والفكر التاريخي في صورته القديمة ))(5)،و بذلك فالفكر الأسطوري هو جوهر الإبداعات الإنسانية الكبرى عبر التاريخ، أخذ في الشعر أشكالا لغوية رمزية في مادتها وجوهرها.
التفتت القراءة العربية الحديثة إلى الأصول النظرية للقراءة الأسطورية فوجدت فيها الأداة الإجرائية، والرؤية المعرفية التي تصلح لأن تقارب بها موروثنا الشعري القديم وبخاصة الجاهلي منه، فانبرت لتؤسس لهذا المنحى من القراءة في مقاربتها للشعر العربي القديم وبخاصة الجاهلي، فظهرت عدة مقاربات حاولت أن تطبق الكثير من النظريات الأنثروبولوجية على الشعر الجاهلي، وبخاصة نظرية يونغ في الأنماط البدئية والنماذج العليا، وتايلر في الأصول الأولى للثقافة، وجيمس فريزر في دراستة لعلاقة السحر بالدين، وأرنست كاسيرر في الأسطورة واللغة، كما استفادت من أطروحات نورثروب فراي في تشريحه للنقد.
من بواكير الالتفاتات التي حاولت أن تؤسس للقراءة الأسطورية في النقد العربي الحديث التفاتة طه حسين عند ما دعا إلى ضرورة الاهتمام بدراسة الأساطير العربية، في مؤلفه "قادة الفكر". ثم تبعه بعد ذلك عدة أسماء منهم محمد عبد المعيد خان في مؤلفه " الأساطير والخرافات عند العرب"، وعبد الله الطيب في مؤلفه "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها"، ومصطفى ناصف في مقاربته "قراءة ثانية لشعرنا القديم" وهي الدراسة المتميزة التي أثارت عدة قضايا لها علاقة بالطرح الميثيوديني للشعر الجاهلي، كما لا ننسى محمد نجيب البهبيتي في "معلقة العرب الأولى".
شكَّلت هذه المحاولات الإرهاصات الأولى التي أسست لظهور القراءة الأسطورية في الخطاب النقدي العربي الحديث، ومن ثم ظهرت محاولات في القراءة العربية مبنية على أسس علمية في الآليات والرؤى والأطروحات، ومن المقاربات التي حاولت أن تستثمر هذه المعارف في مقاربتها للشعر الجاهلي مقاربة: نصرت عبد الرحمن في "الصورة الفنية في الشعر الجاهلي"، وعلي البطل في "الصورة في الشعر العربي"، ومصطفى عبد الوافي الشوري في"الشعر الجاهلي تفسير أسطوري"، وإبراهيم عبد الرحمن "الشعر الجاهلي قضاياه وظواهره الفنية" كما نجد بعض المقالات في المجلات المحكمة مثل: "التشكيل الخرافي في شعرنا القديم " لكمال أحمد زكي. وهي مقاربات في مجملها لا تخرج عن الإطار المعرفي للدراسات النفسية الأنثروبولوجيا - وبخاصة عند الرواد - حيث نجدها تجهد نفسها في تطبيق الآليات الإجرائية ذات المنحى الميثولوجي من أجل تأكيد ميثيودينية الشعر الجاهلي، مطبقة مقولة تايلر "يجب أن لا ننسى الأصل".
2 - ميثيودينية الشعر الجاهلي:
ميثيودينية الشعر الجاهلي من الغايات الكبرى التي حاولت القراءة الأسطورية العربية أن تثبتها، معتبرة أن هذا الشعر مبني في جوهره على لغة منسية، تسربت إليه من اللاوعي الجمعي، فكانت الأساس في صنع فضاء النص وفضاء الصورة الشعرية فيه، ومن ثم دأبت القراءة الأسطورية العربية على محاولة تلمس العناصر الميثودينية في الشعر الجاهلي، باعتباره الرحم الأول للثقافة العربية، والنص المتكامل الذي وصل إلينا، وأن القراءات العربية سواء ما كان منها تاريخية أم نفسية لن تهتدي إلى محاولة تتبع ما هو ميثيولوجي في الشعر الجاهلي، على الرغم من المؤشرات الكثيرة التي تؤكد أن العنصر الميثيوديني كان حاضراً وبقوة في تشكيل الفضاء النصي في الشعر الجاهلي.
من بواكير المقاربات التي حاولت أن تؤسس للقراءة الأسطورية، بفضل تنبيهها إلى أهمية الدرس الأنثـروبولوجي في التأسيـس للدراسات النقدية الحديثة ذات الاتجاه الأسطوري، دعوة طه حسين في كتابة "قادة الفكر"؛ يرى أنه ليس بدعا أن تبحث عن فلسفة العرب ودينهم ونظمهم المختلفة وحياة عقولهم وعواطفهم فلا تجدها إلا في الشعر، فالشعر ديوان العرب - كما قيل - ومن ثم فالحياة الدينية هي الجوهر الذي يستمد منه روحه وديمومته.
هيأ طه حسين الفكر العربي لتقبل فكرة الاهتمام بالأساطير، ومن ثم ظهرت عدة محاولات لدراسة الفكر العربي عامة والشعر الجاهلي خاصة من منطلق أنثروبولوجي، فكانت دراسة محمد عبد المعيد خان "الأساطير والخرافات عند العرب"، التي حاول فيها التعريف بالأنثروبولوجيا العربية ومدى تثاقفها مع الأنثروبولوجيا عند الأمم الأخرى،.
كما حاول عبد الله الطيب في مؤلفه "المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها"، بطريقة استمدت آليتها ورؤيتها من الطرح الميثيوديني أن يبحث عن العلاقة الجوهرية بين النسيب في المقدمات العربية وعقائد العرب الأوليين وبخاصة في تقديس المرأة وتأليه الخصوبة. كما فصل القول في كثير من الرموز الشعرية التي وردت في الشعر الجاهلي وضمنها كثيراً من الأبعاد الميثيوديني.
كما اهتم مصطفى ناصف في مؤلفه "قراءة ثانية لشعرنا القديم" بالكثير من الجوانب الميثيودينية في الشعر الجاهلي، وكان دافعه في ذلك اقتناعه أن القراءات السابقة للشعر الجاهلي - وبخاصة القراءات ذات التوجه التاريخي أو النفسي -كرست نمطية من الأحكام حتى أصبحت أحكاماً جاهزة تفرض على هذا الشعر، فأساءت إليه أكثر مما خدمته.
حاول مصطفى ناصف أن يستفيد من نظرية يونغ في الأنماط البدئية والنماذج العليا في مقاربته للشعر الجاهلي، فالشعر الجاهلي في طرحه يحمل في لغته وصوره أشكالاً نمطية محددة قبليّا، وأن الشاعر الجاهلي كانت تشغله تساؤلات عن كبرى اليقينيات حول مصير ومنتهى وعلاقة الإنسان بالكون، وكان الشاعر لا يخاطب نفسه أو مجتمعه إلا من خلال استنطاق الماضي، والماضي - في نظره - هو الرواسب الميثيودينية التي تحمل اللاشعور الجمعي للمجتمع الجاهلي، وقد عُبر عنها في لغة رامزة عبر عدة موضوعات تكررت بكثرة في الشعر الجاهلي منها: الطلل والرحلة والناقة والمرأة والثور الوحشي وغيرها، وكلها موضوعات تحمل من الأبعاد الميثيودينية ما عبرت عنها اللغة انطلاقا من جوهر اللغة المنسية، ومن ثم كان جوهر الصورة في الشعر الجاهلي هو اللغة المنسية لغة اللاشعور الجمعي، ولذا نجد مصطفى ناصف يقر في بداية المقاربة أنها محاولة لفهم الشعر الجاهلي في إطار اللاشعور الجمعي، لأن هذا الشعر في مجمله يدور في فضاء من الطقوس أو الشعائر نابعة عن لاشعور جمعي.
أراد محمد نجيب البهبيتي أن يثبت أن أول نص عربي هو ملحمة جلجامش، في محاولته الجريئة في مؤلفه "معلقة العرب الأولى"، ومن ثم فالأصول الأولى للشعر العربي ميثيودينية بالأساس، وأن الكثير من الصور في الشعر الجاهلي تلتقي مع صور ملحمة جلجامش.
كانت هذه المحاولات بمثابة البواكير الأولى للقراءة الأسطورية للشعر الجاهلي، والتي استطاع أصحابها أن ينبهوا إلى أن مسألة ميثيودينية الشعر الجاهلي مسألة تحتاج إلى بحث وتأسيس، وهذا ما انبرت المقاربات التي جاءت من بعدها أن إلى تؤصله وفق آليات علمية ورؤية مبصرة بمسالك المسألة وعقباتها، فكانت بداية التأسيس لمرحلة التوثيق والطرح العلمي المبني على مقولات نقدية كبرى.
من القراءات المبكرة ذات الطابع الأكاديمي الممنهج المبني على رؤية ومرجعية أنثروبولوجية متخصصة التي حاولت أن تقارب الشعر الجاهلي مقاربة تعتمد في أدواتها الإجرائية ورؤاها المعرفية على المنهج الميثيوديني قراءة عبد الجبار المطلبي " قصة ثور الوحش وتفسير وجودها في القصيدة الجاهلية"، فاعتمد في هذه المقاربة على أدوات إجرائية تعود في أصولها إلى تمثل التطور الذي لحق حقول المعرفة الإنسانية الحديثة وبخاصة علم النفس والأنثروبولجيا وعلم الآثار، معتقدا أن النص الجاهلي في جوهره يقوم على أساس اللغة المنسية، العريقة في القدم، وهي لبقايا أشواق ومخاوف تشكل في أساسها أبعاداً دينية تعبدية، نابت عنها لغة النص الجاهلي.
يعود عبد الجبار المطلبي إلى التاريخ القديم الذي سبق العصر الجاهلي ليجعل منه ومن معطياته التاريخية المصدر الرئيس في مقاربته لصورة الثور الوحش في الشعر الجاهلي. فالنقوش وما عثر عليه من آثار في شبه الجريرة العربية، وما ذكرت المصادر القديمة من غير العربية وبخاصة اليونانية والرومانية منها والتي تؤكد عمق جذور الأمة العربية في التاريخ هي المرتكز الأساس الذي جعل منه عبد الجبار المطلبي خلفية وثائقية في مقاربة الشعر الجاهلي وفق رؤية ميثيودينية.
فالنص الشعري الجاهلي - في نظره - مر بمرحلتين أساسيتين: مرحلة النص الشعري الذي قيل بلهجة كل قبيلة من القبائل العربية قبل بروز اللغة الأدبية الموحدة ، وهذا النمط من الشعر ضاع أغلبه بفعل عوامل الرواية الشفهية، وهو النص الشعري الذي يعبر عن تاريخ الأمة العربية قبل الفترة الجاهلية المعروفة بنتاجها الشعري الذي دون بلغة موحدة. لكن ضياع شعر اللهجات لا يعني أن جوهره الأسطوري ضاع هو كذلك، وإنما انتقل بفعل الذاكرة الشعبية في قالب ديني اختلط في كثير من جوانبه بالطقوس والعادات والتقاليد الاجتماعية التي ارتكزت عليها المخيلة الشعرية الجاهلية في صنع عالم الصورة الشعرية لديها، فتجلت في الشعر الجاهلي كتقاليد أدبية متميِّزة؛ (( لأن الفكر الإنساني لا يعترف بوجود مثل هذا التنوع والاختلاف الحاد. فلا اختلاف من البداية بين الفكر في خطواته البدائية وأسمى النهايات التي يبلغها. فهو متجانس ومطرد. وطبق فرايزر هذا المبدأ الأساسي في تحليله للسحر في الجزئين الأول والثاني من كتابه، اعتقد فرايزر أن أي إنسان يقوم بطقوس سحرية لا يختلف من حيث المبدأ عن أي عالم يقوم بإجراء تجربة فزيائية أو كميائية في معمله. فلا اختلاف بين الساحر وطبيب القبائل البدائية، ورجل العلم الحديث، من حيث المبادئ التي يلجآن إليها في تفكيرهما وعملهما))(6)، ومن ثم فلا اختلاف بين البدء في الشعر العربي والمرحلة المتأخرة التي وصلنا من العصر الجاهلي التي وصلنا شعرها، فكله ذو أصول ميثيودينية.
يؤكد هذا الطرح أن لا هوة تفصل بين التراث الشعبي الجاهلي المكتوب باللهجات المحلية والنص الشعري الجاهلي المكتوب باللغة الأدبية التي وصلت إلينا، فحضور الطابع الميثوديني هو العنصر الرئيس في الشعر الجاهلي بفعل تسرب الطقوس والعادات عبر اللاوعي الجمعي الذي يعبر عن ضمير الشعوب، فتعبر هي بواسطة الأشكال التعبيرية عنه، والأمة العربية كانت ذات تاريخ ميثيوديني خصب تجلى في كثير من الأشكال التعبيرية وبخاصة الشعر منها.
أما المحاولة الثانية التي جعلت من المرجعية الأنثروبولوجية في مقاربة الشعر الجاهلي منطلقاً لها فهي مقاربة نصرت عبد الرحمن " الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث" إذ نجدها تنطلق من مرجعية فلسفية تعتمد في آلياتها على فلسفة كارل يونغ القائلة بنظرية اللاشعور الجمعي والنماذج العليا في مقاربتها للأعمال الإبداعية الكبرى.
يحاول نصرت عبد الرحمن قراءة الموروث الشعري الجاهلي وبخاصة الصورة الشعرية الجاهلية في ضوء التراكمات الميثولوجية وخاصة الدينية منها، لكنه يؤكد منذ البداية صعوبة العمل في هذا الحقل من المعرفة باعتباره حقلا يحتاج إلى دراية كافية بإشكالات الموروث الميثولوجي العربي وما أحاط به من رواية وتدوين لأنه يضرب في عمق التاريخ العربي بجذوره، هذا التاريخ الذي لا يزال إلى يومنا هذا مطمورا بين جنبات الجزيرة العربية.
فالشعر في طرح نصرت عبد الرحمن ينطق حقيقة عليا، وهذه الحقيقة هي التي تبحث عنها القراءة الجادة في الشعر، لذلك لا يحبذ في هذا النمط من القراءة أن (( تقيم تفرقة حادة بين الفلسفة والشعر: فالفلسفة والشعر انبثاق للوجدان وخروجه من القوة إلى الفعل، فإذا ما أخذ شكلاً عقلانياً فهو الفلسفة، وإذا ما أخذ شكلاً يلتحم فيه العقل والروح فهو الشعر ))(7)، ولمقاربة شعر أمة كالأمة العربية في جاهليتها لابد من الغوص في الوجدان الميثيوديني لهذه الأمة، لأن شعر أي أمة لا يفهم إلا انطلاقاً من أعماقها الدينية، والوثنية هي الدين الذي كان واسع الانتشار في الأمة العربية في جاهليتها لذلك فمقاربة الشعر الجاهلي في ضوء الدين الوثني مقبولة، لأن الحياة الجاهلية كما نعلم حياة وثنية، والدمى والتماثيل تصاوير لربات قد عبدها الجاهليون، أيقدر الوثني على تشبيه المرأة بما يعبد إن لم يكن للمرأة الموجودة في الشعر الجاهلي شيء من القداسة؟، فالمنطلق الوثني هو الأساس في مقاربة نصرت عبد الرحمن للشعر الجاهلي، لكن هذا الطرح يتعارض مع ما صرح به في البدء واتخذه منهجا نظريا في مقاربة الشعر الجاهلي، لأن المرحلة الوثنية في تاريخ الأمة العربية مرحلة جد متأخرة، و(( أن لا وجود لاختلاف أساسي بين عقلية البدائي وعقلية المتحضر، وتبدو أفكار الهمجي للوهلة الأولى وهمية، ولكنها ليست بأية حال مضطربة أو متناقضة ))(8)، فاللاشعور الجمعي للأمة العربية لا يقف عند المرحلة الوثنية، بل موغل في القدم.
أبدى نصرت عبد الرحمن اهتماما كبيرا بمسألة الرموز في الشعر الجاهلي في مؤلفه "الصورة الفنية في الشعر الجاهلي" فعد المرأة رمزا للشمس وكذلك الفرس، وعد الطلل رمزا لما تخلفه رحلة الشمس على الإنسان، والناقة رمزاً لإرادة الإنسانية التي تقتحم الأهوال من أجل تحقيق الآمال، والثور الوحشي رمزاً إلى القوة التي تحتمل قسوة القدر وأذى الآخرين(9)، وكلها رموز ذات أبعاد ميثيودينية.
رمزية المرأة في الشعر الجاهلي هي الأصل في ذلك ، فليلى مثل DIANA ربة الصيد عند الرومان، وسلمى رمز للحب العفيف، وسعاد رمز إلى الربيع وما يتبعه من سعادة وبلهنية العيش، وأسماء رمز إلى المراعي وحياة الرعي، وأميمة رمز إلى الأم العطوف، وخولة رمز إلى سيدة الزرع من غنى ويسار، وهرة رمز إلى الحياة اللاهية العابثة، حيث الشراب والشهوات الجنسية، أما أم أوفى وأم عمرو وأم معبد وأم جندب، فهن رموز سيدة الحكمة، ولا تخاطب عادة إلا في الأمور الجليلة، تلك التي يحتاج فيها المرء إلى التؤدة وسعة الصدر(10)، ومن ثم ربط أسماء النساء في الشعر الجاهلي لا ببعد رمزي عربي فقط، وإنما تعداده إلى البعد الإنساني، فأصبحت أسماء النساء في الشعر الجاهلي رموز لمرموزات شأنها في ذلك شأن الحضارات القديمة.
ونحن نثمن ما قام به نصرت عبد الرحمن من استقراء شامل لبعض موضوعات الشعر الجاهلي، وعلى كثير من النتائج التي استخلصها، فهي والحق جديرة بالاهتمام والتأمل، لكن يبدو لنا أنه أخضع الشعر الجاهلي للمعايير والمقومات الخاصة لأدب لاهوت اليونان والرومان، والثقافة القديمة في بلاد الشام وما بين النهرين، ولسنا ننكر أهمية التأثير والتأثر بين الأدبين، بل بين ثقافة الأمم المتجاورة أو المتفاعلة، إلا أنه تبين لنا في الأساس الثقافي ذلك المدى المحدود للمؤثرات الغربية في الثقافة الجاهلية بعامة، وفي الشعر بخاصة.
ولا ننسى - أيضا – أن الرموز الثقافية - ونخص بالذكر الشعرية منها تحديدا- هي الأخرى لا يمكن استيرادها من الثقافات الأخرى، فالرمز أولاً وآخراً جزء من الشخصية الحضارية للأمة، واستيعاب رموز أمة ما من قبل أمة أخرى يعني بالضرورة تمثل ثقافتها وحضارتها، وإذا كان ذلك ممكنا في عصرنا هذا فقد كان في القديم أشبه بالمستحيلات.
و إذا عدنا إلى النص الشعري الجاهلي ذاته، فإننا نجد قدرا كبيرا منه حمّال أوجه، يحمل الوجه وضده، وليس من المفيد بناء أحكام جازمة على مادة كهذه، وتعميم تلك الأحكام وإطلاقها. فخولة ترمز إلى الزرع الذي يستدعي المطر ولا مطر في شبه الجزيرة العربية، والمرأة رمز للإلهة الشمس فهي شبهت بالبدر فهل هي كذلك رمز للقمر الإله، وتذكر الروايات أن أم أوفى كانت زوج زهير وأم عمرو كانت زوج الشنفرى وأم جندب كانت زوج امرئ القيس، فهل يختار هؤلاء زوجاتهم رموزاً إلى سيدة الحكمة كي يذكروها في نسيبهم. إن الرموز الموظفة في الشعر الجاهلي بسيطة بساطة الحياة العربية، واضحة وضوح الفكر العربي.
الرموز في الأصل بنى ثقافية متميزة، تجاوزت الدائرة الفردية، وترسخت في الوجدان الاجتماعي، وتجلت من بعد في صيغ معرفية تراثية خاصة لكل دائرة ثقافية في نطاق المنظومة الحضارية الواحدة، وبعبارة أخرى الرمز مضمون معرفي تراثي مكثف، ولكل رمز دلالة أو دلالات لا يعيها بدقة إلا الأفراد المنتمون إلى هذه الوحدة الثقافية المتجانسة أو تلك، وكلما كان هؤلاء أعمق فهما لدلالة الرمز كان نتاجهم المعرفي - سواء أكان فنياً أم دينياً أم فلسفياً أم علمياً – أكثر تأثرا بتلك الدلالة.
الشعر العربي القديم حافل بالدلالات الرمزية التي عبرت عن كنه الكيان الحضاري للمجتمع العربي، لأننا حينما نتأمل في هذه الثروة العربية، (( ربما خفي علينا مذهبهم في سنن يستعملونها بينهم، في حالات يضعونها في أشعارهم، فلا يمكنك استنطاق ما تحت حكاياتهم، ولا تفهم مثلها إلا سماعا، فإذا وقفت على ما أورده لَطُفَ موقع ما تسمعه من ذلك عند فهمك ))(11)، أفلا يبدو هذا القول مقاربة للعلاقة بين الرمز "السنن" والصيغ التراثية "السماع" وأثر تلك العلاقة في الوحدات الثقافية "الشعر"؟
يدرس على البطل في مقاربته" الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها" ارتباط صور الشعر العربي القديم -وبخاصة الجاهلي - بالأساطير والمعتقدات الدينية والممارسات الشعائرية القديمة التي يرى فيها المنبع الأول لهذه الصور، وبذلك ينحو هو كذلك منحى المقاربة التي تحاول أن تلمس المعطيات الميثيودينية في الشعر العربي القديم وبخاصة الجاهلي منه.
يستهل علي البطل دراسته للشعر العربي القديم بمقدمة نظرية يتناول بالدرس فيها مفهوم الصورة كمفهوم جمالي وفلسفي قبل أن يكون مصطلحاً نقدياً، فيبدأ مع الصورة منذ أن تسربت إلى الثقافة العربية مع رواج الفلسفة الأرسطية التي فصلت بين الشكل والمادة، فظهرت إثرها إشكالات، منها ما تعلق بعلوم القرآن وتفسيره، وبخاصة عند المعتزلة الذين قالوا بفصل اللفظ والمعنى عند تفسير القرآن الكريم، ومنها ما تعلق بالموروث الشعري بفعل انتقال هذا الإشكال إلى ميدان الشعر عند البلاغيين والنقاد وما يؤدي إليه هذا الفصل من تحطيم الحقيقة الشعرية. وكان ذلك من آثار المنطق الأرسطي على مباحث البلاغة العربية.
يعد مصطلح التخييل المصطلح الفلسفي العربي الذي جمع فيه الفلاسفة العرب – كما يقول علي البطل – بين المصطلحين الأرسطيين "المحاكاة" و" الفنطاسيا" ، وبذلك عدَّ الفلاسفة العرب "التخييل" نتاجا لمستويات دنيا في نفس قائله، ولذلك أساء البلاغيون العرب الظن بالتخييل، وعدوه في أغلب الحالات مرادفاً للمغالطة. فالأدوات التعبيرية التي تجنح إلى الخيال الذي يلغي الفواصل بين الأشياء أداة غير محبذة فنيا وتعبيريا، وهذا ما جعل البلاغة العربية تفضل التشبيه على المجاز، وتهتم به أكثر من غيره من المجازات.
حاول الشعر الصوفي - في نظر علي البطل - أن يعيد مسألة الخيال إلى مسارها الصحيح وبخاصة عند ابن عربي الذي وظف هذه الأداة التعبيرية توظيفا متميزا وبذلك أعاد لها منزلتها السامية بوصفها قوة تستمد مادتها من عالم المحسوسات ثم تعيد تركيبها في صورة جديدة.
على الرغم من النظرة المتقدمة التي تميز بها الطرح الصوفي في تعامله مع مسألة الخيال، إلا أن البلاغة العربية لم تستفيد منها في تقويم مسار دراستها. فظل الخيال مبعداً من فضاء التعبير ومتهما، إلى أن جاءت الثورة الرومانسية حيث كانت نظرة " كولردج" مجلية ومعمقة لدور الخيال في العملية الإبداعية، ومن اعترفت للخيال الفني بمكانته، وربط الرومانسيون بين الخلق الفني والاستعارة باعتبارها فضاء الروابط الجديدة بين الحقول الدلالية كما يبنيها الخيال.
من هذه المفاهيم العميقة لوظيفة الخيال، وبخاصة في حقل الاستعارة، يهتم علي البطل بالاستعارة بوصفها أداة تصويرية في جوهرها، وليست مغالطة زخرفية كما هي عند البلاغيين القدماء، ينضاف إلى ذلك من ناحية ثانية علاقتها من حيث هي صورة بالأسطورة، كلغة تعبيرية موغلة في القدم، لجأ إليها الإنسان القديم ليجعل منها لغة ثانية، تعتمد في جوهرها على الخيال في التعبير عن كبرى المسائل الوجودية، ولذلك رأى أن الاستعارة في الشعر الجاهلي لغة أسطورية ذات بعد ميثوديني، منطلقاً من التصور الميثولوجي الذي يرى أن (( الكلام الإنساني مجازي في صميمه. فهو زاخر بالتشبيهات والاستعارات ))(12)، فربط الاستعارة ببداية اللغة نفسها حيث تعاونت استعارتها ورموزها في خلق الأساطير والملاحم.
فالأصول المكونة لماهية الصورة الفنية، وبخاصة في بعدها الأسطوري هي الأداة الجديدة التي يجعل منها علي البطل وسيلة لمقاربة الشعر الجاهلي في بعده الميثيولوجي، لذلك يرى أن مدارسة الصورة الفنية بمفهومها الحديث ووظيفتها في العمل الإبداعي وبخاصة في الشعر الجاهلي يجب أن يرتبط بالطرح "السيكولوجي" عن العقل الباطن والنماذج العليا التي بسطها يونغ بشكل خاص؛ حيث يرى أن الصورة الفنية في الأشكال الإبداعية الكبرى هي تجسيد لرؤية رمزية نبعت من اللاشعور الجمعي الذي يعتمد في أصوله على عوامل قبْلية، وبذلك فالمبدع يلجأ في تشكيل صوره إلى المناطق المعرفية ما قبل التاريخية، والتي يمكن التعبير عنها باللغة الأسطورية.
هذه المنطلقات النظرية في مقاربة الشعر الجاهلي هي التي جعلت علي البطل يطرح الأصول الأسطورية للصورة الفنية في الشعر الجاهلي، معتبراً أن أول ما يواجه الباحث في المكونات الجوهرية والمرتكزات الأساسية للصورة في الشعر الجاهلي هي البحث في الأصول الجينالوجيا لهذا الشعر، إلا أن البحث في البدايات الأولى للشعر الجاهلي مهمة شاقة لما ارتبط هذا الشعر فيها بمرحلة شفهية يصعب البحث في مصادرها الإبداعية.
ينطلق علي البطل في البحث عن الصورة الفنية في الشعر الجاهلي من الطرح الميثيولوجي الذي يربط نشأة الفن بشكل عام بالفكر الديني والممارسات الشعائرية التي نشأ في حضنها، فيرى أن الغوص في مكونات الصورة الشعرية الجاهلية، لا يمكن إلا إذا عاد الباحث إلى عقائد العرب القديمة ومعبوداتهم، لأن فيها المصدر الرئيس والمادة الأولية لتشكيل الصورة الفنية في الشعر الجاهلي، التي لا يمكن فهمها إلا من زاوية الدلالات الدينية والأسطورية.
هذا الطرح المنهجي هو الذي حدا بعلي البطل إلى التركيز على البحث في حياة العرب العقائدية والدينية قبل الإسلام، معتبرا أن العرب في جاهليتهم كانوا يعتمدون على الشعر في الكثير من ممارساتهم الدينية وطقوسهم، مستدلا بما يرويه ابن الكلبي (( أن قبيلة "عك" إذا خرجوا حجاجا قدموا أمامهم غلامين أسودين، يصيحان " نحن غرابا عك"، فتقول "عك" بعدها ملبية:
" عك إليك عانية ... عبادك اليمانية ... كيما نحج ثانية ".
نجد في هذه الشعيرة الطقوسية آثاراً شعرية في تلبية "عك"، وهي ثلاث شطرات من الرجز الذي تتجه إليه أنظار الباحثين رائين فيه البداية الأولى للشعر العربي. وأيا ما تكون هذه البداية، فقد رأينا أن للعرب حياتهم الروحية وأساطيرهم وحضاراتهم قبل الإسلام، ومن الطبيعي أن يكون للشعر دور في طقوس عباداتهم، إذا كنا قد فقدنا هذا الشعر، فليس معنى ذلك أنه لم يوجد على الإطلاق، وإنما علينا أن نتلمس آثاره وتقاليده الفنية التي عاشت في
شعر المراحل التي وصلتنا آثارها. حيث تتركز هذه الآثار في الصورة
الفنية ))(13)، باعتبار أن هذه الصورة هي الوعاء الجوهري الذي انتظمت فيه الكثير من الطقوس والشعائر في لغة مجازية عبرت عن العناصر العميقة الباقية في اللاشعور الجمعي للإنسان الجاهلي.
لا يفرد إبراهيم عبد الرحمن في مقاربته " الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعية" كل الدراسة لمقاربة الشعر الجاهلي وفق رؤية أسطورية، بل يبدأ بمقاربة الصورة الفنية في بعدها الجمالي، إلا أن هذه المقاربة هي التي جعلته يلاحظ أن الشعراء الجاهليين كانوا يشكلون صورهم الفنية من شتات متنافر من الصور، سواء أكان من المحيط المكاني أم من المحيط الحيواني أم من المحيط الكوني، محاولين إيجاد تناسق بينها حتى تكسو الصورة الفنية لمسة إبداعية أصيلة. هذا المتنافر الذي خلق منه الشاعر الجاهلي صوره الفنية هو الذي جعل إبراهيم عبد الرحمن يقول بميثولوجية الصورة الفنية في الشعر الجاهلي، ولذا راح يبحث عن أصولها الميثولوجية.
ليؤسس إبراهيم عبد الرحمن للطرح الميثولوجي للشعر الجاهلي يقدم دراسة واسعة للسياق التاريخي للعصر الجاهلي وثقافته، معتبرا أن هذا السياق التاريخي هو المصدر الرئيس للرؤى التي أمدت الشاعر الجاهلي بالأدوات المعرفية لتشكيل الصورة الفنية، مقتنعا أن هذه الرؤى لم تكتسب العربي بمفرده، وإنما كانت بفعل التثاقف الذي حدث بين الأمة العربية والأمم الأخرى المجاورة لها ، لذا - في نظره - أن الأمة العربية لم تكن أمة منغلقة على نفسها معزولة، وإنما كانت متفتحة على ثقافة الحضارات المجاورة لها بخاصة الآشورية والكنعانية واليمنية القديمة، إضافة إلى اليونانية والرومانية والفارسية.
هذا "التثاقف" هو الذي زود الشاعر العربي القديم بأدوات تعبيرية تستمد أصولها من الرؤى الميثيودينية، لذلك لا يمكن فهم الصورة الفنية في الشعر الجاهلي - حسب إبراهيم عبد الرحمن -إلا إذا درست النقوش المستكشفة في شبه الجزيرة العربية، والقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وما كتب حولهما من شروح وتفسيرات لأنها اعتمدت في الكثير من أدواتها على المعارف الميثيودينية للأمم القديمة، أو ما يسميها بعضهم بـ"الإسرائليات"، فـ (( البحث عن رموز هذه الصور بردها إلى أصولها "الميثيولوجية" التي صدرت عنها، سواء في صورها الحقيقية أو في الصور التي استحالت إليها على يدي هذا الشاعر أو ذاك، وفي هذه القصيدة أو تلك، فليس من شك في أن هؤلاء الشعراء قد أحدثوا كثيرا من التحوير في هذه "الأصول الميثولوجية" شأنهم في تحوير أية عناصر موضوعية أخرى كانوا يستعيرونها من الواقع المادي، ومثل هذا النوع من "التحليل الميثولوجي"، لصور الشعر القديم من التعقيد والغموض بحيث يحتاج إلى معرفة واسعة وعميقة بـ"حضارة" الجاهليين وثقافتهم وفلسفتهم في الحياة والموت وتحديد دقيق لتلك الروافد الثقافية والدينية والميثولوجية التي انتقلت إليهم من الحضارات المجاورة))(14)، فأسهمت في تشكيل الروافد الأساسية للصورة في الشعر الجاهلي.
فالثقافة الجاهلية في نظر إبراهيم عبد الرحمن محمد ثقافة "تتثاقف" بين ما هو عربي وما هو أجنبي، لأن ما تبقى من الثقافة الجاهلية مبني في أساسه على ما هو ديني وما هو فكري ، أما ما هو ديني فانتقل إلى العرب في جاهليتهم من الأمم القديمة المجاورة لهم، وكان ذلك إما بفعل الجوار وإما بفعل الاحتكاك في التجارة والحروب وغيرها، أما ما هو فكري فكانت الأسطورة كشكل تعبيري فكري هي القناة التواصلية الأساس فيه.
لتأكيد ميثودينية الشعر الجاهلي يخوض إبراهيم عبد الرحمن محمد بالقول في ديانات العرب في الجاهلية، والتي يرى أنها مرت بمرحلتين أساسيتين: مرحلة الوثنية وعبادة المظاهر الكونية والكائنات الحية، والتي كان التأثر فيها بالأمم المجاورة كبيراً، ومرحلة ثانية نزع فيها العرب نحو التوحيد ونبذ التصور الوثني وكان التأثر فيها بديانات الشرق الأدنى القديم وبخاصة فيما يعرف بعبادة الثالوث السماوي (القمر.الشمس.الزهراء) كبيراً.
ندرك من خلال هذه الأطروحات التي حاولت القراءة العربية الأسطورية أن تقارب بها الشعر الجاهلي أن القول بميثيوديني الشعر الجاهلي كان هو الدافع الرئيس وراءها، والغاية الكبرى التي تعمل من أجل الوصول إليها، وأن آليات القراءة الأنثروبولجية، وبخاصة في مصادرها الرئيسة عند يونغ وفرايزر وكاسيرر ونورثروب فراي هي جوهر التصور الذي تنطلق منه، مما جعلها قراءة تغلِّب المنهج على المادة المقروءة، حتى أصبحت وكأنها دراسة في الأنثروبولوجيا لا في النقد الأدبي، وذلك ما سنلمسه ونحن نتتبع المكون الميثيوديني للصورة في الشعر الجاهلي.
3 - المكون الميثيوديني
للصورة في الشعر الجاهلي:
سعت القراءة العربية الحديثة إلى مقاربة المكون الميثيوديني للصورة في الشعر الجاهلي، بعد أن حاولت القراءة التاريخية التشكيك في هذا الشعر، والقول بأنه منحول بحجة أنه لا يصور الحياة الدينية للإنسان الجاهلي، هذا الزعم هو الذي حدا بالقراءة الأسطورية إلى إبراز الجانب الميثيوديني في القصيدة الجاهلية، بل تأكيد بأن المكون الرئيس للصورة في الشعر الجاهلي ذو أصول ميثيودينية. ومن الصور التي وردت بشكل مطرد في هذا الشعر والتي لها أصول ميثيودينية صورة المرأة والحيوان وبعض مظاهر الكون كالشمس والقمر، وللبحث في مكونات هذه الصور عادت القراءة الأسطورة إلى الأصول المعرفية التي استقتها من يونغ وفرايزر ونورثروب فراي وكاسيرر وغيرهم من الفلاسفة والأنثروبولوجيين والنقاد، فاستمدت منهم المنهج والأدوات الإجرائية لمقاربة المكون الميثيوديني للصورة في الشعر الجاهلي.
أ - صورة المرأة:
ركَّزت جل القراءات الأسطورية للشعر الجاهلي في مقاربتها للمكون الأسطوري للصورة في الشعر الجاهلي على صورة المرأة، بوصفها صورة تكررت في جل الموروث الشعري الجاهلي، ومن الآليات التصويرية التي اعتمد عليها الشاعر الجاهلي في تصويره للمرأة التشبيه، وهذا ما جعل نصرت عبد الرحمن من الأوائل الذين وقفوا عليه وهم يتحسسوا الصورة في الشعر الجاهلي، ومكوناتها المعرفية واللغوية والبلاغية.
يرى نصرت عبد الرحمن بأن الشاعر الجاهلي اعتمد في رسم صورة المرأة على آلية التشبيه، فشبهها بالدمى والشمس والغزالة والمهاة، وفي طرح نصرت عبد الرحمن ذي البعد الأسطوري المبني على قراءة الأصول الميثيودينية للصورة الشعرية الجاهلية، وبخاصة صورة المرأة، وأن آلية التشبيه في صورة المرأة آلية مرتبطة في جوهرها المعرفي ببعد أسطوري، فالدمى والتماثيل مجسمات لآلهة عبدها الجاهليون، ولذلك يعتقد نصرت عبد الرحمن أنه لا يعقل أن يشبه الجاهلي المرأة بمقدساته الدينية إن لم يكن لصـورة المرأة شـيء من القداسـة، لأنه (( قد بات من سقط المتاع بأن وظيفة التشبيه في الشعر الجاهلي هي التزيين والتوضيح ... ولكن التشبيه يضرب في أعماق الوجود الإنساني الذي يسعى إلى اقتناص الحقيقة. والمشبه والمشبه به إذا ما كثر تردادهما يدلان على علاقة رمزية أبعد من العلاقة الظاهرية بين الطرفين))(15)؛ فآلية التشبيه في الشعر الجاهلي في طرح نصرت عبد الرحمن أعمق من أن تكون آلية من آليات الإيضاح وتقريب الصورة من المتلقي، بل يركز على العلاقة الرمزية بين طرفي التشبيه، والتي تمتد بجذورها إلى أعماق الإنسانية السحيق، إلى الطور الأسطوري من تفكير الإنسان العربي في بعده الميثيولوجي، باعتبار أن (( الأسطورة من الصور الرمزية كالشعر والفن على حد سواء، ومن ممِّيزات الصورة الرمزية كافة إمكان تطبيقها على أي موضوع كان، فليس هناك أي موضوع يستعصي على التوافق معها، فلا تعارض بين طابع الصورة الرمزية، والخصائص التي يتميز بها أي موضوع. فما هو الرأي في أي فلسفة للغة أو فلسـفة للفن أو العلم تبدأ بتعداد كل الأشياء التي قد تصلح موضوعات للكلام أو للصور الفنية أو للبحث العلمي ))(16)، فصورة المرأة في الشعر الجاهلي في طرح نصرت عبد الرحمن تستمد إطارها الرمزي من أعماق الوجود الإنساني عامة، والإنسان العربي الجاهلي خاصة، فهي أبعد من أن تكون علاقة ظاهرية، بل في جوهرها علاقة رمزية ذات طابع ميثيوديني.
ترتبط صورة المرأة في الشعر الجاهلي - في تصوره - أساساً بالوثنية، لا بتصور سماوي، لأنه ((على الرغم من تعدد الأديان فإن الوثنية تبدو مستحوذة على معظم أهل الجاهلية حتى يكاد المؤرخون يحصرون الديانات الأخرى في مراكز معنية على أطراف جزيرة العرب. وهو استحواذ قد رأيناه في الدراسة الموضوعية: فكــل من عرضت له من شعراء الجاهلية كان يقسم بالأصنام وقلما كان يقسم بمعبودات الديانات الأخرى - والقسم أعلى درجات التعلق الديني - فدراسة الشعر الجاهلي في ضوء الدين الوثني مستساغة إلى حد ما؛ لأن الاحتكام بالأغلب يبدو من قبيل الاستقراء الناقص الذي يقره العلم ))(17)، علم البحث في صلة الفن عامة والشعر الجاهلي خاصة بالأصول الأنثروبولجية للحضارة العربية.
لقد كان التصور الوثني لصورة المرأة في الشعر الجاهلي - في نظره - سائداً عند العرب، لأن (( الحياة الجاهلية وثنية، والدمى والتماثيل تصاوير لربات قد عبدها الجاهليون، أيقدر الوثني على تشبيه المرأة بما يعبد، إن لم يكن للمرأة الموجودة في الشعر الجاهلي شيء من القداسة؟ ))(18)، فالقداسة هي المرتكز الجوهري الذي تقوم عليه صورة المرأة في الشعر الجاهلي في مقاربة نصرت عبد الرحمن، والعلاقة بين ركني التشبيه في صورة المرأة في الشعر الجاهلي، علاقة تقوم على خلفية دينية نابعة من التصور الميثيوديني للجاهلي.
وتوكيداً لطرحه يتتبع صورة المرأة في الشعر عبر محور التشبيه القائم على تكرار ارتباط صورة المرأة عبر مسميات متعددة تكرر تشبيهها بالدمية والشمس والغزالة والمهاة، وكلها معبودات عند العربي في جاهليته تؤكدها المصادر التاريخية والدينية للعرب في الجاهلية، ومن ثم ندرك أن نصرت عبد الرحمن يبتغي التركيز في طرحه على البعد الميثيوديني للصورة في الشعر الجاهلي، فيجعل من أدوات القراءة الأسطورية ومقولاتها الكبرى غاية لا آلية نوظفها من أجل الوصول إلى مفهوم شامل لقراءة الشعر الجاهلي.
ينطلق علي البطل من طرح نصرت عبد الرحمن من أن صورة المرأة في الشعر الجاهلي لها ارتباط ميثيوديني الأساس الأول في مقاربته لصورة المرأة في شعر ما قبل الإسلام، لكنه لا يعمم الحكم كما ذهب إلى ذلك نصرت عبد الرحمن من أن صورة المرأة ذات أصول دينية بل يؤكد على طرح مؤداه على أن صورة المرأة في الشعر الجاهلي يتجاذب بناءها الفني ما هو ديني وما هو واقعي لذلك نجده يعقد فصلا كاملا لتتبع صورة المرأة في الشعر الجاهلي يسميه "صورة المرأة بين المثال والواقع".
فالمرأة المثال في طرح علي البطل لا تتعلق بامرأة معينة من النساء اللواتي ذكرن في أشعار الجاهليين ونعتت بأسماء بعينها، بل صورتها في الأغلب تأتي صورة مكررة عند الشعراء الجاهليين وإن شابتها بعض الاختلافات لكن هذا الاختلاف لا يمس الصورة الجوهر، الصورة المثال، وهذا ما جعل علي البطل يذهب إلى أن هذا النمط من صورة المرأة في الشعر الجاهلي هو في الحقيقة محاكاة لأنموذج قديم، يعود بجذوره إلى تصور ميثيوديني للمرأة الأم، بحيث جمع العرب الصور المختلفة للأمومة كالمهاة والغزالة والحصان من الحيوان، النخلة والسمرة من النبات، فالمرأة من الإنسان، فجعلوها رموزاً مقدسة للشمس - الأم. ولهذا أظهرت هذه الرموز متجاورة عند تصوير الشعراء للمرأة فيما وصل إلينا من شعر مرحلة ما قبل الإسلام، ولا نقصد بهذا أن شعر هذه المرحلة المتأخرة من تاريخ العرب، يحمل لنا صورة طقوس الدين البدائي القديم، فقد كانت كثرة هذه الطقوس قد درست ولم يبق منها إلا آثار باهتة حتى في الممارسات الدينية، ولكننا نرى أن الصورة المترسبة في الشعر من الدين القديم هي آثار احتذاء لنماذج فنية سابقة - لم تصلنا - كانت وثيقة الصلة بهذا الدين، أو - بمعنى آخر - لقد تحولت الصورة الدينية إلى قوالب فنية، قد تخالف أحياناً النماذج القديمة؛ ولكنها في كثرتها تشي بتتبع لهذه النماذج من حيث ظهور الصورة المقدسة للأم - بشكل غير واع - عند حديثهم عن المرأة، إذا جمعوا لها صفات الخصوبة والأمومة المعبودة، التي ارتبطت بالربة الشمس في الدين القديم، فصورة المرأة المثال في الشعر الجاهلي في طرح علي البطل هي الصورة الأساس والجوهر، وارتباطها راجع في مصادره الفكرية إلى الرؤية الطوطمية، باعتبار أن ((كل إنسان متمدن، مهما بلغت درجة نموّ وعيه، لم يزل إنساناً قديماً في الطبقات السفلى من كيانه النفسي ))(19)، مرتبط في أعماقه بالبعد الميثيوديني في تصوره وفي لغته.
فصورة المرأة في الشعر الجاهلي في طرح علي البطل نابعة في مكونها الجوهري من الإشكاليات الكبرى التي واجهها الإنسان القديم، وبخاصة مشكلة الميلاد،(( إذ رأى الإنسان القديم أن التناسل سر تختص به المرأة وحدها وليس للرجل دور فيه، لذلك كان الجميع ينتسبون إلى الطوطم المقدس في القبيلة. ولقد ربط الإنسان سر الخصوبة في المرأة بسر الخصوبة في الأرض، في المجتمعات الزراعية بشكل خاص، لذلك عبدت الأرض بوصفها أما، ورمز لها في الدين القديم بالهات أمهات، أي بمعنى الأمومة هو المعبود، في حالة الآلهة الأرض، والآلهة المرأة ...و لأن فكرة الخصوبة - أو الأمومة - كانت هي الأساس في عبادة كهذه، كانت صورة الآلهة - المرأة تبرز استعدادا خاصا لهذه الوظيفة ... ولم يكن العرب أصحاب زراعة يعتد بها، وبخاصة مرحلة التبدي ... ولعل هذا هو سر اتجاههم إلى الشمس وهي أظهر ما في حياة الصحراء، خالعين عليها صفة الأمومة، فاعتبروها الربة، الإلهة الأم، ولعل هذا هو
سر تأنيث الشمس في اللغة العربية على عكس اللغات التي ربطتها بإله
ذكر))(20).
فالخصوبة هي الرؤية الجوهرية لصورة المرأة في الشعر الجاهلي، منها كان المنبع وإليها كان التصوير. وبذلك كانت الرؤية الميثيودينية هي الأصل في تكوين الصورة في الشعر الجاهلي، والفكر الطوطمي هو المسيطر على الخلفية الفكرية للشاعر الجاهلي وهو ينحت صورة المرأة، ومن ثم نجد أن علي البطل يؤسس طرحه في مقاربة صورة المرأة في الشعر الجاهلي من التصور الميثولوجي الذي يرى أن (( الصورة القابعة دفينة وهاجعة في خافية الإنسان منذ فجر الثقافة، وتستيقظ كلما خرجت الأزمنة عن مفصلها ووقعت الجماعة البشرية في خطأ فادح. عندما يندّ الناس عن سواء السبيل، يشعرون بحاجة إلى المرشد، أو المعلم، أو حتى طبيب. هذه الصور البدئية كثيرة، لكنها لا تظهر في أحلام الأفراد أو في الأعمال الفنية إلا عندما يدعوها إلى الحضور انحراف عن النظرة العامة. فعندما تتميز الحياة الواعية بالأحادية والموقف الخاطئ، تنشط - بودنا أن نقول "غريزياً" - هذه الصور وتظهر إلى النور في أحلام وفي رؤى الفنانين والرائيين، وبذلك تعيد إلى العصر توازنه النفسي ))(21)، ذلك التوازن الذي كان يبحث عنه الشاعر الجاهلي من خلال صورة المرأة.
ولما كان هاجس الخصوبة هو المسيطر على المكون الفكري للشاعر الجاهلي وهو يتعامل مع صورة المرأة، كان تصوير الأعضاء الأنثوية هو البارز في صورة المرأة في الشعر الجاهلي، حتى أخذت شكل الأنموذج السائد عند الكثير من الشعراء، بل بالغ بعضهم في تضخيمها وإبرازها، ولم يكن ذلك بدافع ليبيدي جنسي، بل نابع من لاشعور جمعي أساسه ميثيوديني، وهذا ما يؤكده براندون في كتابه "بزوغ العقل البشري" - والذي يعتمده علي البطل منطلقا نظريا لطرحه في التعامل مع صورة المرأة في الشعر الجاهلي - فبراندون يؤكد أن الحفريات التي عثر عليها والتي ترجع إلى العصر الحجري، والخاصة بتماثيل لنساء يلفت فيها النظر ملاحظتان أساسيتان. الأولى أن الأعضاء الأنثوية قد بولغ في تضخيمها. والثانية أن الوجه لا يحمل أي ملامح. ومغزى تضخيم أعضاء الأنوثة مع الوجه الخالي من الملامح، أنهم لم يكونوا يرسمون امرأة بشخصها المعين، ولكنهم بستحضرون "المرأة" بوصفها "أُماً" أي مصدر الخصوبة واستمرار الحياة (22). وبذلك فهي الأمل المستمر في الفكر البدائي بتجدد الحياة واستمرارها، باعتبار أن المشكلات الرئيسة للإنسان الأول كانت هي الميلاد، والموت، والحصول على الطعام، فوجد في المرأة رمزاً لاسمرار الحياة والتجدد، وبذلك كون حولها صورة المثال في الآثار الفنية ومنها ترسبت إلى العهود اللاحقة ومنها عصر ما قبل الإسلام عند العرب، ومن ثم يؤسس وجهة نظره بناء على طرح يونغ في أن (( في عالم البدائي كل شيء يتصف بالصفات النفسية، أي كل شيء يتمتع بعناصر النفس الإنسانية، وبالتحديد عناصـره الخافيـة العامة (اللاشعور الجمعــي)؛ لأنـه لا يوجد حياة نفسية فردية ))(23)، فاللاشعور الجمعي هو المصدر الرئيس لصورة المرأة عند الشاعر الجاهلي.
إن ربط علي البطل صورة المرأة في الشعر الجاهلي بالفكر الميثيوديني، وبخاصة في جانبها الخصوبي الأمومي هو الذي جعله يبحث لها عن سند علمي يؤكد طرحه، إذ ليس من الغريب أن تكون (( صورة المرأة الممتلئة الجسم التي تميل إلى البدانة، من الصور المهمة في نظر الإنسان القديم... لتحقق الشروط المثالية التي تؤهلها لوظيفة الأمومة، والخصوبة الجنسية، ولقد ظلت هذه النظرة عالقة بتتيم الرجل للمرأة زمناً طويلاً، وليست القضية في أساسها قضية ذوق جمالي سائد، في عصر من العصور... وإنما هي قضية مترسبة عن معتقد ديني موغل في بدائيته، فمن كمال صورة المثال المعبود أن يكون متصفاً بالصفات التي تؤهله لأداء وظيفته التي عبد من أجلها، وليس هذا الأمر الذي ساد عند العرب وحدهم في هذه المرحلة الحضارية...و لكنها تراث سبقهم جميعا، فهي صورة دينية، ترسبت في الشعر القديم وتحولت إلى قالب فني ظل الشعراء يجددون عناصرها، ويحاولون تطوير حدودها حتى أفسدوها في نهاية الأمر ))(24)، بفعل تراجع التأثير العميق للموروث الديني المترسب من بقايا الديانات العربية وغير العربية القديمة، ولكن هذا الترسب يبقى هو الجوهر والأساس في تكوين الصورة عند المبدع، لأن كل عمل كبار الشعراء (( يزيد نموه عليه كما يزيد نمو الابن على أمه. السياق المبدع له صفة الأنوثة، والعمل ينشأ من أعماقه الخافية، أو من مملكة الأمهات، بعبارة أخرى كلما سادت الصورة المبدعة، تحكمت الخافية (اللاشعور) بالحياة الإنسانية وقولبتها من دون الإرادة الفاعلة؛ وعندئذ تُلقي بالأنيّة الواعية إلى تيار الأعماق بما هي ليست أكثر من مراقب للحوادث))(25)، تيار الأعماق الذي يبقى المحرك الأساس في صنع الصورة داخل الأعمال الإبداعية وذاك ما يريد أن يؤسس له علي البطل بخصوص صورة المرأة.
لقد وجد علي بطل في بعض نصوص امرئ القيس والمرقش والأعشى وبشر بن أبي حازم سنداً فنياً يفسر به صورة المرأة وفق ما طرحه الميثيوديني ؛ إذ يرى أنه لا تعوزنا النصوص التي تبرز هذه الصورة المتميزة للمرأة، فهي كثيرة، ومن أمثلة ذلك قول امرئ القيس(26):
وَ إِذْ هِيَ تَمْشِي كَمَشْيِ النَّزِيـ
يفِ يَصْرَعُهُ فِي الكَثِيبِ البُهُرْ
بَرَهْـرَهَةٌ، رُؤْدَةٌ، رَخـْصَةٌ
كخُرْعُوبَة البَانَةِ المُنْفَطِرْ
فَتُورُ القِيَامِ، قَطِيعُ الكَلا مِ،
تَفْتَرُّ عَنْ ذِي غُروبٍ خَصِرْ
يقف علي البطل من خلال هذا الأنموذج على خاصية التصوير التي عمد إليها امرؤ القيس في رسم صورة المرأة؛ حيث يكاد يقيمها أمامنا جسداً حياً متحركاً والسبب بدانتها التي يحرص الشاعر على إبرازها لأنه يحتذي صورة مثالية لامرأة كانت تقدس فيها صفة الخصوبة، خصوبة جنسية تؤدي إلى الأمومة التي هي الوظيفة الأساسية للإلهة الأم، واهبة الحياة، وضامنة استمرار النوع أو القبيلة بالعدد الذي يجعلها "جمرة" لا تحالف غيرها غناء بما فيها من عدد المحاربين. وهذه الصورة كثيرة الشيوع في الشعر العربي. يكاد لا يخلو منها شعر شاعر في مرحلة ما قبل الإسلام، فالطابع الغزلي ذو المنحى الشبقي الذي قرئت به مثل النصوص وبخاصة في نسيب امرئ القيس لا أساس له، بل هي قراءة لا تلامس إلا ظاهر النص، والذي يجب أن تقف عليه القراءة الواعية هو البعد الميثوديني.
لا يكتفي علي البطل بهذا النص للتدليل على طرحه، بل يسوق عدة نصوص أخرى منها قول المرقش الأكبر(27):
وَ فِي الحَيِّ أَبْكَـارٌ سَبَيْنَ فُـؤَادَهُ
عُلاََلةَ مَا زَوَّدْنَ والحُـبُّ شَاغِِفِي
دِقَاقُ الخُصُورِ، لَمْ تُعَفَّرْ قُرُونُـهَا
لِشَجْوِ، ولَمْ يَحْضُرْنَ حُمَّى المَزَالِفِ
نَوَاعِمُ، أَبْكَارٌ، سَرَائِرُ، بُدَّنٌ
حِسَانُ الوُجُوهِ، لَيِّنَاتُ السَّوَالِفِ
يُهَدِّلْنَ فِي الآذَانِ منْ كُلِّ مُذْهَبٍ لَهُ
رُبَدٌ يَعْيَا بِه كُلُّ وَاصِفِ
فصورة المرأة المثال - كما يسميها - علي البطل صورة يتفق الكثير من شعراء الجاهلية في آليات رسمها فهي (( بكر معشوقة، دقيقة الخصر، منعمة غير مبتذلة، بدوية لم تتعرض لأدواء القرى، ناعمة ...فهو يركز على صفة العذرية فيها، ثم تأتي بعد العذرية التي يهتم بها صفتان ترتبطان بها ارتباطاً وثيقاً، فهي سرارة، "و سرارة الوادي" مطمئنة ومجتمع الخصب فيها ... ومادامت قد ارتبطت بالأرض والخصوبة فلا تكون بدينة، وهذه هي الصفة الثانية المرتبطة بالمعنى الديني للعذرية ))(28)؛ فالحضور القوي لمثل هذه الأوصاف هي التي جعلت علي البطل يربط صورة المرأة في الشعر الجاهلي بفكرة العذراء أم الإله في الفكر الديني القديم والتي سيطرت على فكر الإنسان منذ عهد قديم، فالتعبير الشعري الجاهلي ذو أصول دينية موغلة في القدم، ولم يبق منها عند الجاهلي إلا هذه الرواسب التي حافظ عليها الفن بوصفه ذاكرة جماعية نابعة من لاشعور جمعي مرتبط بالنماذج العليا.
يؤكد علي البطل ارتباط صورة المرأة بالبعد الميثيوديني لأنه واضح في الشعر العربي قبيل الإسلام، وهو وثيق الصلة بالدين القديم، وإذا كانت الدمى والتماثيل تقدم قرابين ونذور في معابد الشمس - الأم - وهي إما على هيئة امرأة أو على شكل حصان، واللغوي لكلمة دمية مازال يحمل آثارا دينية فهي تعني الصورة المنقوشة من الرخام، وتعني الصنم، وتعني الصورة المنقوشة التي فيها اللون الأحمر. لهذا ترتبط صورتها بوصف المرأة البدينة غالباً، صورة المرأة التي وصفها الأعشىبقوله(29):
شَاقَتْكَ مِنْ "قَتْلَةَ" أَطْلاَلـُهَا،
بِالشَّطِّ فَالوِتْــرِ إِلَى حَاجِرِ
فَقَاعِ مَنْفُوحَةَ ذِي الحَائِرِ
فَرُكْنِ مِهْرَاسٍ إِلى مَارِدٍ،
كلُّ مُلِثٍّ صَوبُهُ زَاخِرِ
دَارٌ لهَا غَيْرَ آيَاتِهَ ا
فِي الحَيِّ ذِي البَهْجَةِ والسَّامِرِ
وَ قَدْ أَرَاهَا وَسْطَ أَتْرَابِهَا
بِمُذْهَبٍ فِي مَرْمَرٍ، مَائِرِ
كَدُمْيَةٍ، صَوَّرَ محْرَابُهَا
و امرؤ القيس بقوله(30):
وَ يَا رُبَّ يَوْمٍ لَهَوْتُ ولَيْلَةٍ
بِآنِسَةٍ كَأَنَّهَا خَطُّ تِمْثَالِ
يُضِيءُ الفِرَاشَ وَجْهُهَا لِضَجِيعِهَا
كَمِصْبَاحِ زَيْتٍ فِي قَنَادِيلِ ذُبَّالِ
كَأَنَّ عَلَى لُبَّاتِهَا جَمْرَ مُصْطَلٍ
أَصَابَ غَضًى جَزْلاً وكُفَّ بِأَجْزَالِ
و قوله كذلك(31):
كَأَنَّ دُمَى سَقْفٍ عَلَى ظَهْرِ مَرْمَرٍ
كَسَا مُزْبِدِ السَّاجُومِ وَشْياً مُصَوَّرَا
غَرَائِرُ فِي كِنِّ، وصَوْنٍ، وَنِعْمَةٍ
يُحَلَيْنَ يَاقُوتاً وشَذْراً مُفَقَّرَا
و بشر بن أبي حازم في قوله(32):
كَأَنَّ عَلَى الحُدُوجِ مُخَدَّراتٌ
دُمَى صَنْعَاءَ خُطَّ لَهَا مِثَالُ
فصورة المرأة في هذه النصوص ذات ارتباط ميثيوديني كما هو واضح، فالدمية والمحراب التمثال ومصباح الزيت كلها مؤشرات تدل على الطابع الديني للصورة الفنية التي أراد الشعراء رسم الصورة الكلية للمرأة من خلالها، وبذلك يستطيع علي البطل أن يقدم نماذج تطبيقية من الشعر الجاهلي ليدعم بها طرحه القائل بميثيودينية الصورة في الشعر الجاهلي بعامة وصورة المرأة بشكل خاص.
فصورة المرأة المثال أو المرأة المثالية في طرح علي البطل لا تتعلق بامرأة بعينها، وإن وضعت لها أسماء بعينها كـ "رباب، وأم أوفى" وغيرهن كثير، إلا أن عناصر هذه الصورة تتواتر عند الشعراء وتسير على نسق واحد مما يجعل صورة المرأة في الشعر أقرب إلى أن تكون نسخا مكررة من أصل واحد. نحن لا نغفل الاختلافات اليسيرة في التعبير الفني عن الصورة، ولكن هذه الاختلافات لا تمس جوهر الصورة الأساسي وعناصرها المميزة فالوجه شمس، يضيء الظلام، والعينان لمهاة، والجيد لظبي، والمهاة والظبي أم دائما، والأسنان كالبرد أو البلور، سقى ماء الدر أو ضوء الشمس. ويحيط بوجهها المضيء شعر كثيف فاحم، وهي تمثال في رقتها ونقاء أديمه، بيضة النعامة، والدر التي يستخرجها الغواص. وهذه العناصر التي تتردد في الشعر القديم ، مما يشير إلى أن هذا الشعر يحاكي نماذج أقدم منه عهداً، وأمس رحماً بالدين القديم ، مما يبيِّن أن علي البطل لا ينطلق في تدعيم طرحه من خارج النص الشعري الجاهلي، بل نجده يتحسس مواطن الحجة من داخل هذا النص، حتى تكون حجته بالغة، لكننا نلاحظ أنه يتوقف في شواهده على شعراء الجاهلية المتأخرين عهدا، ولا يعنت نفسه في البحث عن قرائن في الشذرات الشعرية الموغلة في القدم، لأنها أقرب إلى عمق الإنسان العربي الأول، وديانته القديمة، وإن كنا نعذر علي البطل في هذا الجانب لأن مسألة البحث في هذا الموضوع تحتاج إلى تنقيب وبحث مُعْنِت، ولكن من أراد أن يقيم الحجة الدامغة على ارتباط الشعر الجاهلي بأصول ميثيودينية عليه أن يقيم حجة على المنابع الأولى لهذه الصورة، وبخاصة صورة المرأة المثال في بعدها الديني الممزوج بالفنية الجمالية.
و من ثم نستطيع القول أن علي البطل لم يكن عشوائياً في طرحه، بل نجده يعتمد في ذلك مرجعيته مستمدة من نورثروب فراي وهو يعالج إشكالية نظرية الرموز في مؤلفه "تشريح النقد" وبخاصة عند حديثه عن الرمز بوصفه صورة؛ إذ يذهب إلى أن (( الأدب، بكل وضوح، تقنية للتواصل، مثله في ذلك مثل البنيات اللفظية التقريرية. إن الشعر، إذا أخذ ككل، لا يعود مجمع تحف تحاكي الطبيعة، وإنما واحد من فعاليات الصنعة البشرية على أن تؤخذ ككل...الشعر من حيث هو بؤرة لجماعة. في هذا الطور يكون الرمز وحدة قابلة للاتصال، وهو ما أسميه "الأنموذج البدئي - ARCHETYPE"، يعني الصورة الراجعة أو النموذجية. وأعني بالنموذج البدئي رمزاً يربط قصيدة بأخرى وبالتالي يساعد على توحيد تجربتنا الأدبية وتكاملها. وبما أن النموذج البدئي رمز قابل للإيصال، فإن النقد البدئي يعنى بالأدب من حيث هو واقعة اجتماعية وطرز الاتصال. بدراسة الأعراف والأنواع، يقوم النقدي البدئي بمواءمة للقصيدة في كيان الشعر بأكمله ))(33)، وبذلك تكون صورة المرأة في القصيدة الجاهلية نمطاً رمزياً، أخذ مرجعيته من طبيعة العمل الإبداعي بوصفه بؤرة لجماعة، ورمزا قابلا للاتصال يساعد على توحيد التجربة الإبداعية.
و حتى لا يقع علي البطل في القراءة الأحادية لصورة المرأة في الشعر الجاهلي، يرى بأن (( ليس كل تصوير شعراء ما قبل الإسلام للمرأة مقصوراً على صورة المرأة المثال. فهناك صورة أخرى يصح أن نسميها المرأة الواقعية وهي هنا إما قينة مغنية أو راقصة، أو امرأة مهجورة من نساء الأعداء، أو هي في النهاية الزوجة المناكدة سيئة الأخلاق ))(34)، فصورة المرأة الواقعية في طرح علي البطل هي الصورة التي رسمها شعراء الجاهلية للمرأة في جانبها الشبقي الجنسي، المرتبط بالأساس بالبغي واللهو المجون، بخاصة عند شعراء عرف عنهم هذا الاتجاه في الشعر الجاهلي، من أمثال امرئ القيس والأعشى وطرفة بن العبد. فالحوانيت والحانات ودور اللهو هي الأمكنة التي كان يرتادها هؤلاء الشعراء، وكن يتخذن منها هؤلاء النسوة فضاء لعرض بضاعة البغاء فيها، وكانت في الغالب تدار من طرف اليهود، وبعض العرب، فكان
بعض الشباب اللاهي من العرب يرتادها لمتعة اللهو. يقول طرفة بن العبد في معلقته(35):
وَ لَوْلاَ ثَلاَثٌ هُنَّ منْ عِيشَةِ الفَتَى
وجَدِّكَ لَمْ أَحْفُلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي
فَمِنْهُنَّ سَبْقِي العَاذِلاَتِ بِشَرْبَةِ
كُمَيْتٍ، مَتَى مَا تُعَلْ بِالَماءِ تُزْبَدِ
وَ كَرِّي إِذَا نَادَى المُضَافُ مُحَنَّباً
كَسِيـدِ الغَضَا نَبَّهْتُهُ المُتَوَرِّدِ
وَ تَقْصِيُر يَوْمِ الدَّجْن، والدَّجْنُ مُعْجَب
بِبَهْكَنَةٍ تَحْتَ الخِبَاءِ المُعَمَّدِ
كَأَنَّ البُرِينَ والدَّمَالِيجَ عُلِّقَتْ
عَلَى عُشَرِ، أَوْ خِرْوَعٍ لَمْ يُخَضَّدِ
و قوله كذلك(36):
نَدَامَايَ بِيُضُ كَالنُّجَومِ، وقَيْنَةٌ
تَرُوحُ عَلَيْنَا بَيْنَ بُرْدٍ ومُجْسَدِ
رَحِيبُ قِطَـابُ الجَيْبِ مِنْهَا، رَقِيقَةٌ
بِجَسِّ النَّدَامَى، بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ
إِذَا نَحْنُ قُلْنَا أَسْمِعِينَا انْبَرَتْ لَنَا
عَلَى رِسْلِهَا مَطْرُوقَةً لَمْ تَشَدَّدِ
و قول امرئ القيس(37):
وَ بَيْتِ عَذَارَى يَوْمَ دَجْنِ وَلَجْتُهُ
يَطُفْنَ بِجَبَّاءِ المَرَافِقِ مِكْسَالِ
سِبَاطِ البَنَانِ، والعَرَانِينِ، والقَنَـا
لِطَافِ الخِصِورِ فِي تَمَامِ، وإِكْمَالِ
نَوَاعِمَ يَتْبَعْنَ الهَوَى سُبُـلَ الرَّدَى
يَقُلْنَ لأَِهْلِ الحِلْمِ ضُلاَّ بِتَضْلاَلِ
صَرَفَتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيَة ِالرَّدَى
ولَسْتُ بِمُقْلِيِّ الِخلاَلِ ولاَ قَاليِ
يتخذ علي البطل هذه النماذج الشعرية الجاهلية سنداً نصياً لطرحه الذي يقول بازدواجية صورة المرأة بين المثال والواقع في الشعر الجاهلي، وأن صورة المرأة لم تكن مثالا فقط، بل هي جسد ومتعة، وواقعية كذلك. إلا أنه يستدرك بأن صورة المرأة الواقعية تتداخل مع بعض ملامح صورة المرأة المثال؛ إذ (( الملاحظ على صورة المرأة...أنها قد تضم عنصراً من عناصر صورة المرأة المثال، فالأعشى يشبهها بالغزال، وعند طرفة وامرئ القيس بضة ممتلئة بيضاء ولكن هذه التشبيهات تنقطع عن ارتباطها الديني القديم، فلا تكون الغزال، أما، ولا تكون البدينة شمساً، فهي هنا جسد تتداوله الأيدي، لذلك لم تحشد لها الرموز المقدسة كما كانت للمرأة المثال فتخرجها عن عالم الواقع، لذلك نعد ورود مثل هذه العناصر المثالية في صورة المرأة الواقعية، بمثابة انحراف فني عن الصورة الدينية المتوارثة، نتيجة انحلال الروابط بين الدين والفن وتقادم العهد على الصورة التي أورثها الدين للشعر الذي لم يصلنا من فترة ما قبل الإسلام ))(38)، وبذلك يميز علي البطل بين صورة المرأة الواقعية وصورة المرأة المثال في الشعر الجاهلي، وبذلك يلتفت إلى مواطن جدّ مهمة في المكون الأساس لصورة المرأة لم يقف عليها نصرت عبد الرحمن من قبله، إذ وجدنا نصرت عبد الرحمن عمم حكم ارتباط صورة المرأة في الشعر الجاهلي بالأصول الميثيودينية.
يقدم إبراهيم عبد الرحمن محمد في مقاربته "الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعية"، ووفق الرؤية ذاتها وبالآليات نفسها التي اعتمدها علي البطل في مقاربة الشعر الجاهلي بعامة وصورة المرأة خاصة، غير أنه لم يخصص كل المؤلف لهذا الغرض كما فعل نصرت عبد الرحمن وعلي البطل بل خصص محوراً واحداً فقط مدارسة الشعر الجاهلي من منطلق ميثيولوجي ديني، معتبراً أن الصورة في الشعر الجاهلي كانت يتجاذبها قطبي ما هو فني وما هو ديني، أي "الصورة في الشعر الجاهلي بين الفن والدين"، وهو عنوان الفصل الأول من الكتاب الثاني من هذه المقاربة، حيث ركز نصرت عبد الرحمن في الشق الثاني على علاقة الدين بالصورة في الشعر الجاهلي فهم الشعر الجاهلي خاصة والقديم عامة، لا يتأتى إلا بفهم هذا الأسلوب التصوري، وتحليل صوره المركزة تحليلا يكشف أولا عن العلاقة الميثولوجية التي نبعت، ويبرز ثانياً تلك العلاقة الخفية التي كان يقيمها الشاعر الجاهلي بين عناصر الصورة ومكوناتها المختلفة، وبين مواقفه أو قل "فلسفته" في الحياة وظاهرها المتناقضة في بيئته، وبذلك فالعامل الميثيوديني لـه - كذلك - مع الجانب اللغوي دور أساس في صنع فضاء الصورة في الشعر الجاهلي، باعتبار أن ((الــزعم بأن الأدب في جوهره بدائي وشعبي...كان له شيوع كبير في القرن التاسع عشر، ولما تَمُتْ بعد ))(39)،و من ثم لا يمكن الوقوف على جوانب الصورة في الشعر الجاهلي عامة وصورة المرأة خاصة إلا فُكَّت شفرات المكون الميثيوديني لها.
إن صورة المرأة في طرح إبراهيم عبد الرحمن محمد تعد الآلية الأساسية في مقاربة المكون الأسطوري في الشعر الجاهلي، باعتبار أن هذه الصورة هي العنصر الأصلي الذي تنبثق منه كل العناصر الأخرى المكونة للصورة في الشعر الجاهلي، لذلك (( يشكل الحديث عن المرأة في الشعر الجاهلي، العنصر الأصلي الذي تأتلف حوله، وتخرج منه بقية عناصر القصيدة الأخرى: من الوقوف على الأطلال، إلى رصد الذكريات العاطفية، ووصف الرحيل، والحيوان وغيرها من الأغراض، ومن ثم فإن البحث عن الأصل الميثولوجي الذي يختفي وراء هذا الاحتفاء بالمرأة يمكن أن يفتح لنا الباب إلى الكشف عن أصول هذا الغرض ))(40)، ولذلك لا يمكن فهم العناصر المكونة للصورة اكبري في الشعر الجاهلي إلا إذا فُكَّت شفرات صورة المرأة.
يعطي إبراهيم عبد الرحمن محمد لصورة المرأة الثقل المركزي الذي تدور حولـه الصورة الكلية في القصيدة الجاهلية، وهو طرح له ما يسنده من الناحية النصية، إذ يلاحظ القارئ للشعر الجاهلي أن طيف المرأة لا يفارق فضاء القصيدة الجاهلية، وفي كل محطاتها وأغراضها المعروفة، فهي الحاضرة الغائبة الأكبر في صنع الفضاء العام للنص الجاهلي، بوصفها الأنموذج المركزي، لأن (( إذا كانت النماذج البدئية رموزاً قابلة للاتصال، وكان للنماذج البدائية مركز، فينبغي التوقع بأننا سنجد في المركز فئة من الرموز الكلية. ولست أعني بهذه العبارة أن ثمة كتابا مدونا عن النماذج البدائية تحفظه كل المجتمعات الإنسانية عن ظهر قلب بلا استثناء. وإنما أعني أن بعض الرموز صور عن أشياء مشتركة بين الناس جميعا))(41)، يتوارثونها ويتناقلونها لاشعورياً، وذاك ما يشكل المكون الأساسي لصورة المرأة في الشعر الجاهلي، وذاك ما ينطلق منه إبراهيم عبد الرحمن في مقاربته للمكون الأسطوري لصورة المرأة في الشعر الجاهلي.
مصطلح المرأة المثال حاضر - كذلك - في مقاربة إبراهيم عبد الرحمن محمد - إذ يرى أن الشعراء على اختلافهم وتباين أمزجتهم الفنية، قد درجوا على رسم صورة مثالية للمرأة، يستمدون عناصرها من البيئة الحيوانية والمكانية والنباتية، ويقيمون بين أطرافها المتنافرة وبين المرأة صلة ما، وليقيم الدليل النصي على مقولة صورة المرأة المثال، يعمد إلى ثلاثة شعراء جاهليين هم:"امرؤ القيس، والأعشى، وقيس بن الخطيم"، فيختار من نسيبهم ثلاثة نصوص، يرى أنها تقيم الدليل على أن الشعراء الثلاثة كونوا صورتهم للمرأة من مرجعية وتصور فكري واحد ومحدد للمرأة، الأساس فيه اللاشعور الجمعي للمجتمع العربي قبل الإسلام. يقول امرؤ القيس(42):
تُضِيءُ الظَّلاَمَ فِي العِشَاءِ كَأَنَّهَا
مَنَارَةُ مُمْسِي رَاهِبٍ مُتَبَتَّلِ!
إِلَى مِثْلِهَا يَرْنُو الحَلِيمُ صَبَابَةً
إِذَا اسْبَكَرَّتْ بَيْنَ دِرْعٍ ومِجْوَلِ.
.............
فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ
عَذَارَى دَوَارٍ فِي مُلاَءِ المُذَيَّلِ!
و يقول قيس بن الخطيم(43):
لِعَمْـَرةَ إِذْ قلبُهُ مُعجَبٌ
فأنَّى بعمرةَ، أنَّى بِهَا؟!
لَيَالٍ لَنَا وُدُّهَا مُنْصِبٌ
إِذَا الشَّوْلُ لَطَّتْ بِأَذْنَابِهَا،
ورَاحَتْ حَدَابِيرَ، حُدْبَ الظُهُور
مُجْتَلَماً لَحمُ أَصْلاَبِهَا؛
كَأَنَّ القَرَنْفُلَ والزَّنْجَبِيلَ
وذَاكَي العَبِيرِ بِجِلْبَابِهَا!
نَمَتْهَا اليَهُودُ إِلَى قُبَّةٍ
دُوَيْنَ السَمَاءِ بِمِحْرَابِهَا!
فالقداسة هي الصفة التي يراها إبراهيم عبد الرحمن محمد ملازمة لصورة المرأة في شعر هؤلاء الشعراء وغيرهم من الجاهليين، إذ نجدهم بعد امرئ القيس يلحون ويؤكدون على هذه القداسة، بحيث (( عبروا عنها في صور مختلفة تبرز من بينها صورة بعينها أخذت تتردد في أشعارهم هي تشبيه المرأة بالشمس ))(44)، وبذلك أخذت صورة المرأة منحى متميز عن صورة المرأة في النسيب الجاهلي، الذي ينحى منحى التدقيق في الأوصاف الحسية الجسدية ذات البعد الجنسي الليبيدي.
فصورة المرأة في نص قيس بن الخطيم مبنية على ثنائية الخصب والخراب، إذ نلمح أن الخصب مرتبط بإقامة المرأة في الديار ورحيلها عنها علامة الخراب والدمار، وبذلك تكتسب المرأة قداسة نابعة من قدرة إلهية، وذلك ما نقرؤه من نص قيس بن الخطيم ونحن نقاربه، فهو يضفي القداسة الدينية عليها، فلها القدرة على الإخصاب والجدب، وتلك صورة أسطورية لا محالة من مرجعيتها الميثيودينية؛ يقول:
نَمَتْهَا اليهودُ إلى قَبَّةٍ
دُوَينَ السَّمَاءِ بِمِحْرَابِهَا!
فـ"عمرة" أصبحت مقدسة عند اليهود، سمو بها إلى قبة السماء، وأحاطوها بمحراب القداسة، فالشاعر شكل صورة امرأة لا كصورة باقي النساء ولكنه يتحدث عن معبودة، وبذلك يؤكد إبراهيم عبد الرحمن محمد مقولة صورة المرأة المثال، وهو طرح تبناه من قبله علي البطل كما بيّنا سلفاً.
و ليؤكـد إبراهيم عبد الرحمن محمد طرحه القائل بصورة المرأة المثال، يقارب نصا آخر لقيس بن الخطيم(45):
رَدَّ الخَلِيطُ الجَملَ فَانْصَرَفُوا
مَاذَا عَلَيْهُمْ لو أنَّهمْ َوقَفُوا؟
لَوْ وَقَفُوا سَاعَةً نُسَائِلُهُمْ،
رَيْثَ يُضَحِّي جَمَالهُ السَلَفُ!
فيهِمْ لَعُوبُ العِـشَاءِ آنِسةً الدِّ
لِّ عَرُوبُ يَسُوؤُهَا الخَلَفُ،
بَيْنَ شُكُول النِّسَاءِ خَلَفْتُهَا
قَصْدٌ، فَلاَ جَبلةٌ ولا قَضف ،
تَغترقُ الطرفَ وهيَ لاَهيةً
كأنما شفَّ وجْهُهَا نُزُفُ
تنامُ عن كُبْرِ شَأْنهَا، فإذَا
قَامتْ رويداً، تَكادُ تَنْغرفُ
حَوْراءَ، جَيْداءَ، يُسْتضَاءُ بِهَا،
كَأَنَّهَا خُوطُ بانةٍ قَصِفُ
تَمشِي كَمشيِ الزَّهراءِ في دَمَثِ الرَّملِ،
إلـى السَّهْلِ دُونَـٍهُ الجُرفُ،
ولا يغثُّ الَحديـثُ مَا نَطقتْ،
وهْوَ، بِفِيهَا، ذُو لَذَّةِ طَرِفُ
تخزُنُه وهوَ مشتهىً، حسنٌ
وهو إِذَا ما تَكلمتْ أنُفُ!
كَأنَّ لُبّاتهَا، تَضَمَنَها
هزلَى جرادٍ، أجوازَه جَلَفُ
كأنها درةٌ، أَحاطَ بها الغَواصُ،
يَجلُو عن وَجْههَا صَدَفُ!
و الذي جعل إبراهيم عبد الرحمن محمد يختار هذا النص، هو تفرده بوصف المرأة من ناحية وكثرة التشبيهات فيه، هذه التشبيهات التي تصنع للمرأة صورة تدعم طرح صورة المرأة المثال التي لها أصول ميثيودينية، فالتشبيهات الكثيرة هي التي شكلت الصورة الكلية للمرأة المثال، ولنفهم هذا النغم الغزلي، ونكشف عن رموزه ينبغي أن نضم ما جاء في هاتين المقطوعتين من المعاني بعضها إلى بعض، لنعرف عن طريقها حقيقة هذه المرأة التي يدور حولها غزل "قيس بن الخطيم" - ولعلنا نلاحظ ما يضفيه عليها في المقطوعة الأولى من عناصر وصفات تجعل منها كائنا ذا قدرة إلهية - وما يتصف به جمالها من التفرد والتجدد والقدرة على البقاء! وهي صفات قد حققها عن طريقين: الأولى، دينية ... والثانية: ما يتردد في هذه الأوصاف والصور من معاني الضوء والضحى واللمعان والاصفرار وغيرها مما يشتق منها ويتصل بها - وهذه وتلك تميل بنا إلى القول بأن الشاعر لا يتحدث عن امرأة مثل غيرها من النساء ولكنه يتحدث عن معبودة... يتحدث عن "الشمس" تلك الإلاهة التي كان يتعبـد لها أكثر الجاهليين ...فقد كانوا يرمزون عن "الشمس" بالمرأة والغزالة والمهاة والنخلة... وفي أبيات "قيس بن الخطيم" ما يدل في وضوح على أنه يقصد هذه المعبودة.فالشمس كانت معبودة في جل الديانات القديمة من مثل السومرية في العراق، وما ورد في " ملحمة جلجامش " في وصف "عشتروت" إلاهة الخصب والحب والجمال.
لا يتوقف إبراهيم عبد الرحمن محمد عند صورة المرأة المثال فقط وهو يقارب أنثروبولوجية الشعر الجاهلي، بل يقول بوجود صورة أخرى للمرأة، تفيض بوصف هذا الجانب الأنثوي في المرأة، وما يتصل به من المعاني الحسية التي تعبر عن الشهوة واللذة، وهذا ما اصطلح على تسميته علي البطل بالمرأة الواقعية، وبذلك ندرك أن طرح إبراهيم عبد الرحمن محمد لم يخرج عن طرح على البطل ولم يضف إليه شيئا جديدا، وإنما كان في جوهره إعادة صياغة - مع تغيير في النصوص التطبيقية - لمقاربة علي البطل طرحاً ومضموناً وآلية.
ب - صورة الحيوان:
1 - ثور الوحش:
وقفت أغلب المقاربات العربية الحديثة ذات المنحى الأسطوري عند صورة الحيوان في الشعر الجاهلي أيضاً، واعتبرتها من الآليات الرئيسة التي اعتمد عليها الشاعر الجاهلي في تركيب الصورة الكلية داخل القصيدة الجاهلية، فراحت تبحث عن المكون الأساس لها وبخاصة في أصوله الميثيودينية؛ إذ المتوغل في التاريخ العربي القديم إذا رجع إلى أبعد من الفترة القصيرة التي ينتمي إليها ما وصلنا من شعر ما قبل الإسلام، والذي يسمى بالشعر الجاهلي، حتى يبلغ مرحلة أكثر بدائية، وأوثق اتصالا بالدين، لوجد أن الحيوان من بين الصور الأساسية لمعبودات الإنسان القديم، فهو إما طوطم الجماعة وجدّها الأعلى، وإما معبودها الممثل والرمز للإله السماوي: الكوكب الذي تتوجه إليه الجماعة في صلواتها(46)، لذا ربطت القراءة الأسطورية كثرة توارد قصة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية بالأصول الميثيودينية وأطروحاتها وتصوراتها، مستعينة في ذلك بالعلوم الميثيولوجية والأركولوجية والاجتماعية وحتى النفسية، مَنْهَلُهَا في ذلك طرح "يونع" في اللاشعور الجمعي والنماذج العليا.
و من المقاربات المبكرة التي حاولت أن تقارب صورة الحيوان في الشعر الجاهلي وفق رؤية ميثيودينية دراسة عبد الجبار المطلبي "قصة ثور الوحش وتفسير وجــودها في القصــيدة الجاهـلية"، أفـردها صاحبها لمقاربة صورة ثور الوحش47* دون صور الحيوانات الأخرى كالناقة وحمار الوحش والغزال وغيرهم، حيث يعتبر أن الوقوف على الخلفيات الميثيودينية لصورة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية من الأساسيات الكبرى التي ينبغي تتبعها ومقاربتها، لأن الرجوع بالمقاربة إلى الأصول الميثيودينية الموغلة في القدم، تعطي آلية كبرى للوقوف على ما غمض من هذه الصورة عبر العصور الطويلة.
و للتعامل مع أنثروبولجية وجود صورة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية، يعود عبد الجبار المطلبي إلى الموروث الحضاري القديم للإنسان في مختلف حضاراته، وتصوره الميثيوديني لثور الوحش، ومظاهر عبادته عند الأمم القديمة التي تلتقي مع العرب في أصل واحد،(48*) معتبراً أن الموروث الميثيوديني الضخم لصورة ثور الوحش عبر الحضارات الإنسانية المختلفة هي المنبع الرئيس الذي يجب أن تقارب من خلاله القراءة العربية الحديثة صورة ثور الوحش في الشعر الجاهلي.
ينطلق عبد الجبار المطلبي في تعامله مع ظاهرة وجود صورة ثور الوحش في الشعر الجاهلي في قالبها القصصي، من أن هذا الحضور وفي شكله القصصي إنما نابع من مغزى ديني، يعبر عن فكرة القدرة والفناء، ثنائية الحياة / الموت، هذا من جهة، ومن جهة ثانية نلاحظ أن هذه القصة يسطر على أحدثها زمان الليلة الماطرة، وأن الصراع بين الثور والصياد والكلاب إنما هي ملحمة ذات أصول ميثيودينية، يرتبط فيها الثور والخصب والمطر؛ إذ الشيء الواضح - وقد ألممنا بشيء من تاريخ الثور وعبادته وما يرمز إليه - هو هذه العلاقة بين البقر والمطر، وهي علاقة قديمة - كما مر بنا - إذ يمثل هذا الحيوان قوة تتحكم في السحب، وتنزل المطر، وما عادة استسقائهم بالبقر إلا من مخلفات عبادة الثور وما يرمز إليه من الخصب والإرواء، ويبدو أن النار المضرمة في حطب السلع والعشر إنما هي لطقوس واحتفالات قديمة تتصل بهذا الإله – الثور، ففكرة ثنائية الحياة / الموت هي جوهر تواجد صورة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية. وأن العرب القدماء قد تأثروا في عبادتهم القديمة بعبادة الساميين القدماء وآلهتهم، وتأثرت أكثر بعبادة العرب الشماليين، وعرف العرب عبادة "بعل" إله الخصب والمطر، ومازال معناه في العربية يحمل إشارات من عبادته القديمة، فـ "بعل" في اللغة كل شجر أو زرع لا يسقى، والبعل ما سقته السماء، والزوج والرب والمالك، ومعنى بعل في اليمنية الجنوبية "الرب" فكل ما في جزيرة العرب يدعو إلى قدسية الثور رمز المطر والخصب، والجزيرة لا تحتاج إلى شيء حاجتها إلى الماء، وهذا ما تصوره قصائدهم التي وصلت إلينا في سرد قصة الثور، وليؤكد عبد الجبار المطلبي الطرح القائل بميثيودينية صورة ثور الوحش في الشعر الجاهلي، يعود بنا إلى التراث العربي لينقل لنا مقولة الجاحظ في "الحيوان"، والتي تشير إلى أن ورود صورة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية لم تكن عبثا، وإنما كان من ورائها طرح ديني؛ إذ (( من عادة الشعراء إذا كان الشعر مرثية أو موعظة أن تكون الكلاب هي التي تقتل بقر الوحش، وإذا كان الشعر قديما، وقال كأن ناقتي بقرة من صفتها كذا أن تكون الكلاب هي المقتولة ))(49)، وفي ذلك إشارة واضحة إلى ارتباط صورة ثور الوحش في الشعر الجاهلي بفضاء ثنائية الحياة / الموت، والقدر المحتوم، لكن الشعراء الجاهليين الذين وصل إلينا شعرهم لم يكونوا يحملون من التصور الدقيق لهذه الطقوس المرتبطة بعبادة الثور الوحشي، لأن صورة الثور الوحشي في القصيدة الجاهلية ((إنما هي تطور لترانيم أو تفوهات دينية قديمة تتصل بقدسية الثور، وما كان يرمز إليه من الخصب والمطر والاتحاد بالصيد، ولكنها لم تعد تحمل مغزى دينياً بل انتهــت إلى الشعراء الجاهليين المعروفين تقاليد أدبية وإن لم تخل من إشارات وسمات هي بقايا قدسية انقرضت))(50)، ومن ثم يربط عبد الجبار المطلبي تواجد صورة ثور الوحش في الشعر الجاهلي إلى بقايا طقوس الاستمطار التي ترمز إلى الخصب والنماء، وبذلك نجد أن طرح عبد الجبار المطلبي في مقاربته لصورة الثور الوحشي يقرن بين رمزية الحياة والموت من جهة ورمزية الخصب وطقوس الاستمطار، وذاك ما تقارب به جل القراءات الأسطورية ميثيودينية صورة الثور الوحش في القصيدة الجاهلية، سواء أكان ذلك عند نصرت عبد الرحمن أم عند علي البطل.
يتبنى نصرت عبد الرحمن الطرح نفسه في مؤلفه "الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث"، لكنه يربط تواجد صورة الثور الوحشي في الشعر الجاهلي برحلة الكواكب في السماء، والتي ترمز إلى رحلة الإنسان في الحياة، وما يصاحبها من مشاق وصراع لإثبات الوجود، ففكرة ثنائية الحياة/الموت هي المسيطرة على رمزية قصة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية، وتلك فكرة ميثيودينية في الأساس.
فصورة الثور الوحشي الهائل الذي ورد كثيراً عند الشعراء الجاهليين لـه ما يماثله في السماء، وإلى جانب الثور الوحشي مجموعة من النجوم تسمى الجبار، ويقال: إن كل الشعوب تقريبا قد شاهدت صياداً أو محارباً في هذه المجموعة. والكلاب التي تهاجم الثور لها ما يماثلها من مجموعات النجوم، فلا تبعد عن الجبار كثيراً مجموعتا الكلب الأكبر والكلب الأصغر. وفي الكلب الأكبر أسطع نجم في السماء كلها وهو الشعرى اليمانية ويسمى عادة نجم الكلب، وخط مستقيم مع نجوم حزام الجبار، وفي الكلب الأصغر أيضاً نجم ساطع جداً هو الشعرى الشامية. ومن السهل أن نفهم التسمية، فإن الشعوب القديمة أطلقت اسم الكلاب، ونلاحظ أن التشبيه انقضاض الثور بانقضاض الكوكب الدري أو الدريء قد تكرر كثيراً في الشعر الجاهلي، ويلاحظ أيضاً أن النجوم التي كانت تضرب الثور بأنوائها قد جاءت عند الحديث عن الثور(51)، فصورة الصراع التي يطرحها الشاعر الجاهلي هي نفسها التي تجسدها كواكب السماء، فكرة تجاذب الإنسان بين قطبي الوجود الحياة والموت، ومن ثم ندرك أن نصرت عبد الرحمن ينتصر هو كذلك إلى المقاربة التي تقول بميثيودينية صورة ثور الوحش في الشعر الجاهلي، وأن تواجده في القصيدة الجاهلية تواجد رمزي أكثر منه واقعي.
يعقد علي البطل القسم الثالث من مقاربته لدراسة صورة الحيوان بين العقيدة الدينية والتقليد الفني، يخصص فيه حيزا كبيرا للبحث في صورة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية، وأصولها الميثيودينية، فيربطها من البداية بعاملين أساسيين: الأول أسطوري(52)*، والثاني نابع من شعائر السحر المتعلق بالصيد، لأن الصيد كان عند البدائي من الأعمال الأساسية للتغلب على مشكلة الحصول على الغذاء، والغذاء هو سر استمرارية الإنسان في هذه الحياة، ((فالتاريخ لم يحفظ لنا ما تركه العرب الأقدمون من شعر في مثل هذه الطقوس، ولم تكشف الأرض عما تكن من أسرار حفرياتهم، فإن الشعر الذي وصلنا ما يزال محتفظاً بآثار منها، لا يمكن أن تكون هي الدين القديم بالطبع، ولكنها صورة - مهما اعتراها من تشويه ونقص - وثيقة الصلة به، إلى جانب تأثرها بنماذج فنية سابقة عليها أكثر اتصالاً وتعبيراً عن هذه الطقوس الدينية والسحرية الموغلة في القدم، لذلك فهي تطلعنا - بدرجة لا بأس بها من الوضوح - على نظرة أسطورية إلى الثور الوحشي، وقرائنه من الحيوان، وترينا كيف يؤثر التقديس الديني في تركيب عناصر هذه الصورة وتطور الحدث فيها ))(53)، لذا كان الإنسان العربي القديم حريصاً على إقامة شعائر وطقوس سحرية يعتقد أنها الوسيلة المثلى لمساعدته على إتقان عملية الصيد والظفر بما يريد، ومن هنا نرى أن علي البطل يركز على الطرح السحري إضافة إلى الطرح الديني الطقوسي لصورة ثور الوحش في الشعر الجاهلي.
يبدو أن علي البطل مستمد آليته في المقاربة لصورة الثور الوحشي في الشعر الجاهلي من طرح جيمس فرايزر في الغصن الذهبي، وبخاصة في المحور الذي خصصه لدراسة العلاقة بين السحر والدين، حيث اعتبرهما طقسين متكاملين في جوهرهما، رغم ظاهر تعارضهما، خاصة إذا كان الدين يعني من ناحية الاعتقاد في وجود كائنات أسمى من البشر تتحكم في هذا العالم وتسيطر عليه كما يعني من الناحية الأخرى محاولة استرضاء هذه الكائنات، فإن ذلك يتضمن بغير شك الاعتراف بأن أحداث الطبيعة مرنة إلى حد ما وقابلة للتغيير، وأن باستطاعتنا أن نُقنع أو نحث هذه الكائنات القوية التي تحكم الطبيعة على أن تغير سير الأحداث من مجراها الأصلي بما يحقق صالحنا الخاص؛ صحيح أن السحر يتعامل في كثير من الأحيان مع الأرواح، وهي قوى شخصية من النوع الذي يفترض الدين وجوده، ولكن يلاحظ أنه حين يفعل السحر ذلك بطريقته المعتادة المألوفة الصحيحة فإنه يعامل هذه الأرواح الطريقة نفسها التي يعامل بها القوى الحية، بمعنى أنه يجبرها أو يقهرها بدلا من أن يعمل على إرضائها أو استمالتها كما يفعل الدين. وعلى ذلك فالسحر يفترض أن كل الكائنات الشخصية سواء أكانت كائنات بشرية أم إلهية تخضع في آخر الأمر لتلك القوى اللاشخصية التي تسيطر على جميع الموجودات والتي يمكـن مـع ذلك لأي شخـص أن يستميلها إلى صفة إذا عرف كيف يخضعها بالطقوس والتعاويذ الملائمة(54). ومن ثم كانت صورة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية عند علي البطل تجمع في جوهرها بين ما هو ميثيوديني وما هو سحري، ميثيوديني في علاقته بالديانات العربية القديمة، وسحري من حيث إنه آلية من الآليات التي يربط الساحر فيها قوى الغيب بقوى الطبيعة من أجل استحضار شعيرة الاستمطار.
و ليدعم علي البطل طرحه يطبق منهجه على ثلاثة نصوص شعرية جاهلية، لكل من المتلمس الضبي مطلعه(55):
وَ أَدْمَاَء مِنْ حَرِّ الهِجَانِ كَأَنَّهَا
بِحَرِّ الصَرِيمِ نَابِىءٌ مُتَوَجِسُ
و آخر لأوس بن حجر مطلعه(56) :
وَ كَأَنَّ أَقْتَادِي رَمَيْتُ بِهَا
بَعْدَ الكَلالِ مُلَمَّعاً شبَبَا
و ثالث للنابغة الذبياني مطلعه(57):
كأنما الرَّحْلُ – منها- فوق ذِي جُدَدٍ
ذبِّ الرِّياد، إلى الأشباح نظَّارِ
فالنصوص الثلاثة يدور بناء صورة الثور الوحشي فيها على آليات تكاد تتكرر عند الشعراء الثلاثة تكراراً كاملاً مع بعض الاختلاف اليسير، ويُرجع علي البطل الاختلاف إلى فرضية ضياع أجزاء من النصوص بفعل تواتر هذه النصوص مشافهة، وبذلك فهو اختلاف راجع إلى النقص وليس إلى الاختلاف في بناء الصورة.
يحاول علي البطل إعادة بناء الأسطورة الأصل التي ضاع أصلها، فيتلمس بعض أجزائها من المتوفر في الشعر الجاهلي؛ إذ الذي (( يهمنا في هذا التصوير أن ننبه - بعد هذه القصائد التي يكمّل بعضها بعضاً- إلى أننا أمام أسطورة ضاع أصلها، وبقيت منها هذه العناصر التي تشير إلى بعض ملامح هذه الأسطورة الضائعة، فالثور كما نعلم رمز الإله القمر، ولا يبدأ ظهوره في الصورة إلا مع قدوم الليل، وهو يظهر - دائماً - قريبا من شجرة أرطى، ليحتمي بها من البرد والريح والمطر. وهذه هي المحنة الأولى التي يتعرض لها في الصورة، وهي توحي بالأصل الذي نبعت منه، فالقمر - الذي يظهر، حين يظهر، في بداية الليل - يتعرض في ليل الشتاء لأنْ يحجبه السحاب المظلم فيتصور الذهن البدائي عدوانا على الإله من هذه الظواهر الطبيعية الشريرة، فيلجأ إلى قوى خيرة مساعدة يحتمي بها. حتى إذا جاء الصباح، تعرض لمحنة أخرى لا تنفعه فيها شجرة الأرطى، تلك هي محنة الصراع بينه وبين الصائد وكلابه - وهي مجموعة كواكب في السماء -، ولا ينجيه منها إلا المواجهة التي ينتصر فيها الإله الخير على أعدائه ))(58)؛ وهي صورة في أساسها مبنيَّة على بعد أسطوري يصور علاقة القمر بالشمس، والقمر بغيره من الكواكب، وكل ذلك في فضاء سحر وديني له علاقة بطقوس الاستمطار عند الجاهلي في ممارسة سحرية للتحكم في المطر، ويؤكد على البطل هذا الطرح بما يورده الجاحظ في "الحيوان" من أن الإخباريين يروون أن العرب كانوا إذا أصابهم الجفاف جمعوا أغصاناً، وتحايلوا على اصطياد أبقار وحشية وثيران، وصعدوا المرتفعات فيشعلون النار في الأغصان ويربطونها إلى أذيال البقر وأرجلها الخلفية، تاركين هذا القطيع المشتعل يهبط إلى السفوح.
فرواية الجاحظ يرى فيها علي البطل تأكيداً لميثيودينية صورة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية، وأن هذه الرواية تحمل من العلامات الطقوسيـة التي تجعل من منها تمثيلا لظاهرة الاستمطار بكل طقوسيتها السحرية فـ ((الدخان يمثل تراكم السحاب، وألسنة النار تمثل البرق، وهبوط الأبقار يشير إلى التفاؤل بنتيجة هذا الطقس وهي هطول المطر استجابة للصلاة، والواسطة الإلهية هي البقر والثيران الوحشية التي يؤذيها الطقس كما تعتدي السحب على القمر عند تراكمها وحجبها إياه. وكما أن هذا الطقس وسيلة سحرية دينية للاستمطار، فهو أيضاً تمثيل لقصة أسطورية تشير إلى علاقة القمر بهذه الظاهرة الطبيعية التي تؤثر فيها وتؤثر فيه، ولذلك يمكن استدعاؤها بهذا التمثيل الشعائري ))(59)، وأن الثور الوحشي هو المجسد الرئيس والآلية الأساس في صنع فضاء الصورة الميثيولوجية داخل القصيدة الجاهلية، وبذلك يؤكد علي البطل على ميثيودينية صورة الثور الوحشي في الشعر الجاهلي، وينفي كل ما يفضي إلى واقعية صورة الثور الوحشي في الشعر الجاهلي، ومن ثم تأخذ قراءة علي البطل لصورة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية منحى أحادياً في المقاربة لا تقبل بالقراءات الأخرى، مركزة على البعد السحري باعتباره أسبق من البعد الديني، لأن (( امتزاج السحر بالدين...يدعو إلى الاعتقاد بأن هذا الامتزاج ليس بدائياً. وأن الإنسان مر بعصر كان يعتمد فيه على السحر وحده في إشباع تلك الحاجات التي تسمو فوق شهواته الحيوانية المباشرة. والواقع أن دراسة الأفكار الأساسية في السحر والدين تبين في المحل الأول أن السحر من ناحية أقدم من الدين في تاريخ الإنسانية ))(60)، ولذلك ارتبطت صورة الثور الوحشي في الشعر الجاهلي بالبعد السحري في عملية الاستمطار، وبالبعد الديني في جعل صورة الثور الوحشي إلاها من الآلة التي كانت تعبدها العرب في جاهليتهم.
لا تخرج مقاربة مصطفى عبد الشافي الشوري " الشعر الجاهلي تفسير أسطوري" عن المرجعية المعرفية التي انطلقت منها المقاربات السابقة لصورة ثور الوحش في الشعر الجاهلي، إذ نجده يخصص حيزاً كبيراً من مقاربته لتتبع صور الثور الوحشي ودلالاتها الرمزية في القصيدة الجاهلية، هذه الدلالة التي لها ارتباط عميق بالأصول الميثيودينية للشاعر الجاهلي، وأن هذه الصورة مبنية في أساسها الأنطولوجي على الرواسب الاعتقادية للشاعر الجاهلي، ولذا نظر على قدر من العمق والدقة والتعقيد، مما يجعل مقاربتها ليست بالأمر البسيط، وإنما تفرض على القارئ التزود بالآليات والمعارف الميثودينية العميقة، والإحاطة بالأنثروبولوجية الثقافية للحضارة العربية، وللحضارات المجاورة، وما كان بينهما من تثاقف، وهو ما دفعه إلى القول بأن صورة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية تنكشف عن أبعاد جديدة في الشعر الجاهلي، ((تحفل برموز وإشارات، كانت تبدو لنا وكأنها ملاحظات دقيقة بارعة من الشاعر لا تخفي وراءها شيئاً، أفتراها - إذن - قد انحدرت إلى الجاهلية من الأجيال السابقة تقليداً أدبياً محضاً، أم أنها تحمل مغزى دينيا قديما، توارثته الأجيال، فوصل إلى الجاهليين؛ ومن ثم ظهر في شعرهم على هذا النحو؟ ))
(61)، وهو تساؤل متأثر فيه بتساؤل يطرحه عبد الجبار المطلبي في مقاربته لصورة الثور الوحشي في الشعر الجاهلي؛ إذ نجده يقول:و لكن - وهذا هو الهم - ألا نجد شيئاً من تلك الديانة المتصلة بالثور؟ أو ليس ممكناً أن تبقى بعض أصدائها في أطواء الأدب أو العادات والطقوس الاجتماعية. ومن ثم يجعل مصطفى عبد الشافي الشوري من جوهر هذا التساؤل مدخلاً أساسياً لقراءة صورة ثور الوحش في الشعر الجاهلي قراءة رؤية ميثيودينية، أساسها تحكيم البعد الأسطوري.
فنمطية صور ثور الوحش في الشعر الجاهلي وتكرارها بأجزائها نفسها هو القول الذي يتبناه مصطفى عبد الشافي الشوري، مثل ما سبقه إليه علي البطل، وأن اللاوعي الجمعي هو المحور الرئيس في تشكيل صورة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية؛ إذ لا شك أن خيال الشاعر الجاهلي كان يرده - بلاوعي - إلى التاريخ الطويل المليء بالأساطير القديمة، وهكذا تبدو الصورة مكررة - النمطية - مرتبطة بعقيدة قديمة، آمن بها القدماء وحافظوا عليها إلى أن وصلت إلى الفترة التي سبقت الإسلام، والتي نسميها بالعصر الجاهلي، على أنه كلما بعد العهد بزمن الشعائر الدينية القديمة تغيم هذه الرؤية بعض الشيء ، مما جعل بعض الفوارق في الصورة تظهر من شاعر إلى آخر بفعل عوامل الزمن، والقدرة على تمثل اللاوعي الجمعي ورواسبه والتعبير عنها، (( لذلك يتوقع [ك.ن. يونغ ] من الشاعر أن يلجأ إلى استعمال الأسطورة يلتمس منها أنسب شكل للتعبير عن خبرته. وإنه لمن فادح الخطأ أن نحسب أنه يتعامل مع مواد مستعملة. فالخبرة البدئية هي مصدر قدرته المبدعة؛ إنها خبرة لا يُسبر غورها، لذلك تتطلب التمثيل (اللغة المجازية) لإعطائها الشكل، بحد ذاتها، لا تطرح علينا كلمات ولا صورا، لأنها رؤية منظورة ...و لا يسع علم النفس أن يفعل شيئاً في سبيل توضيح هذا التمثيل المجازي الملوّن، اللهم إلا أن يجمع مواده بعضها إلى بعض بغية المقارنة وصياغة اصطلاحات لها تيسر لنا سبيل البحث فيها. وبناء على هذه الاصطلاحات، نسمي ما يبدو في رؤيا "الخافية العامة أو الكلية un collective unconscious . ونريد بالخافية العامة أو الكلية استعداداً نفــسياً معيناً تشكله قوى الوراثة؛ ومنه نشأت الواعية consciousness ))(62)، فالخبرة البدئية هي الأساس الجوهري في تكوين صورة الثور الوحشي في القصيدة الجاهلية، واللاشعور الجمعي هو المصدر الرئيس في ذلك.
وهذا ما جعل مصطفى عبد الشافي الشوري يؤكد القول بأنَّنا يمكن أن نرد صورة الثور الوحشي إلى ذلك التراث الديني الجاهلي الذي انطمست معالمه، وانمحت آثاره... فالثور الوحشي الذي تكررت صوره في الشعر الجاهلي له نظير في السماء، فهناك ثور وبجانبه مجموعة من النجوم تسمى الجبار، ويقال: "إن كل الشعوب تقريبا قد شاهدت صيادا أو محاربا في هذه المجموعة"، وصورة الكلاب التي تهاجم الثور في الشعر الجاهلي لها ما يناظرها أيضا من النجوم، "فمجموعتا الكلب الأكبر والكلب الأصغر لا تبعدان عن الجبار، وفي الكلب الأكبر أسطع نجم في السماء كلها، وهو الشعري اليمانية، وتسمى عادة نجم الكلب. وهو على خط مستقيم مع نجم حزام الجبار، وفي الكلب الأصغر نجم ساطع جدا هو الشعرى الشامية، ومن السهل أن نفهم التسمية؛ ولذا أطلقوا على المجموعات القريبة منها والأصغر اسم الكلاب"، وهكذا فكل ما يقال عن هذا الحيوان في الأرض إنما يراد به النموذج المعبود فوقهم، الذي له ارتباط بأساطير واعتقادات قديمة اندثرت ونسيتها ذاكرة الزمن، ولكنها لم تسقط من اللاوعي الجمعي للمجتمع العربي، فتسربت إليه عبر فنه الأول الذي هو الشعر، وهو نفس الطرح الذي قال به نصرت عبد الرحمن، لأن (( سر الإبداع الفني والأثر الذي يحدثه الفن يجب البحث عنه في العودة إلى حالة "المشاركة الصوفية"، إلى ذلك المستوى من الخبرة الذي من يعيش عنده هو الإنسان لا الفرد، والذي لا يُعتدُّ عنده بسعادة الفرد الإنساني ولا بشقائه، بل بالوجود البشري فقط، وهذا ما يفسر لنا لماذا كان كل عمل فني عظيم عملاً موضوعياً وغير شخصي، لكنه يظل، مع ذلك، يـحرك مشاعـرنا أفــرادا وجماعات ))(63)، عمل عظيم تجسدت عظمته في الرؤيا التي استمد منها الشاعر الجاهلي بناء صورته، في بعدها الجمالي والميثيوديني، وبعدها الجماعي الذي تحقق بفعل اللاشعور الجمعي.
يختار مصطفى عبد الشافي الشوري لذلك نماذج من الشعر الجاهلي وردت فيها صورة ثور الوحش تعزيزاً لروايته، حيث تجمع في مجملها على أن الثور دائماً يعالج الظلمة، ويبحث عن الشمس، والشمس في المعتقد الجاهلي هي الإلهة الأم، التي عبدها العرب وأقاموا لها الهياكل والمعابد، والثور القمر هو الإله الأكبر أو الإلــه الأب ، وأن صورة المطر والبرق هي الصورة الملازمة له، مما جعل مصطفى عبد الشافي الشوري يؤكد - هو كذلك - الطرح القائل بعلاقة صورة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية بالخصب، وأن الثور رمز للخصب والقوة والإرواء، وهو الطرح نفسه الذي قال به علي البطل من قبل.
فصورة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ الإنساني السحيق، لها صلة بقصة الإنسان في هذا الوجود، وفي دورة الحياة والموت، ولذا لا يمكن فهم هذه الصورة إلا إذا عادت القراءة إلى تفحص تاريخ الأمم والشعوب وبخاصة تاريخ الأمة العربية قبل الإسلام، بالاعتماد على آليات العلوم الحديثة من أنثروبولوجيا وعلم الآثار وعلم الاجتماع وعلم النفس. فطرح "ك. يونغ" في اللاوعي الجمعي والنماذج العليا واضح التأثير، إذ حاولت المقاربة الأسطورية أن تقدم طرحا ميثيودينيا لصورة ثور الوحش في القصيدة الجاهلية من هذا المنطلق ووفق هذه الرؤيا، باعتبار أن الشعر الجاهلي هو تعبير عن بقايا دينية من العبادات لدى الشاعر الجاهلي، وإن كان الخوض في مسألة طقوسية الشعر الجاهلي أمر يحتاج إلى تمحيص في تاريخ موغل في القدم من الصعوبة بمكان الخوض في مسائله وقضاياه، وأن الجزم فيه بقول يحمل من المجازفة العلمية التي لا تستند إلى سند علمي قائم على حجة واضحة وموثقة. ذاك ما تعترف به القراءة الأسطورية حتى في الفترات التاريخية المتأخرة، فما بالك بالفترات الموغلة في القدم، إلا أن مسألة تثاقف الحضارات القديمة أمر فيه من الموضوعية العلمية، لذا فالقول بتفاعل صورة ثور الوحش عبر الحضارات القديمة، وتأثيرها في الحضارة العربية قبل الإسلام، وفي القصيدة الجاهلية طرح فيه من الصفة المميزة التي أضافت لقراءة الشعر الجاهلي خطوة إضافية لفهم مكنونات ومكونات هذا الشعر، وبخاصة المكون الميثيوديني الذي كثيرا ما أُهمل من قبل.
2 - النـاقـة:
من الحيوانات التي كان لها الحضور المميز في القصيدة الجاهلية "الناقة"، بل لا تكاد تخلو قصيدة جاهلية من وجودها، مما جعلها عنصراً قوياً في تشكيل الصورة الكلية داخل القصيدة الجاهلية، لذا حاولت القراءة العربية عبر محطاتها المختلفة أن تتناول صورة الناقة في الشعر الجاهلي معتمدة على خصوصية كل قراءة وآلياتها المختلفة، والقراءة الأسطورية واحدة من هذه القراءات.
ركَّز نصرت عبد الرحمن على البعد الرمزي لصورة الناقة باعتبارها علامة تحمل دلالات عميقة في الشعر الجاهلي، وبخاصة في ارتباطها بظاهرة الطلل والرحلة؛ إذ (( تبدو الناقة في هذه الرحلة رمزاً للإرادة الإنسانية التي تقتحم الأهوال من أجل تحقيق الآمال. ويحشد الشاعر للناقة كل صفات القوة والقدرة على التحمل وكأنه يتحدث عن ذاته. وكما أفاض الشعراء في تصوير المرأة أفاضوا في تصوير الناقة فكلتاهما تحمل رمزا مهما ))(64)، لا يأخذ هذا الرمز طابعاً ميثيودينياً في قراءة نصرت عبد الرحمن، بل يلتحم مع الواقع المعيش ليعبر عنه. فالناقة هي المعادل الموضوعي الذي وظفه الشاعر الجاهلي للتعبير عن إرادة قهر المحيط القاسي الذي كان يحيط به.
لقد دفعت نصرت عبد الرحمن هذه القراءة إلى تأكيد أن الشاعر الجاهلي كان فنانا في توظيف علامة الناقة بكل ما تحمله من دلالات للتعبير عن الإرادة والعزيمة؛ إذ لو طلبت من عالم أن يحدثك عن الإرادة لحدثك عنها حديثاً تجريدياً خالصاً، ولو طلبت من مفتن أن يحدثك عنها لصور لك - مثلا - ذراعا عبلا وقبضة جزلا، وكذلك نحا الشاعر الجاهلي المفتن إذ صور الناقة فجعلها رمزاً للإرادة، وهذا ما يبرهن على عبقرية الشاعر الجاهلي في توظيف صورة الحيوان في القصيدة الجاهلية، لا باعتبارها صوراً مباشرة وتقريرية وصفية، ولكن باعتبارها رمزاً ذا دلالات متشعبة. فالناقة القوية كالتي وصفها طرفة بن العبد في معلقته - والتي تظهر في الرحلة - هي إرادة الشاعر في منتهاها، والناقة الهالك الضعيفة التي تظهر في نهاية الرحلة هي إرادة الشاعر الجاهلي التي تبددت في درب الحياة.
إن التصاق صورة الناقة في الشعر الجاهلي بالواقع، بحكم استئناس الإنسان بها، هو الذي جعل علي البطل يؤكد الطرح نفسه الذي قال به نصرت عبد الرحمن، بحيث تظهر صورة الناقة في القصيدة الجاهلية بعيدة عن البعد الميثيوديني - على الرغم من ميثيولوجيتها هي كذلك - فـ(( إذا كانت صور الحيوان الوحشي، كالثور أو الحمار الوحشي أو الظليم ترد في شعر ما قبل الإسلام في هذه الأنماط التي تنبئ بوضوح عن جذورها في الأساطير القديمة، والممارسات الشعائرية البدائية، فإن صورة الحيوان المستأنس كالناقة والبعير والحصان تأتي أقرب إلى الوعي الواقعي بحكم معايشتها للإنسان، ومشاركتها في حياته. صحيح أن الإبل والخيل قد عبدت في الديانات العربية القديمة، ولكن المعايشة القريبة تغلبت في تصويرها على الظلال الميتافيزيقية المترسبة حول هذين الحيوانين الأليفين، فتعامل معهما الشاعر تعامله مع معالم الواقع من حوله، ومع ذلك فليس من النادر ظهور العناصر الأسطورية في صورتها في الشعر، وإن لم تكن بالصورة المباشرة التي رأينا عليها الحيوانات البرية السابقة، وإنما هي إشارات لروابط بعيدة، تربطها بمعاني الأمومة أو الخصب، كما في تشبيه الناقة بالمهاة والدرة رمز الشمس...لكن الغالب على صورتهما هو التصوير الواقعي بحكم المعايشة اليومية ))(65)، وبذلك يؤكد علي البطل الطرح الواقعي لصورة الناقة في الشعر الجاهلي، مع التنبيه إلى ظهور بعض البوادر الميثيودينية للناقة في القصيدة الجاهلية، إلا أن الصبغة الواقعية هو الفضاء الطاغي عليها، مما جعل البعد الميثيوديني يتماهى في البعد الواقعي، فهي رمز للإرادة والتحدي والصبر .
إنّ موضوع الإرادة من الموضوعات الفلسفية والسيكولوجية التي وقع خلاف حول تحديد طبيعتها والعوامل الموجودة لها؛ إنَّ المدارس السيكولوجية باختلاف توجيهاتها لم تفلح في تحديد ماهيتها ودوافعها؛ إذ يخضعها بعضهم للعقل، وبعضهم الآخر يضع العقل تحت سيطرتها ، ويرى آخرون أنَّ محك الإرادة هو الاختيار والعزم، دون التنفيذ ، ويرى أنَّ الفعل الإرادي لا يتم إلاّ بالتقييد. وتذهب المدرسة السلوكية الآلية إلى أن الإرادة وهمٌ من الأوهام. لكن الحقيقة التي يستخلصها الدارس من إشكالية الإرادة بأبعادها السيكولوجية والفلسفية. هي أنها قوة نفسية وعامل سيكولوجي، لا يمكن للدارس أن ينكر حقيقتها أو يغفلها، أما دوافعها فمختلفة المصادر، منها ما هو بيولوجي ومنها ما هو اجتماعي وسيكولوجي. فحياة الإنسان ليست حياة فرد مستقل، بل حياة فرد يعيش في مجتمع ، إنّها حياة تسهم في نشاطها مجموعة من العوامل، وليست الإرادة في مظهرها الأول سوى مجموعة هذه الدوافع عندما تتآزر لتحقيق هدف ما، وبذلك فهي أكثر صلة بالحوافز، لأنها في الواقع تنظيم لهذه الحوافز، ولا يتم تنظيم الحوافز إلاَّ بانضمام البواعث إليها بفضل تهذيب المجتمع، وباعث البحث عند الشاعر الجاهلي عن مخلص من قساوة المحيط الطبيعي، والاجتماعي، وحتى السياسي، هي التي جعلته ينظر من حوله فلم يجد وسيلة تعبيرية تعبر عن إرادة التحدي التي ينشدها إلا في الناقة، فكانت الناقة هي الصورة الفنية المعبرة عن لحظة الخلاص من لحظة الثبات والاضمحلال، اللحظة الطللية. لذا فالناقة عادة ما تختفي بمجرد ذكرها في القصيدة وراء رمز من الرموز الواقعية أو المقدسة، فهي الحاضر الغائب الأكبر، ومن هنا اكتسبت جماليتها وتفردها في القصيدة الجاهلية.
يلتفت مصطفى عبد الشافي الشوري إلى خصوصية من خصوصيات صورة الناقة في الشعر الجاهلي؛ إذ نجد أن ارتباطها يكون في الأغلب بالمقدمة الطللية، وما تحمله هذه الطللية من ثنائية الموت/ الحياة فـ (( إذا كان الجاهلي قد تحدث عن الماضي في صورة الطلل، فإنه في حديثه عن الناقة - أي الحاضر - يؤكد استمرارية الحياة التي يحرص عليها؛ ومن ثم لا يريد أن يستمر في الوقوف، فالوقوف ثبات، والثبات موت، وإنما لجأ إلى الحركة لأنه لا يشعر بالحياة إلا من خلالها؛ ولهذا كانت الناقة هي التعبير الحقيقي عن فكرة الحركة والعمل واستمرارية الحياة التي كانت شغله الشاغل في هذه البيئة الصحراوية القاسية ))(66)، وبذلك تظهر صورة الناقة وهي مرتبطة في جوهرها بثنائية الموت / الحياة التي ترسم معالمها المقدمة الطللية بكل أبعادها الدرامية والأسطورية، فالناقة هي العامل المعبر عن الحركة التي تخلص الشاعر من فضاء الثبات المتمثل في الطلل، فهي عنوان الحركة والخلاص النفسي لدى الشاعر الجاهلي. وبذلك فصورة الناقة التي وظفها الشاعر الجاهلي ما هي إلا صورة ترمز إلى أبعد مما أمامنا من أوصاف وحركات ونحوها. وهذه الصور تعبير عن جملة من الأفكار وليس فكرة واحدة، فهي الصورة التي جمعت بين الواقعي والمثال، بين المعاش والميثيوديني، فهي الصورة المركبة التي تحمل عمق الدلالة وامتدادها في الواقع بكل مآسيه والماضي السحيق بكل ميراثه.
يحاول مصطفى عبد الشافي الشوري أن يقدم صورة الناقة في الشعر الجاهلي من حيث ارتباطها ببعض الطقوس العربية الجاهلية، وبخاصة في تعلق بعبادة بعض الأجرام السماوية؛ إذ لم تكن الناقة مجرد حيوان في العصر الجاهلي؛ فقد احتلت مكانة عظيمة عند العرب بلغت حد ّالتقديس... ولا بأس
أن أذكر أن الناقة التي وصفها الشعراء أثناء رحلتهم كان لها مثيل في
السماء(67*)، هذا المثيل هو الذي أضفى عليها صفة القداسة، فبجلتها العرب لواقعيتها من جهة وقداستها من جهة أخرى، وهذه الثنائية قلما نجد حيواناً آخر حظي بها في الشعر الجاهلي، ونجد أن القرآن الكريم يبين أن الناقة قدسها العرب فجعلوا منها البحيرة والسائبة والوصيلة والحـام، { مَا جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ولا سَائِبَةٍ ولا وَصِيلَةٍ ولا حَامٍ ولكنْ الَّذِينَ كَفرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}(68)، يقول بن كثير في تفسير هذه الآية: البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم، لا يحمل عليها شيء، والوصيلة الناقة البكر، تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى بعد أنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم، إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر، والحام الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه، ودعوه للطواغيت، وأعفوه عن الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه الحامي. وكل ذلك بفعل اعتقاد العرب في قدسية الناقة وتأليهها، وبذلك تزاوج صورة الناقة في الشعر الجاهلي بين الواقعي والميثيوديني.
كما ربط مصطفى عبد الشافي الشوري صورة الناقة بمعني الخصوبة، شأنها شأن صورة ثور الوحش، وبخاصة في ارتباطهما بالسماء ونظرة الشاعر الجاهلي له، ومن ثم ((جاءت رحلة الشعراء مرتبطة بهذا الفكر القديم، فالناقة التي في السماء يظهر معها الظليم، والناقة في الشعر الجاهلي تشبه الظليم الذي يرعى فتصيبه السماء بمطرها، فيعود إلى بيضه ليحضنه، والشعراء عندما يشبهون الناقة بالثور الوحشي فلابد من ذكر ليلة ممطرة أو ما يشبه المطر بوجه عام، وهم يشبهون الناقة أيضاً بالحمار الوحشي ويذكرون ورود الماء وكثرة العشب والمراعي الخصبة. حتى إذا جفت المياه، رحل الحمار وأتنه للبحث عن الماء وسعيا وراءه.[و بذلك] عرف العرب في الإبل معنى الخصوبة والورود السقيا ))(69)؛ الخصوبة التي تسعى الإنسانية منذ فجر التاريخ إلى تحقيقها، فتعلقت بها وأقامت لها الطقوس والعبادات، ونذرت لها النذر، وذلك كله بهدف تحقيق وجود الإنسان واستمراريته، و((لكي تضمن الإرادة قهر الموت فقد عمدت ألاَّ تضع إرادة التناسل تحت رقابة العقل أو المعرفة، فحتى الفلاسفة قد تناسلوا وانجبوا أولاداً. فإرادة التناسل تبدو مستقلة عن المعرفة فهي تعمل عملا أعمى. وأعضاء التناسل هي وسيلة حفظ الحياة؛ ولذلك عبدها الإغريق والهندوس ، ووصف "هَذْيوُدْ" و"بارمينيدس" إله الحب EROS على أنَّه الأول ، والخالق والأصل الذي صدرت عنه جميع الأشياء لذلك كان الحب عند "شوبنهاور" وسيلة تديرها الطبيعة لأداء أغراضها عن طريق التناسل. وما غرض الطبيعة سوى استمرار الحياة ))(70)، والخصوبة هي سر تزويد الحياة بالاستمرارية، فالمطر خصوبة، والتناسل خصوبة، وكلها خارجة عن إرادة الإنسان، ولكي يحققها في وجوده عمد الإنسان البدائي إلى الفن عامة والشعر خاصة، والناقة من الوسائل الفنية التي وظفها الشاعر الجاهلي للتعبير عن هذه القضية الأزلية، وبذلك أخذت صورة الناقة في الشعر الجاهلي بعدا فنياً وجمالياً وفكرياً جد عميق، وذلك ما حاولت مقاربة مصطفى الشوري أن تقف عليه، لتسبر أغواره انطلاقا من صورة الناقة، الناقة الواقعية والناقة الرمز.
ج - مظاهر الكون:
إن الصورة في الشعر الجاهلي متداخلة في تكوينها المعرفي، وأن من الصعوبة بمكان أن نفكك أجزاء هذه الصورة بغرض القراءة، وأنه لا يمكن الحديث عن صورة دون الحديث عن مكونات صور أخرى، وذلك ما نلمسه عند القراءة الأسطورية حيث نجدها تشير إلى ميثيودينية صورة الشمس والقمر من خلال تفصيلها في الحديث عن صورة المرأة أو الحمار الوحشي باعتبارهما عنصرين جوهريين في تكوين الصورة داخل القصيدة الجاهلية، وأن ارتباطهما بالبعد الميثيوديني ارتباط عميق، أما الشمس والقمر فهما مكملان لصورة المرأة وحمار الوحش.
1 - الشمس:
إن الصورة في الشعر الجاهلي مبنية في أساسها على ركني التشبيه، والمشبه الذي لم يأخذ بعده الميثيوديني إلا من المشبه به، فصورة المرأة لم تأخذ بعدها الميثوديني في طرح نصرت عبد الرحمن إلا من خلال تعالقها مع صورة الشمس في بعدها الرمزي، بحيث إن ((الشمس نفسها كانت مقدسة عند الجاهليين ))(71)، بدليل قولـه تعالى في سورة فصلت: { ومِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ والنَّهَارُ والشَّمْسُ وَالقَمَرُ، لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ ولاَ لِلْقَمَرِ، وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}(72). وهذا ما جعل نصرت عبد الرحمن يقول بميثيودينية صورة الشمس والقمر في الشعر الجاهلي، وأن دراسة النقوش التي وجدت في الجزيرة العربية دلت على أن الشمس كانت معبودة عند الجاهليين، وذلك ما يؤكده ديتلف نلسن وآخرون في مؤلفهم التاريخ العربي القديم، إذ يذهبوا أن (( في وسط ذلك الجمع من الآلهة نجد الإلهية "شمس". وفي علم النقوش والكتابات العربية الجنوبية نتبين أن سائر الأسماء الإلاهية المؤنثة تحوم حول هذه الإلاهة وتدل عليها. فالأسماء المركبة من "ذات" وأسماء أخرى مؤنثة كلها ألقاب لإلاهة الشمس العربية العظيمة. كما نجدها أيضاً في شمال بلاد العرب أنى ذهبنا، فهي "شمس" أو "ألات" أي الإلاهة، ونحن نعرف هذا ليس فقط عن طريق الرواية والمصادر المكتوبة، بل عن طريق النقوش الجاهلية أيضا ... إن الاسم شمس كالقوة الجاذبة التي تجذب إليها سائر أسماء الآلهة الآخرين ))(73)، ومن ثم نتبين أن نصرت عبد الرحمن يسلك مسلكاً ميثويوديني في طرحه لصورة الشمس في الشعر الجاهلي، وأن هذا المشبه الذي كثيراً ما تعلق به الشعراء الجاهليون في قصائدهم، إنما منبعه ديني، نابع من البعد المعرفي للشاعر الجاهلي، وبذلك يخرج نصرت عبد الرحمن صورة الشمس من ثوبها الجمالي إلى ثوب ميثيولوجي، ليؤكد طرحه الميثيوديني للصورة في الشعر الجاهلي، إذ لا يقوى - في نظره -الشاعر الجاهلي على تشبيه المرأة بمعبودته الشمس إن لم تكن المرأة التي ذكرها في شعره ذات صفة قدسية، فالصورة التشبيهية في طرفيها الأساسيين نابعة من بعد ديني لا عن قيمة جمالية، فالبعد الديني هو المصدر الرئيس لهذه الصور ويأتي لاحقا البعد الجمالي، وذلك هو ديدن الطرح الأسطوري في تفسير الصورة في الشعر الجاهلي.
أما إذا عدنا إلى علي البطل وإبراهيم عبد الرحمن محمد ومصطفى عبد الشافي الشوري فإننا لا نلفيهم يخرجون عن الطرح الذي طرحه نصرت عبد الرحمن؛ إذ يبينون ميثيودينية صورة الشمس وهم يقاربون صورة المرأة؛ إذ ((المرأة في كل هذه الحالات معبودة رمز للشمس الأم))(74)، وبذلك تغدو صورة المرأة المثال خادمة لصورة الشمس المعبودة الأكبر ورمز لها، ويستشهدون بنماذج من الغزل الجاهلي، وبخاصة غزل امرئ القيس والأعشى. فالمرأة التي بكاها الشعراء الجاهليون في مقدماتهم الطللية إنما هي رمز للشمس ربة الجاهليين، وأن العرب في جاهليتهم قد صوروا تماثيل للشمس على هيئة إنسان، وهذا الإنسان يمثل حسناء عارية، رمزاً للشمس الأم المعبودة.
فالقراءة الأسطورية لصورة الشمس في الشعر الجاهلي لم تخرج عن الإطار العام للمقولات الكبرى لهذه القراءة، بل سعت جاهدة من أجل تأكيد ميثيودينية صورة الشمس في الشعر الجاهلي، وأن صورة الشمس كانت تابعة في الأصل لصورة المرأة ولكن هي المعبود الأم، فهي الأصل في الصورة وإن كانت في الظاهر تبدو تابعة لصورة المرأة.
2 - القمـر:
ارتبطت الصورة الميثيودينية للقمر بصورة الثور الوحشي في الشعر الجاهلي، فعليّ البطل يؤكد ربط العرب القدماء بين الثور الوحشي والقمر، جاعلين منه رمزاً على الإله "ود" أو "سين" أو "شهر" الذي كان من صفاته أنه "كهلن" أي القدير، وأنه "أبم" أي أب ، وبذلك نجد طرح علي البطل لا يفصل بين الصورة الميثيودينية لثور الوحش وصورة القمر لأن العلاقة بينهما علاقة عضوية، مرتبطة في الأساس بتجسيد السماوي "القمر" بالأرضي "ثور الوحش"، ولذلك لا يمكن مقاربة ميثودينية صورة القمر من منطلق ثور الوحش، ولكن جوهر الصورة الميثيولوجية هي صورة القمر، باعتباره رمزاً للأله الأب.
إن صورة القمر عند العرب - في نظر علي البطل - ليست موغلة في القدم مثل صورة ثور الوحش التي ترجع في الأصل إلى المرحلة الطوطمية، باعتبار أن الثور كثير الظهور في أنساب العرب اسماً لفرد أو علماً على قبيلة مشيراً إلى بقايا طوطمية قديمة، تتخذ من الثور جداً أعلى ترتبـط به وتنتسب إليه، إلا أنه في المرحلة التالية - مرحلة الديانة الكوكبية - قد صار رمزا ممثلا للإله القمر، إذ وجدت في معابد القمر - جنوبي الجزيرة - صور، للثور قدمها عابدوه قرابين للإله أو نذورا كانت عليهم له، ولقد عرف القمر باسم "ثور"، ومن هنا ندرك أن علي البطل يرجع ميثيودينية صورة القمر إلى المرحلة الكوكبية في ديانة العرب، وهي مرحلة متأخرة بالمقارنة مع المرحلة الطوطمية، التي ارتبطت فيها صورة ثور الوحش بالأصول الدينية.
يعود مصطفى عبد الشافي الشوري إلى الحضارات القديمة ليؤكد ميثيودينية صورة القمر في الشعر الجاهلي، حيث نجد أن الهنود عبدوا القمر، واتخذوا لـه صنماً على صورة "عجل"، وبيد الصنم جوهر، ويرى بعض المؤرخين أن ديانات جميع الشماليين والجنوبيين تتصل بعبادة القمر. فهو متقدم عندهم على الشمس؛ لأن الشمس محرقة، أما القمر فهو دليل الركب، ورسول القوافل، فكان القمر هو الأب السماوي، أما الشمس فقد اتخذت منزلة الأم العظمى، وليس عبثاً أن نرى في اللغة العربية التعبير " القمران" للشمس والقمر، ويتخذ القمر أسماء آلهة مختلفة في جزيرة العرب، فهو "رخ" و"سين" و"شهر" و"غم" و"المقة" و"ود" و"اللات" و"السيد". فالكوكبان الشمس والقمر لهما بعد ديني سواء في الحضارة العربية أم في غيرها من الحضارات المجاورة الأخرى، وهذا ما جعل مصطفى عبد الشافي الشوري يؤكد ميثيودينية صورة القمر في الشعر الجاهلي، وهي صورة ميثيودينية متجذرة في أعماق الشعوب العربية، حتى أخذت طابع التقليد في المراحل الأخيرة.
كما أن صورة القمر لا تتجلى في تصور مصطفى عبد الشافي الشوري إلا من خلال صورة الثور الوحشي، وبخاصة عند العرب الجنوبيين، لأنهم اتخذوا (( من "الثور" رمزاً لإلههم "القمر" فعُدّ من الحيوانات المقدسة التي ترمز إلى الآلهة، وقد دعي القمر في بعض النصوص "ثوراً"...كانت عبادة "الثور" تجسيداً أرضياً لعبادة القمر السماوي، فالقمر بمنازله المتغيرة قد ارتبط منذ زمن مبكر بطقوس الزراعة والخصب واستنزال المطر، فرأوا الهلال كقرون الثور، والثور فيه قوة الإخصاب))75، هذا التجسيد الأرضي للصورة الميثيودينية للقمر بواسطة الثور الوحشي إنما نابع من الضرورة البيئية التي يحتاج إليها العربي، وبخاصة في طقوس الاستمطار، منبع الإخصاب، إخصاب الأرض، ومن هنا ندرك كيف أن مقاربة مصطفى عبد الشافي الشوري تنبهت إلى العلاقة الروحية بين صورة القمر والثور الوحشي، فالعلاقة هي علاقة خصوبة، علاقة استمطار، والاستمطار هو هَمُّ العربي في البيئة الصحراوية، وهذا الطرح لم يتفرد به مصطفى عبد الشافي الشوري وحده وإنما نبه إليه علي البطل من قبل .
في الأخير نلاحظ أن القراءة الأسطورية العربية سعت إلى التأسيس أطروحاتها حول ميثيودينية الشعر الجاهلي من خلال مقاربة المكون الأساسي للصورة، فكانت صورة المرأة والحيوان من الصور التي ركزت عليها، ولاحظت أن بقية الصور الأخرى تابعة لها في الجوهر والرؤيا، بحيث رأت فيها الصورة النمطية التي أفرزتها الأنماط البدئية والنماذج العليا في الفكر العربي.
تختلف القراءة الأسطورية للشعر الجاهلي عما ذهب إليه بعض المستشرقين وبخاصة مرجليوث في بداية هذا القرن، وتبعهم في ذلك طه حسين؛ إذ أسس مرجليوث لمقولة الشك في الشعر الجاهلي انطلاقا من أن هذا الشعر لا يصور الحياة الدينية في العصر الجاهلي، فيقرر أنه (( لو وجهنا انتباهنا إلى البيّنة الباطنة، وجدنا في هذه القصائد ملامح تثير الدهشة على الأقل. إن شعراء غالبية الأمم لا يشكون أبد في ديانتهم، والعرب المسجّلون على النقوش تذكر واحداً أو أكثر من الآلهة ومن الأمور المتعلقة بعبادتهم...و ربما تخيل المرء أن المواد المتعلقة بهذه الموضوعات كانت ضئيلة جداً، إذ الإشارات إلى الديانة في القصائد الموجودة لدينا نادرة. فأحد الشعراء يذكر أن ديانة تتفق مع ديانة قوم آخرين؛ لكنه لا يخبرنا أية ديانة كانت ديانته. وجو الشرك الذي نجده في النقوش غير موجود في هذه القصائد))،(76) فمسألة لادينية الشعر الجاهلي التي روج لها المستشرقون وعدوها من أكبر العوامل التي تقر بنحل هذا الشعر هي التي كانت من بين الدوافع الأساسية التي دفعت بالقراءة الأسطورية إلى تأسيس طرحها الذي يهدف إلى إثبات ميثيودينية الشعر الجاهلي.
وجدت القراءة الأسطورية آلياتها في جوهر النظريات الأنثروبولوجية، وبخاصة فيما طرحه يونغ في الأنماط البدئية والنماذج العليا، وفرايزر في علاقة السحر بالدين، ونورثروب فراي في نظرية الرمز، وأرنست كاسير في الأسطورة واللغة. فراحت تستلهم جوهر هذه الأطروحات لتجد فيها المدعم الرئيس للقول بميثيودينية الشعر الجاهلي، بل اشتطت في هذا الطرح حتى سقطت في الإيغال والتطرف، حيث قاربت كل ما في الشعر الجاهلي على أساس ميثيوديني، حتى أصبحت مقارباتها قريبة من الدراسات الأنثروبولوجية منها إلى المقاربات النقدية، ومن ثم طغت الآلية التي يفترض أن تكون عاملاً مساعداً على فهم النص على النص الشعري، وبذلك أصبح تأكيد الطرح هو المبتغى لا قراءة النص، وهذا ما حدا بوهب أحمد رومية إلى التهجم على أطروحات هذه المقاربات فنعتها بالتلفيق وسوء الفهم للمصادر الغربية التي تؤسس للقراءة الميثيودينية للإبداع في مصادرها الغربية، وأن الصور النمطية في الفكر الغربي لا تتحدد بالمضمون بل بالشكل، فهي صور كونية معبرة عن أغوار النفس البشرية السحيقة، والمتولدة عن الأنماط العليا التي يرثها كل الإنسان من جنسه البشري، فهي صور نمطية شكلية صرف على الرغم مما بين مضامينها من اختـلاف وفرق. وهذا ما يبين الفرق الكبير بين فهم الغرب للصور النمطية وفهم النقاد العرب الذين قاربوا الشعر الجاهلي مقاربة ميثيودينية، إذ فهم النقاد العرب التكرار في الموضوعات الشعرية أو في الصور الجزئية فهماً مغلوطاً حين ظنوا أنه صور نمطية بمدلولها الذي أرساه أصحاب المذهب الأسطوري في الغرب.
وهي ملاحظة فيها من الموضوعية المؤسسة، ولكنها لا تجعلنا نبخس الجهد الذي قدمته هذه القراءة للنقد العربي عامة والقراءات التي حاولت أن تقارب الشعر الجاهلي خاصة، فإن لم يكن لها من فضل إلا فضل الاجتهاد والمحاولة فتلك مزية تحمد لها، ينضاف إلى ذلك أنها قراءة حاولت أن تقف على جانب - الميثيوديني - كان من الجوانب الغامضة والمجهولة في عالم النص الجاهلي، بل نجدها في كثير من المواطن أنها أسست للطرح تأسيساً علمياً على الرغم مما اعترضها من صعوبة في جمع المادة واستقصاء النصوص، فالإشكالية لا تكمن في جوهر الآلية والرؤيا التي تعاملت بها القراءة الأسطورية مع الشعر الجاهلي وإنما ترجع إلى طبيعة النص الجاهلي وما أحاطت به من ملابسات الرواية الشفوية وضياع أجزاء كثيرة منه، وذاك ما أشار إليه علي البطل وهو يقارب المكون الميثيوديني للصورة في الشعر الجاهلي.
كما وقعت القراءة الأسطورية للشعر الجاهلي في التشابه في الطرح والنتائج عند جلّ القراءات، لذلك لا يحس القارئ وهو يتتبع هذه القراءات أن هناك إضافة نوعية تضيفها كل قراءة إلى القراءة التي سبقتها، بل يلاحظ شبه تكرار للأطروحات والرؤى والمنهج، وذلك راجع إلى طبيعة الآليات الأنثروبولوجية التي اعتمدت عليها القراءة وبخاصة نظرية يونغ في "الأنماط البدئية والنماذج العليا"، والنصوص التي طبقت عليها، والمادة الأنثروبولوجية العربية التي ركزت عليها؛ وإن كان هناك بعض التفاوت فإنه يرجع إلى استحضار النصوص وقراءة النقوش من جهة، وإلى التفوت في الاجتهاد وقراءة النصوص والأثار واستنباط النتائج منها من جهة أخرى.

هوامش الفصل الثالث:
1- عبد الفتاح محمد أحمد: المنهج الأسطوري في تفسير الشعر الجاهلي - ص:22.
2 - سير جيمس فريزر: الغصن الذهبي دراسة في السحر والدين - تر: أحمد أبو زيد - 1/114.215.
3 - نور ثروب فراي: تشريح النقد - تر: محي الدين صبحي - ص:202.
4 - المرجع السابق - ص:210.211.
5 - إرنست كاسيرر: الدولة والأسطورة - تر: أحمد حمدي محمود - مراجعة أحمد خاكي - ص:41.
6 - المرجع السابق- ص:23.
7 - نصرت عبد الرحمن: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث – ص:14.
8 - ارنست كاسيرر: الأسطورة والدولة - تر: أحمد حمدي محمود - مراجعة أحمد خاكي - ص:24.
9 - ينظر نصرت عبد الرحمن: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي – ص:123 – 140 – 150 – 168 – 169.
10 - ينظر المرجع السابق - ص: 146 – 149 – 150 – 151 – 152 – 153 – 154.
11 - ابن طباطبا محمد بن أحمد: عيار الشعر – تح:طه الحاجري ومحمد زغلول سلام– ص:11.
12 - إرنست كاسيرر: الدولة والأسطورة - تر: أحمد حمدي محمود - مراجعة أحمد خاكي - ص: 40.
13 - علي البطل: الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري "دراسة في أصولها وتطورها"- ص:50 . 51.
14 - إبراهيم عبد الرحمن محمد: الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعية - ص: 195.
15 - نصرت عبد الرحمن: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث - ص:106.
16 - إرنست كاسيرر: الدولة والأسطورة - تر: أحمد حمدي محمود - مراجعة أحمد خاكي -ص:56.
17 - نصرت عبد الرحمن: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث - ص:106.
18 - المرجع السابق: ص:107.
19 - ك.غ. يونغ: علم النفس التحليلي - تر: نهاد خياطة - ص:137.138.
20 - علي البطل: الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها- ص:56.57.
21 - ك.غ. يونغ: علم النفس التحليلي - تر: نهاد خياطة - ص:174.
22 - ينظر علي البطل: الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها -ص:56.
23 - ك.غ.يونغ: علم النفس التحليلي - تر: نهاد خياطة - ص:157.
24 - علي البطل: الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها - ص:58.
25 - ك.غ.يونغ: علم النفس التحليلي - تر: نهاد الخياطة - ص:174.
26 - الديوان: ص:232.233.
27 - المفضل الضبي: المفضليات - تح: أحمد محمد شاكر - عبد السلام هارون - مفضلية 05 - ص:231.
28 - علي البطل: الصور في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها - ص:62.
29 - الديوان: ص:92.
30 - الديوان: تح: فوزي عطوي - ص: 188.
31 - المصدر السابق: ص: 333.
32 - الديوان: ص: 35.
33 - نورثروب فراي: تشريح النقد - ص:144.145.
34 - علي البطل: الصور في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها - ص:85.
35 - الزوزني: شرح المعلقات السبع - ص:139.140.
36 - المصدر السابق - ص:134.135.
37 - الديوان: ص:63.64.
38 - علي البطل: الصورة في الشعر العري حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها - ص:87.
39 - نورثروب فراي: تشريح النقد - تر: محي الدين صبحي - ص:171.
40 - إبراهيم عبد الرحمن محمد: الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعية -ص:255.
41 - نورثروب فراي: تشريح النقد - تر: محي الدين صبحي - ص:172.172.
42 - الزوزني: شرح المعلقات السبع - ص:82.83.
43 - الديوان: تح: ناصر الدين الأسد - ص: 79 . 80.
44 - إبراهيم عبد الرحمن محمد: الشعر الجاهلي قضاياه وظواهره الفنية - ص:256.
45 - الأصمعي: الأصمعيات - تح: أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون - ص:196.197.
46 - ينظر علي البطل : الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها - ص:123.
47 - ينفرد الثور الوحشي باهتمام شديد عند أكثر شعراء الجاهلية...يقصون حكايته، فيصفون وحدته وانفراده عن قطيع الوحش في رملة ندية، أو في روضة معشبة، أو في بُرْقة جرداء مختالا بقوته، معتزاً بعنفوانه، هانئاً بوحدته. ثم يصفون لونه وقوائمه وأعضاءه وقرنيه، عينيه وجلده وأنفه، وغالباً ما يكون أبيض اللون كالثوب اليماني أو كالكوب الدري، كأنما كسي خرزاً قشيباً مجلوَّا، لكن طيب العيش لا يدوم، فأغباش الدجى تتكاثف، وأمواج الليل البهيم تكاد تذهب بناظريه، والرعد المزمجر يكاد يصمه ويحرقه، وقطرات الندى والمطر تبدأ بالانثيال على متنه كالدر المنثور. وتتحول الطبيعة إلى العنف، فيزداد هبوب الريح الباردة، والبرد الحاصب والمطر المنصب، ويندفع الثور إلى الاحتماء بأكناف شجرة وحيدة، وغالبا ما تكون شجرة الأرطى هي الملاذ الوحيد له، يحتفر تحتها كناسا بأظلافه الصُّلبة، ويبقى ساكنا صامتا خاشعا، يراقب البرق والرعد، وينتظر الشمس كراهب متهجد في صومعته، أو كحبر متعبد في كنيسته، لكن العاصفة تهيل ما بناه من التراب، وتكاد الأرض تميد أسفل منه، ويكاد السيل يغرقه، وتزداد برودة الليل ووحشته، وتأخذ قطرات الندى المتجمد تتساقط على ظهره كحبات اللؤلؤ، فيقضي ليله مؤرقا مسهَّدا، وتزداد حاله سوءا، وتبدأ الهموم تداهمه، والهواجس تخيفه، ولا يغمض له جفن، ولا تسكن له جارحة. ويأخذ الثور في الابتهال والتوسل، فينقطع السيل، وتنكشف الظلمة، ويأتي الفرج. وما إن يصدع الدجى شفق الفجر الأحمر، ويعكس على ظهره لونا كأنه قِنديل مسجور، وتتبدد أستار الظلمة حتى يظهر الصياد العبوس الأغبر يشلي كلابه الضامرة المدبرة، فينتقل الثور هربا ضنا بحياته، وما إن يشعر الثور باقتراب الخطر من كراعه حتى ينعطف على كلابه طعنا وشقا في نحورها وجوانبها، فتتساق صرعى، ويخرج الثور من المعركة ظافرا يهتز مرحا ونشاطا، مغتبطا بسلامته وانتصاره. ويلتفت الشعراء إلى أحوال الثور النفسية، فيصفون تردّده، وخوفه وهلعه، وجرأته، وتوته، وغضبه، وضيقه، وصبره، وجزعه، وقلقه وسهاده، ثم إقدامه وإرادته وعزمه، وسروره وإشراق وجهه، وفوزه وحبوره.)) ينظر مصطفى عبد الشافي الشوري : الشعر الجاهلي تفسير أسطوري- ص:112.113.
48 - يحظى الثور في الأدب السومري بالقداسة والتبجيل إلها للقوة والخصب اسمه "انليل" عبده السومريون وعبدوا البقرة معه ومن اتحادهما في زواج مقدس فاضت ضفاف دجلة والفرات بالخصب على أرض "سومر"... وهناك ترنيمتان سومريتان تمجدان الإله الثور مانح الخضرة والخصب، وحين سيطر البابليون في الألف الثالثة ق.م على معظم أنحاء العراق القديم، اتخذ "مردوخ" رموز "انليل" وأصبح يمنح الحياة على الأرض، كما أن بطل ملحمة "جلجامش" يدعى بالثور الوحشي القدير، وأنكيدو" يبدو ثوراً أكثر منه إنساناً، و"عشتار" تفزع إلى أبيها غضبا من جلجامش" ليخلق ثور السماء فيقتله "جلجامش"، فتمع "عشتار" آنسات المعبد ويرتفع عويلهن حول عظم فخذ الثور. وفي "آشور" تبدو الثيران المجنحة على أبواب القصور حارسة راعية لأنهم كانوا يعبدون الإله الثور ويلتمسون عنده النصر والحماية، وكان الثور عند الحثيين إله المطر والبرق والعواصف الرعدية، وعند "الساميين الشماليين" نجد بعل أي السيد والرب والإله الثور رمز الخصب والمطر. فقد كان سكان سورية ولبنان وفلسطين يعبدون الثور لقرون عدة يُقَدَّم قربانا في عبادتهم يحتفلون بتناول لحمه تبركا وتحقيقا للاتحاد بين الإله والإنسان، ويعتقد الكنعانيون في الإله "بعل" إلها للخصب والمواشي، يقاتل أعداءه ويموت ثم يعود إلى الحياة ثانية، يمتطي السحب ويرسل المطر والعواصف وعَدُوُّه "موت” إله الجفاف والعالم السفلي، وتصور الرقم "الأوغاريتية” الصراع بينهما كما أن الإله “إيل” يشبه ثورا في قطيع من البقر والعجول وَلَدَت له "عشيرة" أسرة تتكون من سبعين إلها أبرزها "حداد” الذي يدعونه "بعلا" فهو رمز الخصب وعودة الحياة وتكاثر الأحياء، كما عبد "الفينيقيون" كثيرا من الآلهة وأكثر آلهتهم تبجيلا الإله "بعل"، وقد نقلوا عبادته بفنها وشعرها وطقوسها إلى أنحاء كثيرة في اليونان وإيطاليا وأسبانيا وإفريقيا لأنهم كانوا رجال بحر مغامرين، أما العبريون فقد أثر البابليون في دينهم اليهودي خلال الأسر، وقد نُشُر شعر "آشوري" يماثل في الأفكار والشكل كثيرا من شعر التوراة، كما تكثر التوراة من ذكر "بعل" وتَذْكُره بصيغة الجمع "بعليم"، وهي تتفق إلى حد ما مع الرقم "الأوغريتية" فهو منبع كل منح الطبيعة وهو إله الخصب. وقد كان "يهوه" في العصور القديمة يرسم في صورة ثور، وهناك أدلة في التوراة تشير إلى عبادة "بعل" قد اندمجت بعبادة يهوه... وفي مصر القديمة حيث عُبِدَ الثور رمزا للخصب، وحيث تعزو الأساطير المصرية فيضان النيل لخصوبة "أوبيس" الإله الثور، وحيث كان ارتباط الملك بالإله الثور سمة من سمات الحضارة المصرية كما شاعت عبادة "بعل" في مصر منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد... أما عبادة الثور في شبه الجزيرة العربية فديانات جميع الساميين الغربيين والعرب الجنوبيين تتصل بعبادة القمر، وقد اتخذ العرب الجنوبيين من الثور رمزا لإلههم القمر، وقد دُعِيَ القمر ثورا في بعض النصوص. أما السبئيون فكان "المقة" إلههم وكانت القرابين التي تقدم إليه ثيرانا أو على صورتها، وفي شمال شبه الجزيرة كانت تدمر تعد "بعل" إلها وطنيا وما زال معبده قائما، وكان "ود" من آلهة ثمود ولحيان وكلن يُرْمَز إليه بالثور، ومن آلهة الأنباط "ذو شري" وهو يقابل في بعض الكتابات اليونانية واللاتينية "باخوس.ديونيزيوس" وهو يُمَثَّل بالثور عند الإغريق.)) عبد الفتاح محمد أحمد: المنهج الأسطوري في تفسير الشعر الجاهلي - ص:150.151.
49 - الجاحظ: الحيوان - 2/74.
50 - عبد الجبار المطلبي: مواقف في الأدب والنقد - ص:107
51 - ينظر نصرت عبد الرحمن: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث - ص:134.135.136.137.138.139.
52 - كانت ديانة العرب القدماء ديانة تعبد فيها الكواكب. فقد عبدوا ثالوثا مكونا من: الشمس أما، والقمر، أبا، وابنهما الزهرة أو "عثتر" ولقد ربطوا بين الشمس والمرأة، والمهاة، والغزالة ، كما ربطوا بين الثور الوحشي والقمر، جاعلين منه رمزا على الإله "ود" أو "سين" أو "شهر" الذي كان من صفاته أنه "كهلن"أي القدير، وأنه "ابم"أي أب . وإذا كان الثور كثير الظهور في أنساب العرب اسما لفرد أو علما على قبيلته مشيرا إلى بقايا طوطمية قديمة، تتخذ من الثور جدا أعلى ترتبط به وتنتسب إليه، إلا أنه في المرحلة التالية - مرحلة الديانة الكوكبية - قد صار رمزا ممثلا لفله القمر، إذ وجدت في المعابد القمر - جنوبي الجزيرة - صور، للثور قدمها عابدوه قرابين للإله أو نذوراً كانت عليهم له، ولقد عرف القمر باسم "ثور"، لم يكن عرب الجنوب وحدهم قد انفردوا بعبادته، فقد عبد عند شعوب سامية أخرى، إلا أن التاريخ لم يحفظ لنا من الأساطير العربية ما حفظه من أساطير الشعوب الأخرى هذه الأساطير التي نتوقع أن نجد فيها قصة هذا الإله، مولده، وحياته، والصراعات التي خاضها ضد القوى المناوئة، وانتصاره أو موته ثم عودته للحياة، على عادة الفكر الأسطوري المتعلق بشخصيات المعبودات القديمة، وبخاصة المعبودات الأساسية منها.)) ينظر جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - 6/50.
53 - علي البطل: الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها - ص:125.
54 - ينظر سير جيمس فريزر: الغصن الذهبي دراسة في السحر والدين - تر:أحمد أبو زيد - 1/220.221.
55 - ينظر علي البطل: الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها - ص:125.126.
56 - ينظر المرجع السابق: ص: 127.
57 - الديوان: تح: كرم البستاني - ص:51.
58 - علي البطل: الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها - ص:130.131.
59 - المرجع السابق- ص:131.
60 - سير جيمس فريزر: الغصن الذهبي دراسة في السحر والدين - ص:227.228.
61 - مصطفى عبد الشافي الشوري: الشعر الجاهلي تفسير أسطوري - ص:118.
62 - ك.غ. يونغ: علم النفس التحليلي - تر: نهاد خياطة - ص: 168.169.
63 - المرجع السابق - ص:175.
64 - نصرت عبد الرحمن: الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث - ص:168.
65 - علي البطل: الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها - ص:151.152.
66 - مصطفى عبد الشافي الشوري: الشعر الجاهلي تفسير أسطوري - ص:101.102.
67 - يقول عبيد بن الأبرص:
عَنْتَريسٍ كَأَنَّها ذو وُشومٍ
أحْرَجَتْهُ بالجوِّ إِحْدى اللَّيالي
و هذه الناقة العنتريس لها مثيل في السماء، ولا تزال تسمى Centaurus، أي قِنْطورس، وهي موجودة - كما يول الفلكيون - في "وادي الظلمان" حيث تبدو فيه النجوم على هيئة النعام، وفي كل طرف من طرفي الوادي ظليم، وبين الظليمين مجموعة من الكواكب الصغار، سموها "أدخيّ النعام"، ومجموعة أخرى من الكواكب سموها "الرئال". ويقول صاحب القاموس المحيط:"و الناقة كواكب مصطفة بهيئة ناقة". ومن أساطير العرب قصة القمر الذي أراد أن يزوج الدبران من الثريا فرفضت، فجمع الدبران قلاصه - وهي صغار النوق - وساقها صداقا لها، وقد أشار الغنوي إلى وفاء الدبران عندما قال:
أمّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ أَوفى بِذِمَّتِهِ
كَما وفى بِقلاص النَّجْمِ حاديها
و النجم في هذا البيت هو الثريا، وهي كوكبان على كاهل الثور نيران، خلالهما ثلاثة كواكب، صارت مجتمعة متقاربة كعنقود العنب ... جعلها العرب بمنزلة كوكب واحد وسموها النجم. والبيروني يقول:"إنها نصغير ثروى، وأصله من الثروة، وهو الاجتماع وكثرة العدد. وزعم بعضهم أنها سميت بذلك لأن المطر الذي يمطر بنوئها تكون منه الثروة وهو الغنى، وتسمى أيضا النجم"...هكذا كانت نظرة الجاهليين للسماء، ومن ثم جاءت رحلة الشعراء مرتبطة بهذا الفكر القديم، فالناقة التي في السماء يظهر معها ظليم، والناقة في الشعر الجاهلي تشبه الظليم الذي يرعى فتصيبه السماء بمطرها، فيعود إلى بيضة ليحتضنه، والشعراء عندما يشبهون الناقة بالثور الوحشي فلابد من ذكر ليلة ممطرة أو ما يشبه المطر بوجه عام، وهم يشبهون الناقة أيضا بالحمار الوحشي ويذكون ورود الماء وكثرة العشب والمراعي الخصبة. حى إذا جفت المياه، رحل الحمار وأتنه للبحث عن الماء وسعيا وراءه)) - ينظر مصطفى عبد الشافي الشوري: الشعر الجاهلي تفسير أسطوري - ص:102.103.
68 - المائدة: الآية:103.
69 - مصطفى عبد الشافي الشوري: الشعر الجاهلي تفسير أسطوري - ص:103.
70 - سعيد محمد توفيق - ميتافيزيقيا الفن عند "شوبنهاور" - ص:65.
71 - نصرت عبد الرحمن:الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث - ص:108.
72 - سورة فصلت: الآية:36.
73 - ديتلف نلسن وآخرون: التاريخ العربي القديم - تر: فؤاد حسنين - 1/135.
74 - علي البطل: الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها - ص:63.
75 - مصطفى عبد الشافي الشوري: الشعر الجاهلي تفسير أسطوري - ص:120.121.
76 - ديفد صمويل مرجليوث: نشأة الشعر العربي - من كتاب دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي - تر: عبد الرحمن بدوي - ص:110.

الخـاتـمة
طرحت القراءة التاريخية الحديثة إشكالية الشعر الجاهلي طرحاً فيلولوجياً بكل ما تحمله من مزالق على بساط البحث والمناقشة، فأثارت بطرحها الشك في الشعر الجاهلي معركة نقدية أسهمت إلى حد كبير في إثراء الثقافة العربية الحديثة، ورفعت اللبس عن كثير من المسائل التي ظلت أمدا طويلا من المسائل المستعصية في تاريخ الثقافة العربية، فأجهدت القراءة التاريخية نفسها في تحقيق رواياته ونصوصه، وتمحيص مسائله حتى ترقى به إلى مصاف التراث العالمي، ذي الجذور العميقة التي لا تتزعزع، بالآليات العلمية المؤسسة على رؤية واضحة المعالم، ولا تنتصر إلى مسألة من مسائله حتى تُفَصِّل فيها وتقلبها من جميع أوجهها، منتهية في كثير من نتائجها، إلا أن التحقيق الجاد للشعر الجاهلي يؤكد أن الشعر حقيقة لا يمكن إنكارها، وإن دارت حوله الشكوك التي أسسها أصحابها في كثير من المواطن على جزئيات من أجل الشك في كله، مؤكدة أن الشك في الفرع لا يرقى إلى الشك في الكل.
سعت القراءة التاريخية إلى توثيق الظاهرة في الشعر الجاهلي معتمدة على أسس راسخـة ومتينة، فحرصت على توثيق الروايات والأخبار بصورتها الأصلية، كما صدرت عن المبدع، دون تحريف أو تدليس، لذلك اهتمت أيما اهتمام بمصادر الروايات والأخبار، وعملت من أجل تحقيقها ، والتشكيك في كل ما ترى فيها من أوجه الريبة والظن. فتنفي عن نفسها الاحتمال وتضع نصب عينها إما الصدق في الخبر وإما الشك فيه ثمّ نفيه.
المقدمة الطللية ، الزمان والمكان، القلق - شكلت جملة الظواهر التي حاولت القراءة النفسية مقاربتها في دراستها للشعر الجاهلي، فحاولت أنْ تستخلص من خلال تطبيق أسس المنهج النفسي والتي مؤداها أنَّ الشعر الجاهلي ، ما هو إلاَّ إفراز طبيعي لتعارض "مبدأ اللذة" مع "مبدأ الواقع" في نفسية الشاعر الجاهلي، وبخاصة في مقاربتها للمقدمة الطللية.
الشعر الجاهلي - في رأي التحليل النفسي - ليس وحيد الجانب. بل يتفاعل فيه اتجاهان متضادان، وأنَّ الحياة النفسية والعقلية تتركب من تضاد وتفاعل وتكيف متبادل بين البواعث الغريزية ومطالب الواقع على نحو ما تعبر عنها التقاليد الاجتماعية والأنظمة الأخلاقية؛ لهذا كلِّهُ اصطبغ الشعر الجاهلي بصبغة الدراما والصراع ، وأصبح الجانب الحزين والتراجيدي يؤلف جزءاً أساسيا من حساسية الشاعر الجاهلي ، لذلك فالشاعر الجاهلي ضرب من الخلاف ، ومعنى من العزاء ، وحاجة إلى الإعلاء ، وقدر من الرفض.
لم تتعامل القراءة النفسية للشعر الجاهلي تعاملاً "إكلينيكياً" يحمل روح المعيارية في الأحكام النقدية، اللهم إلا في طرح يوسف اليوسف للمقدمة الطللية، حيث جعلت هذه المقاربة من الشاعر الجاهلي فرداً عصابياً، وما يحيط به من ملابسات تاريخية وسياسية وحضارية عملاً فعالاً في تشكل تلك الرؤية، ومن ثم نظرت إلى أنَّ النص الإبداعي الجاهلي لا يعدو أن يكون نتيجة تلقائية لشخصيات الشعراء الجاهليين. وفات القراءة النفسية وبخاصة عند يوسف اليوسف في مقاربته للمعلقات أنَّ النص الإبداعي يتحرك حركة ذاتية خاصة به لا حركة تابعة لذاتية صاحبه ؛ وبذلك ندرك أنَّ اهتمام القراءة النفسية بشخصية الشاعر وسيرته في معظم الأحيان ، ما هو إلاَّ هروباً من النَّص ومشاقه، أو تسوية وهمية بين النَّص وصاحبه. إذ من الإسراف أن نظن أنَّ العمل الفني وثيقة تحتاج إلى تجارب "إكلينيكية" لتبرير أطروحات مسبقة.
وجدت القراءة الأسطورية آلياتها في جوهر النظريات الأنثروبولوجية، وبخاصة فيما طرحه يونغ في الأنماط البدئية والنماذج العليا، وفرايزر في علاقة السحر بالدين، ونورثروب فراي في نظرية الرمز، وأرنست كاسيرر في الأسطورة واللغة. فراحت تستلهم جوهر هذه الأطروحات لتجد فيها المدعم الرئيس للقول بميثيودينية الشعر الجاهلي، بل اشتطت في هذا الطرح حتى سقطت في الإيغال والتطرف، حيث قاربت كل ما في الشعر الجاهلي على أساس ميثيوديني، حتى أصبحت مقارباتها قريبة من الدراسات الأنثروبولوجية منها إلى المقاربات النقدية، ومن ثم طغت الآلية التي يفترض أن تكون عاملاً مساعداً على فهم النص على النص الشعري، وبذلك أصبح تأكيد الطرح هو المبتغى لا قراءة النص.
كما وقعت القراءة الأسطورية للشعر الجاهلي في التشابه في الطرح والنتائج عند جلّ القراءات، لذلك لا يحس القارئ وهو يتتبع هذه القراءات أن هناك إضافة نوعية تضيفها كل قراءة إلى القراءة التي سبقتها، بل يلاحظ شبه تكرار للأطروحات والرؤى والمنهج، وذلك راجع إلى طبيعة الآليات الأنثروبولوجية التي اعتمدت عليها القراءة وبخاصة نظرية يونغ في "الأنماط البدئية والنماذج العليا"، والنصوص التي طبقت عليها، والمادة الأنثروبولوجية العربية التي ركزت عليها؛ وإن كان هناك بعض التفاوت فإنه يرجع إلى استحضار النصوص وقراءة النقوش من جهة، وإلى التفاوت في الاجتهاد وقراءة النصوص والآثار واستنباط النتائج منها من جهة أخر.
فالنص الشعري الجاهلي ثابت والقراءات متعددة، ولا يمكن لأي قراءة مهما كانت قدرتها ومعطياتها أن تدعي الإحاطة المطلقة بالنص مهما كانت طبيعته وجنسه الأدبي ، وهذا ما تنتهي إليه النظريات الحديثة في نظرية القراءة. فالمناهج النقدية على اختلاف توجهاتها ومدارسها ومعجمها النقدي لها حظ وافر في الاقتراب من الفضاء المتميز للنص الشعري الجاهلي. وإذا كانت لا تستطيع أي قراءة ادعاء الشمولية فإنّ لها نصيباً قليلاً أو كثيراً في إنارة جانب من جوانب النص الشعري الذي عرف به شعراء الجاهلية.
بدت القراءات السياقية [التاريخية والنفسية والاسطورية] لنا أنّها حاولت أن تتمثل الكثير من الرؤى والمنطلقات المعرفية، حتى تجعل منها أرضية معرفية ومرتكزات نظرية صلبة تؤهلها لأن تقارب النص الجاهلي مقاربة واعية، ومن ثم استطاعت في كثير من الأطروحات أن تقف على بعض المسائل الجوهرية في الشعر الجاهلي، وأن تطرح تساؤلات جد عميقة، مما أهلها لأن تبتعد بالممارسة النقدية عن النظرات والخواطر، وتظهر بمظهر الطرح المبني على الرؤى الفكرية والنقدية المتماسكة.
من الملاحظ أنّ المناهج السياقية في النقد العربي الحديث تعاملت مع الشعر الجاهلي تعاملا خارجياً ، ونظرت إليه على أنّه وثيقة تبريرية لمقولات خارجية، سواءً أكانت تاريخية أم نفسية أم ميثيودينية. ولهذا نلفيها قد أهملت الجوانب الفنية في النص الشعري الجاهلي، وانصرفت إلى العوامل الخارجية.
إن الطرح الذي تبنته القراءات السياقية بشتى اتجاهاتها، والمتسم بالتعامل مع الشعر الجاهلي تعاملا خارجيا، ينطلق من رئية أن النص الجاهلي وثيقة تبريرية لأطروحات سياقية، هو الذي جعل النقد العربي المعاصر يتجه نحو الدعوة إلى وجوب مقاربة النص الشعري الجاهلي بذاته ولذاته، انطلاقاً من المتصورات الكبرى التي تتبناها القراءة النسقية، وهذا ما شكل منعطفاً نوعياً في مقاربة الشعر الجاهلي أسس لعدة قراءات نسقية سواء أكانت بنيوية أم سيميائية أم تفكيكية، وهذ ما نطمح فحصه في بحث مستقل، حتى تكتمل الرؤيا لدى القارئ، والآليات التي تبنتها القراءة العربية سواء أكانت سياقية أم نسقية في مقاربة الشعر الجاهلي.

مكتبة البحث
المصادر
* - القرآن الكريم.
- أ -
*- الأصمعي: الأصمعيات - تح: أحمد محمد شاكر وعبد السلام محمد هارون - دار المعرفة - مصر - ط3.
*- الأعشى: الديوان - تح: فوزي عطوي - الشركة اللبنانية للكتاب - لبنان.
*- امرؤ القيس: الديوان - تح: حنا الفاخوري - دار الجيل - لبنان.
- ب -
*- البخاري: صحيح البخاري - دار الهدى - الجزائر - 1992.
*- بشر بن أبي حازم: الديوان - تح: عزت حسن - سوريا - ط2/1974.
- ج -
*- الجاحظ أبو عمر بن عثمان: الحيوان - تح: عبد السلام هارون - دار الجيل - لبنان - 1996.
*- جميل بن معمر: الديوان - شرح ومراجعة وتقديم عبد المجيد الزراقط - دار مكتبة الهلال - لبنان - ط1/1989.
- ز -
*- الزوزني: شرح المعلقات السبع - دار بيروت للطباعة والنشر - لبنان- 1980.
- س -
*- ابن سلام الجمحي: طبقات فحول الشعراء - تح: محمود محمد شاكر - مطبعة المدني - المؤسسة السعودية بمصر - مصر .
- ش -
*- الشيخ أحمد الشنقيطي: شرح المعلقات العشر وأخبار شعرائها - دار الأندلس - لبنان - ط5/1983.
- ط -
*- ابن طباطبا محمد بن أحمد: عيار الشعر - تح: الحاجري ومحمد زغلول سلام - المكتبة التجارية - مصر.
*- الطبري: التاريخ - دار المعارف - مصر .
- ع -
*- ابن عبد ربه: العقد الفريد - تح: أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الأنباري - دار الكتاب - لبنان.
- ف -
*- الفيروز آبادي مجد الدين محمد بن يعقوب: القاموس المحيط - دار الجيل- لبنان.
- ق -
*- ابن قتيبة أبي محمد عبد الله بن مسلم: الشعر والشعراء - تح: محمد يوسف نجم وإحسان عباس - دار الثقافة - لبنان.
*- قيس بن الخطيم: الديوان - تح: ناصر الدين الأسد - مكتبة دار العروبة - القاهرة - لبنان - 1962.
- ك -
*- كثير عزة: الديوان - جمع وشرح إحسان عباس - دار الثقافة - لبنان - 1971.
- م -
*- المفضل الضبي: المفضليات - تح: أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون - لبنان - ط6 .
*- ابن منظور: لسان العرب - تقديم الشيخ عبد الله العلايني وأعد بناءه على الحرف الأول من الكلمة يوسف خياط - دار الجيل ودار لسان العرب - لبنان.
- ن -
*- النابغة الذبياني: الديوان - تح: كرم البستاني - دار بيروت للطباعة والنشر - لبنان - 1980.
المراجع
- أ -
*- إبراهيم عبد الرحمن محمد: الشعر الجاهلي قضاياه الفنية والموضوعية - دار النهضة العربية - لبنان - 1980
*- // // // : قضايا الشعر في النقد العربي- دار العودة - لبنان - ط2/1981.
*- أحمد جمال العمري: شروح الشعر الجاهلي - دار المعارف - مصر - ط1/1981.
*- أحمد خليل: ظاهرة القلق في الشعر الجاهلي - دار طلاس - سوريا - ط1/1989.
*- أحمد كمال زكي: النقد الأدبي الحديث أصوله واتجاهاته - دار النهضة العربية - لبنان - ط2/1981.
*- أدموند هوسرل: تأملات ديكارتية أو مدخل إلى الفينومينولوجيا - تر: تيسير شيخ الأرض - دار بيروت للطباعة والنشر والتوزيع - 1958.
*- إرنست كاسيرار: الدولة والأسطورة - تر: أحمد حمدي محمود - الهيئة المصرية العامة للكتاب - مصر - 1975.
- ب -
*- برنار دي فوتو: عالم القصة - تر: محمد مصطفى هدارة .
- ت -
*- تشارلز فرنكل: أزمة الإنسان الحديث - تر: نقولا زيادة - مؤسسة فرنكلن المساهمة للطباعة والنشر - بيروت - نيورك - 1959.
- ج -
*- جان برنيس: المخيلة - تر: خليل الجر.
*- جان لابلاش وج. ب. بونتاليس: معجم مصطلحات التحليل النفسي - تر: مصطفى حجازي - المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع - لبنان - ط1/1985.
* - جان لوي يودري: فرويد والإبداع الأدبي – تر: موريس أبو ناضر – مجلة الفكر العربي المعاصر – ع:33/1982.
*- جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام - دار العلم للملايين - لبنان - ومكتبة النهضة - العراق - ط2/1978.
- ح -
*- حسين عطوان: مقدمة القصيدة العربية في الشعر الجاهلي - دار المعارف - مصر - 1970.
- د –
* - ديفيد صمويل مرجليوث: نشأة الشعر العربي – ضمن كتاب: دراسات المستشرقين حول صحة الشعر الجاهلي – تر: عبد الرحمن بدوي – دار العلم للملايين – لبنان – ط1/1979.
- ر -
*- رجاء عيد: فلسفة الالتزام في النقد الأدبي -منشأة المعارف بالأسكندرية - مصر - 1986.
*- ر.م . ألبرس: الاتجاهات الأدبية الحديثة - تر: جورج الطرابيشي - منشورات عويدات - المغرب -ط2/1980.
*- رولان دالبيير: طريقة التحليل النفسي والعقيدة الفرويدية - تر: حافظ الجمالي - المعهد العربي للدراسات والنشر - ط2/1984.
- ز -
*- زكريا إبراهيم : مشكلة الفن - دار الطباعة الحديثة - مصر الفجالة - مصر.
- س -
*- سامي الدروبي: علم النفس والأدب - دار المعارف - مصر - ط2.
*- ستانلي هايمن: النقد الأدبي الحديث ومدارسه - تر: إحسان عباس ومحمد يوسف نجم - دار الثقافة - لبنان - ط3/1978.
*- سعد ظلام: من الظواهر الفنية في الشعر الجاهلي - دار المنار - ط2/1992.
*- سير جيمس فريزر: الغصن الذهبي دراسة في السحر والدين - تر: أحمد أبو زيد - الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر - 1971.
*- سيد البحراوي: قراءة في الشعر الجاهلي – ضمن كتاب: طه حسين العقلانية، الديموقراطية، الحداثة – مؤسسة عيبال للدراسات والنشر – سوريا.
*- سيد حنفي حسنين: الشعر الجاهلي دراسة مراحله واتجاهاته الفنية دراسة نصية - الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر - مصر - 1971.
- ص -
* - صلاح فضل: منهج الواقعية في الإبداع الأدبي - دار المعارف - 1980.
*- صلاح عبد الحافظ: الزمان والمكان وأثرهما في حياة الشاعر الجاهلي وشعره دراسة نقدية نصية - دار المعارف - مصر - 1982.
- ط -
*- طاهر أحمد مكي: دراسة في مصادر الأدب - دار العلوم - مصر- ط1/1981.
*- طه حسين :ذكرى أبي العلاء المعري - مكتبة الهلال - الفجالة - مصر - ط1/1922.
*- // // : الشعر الجاهلي - دار المعارف للطباعة والنشر - سوسة - تونس - 1997.
*- // // : في الأدب الجاهلي - دار المعارف - مصر - ط13.
- ع -
*- عبد الجبار المطلبي: مواقف في الأدب والنقد - منشورات وزارة الثقافة والإعلام - بغداد - 1980.
* - عبد الغفار مكاوي: بين القلب والعقل والفلسفة – مجلة الفكر المعاصر – ع79/1971.
*- عبد الفتاح محمد أحمد: المنهج الأسطوري في تفسير الشعر الجاهلي - دار المناهل للطباعة والنشر والتوزيع - ط1/1987 .
*- عبد القادر فيدوح: دلائلية النص الأدبي دراسة سيميائية للشعر الجزائري - ط1/1993.
*- عز الدين إسماعيل : روح العصر - دار الرائد العربي - منشورات اتحاد الكتاب العرب - دمشق - سوريا - 1978.
*- // // : المصادر الأدبية واللغوية في التراث العربي - دار المعارف - ط2/1980.
*- علي أحمد سعيد (أدونيس): الشعرية العربية - دار الآداب - لبنان -ط1/1985.
*- علي البطل: الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها - دار الأندلس - لبنان - ط2/1981.
*- // // : مقدمات في الفلسفة - دار النهضة العربية للطباعة والنشر - لبنان - 1985.
- غ -
*- غاستون باشلير: جدلية الزمن - تر: خليل أحمد خليل - ديوان المطبوعات الجامعية - الجزائر - 1983.
- ف -
*- فالتر براونه: الوجودية في الشعر الجاهلي - مجلة المعرفة - دمشق - ع4/1963.
*- فاليري ليبين: مذهب التحليل النفسي والفلسفة الفرويدية الجديدة - دار الفارابي - لبنان - ط1/1981.
*- فرويد سيقموند: مستقبل وهم - تر: جورج الطرابيشي - دار الطليعة - لبنان - ط3/1981.
*- // // : مدخل إلى التحليل النفسي - تر: جورج الطرابيشي - دار الطليعة - ط1/1980.
*- // // :نظرية الأحلام .
- ك -
*- كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي - تر: عبد الحليم النجار- دار المعارف -مصر- ط.
*- كارل. غ. يونغ: علم النفس التحليلي - تر: نهاد خياطة - دار الحوار - سوريا - ط2/1997.
*- كارلو نالينو: تاريخ الآداب العربية - دار المعارف - مصر ط2/1970.
*- كالقن هال: أصول علم النفس الفرويدي - تر: محمد فتحي الشنيطي - دار النهضة العربية - لبنان - ط2/1970.
*- كولون ولسون: سقوط الحضارة - تر: أنيس زكي حسن - منشورات دار الآداب - لبنان - ط2/1979.
- م -
*- مجموعة من الباحثين: جمالية المكان.
*- محمد أحمد الغمراوي: النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي-دار السلفية- مصر - 1929.
*- محمد بلوحي: الشعر العذري في ضوء النقد العربي الحديث دراسة في نقد النقد - اتحاد الكتاب العرب- سوريا - ط1/2000.
*- محمد النويهي: ثقافة الناقد الأدبي - مكتبة الخانجي - لبنان - ط3/1969.
*- محمود محمد شاكر: المتنبي رسالة في الطريق إلى ثقافتنا - مطبعة المدني ودار المدني - جدة - السعودية.
*- مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب - دار الكتاب العربي - لبنان - ط2/1974.
*- مصطفى عبد الشافي الشوري: الشعر الجاهلي تفسير أسطوري - الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان - مصر - ط1/1996.
*- مصطفى ناصف: دراسة الأدب العربي - دار الأندلس - لبنان - ط3/1983.
*- منير وهيبة الخازن: معجم مصطلحات علم النفس - دار النشر للجامعيين.
- ن -
*- ناصر الدين الأسد: مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية - دار المعارف - مصر - ط6/1982.
*- نجيب محمد البهبيتي: الشعر العربي في محيطه التاريخي القديم - دار الثقافة للنشر والتوزيع - المغرب - ط1/1987.
*- نصرت عبد الرحمن: في النقد الحديث دراسة في مذاهب نقدية حديثة وأصولها الفكرية - مكتبة الأقصى - الأردن - ط1/1979.
*- // // : الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث - مكتبة الأقصى - الأردن - 1976.
*- نور ثروب فراي: تشريح النقد - تر: محي الدين صبحي - الدار العربية للكتاب - 1991.
- هـ -
*- هيجل: مدخل إلى علم الجمال - تر: جورج طرابيشي - دار الطليعة - لبنان - ط2/1980.
- ي -
*- يوسف خليف: دراسات في الشعر الجاهلي - مكتبة غريب - مصر.
*- يوسف اليوسف: مقالات في الشعر الجاهلي - منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي - دمشق – 1975

الفهرست العام
الإهداء 5
المقدمة: 7
الفصل الأول القراءة التاريخية 12
1 - القراءة التاريخية (مدخل نظري): 13
2 - جينالوجيا (جذور) الشعر الجاهلي: 19
3 - مصادر الشعر الجاهلي: 34
4 - التحليل الفيلولوجي للشعر الجاهلي: 43
هوامش الفصل الأول: 67
الفصل الثاني القراءة النفسية 70
1 - القراءة النفسية ( مدخل نظري): 71
2 - المقدمة الطللية: 78
3 - المكان والزمان: 98
4 - القـلـق : 109
هوامش الفصل الثاني: 118
الفصل الثالث القراءة الأسطورية 122
1 - القراءة الأسطورية (مدخل نظري): 123
2 - ميثيودينية الشعر الجاهلي: 129
3 - المكون الميثيوديني للصورة في الشعر الجاهلي: 139
أ - صورة المرأة: 140
ب - صورة الحيوان: 155
1 - ثور الوحش: 155
2 - النـاقـة: 164
ج - مظاهر الكون: 169
1 - الشمس: 169
2 - القمـر: 170
هوامش الفصل الثالث: 174
الخـاتـمة 181
مكتبة البحث 185
المصادر 185
المراجع 187
الفهرست العام 192
