السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يسرني موافاتكم بهذا العمل أدناه :


د. منصف المرزوقي




عن أية ديمقراطية تتحدّثون ؟



عن أية ديمقراطية تتحدثون
الدكتور منصف المرزوقي

الطبعة الأولى ‏2004‏‏
جميع الحقوق محفوظة

الناشر
المؤسسة العربية الأوربية للنشر (باريس)
اللجنة العربية لحقوق الإنسان
الأهالي للنشر والتوزيع
سورية- دمشق ص.ب 9503
هاتف 00963113320299
فاكس 00963113335427
بريد إلكتروني
odat-h@scs-net.org

منشورات أوراب Editions Eurabe


Commission Arabe des Droits Humains
5, rue Gambetta 92240 Malakoff
Tél 0033140921588 Fax 0033146541913
E. mail: achr@noos.fr

الترقيم الدولي
ISBN : 2-914595-34-4
EAN : 9782914595346

Buds : Studies of the Arab Commission for Human Rights






الإهداء
إلى ذكرى كلّ آباءنا وأجدادنا العظام الذين عبّدوا لنا طريق الحرية ..... امتنانا ووفاء وعهدا على مواصلة نضالهم ....وعلى سبيل الذكر لا الحصر:
-صعصة بن ناجي بن عقل فادي الموؤودات في الجاهلية والأب الروحي لحركة حقوق الإنسان العربية
- عبد الله النديم (1845-1896) أوّل من نادى بأهمية الجمعيات المدنية في تحرّر المجتمع.
- فرح أنطون أوّل من ترجم إلى العربية إعلان حقوق الإنسان والمواطن وأوّل من طالب بتعليم حقوق الإنسان في المدارس.
- عبد الرحمان الكواكبي ألدّ أعداء الاستبداد في الفكر العربي المعاصر.
- شارل مالك، العربي الذي شارك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
- الطاهر الحدّاد الذي لم يحضر جنازته إلا ثلاثة أشخاص.
- نبيل بركاتي وفيصل بركات وكل من قتلوا تحت التعذيب من أجل الحرية.

إلى المطمورين أحياء والمساجين والمنفيين وعلى سبيل الذكر لا الحصر
- نبيل الواعر الذي اغتصبه الزبانية ليضربوا فينا روح الثورة ....عبثا

إلى كل أطفالنا وعلى سبيل الذكر لا الحصر، سلسبيل، أسيمة، نادية، محمد عزيز، نور، آسيا وعمر.
التزاما وإصرارا على حمل المشعل وتسليمهم إياه يواصلون بدورهم الطريق ....إلى يوم نكف عن أن نكون'' أمة ضحكت من جهلها الأمم'' لنصبح أخيرا ''خير أمة أخرجت للناس''.


تقديم
عبد الوهاب الأفندي

يشير الأخ الكاتب د. منصف المرزوقي في تمهيده لهذا التناول المتعمق لإشكاليات الديمقراطية إلى أننا أصبحنا هذه الأيام نعيش ما يشبه الهوس الديمقراطي، في القول طبعاً وليس الفعل كما هو ديدن بين يعرب. فالكلمة "يعلو الصراخ بها والترديد إلى درجة الإزعاج"، حتى لا تكاد "تفتح اليوم إذاعة، أو فضائية، أو جريدة، إلا وأنت قي مواجهة الكلمة البعبع ، وقد أشهرت في وجهك أحرفها التسعة ومعانيها الملتوية ومقاصدها الخفية واستعمالاتها المتباينة وكل ما يحوم حولها من قيل ومن قال."
وهذا يطرح أول سؤال عن اختلاف المساهمة الراهنة عن كل هذا الصراخ البابلي الذي يصم الآذان، وعما إذا كانت ستضيف جديداً أم تندرج في حومة الضجيج الذي لا يسمن ولا يغني من جوع؟ وأول إجابة هي أن الاختلاف في مساهمة المرزوقي بدأ واضحاً حتى قبل أن يجلس إلى طاولة الكتابة. فقد عرفنا الدكتور الطبيب المناضل وسمعنا به علماً من أعلام المنافحة عن كرامة شعبه وعن كرامة كل العرب قبل أن نسمع بأطروحاته النظرية حول الحرية والديمقراطية فكان سيفه (الرمزي طبعاً) أصدق أنباءً من كتب الآخرين ومقالاتهم وشعاراتهم وهتافاتهم. لقد كانت وقفته الشجاعة والمبدئية في وجه واحدة من أشرس الدكتاتوريات العربية (بل والدولية) المعاصرة تعادل أسفاراً تحملها دواب كثيرة. لم يكن من تابعوا تلك الوقفة، والثمن الباهظ الذي دفع بسببها، يحتاجون لأن يقرأوا كتابات روسو أو مونتسكيو حول الديمقراطية لكي يعرفوا معنى الحرية والعزة والكرامة، تماماً كما لم يكن ملايين الأميين والمحرومين في جنوب إفريقيا في حاجة لقراءة كتاب حول الحرية والكرامة وهم يرون أمام أعينهم مجاهدات رجال عظام ونساء عظيمات من أمثال نيلسون مانديلا وويني مانديلا ووالتر سيسولو وديزموند توتو وغيرهم ممن وقفوا وقفة الرجال (والنساء) الأحرار، فكان سجانهم هو السجين.

الفصل الأول، إذن، والمقدمة التي لا بد منها، هي تلك التي كتبت على أرض تونس العزيزة قبل كتابة السطر الأول في هذا الكتاب "في المنفى" كما جاء في التنبيه الذي لا بد منه. ذلك أن أول درس من دروس الديمقراطية (والتعامل الأخلاقي والمبدئي عموماً) هو أننا يجب ألا نحفل بقول من لا يصدق قوله عمله. ويروى أن الإمام المحدث البخاري رحمه الله سافر مرة في طلب راوية بلغه أنه يحفظ بعض الأحاديث. وعندما وصل إلى الشيخ المطلوب بعد أشهر من الترحال، وعرف له، صادفه ينادي دابته ويغريها بمخلاة حبوب يهزها حتى تسرع الدابة باتجاهه. إلا أن البخاري لاحظ أن المخلاة كانت فارغة، فقرر من توه أن يعود دون أن يدون حديثاً واحدا ً من أحاديث مضيفه، قائلاً إنه لو كان الرجل يستحل خداع الدابة، فكيف أثق في روايته؟

صحيح أن مشايخنا قد وضعوا لأنفسهم مستويات عالية من التطهر الأخلاقي تندق دونها الأعناق، وكلفوا أنفسهم شططاً في بعض الأحيان. ولكن المبدأ العام ينطبق على الكل. فكيف نقرأ لمن يكتب عن الديمقراطية وهو جالس في حجر حاكم مستبد يزين له باطله ويأكل من يده؟ وكيف نسمع عن الاستقامة ممن هو والغ في الفساد؟ وكيف يحاضرنا عن الحرية "مثقفون" يغدون ويروحون على سلاطين الجور، ثم يعودون ليجادلونا بأن أسباب انعدام الحرية هي في "تخلف الشعوب"؟ إن التخلف الحقيقي هو ما فيه هؤلاء القوم الذين لا يستحي الواحد منهم أن يظهر على الملأ بتسمية مستشار الملك الفلاني، أو نديم الرئيس العلاني، ويسهب في الحديث والتنظير عن إشكاليات التحديث ومتطلبات الحرية، والأقبية تحت أقدامه وأقدام نديمه ملآنة بضحايا التعذيب، والصحارى تمور بضحايا الاختفاء القسري، وصحف السماء وسجلات منظمات حقوق الإنسان ملآنة بآهات المظلومين وأنين الأرامل وأسر المعتقلين جوراً.

هذا هو التخلف، لا ما فيه الشعوب المقهورة الرافضة للظلم. وبداية الخروج من النفق تكون بالخروج من هذا التابوت الذي وضع فيه المثقفون من "فقهاء السلاطين" وعبيد الدرهم والدينار الذين يحاضرون الكل عن الحرية والطهر، وينسون أنفسهم. ولو تحرروا هم من مطالب الترف والجاه الأجوف المستعار، لكان لغيرهم فيهم أسوة حسنة. ويندرج في هذا التخلف من وصفهم الكاتب بأنهم يمارسون "الإفتاء من الربوة"، أي من موقع متعالٍ أو "استقلال" مصطنع، ولعل الأنسب أن يقولوا أن الأمر يتعلق ب "إفتاء من المستنقع"، لأن القوم غارقون حتى آذانهم في وحل التواطؤ مع الفساد القائم.

نحن إذ نقرأ للمرزوقي إذن نقرأ له وفي ذهننا أنه لم يكتب ليخادع أو ليروج لنفسه، شأن من نعرف، فهو قد مشى تلك الخطوات التي لا بد منها لكل مثقف في طريق الصدق مع الذات والبراءة من العبودية التي ارتضاها الكثيرون لأنفسهم. لهذا نقرأ له باهتمام، ونناقشه بجدية.

القضايا التي يتناولها المرزوقي في هذه التأملات هي أيضاً قضايا جادة تستحق كثيراُ من النقاش، وبعض الإجابات التي تقدم بها مثيرة للجدل، وقد لا نوافقه فيها، ولكنها تستحق التناول بعناية. ولا يسعنا إلا أن نتفق مع الكاتب على أن التناول الفج والسطحي للديمقراطية وتقديمها على أنها شفاء من كل داء يحتاج إلى توقف. هناك نقاط تستحق كثيراً من الانتباه في تشكيكه في نوايا الإدارة الأمريكية وهي تتبنى الديمقراطية للعرب وتبشر بها. ولكن المرزوقي يضيف إلى المقولات الرائجة (حتى لا نقول الغوغائية) حول شرور أمريكا وسوء نيتها تحليلاً نظرياً متعمقاً، حيث يؤكد أن أمريكا لا تروج للديمقراطية بقدر ما تروج لليبرالية، في داخل أمريكا وخارجها، وهذا الموقف كثيراً ما يتعارض مع الديمقراطية.

ولا شك أن هذه ملاحظة على قدر كبير من الأهمية، لأن هناك خلط رائج بين المفهومين، حتى في التناول الغربي لهذه القضايا. ولكن كثير من المنظرين لاحظوا هذا التمايز، بل والتناقض، بين الليبرالية والديمقراطية. الولايات المتحدة قامت في الأساس على مفاهيم ليبرالية، وكان الآباء المؤسسون لا يستخدمون مصطلح الديمقراطية إلا لماماً، بل يميلون إلى مصطلح "الحكم الجمهوري"، تيمناً بروما، لا أثينا. وقد عبر بعضهم في كتاباته عن إشفاقه من أن يتمكن الرعاع والعامة من الفقراء من الاستيلاء على السلطة وإفساد أمر الجمهورية. ولهذا فإن الدستور الأمريكي حفل بضمانات كثيرة ضد هذا الخطر، منها الانتخاب غير المباشر للرئيس، وتوزيع السلطات بين المركز والولايات، وإعطاء دور مهيمن للمحكمة العليا، وغير ذلك من التعقيدات الدستورية. ويدخل في هذا أن الحزب الديمقراطي، الذي يجسد الاهتمامات الشعبية ويمثل الطبقات الأوسع، يعتبر إلى حد كبير "حزب المعارضة"، بينما ظل الحزب الجمهوري الذي يمثل المصالح المتجذرة في النظام الأمريكي يعتبر إلى حد كبير حزب السلطة.

الفكر الليبرالي كما هو معروف يركز على الحقوق والحريات الفردية وعلى ضمان حقوق الملكية وحرية التبادل الاقتصادي، بينما الديمقراطية تركز على مفهوم سيادة الشعب. وقد كان المنظرون الليبراليون يتخوفون منذ البداية من أن يؤدي ترسخ المفاهيم الديمقراطية إلى "انقلاب" يقوم فيه الفقراء بالإمساك بالسلطة واستخدامها لسلب الأغنياء أموالهم، وجعل أعزة أهل البلاد أذلة. ومثل هذه المخاوف كانت سائدة في الفكر الغربي منذ أيام أرسطو، واكتسبت أهمية جديدة بعد قيام الثورة الفرنسية وما ارتكبته في حق الطبقات العليا، وزادت بعد ظهور الفكر الماركسي والحركات الاشتراكية التي أخذت تنادي علناً بحق الفقراء في الاستيلاء على السلطة تحديداً لإنهاء هيمنة الطبقات الغنية. وهكذا أصبح ما كان بالأمس خطراً يتخوف منه المنظرون مطلباً ينادي به المنادون ويؤكدون مشروعيته.

التعارض بين الليبرالية والديمقراطية اكتسب بعداً جديداُ في عصر العولمة، حيث أصبحت المصالح الليبرالية المرتبطة برأس المال بعيدة كل البعد عن هيمنة الدولة، وبالتالي خارج متناول المحاسبة الديمقراطية. ليس هذا فحسب، بل أصبحت الامبراطوريات الإعلامية العابرة للقارات، والواقعة خارج إطار المحاسبة الديمقراطية تتحكم في اللعبة الديمقراطية دون أن تتقيد بشروطها، كما نرى في امبراطورية روبرت ميردوخ الإعلامية التي تؤثر في السياسة في أكثر من بلد دون أن تعبأ بسلطات وضوابط المحاسبة الديمقراطية.
ولكن هذا التمايز بين الديمقراطية والليبرالية تم الاستناد إليه عند بعض منظري اليمين الجديد في الولايات المتحدة من أمثال فريد زكريا للقول بأن سياسة أمريكا يجب أن ترتكز تحديداً إلى ما اتهمها به المرزوقي، وهو أن تروج لليبرالية وتمتنع عن المناداة بالديمقراطية. ولا شك أن مثل هذا الموقف قد يجد هوى عند كثيرين من أنصار التيار العلماني المتخوفين من أن يؤدي "التسرع" في تبني الديمقراطية إلى هيمنة عناصر "غير ليبرالية" (وخاصة العناصر الإسلامية) على مقاليد الأمور، فتتولد من الديمقراطية نقيضها. وعلى الرغم من أننا نجد المرزوقي يرفض مثل هذه الدعوات، إلا أن بعض انتقاداته لمفهوم الإسلاميين للديمقراطية قد يفهم منها أنه أيضاً يقدم الليبرالية على الديمقراطية، أو على الأقل لا يرى مكاناً للديمقراطية بمعزل عن مركبها الليبرالي. وإذا كان الأمر كذلك، فقد يطرح هذا تساؤلات مهمة حول المعادلة المطلوبة في هذا المجال.
هناك نقطة أخرى لا تقل أهمية ينبه إليها المرزوقي، وهي أن الديمقراطيات، بما فيها الديمقراطية الأمريكية، قد لا تكون ديمقراطيات حقيقية، بل استبداد مقنع. الديمقراطية، كما نعلم، تميز نفسها عن بقية أنواع الحكم في كونها نظام حكم يقوم على حكم الشعب والمساواة في المواطنة. ولكن المرزوقي يرى تقارباً بين الديمقراطيات الحديثة ونظم الاستبداد في كونها أخذت تتحول فعلاً إلى ارستقراطيات تقسم الشعب إلى قلة من "المواطنين" وأغلبية من "الرعايا". الفرق بين الاستبداد المقنع في الديمقراطيات المزعومة والمكشوف عندنا هو أن تلك الديمقراطيات لديها من الفتات ما يكفي لشراء سكوت الرعايا، وما يكفي من الأدوار الثانوية لاستيعاب العدد المتزايد من "المواطنين" إلى جانب الأرستقراطيات المتمكنة. أما في الدول الأخرى فلا بديل عن القمع لضبط الأمور.
الاستبداد هو أيضاً ظاهرة مرضية في المجتمعات مثل ما هو ظاهرة مرضية في نفسية المستبد. المرزوقي، وهو طبيب محترف، مولع بالتشبيهات الطبية، ولكنها تشبيهات تكشف عن نظرة ثاقبة. فهو إذ يتناول مرض العصر العربي، الاستبداد، ويتساءل عن أسباب استعصائه على العلاج، يمتعنا بتشخيصات تشحذ الفكر، حيث يشبه دور المستبد بالفيروس الذي يدمر خلايا الجسم عبر الاستيلاء عليها، بينما يشبه القائد الديمقراطي بالانزيم الذي عليه تعتمد صحة الخلية واستمراريتها. فالإنزيم، يقول المرزوقي، "هو أيضا مكوّن عضويّ وحيد بالغ الصغر. لكنه خلافا للفيروس عامل رئيسي من عوامل البناء والتشييد. فلولاه لما استطاعت المفاعلات الكيماوية الضرورية لحياة الجسم أن تضطلع بوظائفها. وفي غيابه تتوقّف عمليات البناء والإصلاح أو تتباطأ بشكل رهيب. هو يلعب دور المحرّك والمنشّط والموجّه للطاقات الكامنة في الجسم . من هذا المنطلق يمكن القول أنّه بقدر ما لعب صدّام حسين دور فيروس العراق بقدر ما كان نلسن مانديلا أنظيم جنوب إفريقيا."
ويطرح المرزوقي سؤال الساعة حول عوامل بقاء الاستبداد فيستمر في التشبيهات الطبية، حيث يشير إلى أن العلة تكمن في خلل في "الجسم السياسي"، أساسه اختلال الجسم وعموم الفوضى أو خطرها. وهذا يتيح الفرصة لفيروس الاستبداد مهاجمة الجسم والتغلغل فيه. وهذا بدوره يخلق حلقة خبيثة من ضعف المناعة واستفحال المرض.
وضع "الفيروس" الذي يسبب هذا المرض هو أيضاً استدعاء لتشبيه طبي آخر، وهو أن المستبد شخص مريض نفسياً في الغالب، حيث يواجه أزمة ثقة بالنفس، تجعله يحيط نفسه بالمنافقين والفاسدين، ويستجدي منهم المديح الذي يتحول إلى حالة إدمان، كلما أخذ منها جرعة اشتدت حاجته إلى المزيد، دون أن يكتفي أو يكسب ثقة بنفسه.
المستبد يستند في وجوده واستمراره على جوانب خلل أخرى، منها وجود بطانة فاسدة هي انعكاس للخلل القائم في النظام واعتماده على "الردائقراطية"، أي اختيار الأعوان من بين الأسوأ، وعلى أساس الولاء لا الكفاءة. وهناك دوائر أخرى تدعم هذا الوضع، من المنتفعين والسلبيين. كما أن الاستبداد يستند على أساس متين قوامه وجود "الإنسان المستبد"، الذي هو عملياً الإنسان العادي، الذي يمارس الاستبداد كل في مجال اختصاصه: الرجل في الأسرة (والمرأة كذلك)، والمسؤول الصغير، إلى أن يصل الهرم الاستبدادي إلى القمة.
ولكن إذا وافقنا على هذه التشخيص، ألا يطرح هذا إشكال حلقة الاستبداد المفرغة التي لا فكاك منها؟ يتساءل الكاتب: " من أين للعرب والمسلمين القدرة على تشغيل مؤسسات البنى الفوقية كما يقول الماركسيون وبناهم التحتية تنضح بالاستبداد؟ هل من الممكن أن تكون نظرة العنصريين الغربيين لنا صحيحة وهم يقرّون بعدم قدرتنا على تشييد بناء لا نملك له أسسا؟ قد يفاجأ البعض بإجابتي لأنها نعم . هم محقّون في التهمة ولكن..."
ويضيف أن الحل يكمن في تفجير الطاقات الكامنة حتى في المجتمع الذي يهيمن الاستبداد على كل طبقاته. ذلك أننا سنجد إذا دققنا البحث "بأن في أعماق مجتمعنا العربي الإسلامي المتشبّع بقيم الاستبداد والغارق في ممارساتها إلى الأذنين ، قوى جبارة يمكن أن تدفع ب 'الإنسان الديمقراطي' إلى مركز الصدارة. هكذا ستجد عملية التأسيس في العائلة والمصنع والإدارة مخزونا هائلا من الأفكار والقيم وحتى السلوكيات السرية الرافضة للاستبداد وظلمه والمستعدة للدفاع عن أي نظام بديل يرجع الكرامة المسلوبة والاعتبار الذي صادره الاستبداد."
يصل المرزوقي إلى هذا الاستنتاج عبر تأملات طويلة، يستلهم فيها الطبيب المرزوقي نموذجاً آخر، هو النموذج الإداري لتقديم الخدمات الصحية، ويدلف إلى تأملات أخرى في الطبيعة الإنسانية لا بد أن تواجه اعتراضات عديدة أصبحت مألوفة في حق مثل هذه الاستنتاجات التي تستند إلى مقولات مثيرة للجدل من علوم الحيوان والطبيعة. لا نريد أن نتوقف عن هذه المسائل، التي نترك للقارئ استنطاقها وتحديد رأيه الخاص فيها، ولكنا نكتفي هنا بتساؤل بسيط هو: لو أن طبيعة مجتمعاتنا هي صناعة وإعادة إنتاج الاستبداد من القاعدة إلى القمة، فلماذا لا نجد الاستبداد قد تحول عندنا إلى "ديمقراطية"، بمعنى أن تكون سطوة المستبد تقابلها استكانة الضحايا، فلا تكون هناك مقاومة ولا يحزنون، ولا يحتاج المستبد إذن إلى كل هذه الجيوش من المنافقين ولا إلى استخدام كل هذه الأجهزة القمعية، ولا يكون هناك أي داعٍ لتلك الترسانة الثلاثية التي وصفها المرزوقي: التضليل، القمع والإفساد، للإبقاء على الأوضاع؟ هذا سؤال لا بد من إجابة عليه إذا كان لنا أن نقبل بفرضية استبدادية المجتمع، أو قابليته للاستبداد.
الكاتب يفرد مساحة كبيرة من مداخلته لما يسميه "التأسيس"، وهي الخطوات اللازمة لتأسيس نظام ديمقراطي متكامل وقابل للاستمرار. ويقدم لهذا بنقد مفصل للديمقراطية، معدداً نقائصها وعيوبها، ومنبهاً كذلك إلى بعض جوانب سوء الفهم الشائعة لمعاني الديمقراطية. معظم هذه الانتقادات مثيرة للاهتمام والكثير من الجدل، ولا شك أن القراء ستكون لهم تعليقاتهم عليها، خاصة فيما يتعلق بالأولويات. انتقادات المرزوقي للمثقف السلبي والمثقف الطوباوي، والإشارات المبطنة لبعض من دعموا الاستبداد ويدعمونه بسبل شتى، كلها ستثير نقاشاً حاداً بدون شك، وقد تجد صدى عند الكثيرين وهوىً في نفوسهم. أما الاقتراحات التفصيلية حول الضمانات الدستورية وكيفية إرساء أسس النظام الديمقراطي وإشاعة القيم الديمقراطية ومفاهيم حقوق الإنسان فإنها أيضاً ستكون مثيرة لجدل كثير، توقع بعضه الكاتب وسعى للرد "الاستباقي" عليها. ولعل أبرز هذه النقاط التي قد يتوقف البعض عندها هي المحاولة الطموحة للتوفيق بين مقولة أن الشعوب العربية لم تنضج بعد للديمقراطية وقد تجد صعوبة في الحفاظ عليها حتى لو حققتها، وبين التفاؤل الكبير الذي يبديه الكاتب بإمكانية التحول الديمقراطي وفرص نجاحه. كذلك قد يشعر الكثيرين بالإحباط من التحليل الذي يؤكد أن هذا التحول قد يحتاج لعقود طويلة.
أهمية هذه المساهمة، كما أسلفنا، لا تنبع فقط من التأملات العميقة والاقتراحات الجريئة التي تشحذ الفكر وتطرح تحديات لعقول المؤيدين والمنتقدين على حد سواء، بل وأيضاً من كونها عصارة تجربة عملية طويلة وثرية في النضال الديمقراطي. وإنني أدعو القارئ الكريم للاستمتاع بهذا العطاء القيم من قلم لا يمكن اتهامه بالإقامة الطويلة في الأبراج العاجية المعزولة، وللمشاركة في نقد وتقييم وإثراء هذه المساهمة.

عبد الوهاب الأفندي
لندن- أغسطس 2004


وضعا في الإطار وتفاديا لكل سوء فهم

نادرا ما يعي العرب، الذين يقرنون آليا بين الديمقراطية والغرب، بضراوة الحرب التي أعلنت على الديمقراطية في أوروبا الغربية طوال فترة امتدت من منتصف القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الثانية . لقد بلغت هذه الحرب ذروتها بين الحربين العالمتين –وفي أعقابها- باستتباب الفاشية الإيطالية بقيادة موسوليني والألمانية بقيادة هتلر والفرنسية بقيادة بيتان والأسبانية بقيادة فرانكو والبرتغالية بقيادة سالازار، وكلّها أنظمة قامت على اغتيال تجربة ديمقراطية سابقة.
قل من يعلم أيضا أن الفاشية في الغرب اليوم ، مثل النار تحت الرماد تنتظر الظروف السانحة لتلتهب من جديد.
ومن المعروف أن الفاشية تستمدّ إيدولوجيتها وسياساتها من رفض للاشتراكية وخاصة من كره دفين للديمقراطية، ينطلق من عيوب مؤسساتها ونواقص الساهرين عليها للتصدي للقيم والمشروع.
إنه لمن الطريف أن تجد اليوم في كتابات اليمين الإسلامي المتطرّف كل التهم (باستثناء الانتماء إلى الغرب) وأحيانا بنفس الجمل و العبارات التي استخدمها اليمين الغربي المتطرّف طوال قرن لمحاربة للمشروع الديمقراطي. نحن نجد في مستوى القيم نفس الاحتقار للحرية كقيمة ونفس تغليب الواجب على الحق ونفس الأولوية للبعابع الكبرى (الدين هنا، الأمة أو العرق هناك) واعتبارها وحدها مصدر كل شرعية ومحل كل تقديس. نجد نفس الإيمان بدور القوة تجاه الخارج والقمع في تطهير المجتمع من ''الشوائب'' و''الانحرافات''. نجد نفس التهكّم والازدراء للنظام التمثيلي والسياسة والسياسيين وألاعيبهم وفسادهم الخ.....
ثمة قراءة إيجابية لنتيجة المواجهة في الغرب وهي تغلّب الديمقراطية على الفاشية بالضربة القاضية مما يعني أن في قيمها ومؤسساتها وسياساتها، رغم ما فيها من عيوب، أفضلية على قيم ومؤسسات وسياسات الفاشية.
ثمة قراءة متشائمة وهي أن عيوب الديمقراطية، أساسا في مستوى المؤسسات، تلعب دور الخرقة الحمراء في وجه الوحش الفاشي النائم بعين واحدة داخل كلّ ثقافة لأنه التعبير عن الجزء المظلم والغرائزي المكون – لا العابر – في الإنسان.
معنى هذا أن مستقبل المشروع الديمقراطي في الثقافة في العربية الإسلامية – وربما حتى في الغرب على الأمد الطويل - رهن بقدرته على تقديم حلول تحافظ على جوهر القيم الديمقراطية لكن في إطار مؤسسات تتعلّم وتتجاوز الأخطاء التي كانت دوما إحدى ذرائع الفاشية للعودة إلى ممارسات كلفت وستكلّف الأشخاص والشعوب والإنسانية الثمن الباهظ تلو الثمن الباهظ.
هذه القراءة النقدية للتجربة الديمقراطية مساهمة متواضعة في طرح إشكالية تطوير التجربة الديمقراطية انطلاقا من دروس التجارب التي أصبح العالم بأسره مسرحا لها.
ومن نافلة القول أنها نابعة من داخل انخراط كامل في قيم الديمقراطية وأهدافها لاعتقاد راسخ أنها، إلى حدّ الآن، أفضل النظم السياسية التي ما انفكّت الإنسانية تجربها عبر التاريخ بحثا عن أحسن الحلول لإدارة شؤون المجتمعات الإنسانية.
ومن حسن الحظّ أنه ليس للديمقراطية نصوص مقدسة تكبلها وتمنع تجديدها.هي عمل يعترف بإنسانيته ومن ثمة بنواقصه مما يجعل الإصلاح والمراجعة والترميم ممكنا. لكن مراجعة المؤسسات دون إعادة تأسيس الدعامات الثقافية التي تنتصب فوقها وتستمدّ منها متانتها بمثابة ترميم قصر أثري عائم فوق الماء والطين. إن ما لا يجب أن ننساه أبدا أن الديمقراطية قيم قبل أن تكون مؤسسات وأن معضلة زرعها في أي ثقافة -ولو كانت الغربية- معركة كل لحظة.
واليوم ونحن في الوطن العربي بين مطرقة الدكتاتورية الجاثمة وسندان الدكتاتورية التي تترصّد، مطالبون بالبتّ في نوع النبتة التي نريد زرعها في نفس الوقت الذي نحن مطالبون بتهيئة أرض قاحلة حتى ولو لم تكن بورا. وإن لم ننجح في معركة القيم والمؤسسات فإن أي نظام ديمقراطي أو شبيه به لن يكون إلا بمثابة محطة استراحة عابرة بين دكتاتوريتين.
***








الجزء الأول
الثغرات والحدود

1– الديمقراطية ليست وصفة جاهزة

ثمة ظروف نمرّ بها جميعا يحتدّ فيها الشعور أننا، أفراد وأمم، مثل قطرات الماء التي يضخّها تيّار عاتٍ لا قبل لأحد بالسيطرة عليه في نهر اسمه التاريخ ...أنه لا حول لنا ولا قوّة تجاه قوّى دفع هائلة آتية من أعماق الماضي وقوى جذب التي لا تقلّ قوّة تتصاعد من أعماق المستقبل ....أننا نتحرّك دوما في اتجاه واحد نحو بحر اسمه الفناء . هذه الصورة هي صورة لحظات الإحباط ونحن نتخبّط داخل التيار وفي أحسن الأحوال نطفو على سطح الموج والزبد.
ثمة ظروف تتجدّد فينا قوى تحرّكنا، أهمّ خصائصها العناد والتشبث والإصرار. هكذا تأتينا صورا أخرى تشحننا بالأمل والتفاؤل ومنها تلك التي تسكنني منذ سنين عن دماغ جماعي يحرّك أمتنا قوامه لغة الضادّ بكلّ ما تحتويه من آليات تفكير... بكلّ الكلمات والأفكار... بكلّ القيم والتصورات التي تشكّل رؤيتنا للعالم وتفاعلنا معه... بكلّ ما تختزنه اللغة- الوطن من عواطف ومشاعر وأحاسيس نتبادلها عبر أهازيج الأمّ وقصائد الشاعر وغناء الحدّاء ... بكلّ المشاريع التي نحلم بتحقيقها.
تخيلوا معي أنّ هذا العقل الجماعي هو الذي يبحث ويحلم ويفكّر ويجرّب على مرّ القرون عن أنجع السبل لبلورة أحسن ما فينا، عن أقصر الطرق لرفعنا إلى أعلى مستويات إنسانيتنا، علما وأنه هو نفسه جزء من عقل أوسع وأعظم وأبعد امتدادا في عمق الماضي: العقل الجماعي الإنساني.
لنتصوّر أن العقول الفردية المتتابعة في المكان والزمان هي خلاياه التي يجدّدها كما يجدّد الجلد قشرته السطحية... أن دورها أن تبحث به ومن أجله، أن تقود تجاربه لتبلور أرقى حالات للوجود.
لا شكّ في أفضلية صورة الدماغ الجماعي على معنوياتنا من صورة النهر والقطرات التي يضخّها. ففي تشبيه الدماغ، هناك إيحاء قويّ بوجود تبادل حرّ بين مكونات النظام... تأثير متبادل... تناسق وتناغم بينها ... ودور هامّ لكل الخلايا. لنتشبث إذن بصورتنا كخلايا الدماغ الجماعي لا قطرات أعجز من تغيير مجرى النهر أو سرعة تدفقه، لأن الحفاظ على ارتفاع معنوياتنا هو الشرط الضروري الأوّل لفعالية كل أعمالنا. هكذا سنقول أن اللغة شحنتنا نحن الأدمغة الفردية بتراكمات أبحاث وتجارب العقل الجماعي، أنّ هذه الأدمغة تضيف القليل أو الكثير، الغثّ أو السمين. هكذا تتلقاها زمرة من العقول الفردية الأخرى مهما تباعدت عنها في الزمان والمكان، فتعيد تصنيع نتاجها وضخّه في العقل الجماعي ليتلقاها ويقبل بها يواصل بها أبحاثه وتجاربه.... وهكذا إلى ما لانهاية.
ثمة اليوم دعوة ملحة لكل خلايا التفكير داخل الأمة لتنتبه... لتعلن حالة الإنذار القصوى... لتبحث بكل جدية وحرية... لتتبادل التجارب والخبرات والرؤى والأحلام والمشاريع حتى لا يكون المستقبل صورة مملة رتيبة لكل ما في الماضي من إخفاق وفظاعة ودوران في نفس الحلقات المفرغة.
والثابت اليوم أن العقل الجماعي فهم بعمق لماذا تاهت الأمّة في الطرق الفرعية، لا يسلمها تقاطع طريق مسدود إلاّ إلى تقاطع طريق مسدود آخر. لقد أصبح واعيا أنّ السبب الأخطر (حتى وإن لم يكن الأوحد) في المأزق الذي تتخبّط فيه هذه الأمّة هو الاستبداد ....أنّ أهمّ عامل في تفوّق الغرب علينا لم ينطلق ولم ينبن على أي تفوّق تقني أو أخلاقي وإنما كان نتيجة تفوق نظامه السياسي على نظامنا ...أن النظام الاستبدادي، الذي وضعنا على وجهه البشع كلّ أنواع المساحيق الإيديولوجية نفس النظام بظلمه وقبحه وفساده وعجزه عن إدارة شؤوننا، سواء أسميناه وطنيا أو قوميا أو اشتراكيا أو إسلاميا. .. ...أنّه هو الذي قادنا إلى ما نحن عليه من حالة مزرية... أنه مرض الأمّة العضال....أنّه القيد في يديها ورجليها ودون كسره لا مستقبل لها ولا حاضر. كم تخاصمنا حول طرق الخروج من هذه الحالة التي أسميناها '' التخلّف'' والتي هو أكبر أسبابها وأجلى مظاهرها، نجرّب ولا نعلم أننا نجرّب، نخطئ لا نعلم أننا نخطئ إلا بعد فوات الأوان. هكذا جربنا للشفاء من المرض المخجل المشين وصفات متعدّدة: ''الوطنية هي الحلّ ''، ''الاشتراكية العلمية هي الحلّ ''، ''الوحدة هي الحلّ''، ''الإسلام هو الحلّ''. و دفعت الأمة كل مرّة ثمنا باهظا للتجربة دون أن نبرأ وإنما نزداد بتطبيق كل وصفة مرضا على أمراض.
إن الهاجس الذي يجب أن يسكننا اليوم ونحن أمام كلّ الخراب الذي تركه الاستبداد : التأسيس فالتأسيس ثمّ التأسيس.
ألسنا اليوم في وطننا العربي مثل من يسكن مدينة مرّ من تحتها الزلزال ؟ وسواء كنّا أفرادا وشعوبا، فإننا نعيش فوق ركام من القيم، وفوق ركام من الأفكار، وفوق ركام من المؤسسات.. سبحان من يريد أن يبني على مثل هذا الخراب نفس البيوت بنفس الأساليب، وكل في الأمر أن يكون لنا استبداد مؤمن بدل الاستبداد الملحد، وكأن على المؤمن أن يلدغ من نفس الحجر ألف مرّة فلا يتعّظ ولا يتعلّم. سبحان من يريد بناء بيتنا الجديد وهو يشاهد تصدّع ديار من بنوا وفق نفس الهندسة المعمارية.
ها نحن اليوم أمام '' دواء'' جديد بل قل أمام إغراء جديد: أن الحلّ هذه المرّة، ما تسميه وسائل الإعلام، الديمقراطية وحقوق الإنسان كأنهما شيئان مختلفان والحال أن سوء الفهم هذا لا يدلّ إلاّ على انطلاق مسلسل الأخطاء من البداية. لا غرابة أن تدخل كلمة الديمقراطية في تشكيل الفضاء الصوتي العامّ الذي يتحرّك داخله الخطاب السياسي العربي وأن يعلو الصراخ بها والترديد إلى درجة الإزعاج. لا تفتح اليوم إذاعة، أو فضائية، أو جريدة، إلا وأنت قي مواجهة الكلمة البعبع، وقد أشهرت في وجهك أحرفها التسعة ومعانيها الملتوية ومقاصدها الخفية واستعمالاتها المتباينة وكل ما يحوم حولها من قيل ومن قال. إنها على كلّ الألسن، ومع هذا لن تجد فهما واحدا لها وإنما اشتراكا في بعض الشعارات التي تأوّل بألف طريقة. أضف إلى هذا التشويش المتعمّد الآتي من محاولة التفويض من قبل النظام الاستبدادي نفسه أو من قبل الإدارة الأمريكية أو إسرائيل. والقاعدة التي يعرفها علماء اللغة جيدا هي أنه كلّما توسّع استعمال مصطلح وعمّ ، كلما أصابه ما يمكن تسميته بالنزيف المعنوي. فالكلمات التقنية، لأنها محدودة الاستعمال، ''ملآنة'' بالمعنى إذ لا يمكن أن تعني الشيء ونقيضه، على خلاف المصطلحات الفضفاضة مثل التقدم والحرية والسعادة والاشتراكية ... أو الديمقراطية. كلها مصطلحات ينتهي بها المصير أن تعني كل شيء ولا تعني شيئا، فالألفاظ كالأحذية، تبلى وتقلّ صلاحيتها من فرط الاستعمال ....وخاصة من فرط سوء الاستعمال.
*
لا أحد يعرف تأثير كل هذا اللغط، وكل هذا التشويش والتشويش المضادّ على فهم العرب للمصطلح ومدى تشبعهم به ... خاصة مدى استعدادهم لنقله من حيز النقاش النظري إلى نظام سياسي يغير واقعهم التعيس ذلك لأن ضبابية الرؤيا، بالرغم أو لأجل شدّة اللغط، هي القاعدة في كل المستويات. حتى وحدات الاستكشاف المتقدمة من المناضلين السياسيين عاجزة عن تصوّر مراحل انتقال نظامنا السياسي القديم إلى النظام الديمقراطي: هل سيقع تدريجيا، سلميا أو بالعنف، مع الغرب أم ضدّه ؟ مع الإسلاميين أو بشرط القضاء عليهم ؟ نحن لا نعرف لحدّ الآن من سيقود المشروع الديمقراطي العربي إلى خاتمته السعيدة ؟ هل يمكن تصوّر حزب طلائعي ديمقراطي يقود العملية في كل قطر كما قاد الحزب الشيوعي بناء ''الاشتراكية'' في روسيا وحزب البعث الدولة القومية في سوريا والعراق وجبهة التحرير الدولة ''الوطنية'' في الجزائر؟ أين تقف حدود ما يمكن أن نسميه بالتيار الديمقراطي؟ هل يمكن أن يشمل جزءا من الإسلاميين؟ وفي مثل هذه الحالة هل نحن متأكدون من فهم مشترك يجمع بين تيارات إيديولوجية متنافسة؟ إن ما يزيد من ضبابية الأمر هو أنّ الديمقراطيين أنفسهم، الذين يقترض فيهم بلورة وتطبيق المفاهيم، ملل ونحل. هناك جماعات لحقوق الإنسان تفهم الديمقراطية كحركة أخلاقية طوباوية مهمتها الفضح والاحتجاج والمطالبة مع التوقف عند خطّ أحمر وهو العمل السياسي. هذه المدرسة غير قادرة إلا على انتظار الإصلاح من أنظمة لا تصلح ولا تصلح. أما الطبقة الثانية فتتشكّل من التائبين وهم كلّ من جاءوا إلى الديمقراطية من الاشتراكية والقومية والوطنية بعد أن غرقت كلّها في وحل الاستبداد على أمل إحياءها بجرعة من الديمقراطية ... لكن بخلفياتهم ومرجعياتهم وآليات تفكيرهم القديمة. معنى هذا أن هذه الأخيرة شكلت بالنسبة لهم خيارا ثانيا وربما حتى مجرّد أداة في خدمة قيم أعلى منها. وأخيرا ثمّة جيل جديد جاء لعالم السياسة في مرحلة تشبع الجوّ السياسي بقيم الديمقراطية فالتقط بعض شعاراتها دون أن يعني ذلك فهما عميقا لها أو انخراطا تامّا في ومشروعها. إنها حالة نجدها عند بعض أطراف الطيف الإسلامي أو القومي لكنها لا تنذر بنقلة نوعية وعميقة في تفكير التيارين. ولا نتحدّث عن الديمقراطيين المزيفين، فعددهم مؤهل للارتفاع حسب ارتفاع أسهم الأفكار الجديدة في بورصة السياسة. لكنهم لن يتردّدوا عن البيع بالجملة إذا أحسّوا بأنها لن تحقّق لهم الأرباح المنتظرة. إن كان هذا حال النخبة فماذا نقول عن عامة الناس التي نشأت وترعرعت جيلا بعد جيل في ظلّ قيم وممارسات الاستبداد الأخطر من هذا كلّه أن عملية الدمقرطة التي بدأت منذ السبعينات من داخل المجتمعات المدنية العربية، بدأت تصبح وكأنها انتزعت من أيدينا لتتكفّل بها قوى خارجية وكأنها قضيتها التي اكتشفتها فجأة وليست قضيتنا التي نناضل من أجلها منذ ربع قرن وأكثر.
ثمّة اليوم من يتساءل لماذا لا يأخذ الديمقراطيون العرب المبادرة الأمريكية بخصوص ما تسميه دمقرطة ''الشرق الأوسط الكبير'' على محمل الجدّ فيضعون أيديهم في أيديها للانتهاء من أنظمة ساقطة تجد نفسها لأوّل مرّة بين فكّي كمّاشة الداخل والخارج ؟ هل من الممكن أن نركب نحن الديمقراطيون العرب المطالب الأمريكية وأن نستعملها لمصالحنا مثلما تركب الإدارة الأمريكية مطالبنا وتحاول استعمالها لمصالحها؟
لكن، لننظر إلى القوى السياسية في الساحة العربية ومدى إمكانية تقبلها للمشروع الذي لا يتصور أحد تحقيقه بدون طرف عربي يساهم في بلورته على أرض الواقع. في البداية هناك الأنظمة. إنها لم تستجب يوما لمطالب شعوبها الملحة لتعديل ساعتها واللحاق بركب العصر والخروج بالشعوب والأمة من الانحطاط التي أوصلتها إليه. لكنها رفضت كلّ تغيير جوهري يمسّ بالثوابت والمقدسات: البقاء في السلطة إلى الوفاة وإذا أمكن توريثها، عدم المحاسبة والتحكّم في الإصلاحات بمنهجية الريّ بالقطرة قطرة. هل ستفلح الضغوط المرتقبة، خاصة الاقتصادية منها، لدفع الإصلاحات التي طال انتظارها؟ إن تجربتنا لأنظمة مستعدّة للتضحية بمصالح شعوب برمّتها من أجل بقاء بعض الأفراد في السلطة المؤيدة، تجعلنا نشكّ في رضوخها لضغوط لن تتضرّر منها مصالحها المعفاة من أي عقاب اقتصادي. إنه من غير الجدّي، بداهة، المراهنة على قدرتها على تبني قواعد لعبة جديدة مآلها طال الزمن أو قصر إزاحة القائمين عليها من السلطة. أما وضع بعض المساحيق على نفس القناع البشع فلن يزيد الطين إلاّ بلّة. ولأننا لا نتصوّر أن أمريكا سترسل جيوشها لفرض رغبتها، فإن المتوقّع أن الدكتاتوريات العربية ستتعامل مع رغباتها كما تتعامل معها حكومة شارون بخصوص الملف الفلسطيني.
ثمة الطرف الإسلامي المتواجد بقوة متصاعدة. وباستثناء بعض الحالات، فإنّ أغلب تنظيمات هذا التيار مناهضة للديمقراطية ومناهضة لأمريكا. ولأنها حاملة لبرنامج ورؤيا سياسية على طرفي نقيض من البرنامج الأمريكي فإنها ساعية وستسعى لضربه بكلّ الوسائل.
لم يبق لإنقاذ المشروع سوى الديمقراطيين. من هذا المنظور نفهم لماذا تفتح مكاتب في العواصم العربية وأولها تونس لتسويق المبادرة للنخب والقوى الديمقراطية الفاعلة في الساحة.
لكن الديمقراطيين الوطنيين هم، آخر من يقبل نظريا على الأقلّ الانخراط في المشروع الأمريكي وآخر من يستطيع المشروع الأمريكي التعويل عليهم. لنتذكّر أصول هؤلاء الديمقراطيين. هم لم يولدوا على ''العقيدة'' الديمقراطية، إنما اعتنقوها بعد أن هاجروا إليها من الإيديولوجيات الكبرى التي كانت تسود وطننا العربي منذ الستينات أي الوطنية والقومية والاشتراكية. حصل هذا بعد اقتناعهم أن الخلل الأساسي في نظامنا السياسي العربي ليس الإيديولوجيا وإنما الاستبداد. وثمة قاسم مشترك بينهم على تباين مرجعياتهم هو إيمانهم أن على الديمقراطية أن تكون أداة تحرّرنا من الاستبداد الداخلي والتبعية للخارج، انطلاقا من قناعة راسخة بأن الاستبداد استعمار داخلي والاستعمار استبداد خارجي. إن وطنيتهم وقوميتهم تجعلهم مثلا من ألدّ أعداء التطبيع مع إسرائيل، خاصة في ظرف الاستئساد الشاروني، ومن ألدّ أعداء الاحتلال الأمريكي –البريطاني للعراق. كل هذا يجعل من المستبعد جدّا تلاقي الديمقراطيين الوطنيين مع المشروع الأمريكي.
ماذا بقي إذن؟ الديمقراطيون على شاكلة المعارضة العراقية السابقة التي ترعرعت بفضل أموال أجهزة الاستخبارات ودخلت بغداد على ظهر الدبابات ؟ إذا تصورت أمريكا أن مثل هذا الطابور الخامس، الذي سيتصدّى له الاستبداد والإسلاميون والديمقراطيون الوطنيون، كلّ لأسبابه الخاصّة، هو القادر على تسويق المشروع الأمريكي فإن حجم خيبة أمل النهاية ستكون بحجم غرور البداية.
لم يبق إلا حلّ واحد وهو الذي أعتقد إن الإدارة الأمريكية تراهن عليه: القوى ''الإصلاحية'' من داخل الأنظمة المتعفّنة. إنها نفس الآلية التي أنتجت ''ديمقراطيين''من نوع بوتين في الاتحاد السوفييتي السابق. فجأة اكتشف أباطرة الشيوعية في بداية التسعينات، أن عهد الشيوعية قد انتهى، فانقلبوا وطنيين هنا وديمقراطيين هناك وبنوا على أنقاض النظام السابق الذين كانوا أكبر المدافعين عنه، أنظمة وطنية و''ديمقراطية''. يكفي أن تتجدّد العملية لنرى وزراء سابقين في الحكومات الدكتاتورية أو ابن هذا الدكتاتور أو شقيق ذاك يعلن اعتناقه للديمقراطية ويبدأ في بعض الإصلاحات التي تنفس عن الاحتقان ولا تمسّ جوهر النظام. توقّعوا انقلابات من حرير داخل الأنظمة الحالية تجدّد المظهر وتواصل الجوهر. هكذا سيقع إزاحة السلاطين الرافضين للتأقلم مع الوضع الجديد بأقل تكلفة. هكذا سيسحب البساط من تحت أرجل الديمقراطيين الوطنيين مع ما يمكن أن يشكّلوه من تهديد للسياسة الأمريكية.
لكن الأخطر من هذا كلّه نموذج '' الديمقراطية التي يراد تصديرها لنا. هل هي برلمانات منتخبة وأحزاب تتخاصم وحكومات تذهب وتجيء وصراخ متصاعد من أعمدة الصحافة ؟ إذا كان الأمر كذلك فقد عرفت مصر وسوريا ولبنان، حتى عراق الخمسينيات، أنظمة ديمقراطية كنستها الانقلابات العسكرية ولم يدافع عنها أحد ؟ ألم يحصل ذلك لأنّها كانت قشرة سطحية تعوم فوق بحر هائج من الظلم الاجتماعي والإهانة الوطنية وثقافة استبدادية قاهرة. فأي مصلحة لنا في قشرة سطحية أخرى وعمق البحر لم يتغيّر في شيء؟ ولأن نفس الأسباب تولّد نفس النتائج فإنه من حقنا أن نفترض أنه لو استطاعت أمريكا فرض مثل هذه الديمقراطية لما كانت إلا مرحلة عابرة بين دكتاتوريتين.ندر من يتساءل عن أحقية الأنظمة الغربية وخاصة الإدارة الأمريكية الحالية في إعطائنا دروس الديمقراطية. لقد اختارت هذه الأنظمة، إلى حدّ الآن، لرؤية ضيقة وقصيرة المدى مساندة النظام السياسي العربي لأنه يحمي مصالحها الظرفية ويوهمها بأنه قادر على حمايتها من المدّ الأصولي. فهل يمكن أن نسمي أنظمة الغرب نفسه أنظمة ديمقراطية وهي تساند التعذيب والفساد والتضليل ومصادرة الحريات خارج حدودها ؟
يبقى السؤال المحوري وهو هل لنا أنموذج في مواجهة النموذج الأمريكي لأن الرفض ليس بديلا عن البديل ؟ ما هو الأنموذج الذي نحمله في عقولنا وقلوبنا ونريد بلورته في واقعنا الاجتماعي والسياسي لكي نخرج نهائيا من مسلسل الاستبداد وما جرّه ويجرّ من تخلّف وتبعية؟
إن الردّ على هذا السؤال محبط للعزائم لأننا لو حاولنا الردّ عليه بنزاهة لاكتشفنا أنه ليس لنا رؤيا محلية للديمقراطية وليس لنا مشروع لكيفية تحقيقها. إمّا إذا وجد فهو نسخة طبق الأصل من المشروع الأمريكي. معنى هذا أن الدمقرطة أن نطبّق المشروع الأمريكي تحت الإملاء الأمريكي أو ....بمحض حريتنا. يا له من خيار !
إنّ القاسم المشترك بين جلّ الديمقراطيين التسليم بأنهم أمام وصفة جاهزة لا يمكن أن يؤدي تطبيقها إلا لتدشين عهد سياسي –اجتماعي يبشّر بكل خير. تتغيّر الأديان والعقائد وحاجة الإيمان في الإنسان واحدة ثابتة على نفس الآمال والأوهام.
إن انتصاب النظام الديمقراطي في شكله الغربي وخاصة الأمريكي في أكثر من مئة بلد، أحيانا على امتداد قرن، بلور عيوبه البنيوية المتعدّدة و أظهر كيف يمكن أن تشكّل بعض آلياته تهديدا جدّيا للمشروع الديمقراطي نفسه.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
ولو استمع الشيوعيون في الثلاثينات لرأي أعداء الشيوعية وفهموا أن عين السخط هي بمثابة مجهر يضخّم عيوبا حقيقية ولو سارعوا لهذه العيوب، ربّما أخذ التاريخ مجرى آخر. وإن كان لهذه الملاحظة أهمية ففي تذكيرنا أن كل العيوب التي نخرت في الوطنية والقومية والاشتراكية، كانت موجودة في الآليات والمؤسسات والأفكار والقيم التي ارتكزت عليها... أنها لم تفعل سوى التبلور عند التمكّن من مقاليد السلطة. وهذه قاعدة عامة لا نظنّ أن الديمقراطية بمنجى منها وهو ما يتطلب أن نسائل أنفسنا ما هي السلبيات التي تحملها ونتعامى عنها مما قد يجعل تضحياتنا تذهب سدى كما ذهبت سدى طموحات الاشتراكيين وقد خانتهم اشتراكيتهم قبل أن يخونهم العالم.
من أين لنا التخطيط المحكم ونحن نفتقر للحدّ الأدنى من الرؤيا؟
لا يمكن أن يخرج أي شيء إيجابي، سياسيا أو ثقافيا، من كل هذه الفوضى الفكرية، من هذه السطحية في تناول إشكالية بأهمية غرس الديمقراطية كبديل لنظام استنزف طاقات الأمة وأهدر كرامتها وحقوقها على امتداد أربعة عشر قرنا. إن ما نحن بأمسّ الحاجة إليه هو رؤيا فكرية واضحة لما نريد وما تقدمه لنا الديمقراطية، مع فهم لنواقصها وحدودها، الشيء الذي يمكننا من الاستعداد لكل مترتبات هذه السلبيات والبدء في التفكير في طرق تداركها. إن هدف هذا الكتاب ليس الطعن في الديمقراطية على شاكلة أعداء الديمقراطية، وإنما على العكس الدفاع عن قيمها وأفكارها ومشروعها، لكن عبر قراءة نقدية، تعتمد على التجربة وتتعظ بها وتستعملها لتجاوز لا بدّ أن يأتي يوم يقع فيه تجاوزه هو الآخر، لأن سنة الحياة كانت وستبقى '' تتناهى النصوص (والعقائد والنظم السياسية) ولا تتناهى أحوال الناس''.
لا جدال في تفوّق قيم وأهداف الديمقراطية على أي مشروع سياسي آخر. لكن القضية في الآليات وقد بدأت بعضها تبدي وهنا مثيرا للقلق الشديد. من أين لنا الاعتقاد بأن الديمقراطية هي المخرج من الأزمة وهي نفسها في أزمة؟ ألسنا في وضعية من يستميت في السعي إلى إطعام جوعان غذاء فاسدا ؟
حتى نتعلّم من تجاربنا مع ''الاشتراكية هي الحلّ'' و''الوحدة هي الحلّ''، لا بدّ من أن نضع العقل قبل النقل. وحتى لا نرمي يوما بهذا الحلّ نلعنه ونشتم اليوم الذي آمنا به كما فعلنا مع الوطنية والوحدة والاشتراكية، لا بدّ أن نقلب ''البضاعة'' جيّدا. لابدّ أن نتساءل عن كل عيوبها ونواقصها وأن نقيم تجربتها أينما جربت. معنى هذا أن علينا وضع كل الحلول ومنها الديمقراطية على طاولة التشريح لا تنهينا عن الأمر قداسة ولا ترهبنا سلطة سياسية أم معنوية، هدفنا الفعالية ودافعنا سوء الظن والنية والشكّ بكل ما يقدّم على أساس أنّه ''وصفة'' جاهزة يمنع أن نستشف وراءها الخطأ الآدمي والنسبية الآدمية وتاريخية الأفكار الآدمية والتفويض الآدمي لكل ما هو جميل ونبيل من أجل تحقيق صنف أو آخر من المصالح الخسيسة.
إن الدمقرطة العربية ،إن حصلت، لن تكون إلا لحظة من بحث العقل الجماعي عن الطريق والمرفأ. إنه بحث انطلق منذ ولادة الأمّة وتواصل طوال جاهليتها وإسلامها وحداثتها، عبر أدمغة-خلايا نذكر منها أبن عقال وعروة بن الورد والشنفرى وعنترة و بلال وأبو ذرّ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب والمعرّي والكواكبي وقاسم أمين وأبو القاسم الشابي وأيليا أبو ماضي الذي ذكّرنا بما لا يجب أن يغيب عنا يوما
لا يقتني المرء مذهبا وإن جلاّ إلا كان في عنقه غلاّ.
وبطبيعة الحال فإنّ كاتب هذه السطور لا يدّعي أن القطرة استوعبت إرادة النهر، أنّه أصبح يفهم هذا العقل الجماعي أو يتحاور معه. هو مثل كل عقل فردي أعجز من أن يرتقي إلى فهم مقاصد وأهداف وتقنيات النسيج الذي هو جزء منه ولمحة خاطفة من زمنه الطويل. لكنه كجزء من الشبكة، يعبّر عمّا يختلج داخلها من تردّد وتساؤل وحيرة وقلق. وكجزء من الشبكة هو مطالب بتأدية وظيفته في المساهمة في التوضيح والبلورة والاستكشاف، لتتلقّى بقية أدمغة الشبكة مقطعا من خطاب مسترسل، تنطلق منه مواصلة وإضافة وتحويرا وهكذا إلى ما لا نهاية من أجل حسن القرار. فالأمر الذي يخيّل لي سماع صداه يتردّد في وعي أمّة أرهقها الإخفاق وراء الإخفاق وفقدت احترامها لنفسها واحترام العالم لها من طول دورانها في الحلقات المفرغة وضياعها في نفس الرمال المتحرّكة هو: لا حقّ لكم في تجربة فاشلة أخرى.

****


2- جذور الاستبداد.

لقد وفّر الحديث حول الإصلاح، على نفسه الخوض في أصعب الإشكاليات وأهمها: أسباب قدم الاستبداد ودوامه بل وقدرته على التجدّد وكأنّه طائر الفينيق يبعث حيّا بعد كلّ اغتيال أو وفاة.
إن مقولة موت الأنظمة العربية في العقول والقلوب، وإن كانت صحيحة تعني الأنظمة المستبدّة الحالية، لكن هل مات الاستبداد في العقول والقلوب ؟ ها نحن مجدّدا أمام خطر التهابه عبر الإسلام السياسي بعد أن اكتوينا بقوميته ووطنيته واشتراكيته. إن ما تظهره حربنا المتواصلة على الظاهرة هو أنه لا أسهل من الخلاص من المستبدّ ولا أصعب من الخلاص من الاستبداد وكأننا لا نتعلم أبدا من تجربة باهظة الثمن.
قيّموا لحظة عمق التخلف والخراب الذي تسببت لنا فيه حفنة من الأشخاص تسميهم الصحافة الزعماء العرب. وبالمناسبة لنذكّر بوجود أزمة مصطلحات لتعريف هؤلاء الناس الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء مؤبّدين على مصير الأمة. نحن لا نستطيع تسميتهم قادة لأن القائد من يقود... والقيادة تعني دوما فتح طريق الشعوب وتعبيده إلى... الأمام وإلى فوق. هؤلاء الناس ما انفكّوا يجرّونا إلى الوراء وإلى تحت. لا يمكن أن نسمّيهم زعماء لأن الزعامة هيبة ومصداقية وقدوة. هي كل الخصائص التي لا يعترف عربي صادق واحد بوجودها فيهم. لا يمكن حتى وصفهم بالحكّام لأن في الكلمة ضمنيا معنى الحكمة. ولو كان لهم منها الحدّ الأدنى لما وصلنا إلى هذا الحضيض. ولأن وجودهم مرتبط بالسلطة والتسلّط، فلنسمهم السلاطين فهذا المصطلح أدقّ وصف وأقرب تعريف لهم إلى الموضوعية.
المهمّ تذكّر ملايين الموتى بالحرب والتطهير وجو الرعب الذي عاشت فيه أمم كبرى عقودا، ناهيك عن بقية التكلفة الاجتماعية الهائلة لمرور أشخاص على السلطة مثل هتلر وستالين وماوتسي تونج وبول بوت وصدّام حسين. يبقى الإنسان مشدوها أمام ما يستطيع فرد واحد التسبّب فيه من كوارث...ومع ذلك تواصل إنتاج هذا النوع من رجال السياسة .
لماذا نصنع نحن وبقية الأمم بدون توقف المستبدّين رغم تكلفتهم الباهظة ؟
*
لنبدأ بالتساؤل عن طبيعة المستبدّ ، هذا الشخص –اللعنة على شعبه وأحيانا على العالم بأسره .
لقد تغلّب في القرن الأخير الرأي القائل بأن ما يتحكم في مجرى التاريخ هو صراع البنى الفوقية والتحتية مثل الطبقات أو الإيديولوجيات أو الحضارات ، أمّا الأشخاص فمجرّد أدوات في خدمة قوى تتجاوزهم. المضحك في الأمر أن الماركسية ، التي نظّرت أكثر من أي مدرسة فكرية أخرى لهذه المقولة ، هي التي أفرزت ستالين وماو تسي تونح وبول بوت وقد اثبتوا كلهم ما لشخص واحد من قدرة هائلة على التحكم في الهياكل الكبرى التي يفترض أنه مجرّد أداة لها . كيف يمكن تفسير الظاهرة؟
قد يكون نموذج البيولوجيا للفيروس والأنظيم Enzyme ،مدخلا لفهم الظاهرة، علما وأننّا لا ندّعي تشابها مطلقا بين الجسم البيولوجي والجسم الاجتماعي. فالفيروس، مثل الدكتاتور، خليّة بسيطة لا يحسب لها حساب إذا قارنتها بالعدد المذهل لخلايا الجسم وتعقيدها المخيف. ومع هذا فيا للقدرة الخارقة التي يمتلكها لإلحاق أذى لا يقاس ببساطة تركيبه أو حجمه. هو يستطيع أن يتسلّل إلى الجسم فيدمّره عبر تقنية ثابتة تتمثّل في الاستيلاء على آليات تسيير الخلايا وتفويض قدراتها لصالحه الخاص غير عابئ بما في هذا من تدمير بقية الجسم.
هذه القدرة هي نتيجة خاصية هامّة لهذا الأخير. هو نظام يخضع لسلطة مركزية موجودة في نواة الخلية. إذا استطاع الفيروس الوصول إلى مركز النظام هذا استطاع الاستيلاء على كامل الجسم. ثمة خاصية أخرى تفسّر الأمر. كلّما تزايد تعقيد الجسم، كلّما تزايدت نقط ضعفه وسهولة إلحاق عطب به. فحتى حصاة من الكالسيوم لا يتجاوز قطرها بعض المليمترات مثلا، يمكن أن تسدّ المجاري البولية متسبّبة في آلام مبرحة وأحيانا في تعفّن ومرض الكلية. نفس الشيء عن حصاة الكوليسترول التي يمكن أن تسدّ الشرايين القلبية فتكون الجلطة فالموت الصاعق أحيانا. كذلك المجتمعات البشرية. هي أيضا هياكل حية بالغة التعقيد تملك أجهزة حيوية يسهل إلحاق العطب بها ومن أخطرها نظامه السياسي الذي هو بمثابة الجهاز العصبي عند الإنسان. قد يجد البعض أن هناك إجحافا كبيرا في مواصلة التشبيه والقول إنه كما تؤدي إصابة الدماغ بالفيروس إلى ظهور أعراض الشلل والعته، فإن إصابة الجهاز العصبي للمجتمع بالدكتاتور تؤدّي إلى نوع من الجنون سياسيا واجتماعيا. لكن أليس تعامل النظام الاستبدادي مع الواقع مجنون بالمعنى الطبّي للكلمة،أي منفصل عن الواقع ومتطلباته ومناف للمنطق والعقل؟ أليس التنكيل الوحشي بالبشر على امتداد العقود الطويلة خير دليل على اختلال المدارك العقلية للنظام ككلّ ؟ أليست قصص المؤامرات التي تحاك في الظلام ضدّه والهوس الأمني الدائم الذي يحيط بالدكتاتور من ظواهر أخطر الأمراض العقلية: البارانويا أو عقدة الاضطهاد. أليست المجتمعات المصابة بمرض جهازها العصبي غير قادرة على تحقيق أهدافها والفوز بقصب السباق مع أمم تنافسها الريادة والخلق الحضاري، لأنه لا يمكن لمجتمع مشلول أو ''مجنون'' أن يسابق طليقا سويا وينتصر عليه؟
يبقى لحسن الحظّ أن التاريخ لا يحفل فقط بأسماء أفذاذ القتلة بالجملة والذين قادوا شعوبهم إلى التهلكة هو حافل أيضا بأسماء تنحني لها الرؤوس إجلالا لا خوفا ولا طمعا.
نعود للبيولوجيا وما تسميه الأنظيم. هو أيضا مكوّن عضويّ وحيد بالغ الصغر. لكنه خلافا للفيروس عامل رئيسي من عوامل البناء والتشييد. فلولاه لما استطاعت المفاعلات الكيماوية الضرورية لحياة الجسم أن تضطلع بوظائفها. وفي غيابه تتوقّف عمليات البناء والإصلاح أو تتباطأ بشكل رهيب. هو يلعب دور المحرّك والمنشّط والموجّه للطاقات الكامنة في الجسم. من هذا المنطلق يمكن القول أنّه بقدر ما لعب صدّام حسين دور فيروس العراق بقدر ما كان نلسن مانديلا أنزيم جنوب إفريقيا.
ذلك هو دور الشخص الفذّ في مفاعلات التاريخ. هو يستعمل ما فيها من مخزون مدمّر ليدمّر فيكون فيروس شعب، أو يوظّف إلى أعلى المستويات ما يوجد بداخلها من طاقات بنّاءة ليبني، فيكون أنزيم أمة وحتى حضارة بأكملها.
تنتهي هنا حدود التشبيه البيولوجي لأنّ الفيروس المجتمعي ليس مثل الفيروس الذي يرتطم به الجسم عندما يصاب بالحمى الصفراء أو نقص المناعة المكتسب . هو ليس حدثا طارئا وليس صدفة سيئة وليس عاملا خارجيا دخل الجسم عنوة واغتصابا. هو افرازة من افرازات المجتمع.
*
السؤال: إن كان من السهل فهم إفراز المجتمع لأنظيم مثل مانديلا أو غاندي فلأي سبب يفرز فيروسا خطيرا مثل هتلر أو ستالين أو مصيبتنا الكأداء: الطاغية العربي لبس عمامة شيخ أو قبعة شرطي أو خوذة عسكري ؟
انظر إلى ظروف انتصاب أي دكتاتورية. ستجد أنها كانت نتيجة حالة لا يتحملها أي مجتمع: الفوضى. انظر إلى الظروف التي يجيد الدكتاتور استغلالها خلقا وتفويضا للاستيلاء على السلطة أو البقاء فيها . ستجد دوما أنها ظروف تتعلّق بصفة مباشرة أو غير مباشرة بنفس الظاهرة .
ثمة ثلاث حالات رئيسية تبرز فيها الصلة الوثيقة بين الفوضى والمستبدّ ( بما هو حجر الزاوية في منظومة كاملة من الأشخاص والأجهزة و''القيم'' والتبريرات الإيديولوجية لممارسة السلطة كتسلّط):
-هو يغتنم وجودها أو يهدّد بظهور بوادرها لتقديم خدماته للقوى التي ترهبها.
- يصنعها ليبرّر انقضاضه على المجتمع حتى تتواصل الحاجة إلى القبضة الحديدية. توقّعوا دوما من مخابرات كلّ نظام استبدادي في وضع صعب، أن تبادر، هي لا غير، لوضع القنابل بغية إشاعة جوّ من الرعب أملا في التفاف الأغلبية الصامتة حول الممرض الشافي.
- يخلق ظروفها الموضوعية ، فلا شيء يساهم في تكوينها ولو ببطء شديد أكثر من نظام مبني على ثلاثية الفساد والقمع والتضليل.
ما الذي نعنيه بالفوضى ؟ إنها أزمة استثنائية يمرّ بها المجتمع ، تتميّز بانقلاب موازين القوى، ليصبح من هم تحت فوق، ومن هم فوق تحت ،مع اختفاء الحدّ الأدنى من الأمن الفردي والجماعي وبروز المخفي والمكبوت من العنف والهمجية القديمة. يحصل كلّ هذا نتيجة تبخّر مؤقّت لسلطة كانت تحمي نظاما سياسيا واجتماعيا معينا بالترغيب أحيانا وجلّ الوقت بالترهيب.
ما من شكّ أنّ المجتمعات الآدمية قادرة على تحمّل كلّ شيء إلاّ مثل هذه الحالة التي تضرب كلّ مقومات حياتها وتعيدها إلى ما قبل التاريخ. وقد تكون ذكرى مثل هذه ''الزلازل'' وما ألحقته من ضرر مريع هي التي تجعل من الاستقرار مطلب كلّ مجتمع إنساني. قديما قال أجدادنا ''ألف ليلة تحت سلطان جائر خير من ليلة واحدة دون سلطان''. ثمة أشكال أخرى من الفوضى لا تظهر بانفلات الأمن في الشارع وإنما في استشراءها داخل العقول والقلوب عبر حالة متميزة بالقلق والتململ الناجمة عن شعور عارم بأن الأمور تسير في الاتجاه الخاطئ وأن المجتمع على حافة الهاوية. لا بدّ من حلّ سريع وجذري للمخاطر المحدقة بالمجتمع، الحقيقية والوهمية، فالاستقرار طلب الطبقات الساحقة مثلما هو طلب الطبقات المسحوقة. هو لا يحمي مغانم الأولى فقط، وإنّما يحافظ أيضا على النزر القليل الذي تحصلت عليه الثانية بشقّ الأنفس.
ها قد دقت ساعة'' المنقذ '' وهو شخص يفترض منه أو يفرض على الآخرين فكرة قدرته على تعديل الميزان وجعله يعود إلى نقطة التوازن المطمئن . وفي اللحظة التي يبدأ فيها الشخص عمله كأنزيم محتمل ومأمول فيه ،تبدأ المفاعلات المعقدة التي ستجعل منه الفيروس القاتل والمجتمع في كلّ هذا كالمستجير من الرمضاء بالنار.
ثمة شبكة معقدة من الأسباب لتفسير الانتقال من الوظيفة '' الأنزيمية'' إلى الوظيفة''الفيروسية ''.
هناك في البداية شخصية '' المنقذ'' .
دافع فرانك هربرت الكاتب الأمريكي الشهير عن نظرية للسلطة جدّ متشائمة وملخصها أن هذه الأخيرة وخاصّة المطلقة ، لا تستهوي إلا من بنفوسهم مرض عقلي خطير.
ومن هذا المنطلق لم أستغرب شهادة شاهد من أهله تقول بمنتهى الوضوح أن بورقيبة كان مجنونا بالمعنى الطبي للكلمة وهو ما يفسر الكثير من مواقفه الهوجاء وآخرها تسمية بن علي.
وحتى لا أتهم بالكذب وسوء النية وتصفية الحسابات العائلية والعقائدية بالوسائل الخسيسة مع ميّت ، فإنني سأكتفي بتقديم شهادة محمد الصياح وكان في وقت ما خليفته المحتمل. فيه أما من سيبحث عن المهرب بالقول أنني أخرجت الجملة من سياقها فما عليه إلا أن يعود للمصدر (1). إذن يقول الصياح :
‘’Bourguiba présenta les signes d’un nouvel accès de ce qui avait été diagnostiqué chez lui par certains médecins traitants en France et aux Etats- Unis comme une psychose maniaco- dépressive. Cela lui a valu ، un séjour de plusieurs mois à Genève en 1971 où il était suivi par l’équipe du professeur Ajuria –Guerra .’ ’
والآن هذه هي الترجمة الحرفية '' لقد أبدى الحبيب بورقيبة أعراض نوبة جديدة مما شخصه عنده بعض الأطباء المباشرين في فرنسا والولايات المتحدة تحت اسم الجنون الدوري . وهذا ما أدى مثل سنة 1971 إلى البقاء أشهرا عديدة في جنيف تحت مباشرة طاقم الأستاذ أجوريا جرّا''
هنا سأسمح لنفسي بالتعليق أو على وجه التدقيق بالشرح كطبيب مختص في أمراض الجهاز العصبي
1-في السبعينات كنت أعدّ مسابقة الإقامة في المستشفيات الجامعية واذكر أنني كنت أتمرّن على حفظ رسوم ألأستاذ السويسري المشهور جدّا '' أجوريا جرّا ''في خرائط الدماغ لأنه كان من أكبر الأطباء في الأمراض العقلية . إنّ طبيبا كهذا لا يخطئ في تشخيص مرض جدّ'' بسيط'' كالذي عانى منه بورقيبة ، فتشخيص الجنون الدوري من إمكانيات طالب في السنة الخامسة لما فيه من أعراض تعمي البصر. لكن انتبهوا إلى قول الصياح أن الأطباء الأمريكيين والسويسريين هم الذين قاموا بالتشخيص أي ليس الأطباء التونسيون الذين كانوا يعرفون الحقيقة وأخفوها عن الشعب. أليس كذلك يا '' زملائي'' الأعزّاء '' ؟ قيل لي عندما بحثت في الموضوع مع بعض قدامي البورقيبيين أن هؤلاء
'' الأطبّاء'' كانوا يتملقون الرجل بافتعال الغضب من هذا التشخيص وربما منعوا عنه الدواء الكفيل على الأقلّ بتحجيم الجنون.
2-المرض المسمى psychose maniaco-dépressive هو مرض عقلي ومن ثمة كلمة psychose وضدّها مصطلح névrose الذي يطلق على الاضطراب النفسي وهو بالطبع أقل خطرا . ويتمثل المرض في المرور من انهيار عصبي تامّ يترك المرء شهورا مشلول القوى في حالة متواصلة من الحزن والكآبة وسوداوية مزاج إلى حالة هيجان وصخب وحيوية فائقة وسرعة التفكير واتخاذ القرارات الحمقاء مثل بيع حلي الزوجة لأول عابر سبيل بأبخس ثمن دون استشارتها أو تدمير البيت لبناء آخر فوقه بحجة انه لم يعد صالحا للسكن. وثمة من يتأله ومن يتنبأ ومن يفتح له عيادة طبيب وهو ممرّض الخ .... لهذا يقع الحجر بسرعة على هؤلاء المرضى إلى أن تمرّ فترة الهيجان ويدخلوا من جديد في فترة الانهيار العصبي ويقع الحجز عليهم في هذه الفترة لمنعهم من الانتحار.
3-ثمة أدوية تعطى لهؤلاء المرضى لتسوية مزاج متقلب على أمل تمكينهم من حياة عادية لكن المراقبة مستمرّة إلى الموت حيث لا علاج نهائي لهذا الخلل المزمن.
4-هذا الرجل الذي يبعث أمثاله إلى مستشفى الرازي هو الذي سماه البرلمان رئيسا مدى الحياة سنة 1974 وهو الذي قاد بلادنا سنينا وعقودا واتخذ كل القرارات المشئومة التي تعرفون .
الغريب في الأمر أن شهادة بمثل هذه الخطورة – والخطورة الفائقة- مرّ عليها الجميع مرّ الكرام ، وقد يكون عرضها في كتاب لا يقرأه إلا المختصون ولن يترجم يوما للعربية وملخّص لقاء أكاديمي .... أقول
قد يكون كل هذا من باب إخفاء حقيقة دامغة بعرضها من بين جملة معلومات كثيرة حتى تضيع في الزحمة والتعقيد والابتذال ولا ينتبه لمعناها أحد. لسوء حظّ أصحاب هذا النوع من التعتيم الذكي يتصادف أنني اقرأ وبحكم مهنتي لا زلت أعرف ما معنى مرض عقلي خطير مزمن نسميه بالعربية ''الجنون الدوري ''.
الثابت أنّه يجب أن تكون ''للمنقذ'' مهما كانت خطورة أمراضه النفسية أو العقلية جملة من المواصفات لتأدية المهمّة وتختزل كلها في القبضة الحديدية .
لكن من يقدر على التضحية بالثلث الفاسد لإنقاذ الثلثين الصالحين حسب التعبير الشهير الذي قال به علماء المسلمين في عهد عمر سوى دكتاتور قادر على الفتل بلا شفقة.
لنتذكّر أن القمع الضروري لفرض الاستقرار مثل علبة ''باندور'' الشهيرة في الأساطير اليونانية. ما أن تفتح هذا الباب حتى يستحيل إغلاقه ذلك لأن العنف يولّد الأحقاد والأعداء وهو ما يتطلب رفع مستوى الحيطة والحذر عند الشخص الجالس على سدّة التسلّط. هكذا سترى السلطان يزيد في تشديد القبضة الحديدية... الشيء الذي يؤدي ضرورة إلى ظهور مقاومة أقوى لا بدّ أن يكسرها بمزيد من العنف ، ممّا يؤدي إلى توسّع جديد في دائرة الأعداء وهي ستضمّ طال الزمان أو قصر أقرب الناس إليه. تتعمّق عنده البارانويا إن كانت موجودة من قبل، أو تبرز وتتطوّر بحكم الوضع الذي هو فيه. يعرف أطبّاء الأمراض العقلية أن خطر المصابين بالشيزفرانيا أو انفصام الشخصية هو الانتحار، أمّا خطر المصابين بالبارنويا فهو القتل. هم دوما في حالة دفاع مرضي عن النفس، يتوهمون أنهم في حالة حصار من قبل أعداء لا عدّ لهم ولا حصر. معنى هذا أن المجتمع لعب بالنار عندما وضع مصيره بين يدين لا تخشيا سفك الدم. شتّان بين مردود الحزم بالقانون والإرهاب خارج كل قانون لحلّ مشاكل المجتمع.
حقا لا يجوز لنا الادعاء أن كل مستبدّ مريض عقلي مصاب بهذيان البارانويا أو جنون العظمة. لكن يحق لنا القول أن داخل شخصية كل مستبدّ استعدادا كبيرا لبلورة خصائص مرضية تصل أحيانا الجنون الكامل عند طغاة حفظ التاريخ أسماءهم مثل كاليجولا ونيرون ومراد الثالث. إن التعامي عن هذا الجزء من حقيقة النظام الاستبدادي قد ينطلق من سياسة النعامة إذ نفضّل كلّنا أي فرضية على أن يكون المجتمع بين يدي مجون لا يحال إلى أقرب مستشفى للأمراض العقلية وإنما تتعبّد له الجماهير كرها أو طوعا. المرعب في نظرية هربرت أنّه لا أمل لنا يوما في حكم سويّ لأن السلطة لا تجذب إلا المرضى. أمّا الأسوياء فمشغولون عنها بما هو أهمّ. أضف إلى هذا أنّ الأنظمة السياسية لا يمكن أن تستوعب كل المصابين بالبارنويا وجنون العظمة في المجتمع ، فالدكتاتور واحد من بين آلاف، نجح في الوصول إلى أعلى مراكز القرار وبقي الآخرون احتياطا لا ينضب لتجدّد الاستبداد، ينتظرون فرصتهم . في الأثناء فتحوا لمجال مرضهم فضاء العائلة والجمعية والحيّ والإدارة والمؤسسة الاقتصادية.
*
يبقى أنّ شخصية المستبدّ لا يمكن أن تفصل عن الوظيفة السياسية التي حمّلها إياه المجتمع وخاصة الأدوات التي يعتمدها للتغلّب على الفوضى.
نحن نعلم أن المطلوب من المستبدّ تقديم حلول جذرية وسريعة بتركيز كل السلطات بين يديه والحال أن مشاكل المجتمع المتراكمة من قديم زمان لا تحلّ إلا بسياسات معقدة طويلة المدى بعيدة العطاء لا تخضع فقط للإرادة الفردية المطلقة من كل عقال. لا خيار للمستبدّ سوى الركون إلى ستراتجياته الثلاث وهي التضليل حول النتائج الباهرة التي وصل إليها وشراء الضمائر وخاصة إرهاب الدولة للقضاء على المشككين في نجاعة السياسة المتبعة.
إن ما يحققه الاستبداد في بداية انتصابه هو استقرار المستنقعات حيث السطح هادئ والأعماق زاخرة بالعفن. هو يذكّر أيضا باستقرار البركان الذي ترعى الأغنام على سفحه وفي أعماقه تغلي مراجل الحمم. لا غرابة في ذلك لأنّ الاستبداد لا يلغي الأسباب التي أدّت إلى الفوضى وإنّما يغطّي عليها. وفي صورة أخرى هو مثل الجرّافة التي تهشّم كلّ ما يقف أمامها لكن قوّتها لا تؤدّي إلى استئصال النباتات'' المضرّة '' وإنّما إلى دفنها أعمق في التراب لتزهر من جديد حال توفّر أوّل فرصة لذلك.
معنى هذا أن الاستبداد هو دوما إرجاء باهظ الثمن لمشكلة لا حلّ لها في إطاره وإنما في إطار آخر وبعقلية أخرى ومنهجية مختلفة تماما.
إن أسباب الفوضى دوما متشابكة بالغة التعقيد ولا ينفع فيها على الأمد الطويل لا التضليل ولا شراء الضمائر ولا إرهاب الدولة، وإنما تساهم كل هذه العوامل في تغذيتها وتقويتها لجولة جديدة من التمرّد والقمع. هكذا يعيد السلطان عقارب الساعة إلى الصفر ليبدأ فصل جديد من الانزلاق نحو الفوضى تحرّكه قوى ثلاث: الظلم والقدوة السيئة والتراتبات السلبية للعنف الأعمى.
وبخصوص الظلم فإنه ليس بالضرورة الظلم في المطلق بقدر ما هو عجز الأرستقراطيات عن شراء السكوت عنه بما يكفي من الفتات. ففي أمريكا مثلا هناك من الفتات ما يكفي لكي تقبل الأغلبية الصامتة بالتفاوت الطبقي الرهيب يحدوها الطمع والوهم بأنها قد تستطيع بين عشية وضحاها الالتحاق بركب المنتصرين ولو على جثث كل مهزومي الأرض. لكن عندما تتناقص كمية الفتات وتنزل تحت خطّ أحمر ويتضح استحالة دخول النادي المغلق، تبدأ بوادر الثورة في أي مجتمع.
إن من أهمّ تراتبات السلطة المطلقة الفساد بما هو حقّ التصرّف المطلق في الأعراض الخاصّة والثروات العامّة. لكن المجتمع السليم مبني دوما على العكس أي على الاحترام الدقيق للأعراض الخاصة والثروات العامّة. معنى هذا أن الفساد الذي يصاحب الاستبداد هو بمثابة البكتريا التي تحلّل الأنسجة وتفكّك الروابط التي تجعل من الأنسجة أعضاء ومن الأعضاء جسما سليما. إن أخطر ما في الفساد ليس كمية الأموال العامّة المسروقة، أو عدد التجاوزات الأخلاقية بقدر ما هو القدوة السيئة. فالناس دوما على دين وطبائع ملوكها. ضع فاسدا على هرم السلطة ترى الفساد يتسلل كالسرطان إلى كل خلايا المجتمع ليقضي تدريجيا على كل القيم والقوانين التي تغرس فيها المؤسسات السياسية والاجتماعية جذورها. هكذا رأينا الفساد يصبح ممارسة طبيعية عند أبسط أعوان الشرطة والقضاء والإدارة والمؤسسات الاقتصادية. ولا مجال لإيقاف هذا التحلّل والتفكّك إلاّ بضرب رأس النظام الذي يعتقد أنه يمكن مواصلة التضليل عبر شعار : افعلوا ما أقول ولا تفعلوا ما أفعل.
القوّة الثالثة هي سلبيات القمع. ثمة تصاعد الأحقاد عند الضحايا الذين تتسع دائرتهم بطول الوقت. لكن ثمّة خاصة الأثر الجانبي للعنف الأعمى. إنّ لدواء ''الفينوباربيتال ''( الذي يوصف لمرضى الصرع)، مفعولا عاديا: تهدئة الأعصاب. لكن عند عشرة في المائة من الناس هو دواء يثير ويهيّج. أمّا القهوة فهي عند الأغلبية منشّط، لكن مفعولها العكسي يجعلها أحسن مخدّر بالنسبة لأقلية من النّاس. كذلك الأمر بخصوص القمع. يلعب مفعوله العادي دوره في زرع الرعب عند الأغلبية وإجبارها على الخضوع. لكن هناك المفعول المعاكس الذي يستثير ويحفّز ويصطفي ويجمّع نوعية قارّة داخل المجتمع هم المتمرّدون. هذه الملّة الملعونة من قبل كل استبداد، هي التي ستطيح به لأنها تتغذّى بالقمع وتقوى به ثم هي التي تنقل عدوى الشجاعة إلى المسحوقين.
هكذا تتراكم يوما بعد يوم أسباب الفوضى الجديدة وتعود دار لقمان على حالها عشية عملية ''الإنقاذ''. إنها كالفيضان الناجم عن تراكم الأوساخ في مجرى النهر وارتفاع منسوب الماء فيه بكيفية تفوق قدرة الاستيعاب. وفي آخر المطاف فإن المستبدّ محكوم عليه بأن يكمل الدوران في حلقة فارغة انطلقت من الفوضى وعادت إليها بعد ترك المجتمع، سواء كان المجتمع الألماني بعد هتلر أو الكامبودي بعد بول بوت أو العراقي بعد صدّام، في حالة متقدّمة من الخراب.
هكذا يبدو المجتمع الإنساني ككل نظام طبيعي عرضة للاختلال. وعندما يختل التوازن بكيفية مرضية تراه يمرّ من انتقام المظلومين بالثورة إلى أقصى الاختلال الآخر الذي هو انتقام الظالمين بالاستبداد. لقد كان تاريخنا السياسي دوما تاريخ هذا التأرجح بين قطبي الاختلال وأمر العقل الجماعي اليوم أن نجد نقطة التوازن. هذا التوازن هو استقرار البحر حيث السطح متحرّك أهوج تتابع عليه أمواج الاضرابات والمظاهرات الصاخبة، لكن الأعماق هادئة تزخر بدفق الحياة. ما أعجز الاستبداد عن وضع المجتمع في نقطة التوازن هذه وهو الذي يمتلك أيّ من آليات التصحيح.
ثمّة غياب تامّ لكل ضوابط التصحيح من حرية النقد والتقييم. ثمة شخص يؤمن بعبقريته الفذّة وتغذّي فيه هذا الهذيان باستمرار بطانة السوء والشرّ.
لنركّز هنا على دور هذه البطانة في تعفن الأوضاع وشلّ كلّ آليات التصحيح لو وجدت. هي تكوّنت بمفعول قانون مضاد لقانون الطبيعة الأوّل وهو تصفية الأكفأ في صراع الحياة. فالطاغية لا يستطيع أن يقبل حوله منافسين أو معاونين لهم شخصية يمكن أن تلقي بظلالها عليه، ومن ثمة سياسته في التخلّص من الأكفاء وإحاطة نفسه بكلّ من هو خانع وتافه وضعيف. هكذا تمتلئ أعلى دوائر قرار تتحكّم في مصير مجتمع بأكمله بضعاف النفوس والشخصية وكلهم في سكرة من أمرهم لوصولهم إلى مراكز ما كانوا يحلمون بها لو كانوا في نظام سياسي طبيعي. هذه ''الردائقراطية '' هي التي ستحجب عن الدكتاتور الواقع وتغذّي هذيانه. هي التي ستزيّن له ما تطمح نفسه لسماعه أي أن كل الصعوبات التي يواجهها ناجمة عن العمل التخريبي لشواذّ يكرهون الزعيم الأوحد لأنّ ''كل ذي نعمة محسود''. هي التي ستسكت أمام القرارات الهوجاء التي تدرك خطرها. هي التي ستنفذها رغم ذلك لأنّ ولائها لبطونها وليس لمجتمع أصبحوا بالنسبة إليه مثل خلايا السرطان بالنسبة لجسم عليل. وفي هذه الوضعيّة ترى رعايا الدولة الاستبدادية كركّاب باخرة تتقاذفها العواصف وهم بين يدي ربّان معتوه وبحّارة تبدأ مهارتهم وتنتهي عند تقديم الخمر والأفيون والمنشطات للربان. يدخل الاستبداد آنذاك في حلقة مفرغة لا تنتهي إلا عندما يخرّب التسلّط المطلق من عقاله كل مقومات حياة المجتمع والدولة.
لقد مورست السلطة على مرّ التاريخ من قبل المجانين والعبيد والعاهرات والأغبياء واللصوص والمجرمين مثلما مورست من قبل الأنبياء والمصلحين والأفذاذ من صناع التاريخ. وإن كان هناك درس علّمنا إياه التاريخ فهو أن المهمّ ليست ممارستها بقدر ما هو النجاح في هذه الممارسة .هذا النجاح له مؤشران: الأول موضوعي وجماعي ويتمثل في تشغيل مؤسسات وسياسات تضيف وتبني وتعمق وتدفع إلى الأمام بمكتسبات الإنسان والمجتمع أمّا الفاشلة كالتي تصول وتجول في بلادنا وكامل أرجاء الوطن العربي ،فهي سلطة تدمّر وتخرّب وتقمع وتضلّل وتجهّل وتمنع الإنسان والمجتمع من بلورة أحسن ما فيه. أمّا المؤشّر الثاني فهو ذاتي، فالنجاح أن ينال المسئول المحبة دون تصنّع والاحترام دون إكراه، أن يبقى له ذكر بين الناس واسم يفاخر بحمله الأطفال والأحفاد. تفتقد العصابات التي تتحكّم في رقابنا اليوم كلّ هذا. هي تسرق وتنهب وتضلّل وتقمع وتزوّر وتكذب تحت الأضواء الكاشفة. لعمري أي لذّة يجدون في غداء فاخر، لكنه ملوّث بالتراب والبول؟ أي منفعة يستمدّون من نفوذهم وهم أوّل من يعلم أن ما يحفّ بهم من تبجيل كذب ونفاق، أن سمعتهم مضغة في الأفواه، أنهم لن يتركوا إلا أسماء سيخجل من حملها الأطفال والأحفاد. المضحك المبكي في الأمر أن الناس لا يبحثون عن الشهرة والمال والسلطة إلا ليحصلوا على المحبة والاحترام والمكانة الرفيعة في قلوب الناس والصيت الحسن بعد رحيلهم. هؤلاء الناس تحصلوا على كلّ هذا فلم يجنوا من ورائه إلا كره المجتمع واحتقاره الناقم الغاضب، ناهيك عن سخرية الأجانب واحتقارهم الذي نكتوي بها كلّنا. وكلما أفاقوا لهذا الفشل الرهيب سارعوا إلى مهرجانات تزييف الحبّ وشراء الاحترام وافتعال الإجماع فلا يزيدون الطين إلاّ بلّة. يا للمساكين إنهم في آخر المطاف جديرون بالرثاء. فلو دقّقنا النظر في الوضعية الحقيقية والبالغة التعقيد والصعوبة للمستبدّ وأفراد بطانته ،لما كان شعورنا تجاههم سوى الشفقة. إن هذه الأرستقراطية الفاسدة في حالة تسمّم متقدّم بمخدّر اسمه السلطة، ومن أعراضه اللذة الخارقة التي يوفّرها والبحث الدائم عن مزيد منه واستحالة مفارقته ودفع الثمن الباهظ من كرامتهم وكرامة البشر لمواصلة التسمّم. لكن وراء حالة التوحّش الظاهرية التي تسمح لهم بالتمتع مؤقتا بأقصى قدر من الحرية والامتيازات توجد حالة أقلّ بهجة هم فيها بيادق لا حول لهم ولا قوّة بين يدي لاعب قاس سمّه القدر أو روح المجتمع أو ما شئت من الأسماء. وإن كان هناك مستشفيات لعلاج مدمني الخمر والمخدرات فلا توجد مستشفيات لعلاج المدمنين على السلطة باستثناء زنزانات الإيقاف عندما تنتهي السكرة ويحضر الدائنون. وما من شكّ أنّ لهم صحوة تطول أو تقصر يدركون فيها ورطتهم والأخطار المتعاظمة المحدقة بهم. ثمة طريقة العلاج الذاتي بالبحث عن المسوغات والتبرير وتذكير أنفسهم بالأعمال الصالحة التي قدموها. كأن إطعام طفل وكساءه يمكن أن يغطّي على تجويع أخيه واغتصاب أمّه وتعذيب أبيه.
لقد مورست السلطة على مرّ التاريخ، من قبل المجانين والعبيد والعاهرات والأغبياء واللصوص والمجرمين، مثلما مورست من قبل الأنبياء والمصلحين والأفذاذ من صناع التاريخ. إنما المشكل هو النجاح في ممارستها. هذا النجاح له مؤشران.
المؤشّر الأوّل ذاتي. فالنجاح أن ينال الحاكم المحبة بدون تصنّع والاحترام بدون تكلّف، أن يبقى له ذكر بين الناس واسم يفاخر بحمله الأبناء والأحفاد. تفتقد العصابات التي تتحكّم في رقابنا اليوم كلّ هذا. هي تسرق وتنهب وتضلّل وتقمع وتزوّر وتكذب تحت الأضواء الكاشفة. لعمري أي لذّة يجدون في غداء فاخر، لكنه ملوّث بالتراب والقاذورات ؟ أي منفعة يستمدّون من نفوذهم وهم أوّل من يعلم أن ما يحفّ بهم من تبجيل كذب ونفاق ....أن سمعتهم مضغة في الأفواه ...أنهم لن يتركوا إلا أسماء سيخجل من حملها الأبناء والأحفاد. إنّ الناس لا يبحثون عن الشهرة والمال والسلطة إلا ليحصلوا على المحبة والاحترام والمكانة الرفيعة في قلوب الناس والصيت الحسن بعد رحيلهم. هؤلاء الناس تحصلوا على الشهرة والمال والسلطة فلم يجنوا من ورائها إلا كره شعب كامل واحتقاره الناقم الغاضب. وكلما أفاقوا لهذا الفشل الرهيب سارعوا إلى مهرجانات تزييف الحبّ وشراء الاحترام وافتعال الإجماع فلا يزيدون الطين إلاّ بلّة. يا للمساكين ! تبقى القاعدة التاريخية صحيحة إلى الأبد أن أول ضحية للدكتاتورية هو الدكتاتور وبعده بطانة الفساد والشرّ المحيطة به.
أمّا المؤشّر الثاني فهو موضوعي وجماعي ويتمثل في كون السلطة نجحت في أن تضيف وتبني وتعمّق وتدفع إلى الأمام بمكتسبات الإنسان والمجتمع. أمّا الفاشلة، كالتي تصول في بلادنا و الوطن العربي، فهي سلطة تقمع وتضلّل وتفسد وتخرّب الوطن والإنسان.
هذه السلطة التي تمتّع بها سلاطيننا الفاسدين والتي منعتنا من احتلال المكان الذي نستحق بين الأمم العظمى هي القيد في اليدين والسلاسل في الرجلين .
كم عرف التاريخ من هؤلاء المساكين الذين لقوا حتفهم في أفظع الظروف بعد حياة كاملة قضّوها يرتعشون من الرعب في قفصهم الذهبي لا يكحّل النوم الهانئ جفونهم. كم من قرابين وقع التضحية بهم بعد أن تجاوزوا حدّا معيّنا من البطش والفساد. ولم هذا ؟ لأن القوى التي تقود حركة المجتمع وأساسا الأرستقراطيات الفاسدة لا تغفل أبدا عن مراقبة المستبد وبطانته مقيّمة ثمن ومردود '' الخدمات'' التي يقدمونها. ويوم يصبح المستبدّ بشططه وغلوّه وتجاوز الحدود في القمع واستخلاص ثمن خدماته، أكبر عنصر يهدّد ما وضع في مركزه للحفاظ عليه، فإنّ ساعة النحر تكون قد دقّّت، إذ لا يوجد فرد أو مجموعة تقدر على فرض إرادتها نهائيا على مجتمع كامل وظروف موضوعية وقوانين سرمدية. معنى هذا أنّ الدكتاتور رغم كل ما يتسبب فيه من مآسي أول ضحية نظامه هو يعيش في رعب دائم رغم تسممه بالمخدر الخطير أو قل أنه لا يكثر من المخدّر إلا للتغطية على رعبه الدائم. ينتهي كابوسه يوما بالخلع أو بالقتل . لكن يقع المسارعة إلى'' مسكين'' جديد يفوّض لنفس المهمة المستحيلة لأن المجتمع المتخلّف عاجز عن التعامل مع مشاكله بطول النفس والحكمة والعمق الذي يتطلبه مستوى تعقيد هذه المشاكل. من يدري ربما يفهم الطامحون لدور المنقذ(على الأقلّ أذكاهم وأقلّهم مرضا) أنهم مجرد قرابين للنحر بعد تخديرهم بمخدّر السلطة....أنّهم مبرمجون للذبح في خدمة قضية مخسورة مسبقا ...إن أكبر ضحية للاستبداد في آخرة المطاف هو المستبدّ ذاته ومن غامر بالدوران في فلكه.
*
إن تعاملنا العادي مع ظاهرة الاستبداد مبني على كره الاستبداد واحتقار المستبدّ. أما الكره فسببه ما يظهره مثل هذا النظام من فظاعة وظلم وهمجية وقسوة ووحشية ولامبالاة بمعاناة البشر. أمّا الاحتقار فمحرّكه ما يحفّ دوما بالمستبدّ من تزييف وكذب وفساد و إرهاب وإذلال. لكن الحقد والاحتقار في آخر المطاف مواقف تلوث الذات الشاعرة بها قبل الذات التي تتوجه إليها. والأخطر من هذا أنها كالضباب الذي يتجمّع فوق النظّارات فيمنع من الرؤية. لا بدّ من مسحه دوريا ولما ينقشع ويفرض العقل الصمت على الغضب والاستنكار تتضح حقائق وبديهيات غيبتها العواطف منها ما لا نحبّ الاعتراف بها ومن أهمّها :
- أنّ المجتمع لا يستورد المستبدّ من المرّيخ ولم يفرضه عليه شعب يريد به شرّا. هو منه وإليه، بل ويعبّر أحيانا عن الحسّ والتصرّف العامّ أكثر ما يعبّر عنها المعارض الديمقراطي. لا يجب أن يغيب عنّا لحظة كما رأينا أنّ النظام السياسي يغرس جذوره في النظام العائلي... أن الدكتاتور ليس إلا الأب البدوي بغطرسته وتجبّره على المرأة والطفل، لكن بدون المحبة والتفاني. أليس صحيحا أن هناك مستبدّ ينام داخل كلّ واحد منّا لذلك ترى التداول على الاستبداد لا إلغاءه هو خاصية تاريخنا ؟
- لا زالت الأغلبية ''ترجو الخلاص بغاشم من غاشم'' كما يقول إيليا أبو ماضي. وسيتواصل الأمر طالما بقي المجتمع العربي متشبّعا بمفهوم متجذّر في ثقافتنا هو المستبدّ العادل. أنه مفهوم بغرابة الذكر الأنثى والبارد الحار لأن المستبد لا يكون عادلا والعادل لا يكون مستبدا. هذا المفهوم قنبلة موقوتة داخل حضارتنا ولا بدّ من تعريته حتى نستأصله من عقول بشر صنعتهم قرون من الاستبداد يترجون الخلاص على يدي سيّد عادل يعاملهم برفق ورأفة وقد استبطنوا عقلية وسلوكيات حيوانات الرعي فأصبحوا رعية وسيدهم الراعي. أن الأوان لنسيان مثال عمر، فهذا الرجل شاذة وليس قاعدة والشاذة تحصى ولا يقاس عليها.
- أخيرا وليس آخرا، أن طول قبول الجسم الاجتماعي بالمستبدّ ليس دوما بسبب الخوف وإنما أيضا بسبب الطمع واللامبالاة وحتى التواطؤ. وهذه ليست خصائص البطانة التي تحيط بالسلطان فحسب. هي أيضا خصائص قطاعات تتسع وتضيق من الشعب ترضى بالاستبداد وتدعمه طالما وجدت فيه أضيق مصلحة لا يهمّها محتشدات أو تعذيب. هذه القطاعات هي التي تختزل خديعتها وسوء تقييمها للأرباح والخسائر في الكلمة الشهيرة لألماني في عهد هتلر '' عندما جاءوا لأخذ الشيوعيين حوّلت بصري، وعندما جاءوا لأخذ الاشتراكيين حوّلت بصري، وعندما جاءوا لأخذ اليهود حوّلت بصري، وعندما جاءوا لأخذي لم يكن ثمة أحد ينصرني'' .
إن الاستبداد مرحلة في حياة الشعوب تفضح ما بها من أزمة قيم من أهمها استشراء الجبن والأنانية والجهل والقسوة وحتى النذالة.
لنعد إلى مثال الطب والبيولوجيا. لا بدّ للإصابة بالسلّ من جرثومة 'كوخ'. لكنها بلا تأثير إذا لم تجد العوامل المسهّلة مثل سوء التغذية والسكن غير الصحي. لكن حتى الأسباب المسهلة هذه لا تكفي. لا بدّ من أرضية تتمثل في ضعف قوى الدفاع الذاتي للجسم وعجزه عن إفراز الأجسام المضادّة الكفيلة بشلّ مفعول الجرثومة حتى في أصعب الظروف الاقتصادية والاجتماعية. بنفس الكيفية لا يكفي وجود الشخص المختلّ المدارك العقلية أو ظهور الفوضى. لا بدّ من عامل ثالث وهو وجود مجتمع غير محصّن فكريا وأخلاقيا وقانونيا ضدّ المرض الذي سيضعه على حافة الهاوية. نحن لا نستطيع فهم انتصاب الاستبداد إذن إن لم نعد إلى الطبقة الحاملة للنظام السياسي ككل أي ''للقيم'' والأفكار ثم القوانين ، التي تصنعه وتبرره وتمدّ في أنفاسه حتى وهو في أوج التخريب.
ها قد اتضحت الأبعاد البالغة التعقيد للمشروع الديمقراطي العربي. فالقضية ليست في نقل وصفة جاهزة قد تصبح مصدر فوضى تعيد لمجتمع الرعايا الحاجة إلى سيّد يحميهم على طريقة المافيا. هي اعتماد تجربتنا الطويلة في بناء الأنظمة الاستبدادية نلدغ من نفس الحجر ألف مرّة ولا نتعّظ، واعتماد تجربة الأمم المتقدمة في بناء النظم السياسية الأكثر نضجا وفعالية وإنسانية، ثمّ ابتكار نظام نحمي به أنفسنا من أنفسنا ويستعيد به المجتمع حيويته ويعيدنا إلى الفعل في ساحة التاريخ. إنّه تحدّ د اخل التحدّي ومغامرة داخل المغامرة، فهل نكون على مستوى الآمال التي وضعها فينا التاريخ. ألم يعلمنا أن الحضارة تتجدّد دوما ابتداء من جيوب الهمجية النائمة على حدود الإمبراطوريات التي أبطرتها النعمة. وهل ثمة اليوم امّة غير العرب للعب هذا الدور ؟
***
1-M.Camau et V.Geisser : Habib Bourguiba , la trace et l’héritage P 636-ed Karthala 2004


3-هل هذا حقّا ما نحتاج ؟

إذا تناولنا الديمقراطية من وجهة نظر آلياتها السياسية فإنه يمكن تشبيهها بطاولة لا تستقيم إلا بوجود وتوازن قوائم أربع:
- حرية الرأي التي تسمح بسيلان المعلومات حول الحالة الحقيقية للمجتمع والتنفيس عن الاحتقان السياسي وتبادل الرأي حول القضايا الكبرى وتقييم سياسات التعامل معها.
-حرية التنظم التي تسمح للقوى السياسية المتصارعة بتنظيم صفوفها في العلنية وقيادة المعارك السياسية التي لا تتوقف داخل المجتمع لتصل ذروتها في الانتخابات.
- استقلال القضاء الذي يلعب دور الحكم بين القوى المتصارعة والضامن لاحترامها لقواعد اللعبة.
- حرية الانتخاب التي تترجم نظريا لسيادة الشعب أي حقه في تعيين من يحكم ومن يسنّ القوانين باسمه وعلى هذا الأساس يصبح الحكم شرعيا أي مفروضا بالتراضي لا بالعنف.
ولأنّ نواة الاستبداد هي رفض التداول السلمي على السلطة بالانتخاب الحرّ، فإنّه وقع شبه اختزال للديمقراطية في هذا الركن من قبل كلّ الأطراف. لكن قلّ من يتساءل لماذا تسارع الأنظمة الاستبدادية لقبول الطقوس الانتخابية وتنظيمها في الوقت الذي تقاتل فيه إلى آخر نفس بخصوص إطلاق حرية التنظم وحرية الرأي أمّا القضاء فهو آخر قلعة يتمّ تسليم مفاتيحها . يحصل هذا لأن الركن الانتخابي هو نقطة الضعف الكبرى في النظام.
لن نتوقف عند التزييف الفجّ كما تمارسه أنظمة التسعة وتسعين في المئة. إنّها مفضوحة بما فيه الكفاية والكلّ يعرف أنها مجرّد تحويل وجهة آليات الديمقراطية لتشكل إخراجا مسرحيا جديدا للبيعة القديمة. والأهمّ التوقّف عند المرحلة'' الأنضج'' في تأقلم النظام العربي القديم.
إن تحليل المثال المغربي (وهو اليوم أكثر أشكال الزرع الديمقراطي تقدّما في الوطن العربي ) غني بالعبر والدروس، ليس فقط لأنه يعلّمنا الكثير بخصوص طرق التحايل التي يتواصل بها الاستبداد في ثياب الديمقراطية، وإنّما لفضحه ما في آليات الانتخاب نفسها من ثغرات تسهّل الاختراق.
إن الشروط التقنية الضرورية للانتخابات هي وجود:
- أحزاب سياسية مستقلة لها برامج محدّدة تعكس المصالح الاجتماعية والسياسية للطبقات والتيارات العقائدية الكبرى.
- ناخبين لهم الحدّ الأدنى من الاستقلالية والمعرفة للبتّ في هذه البرامج واختيار أفضلها.
- إدارة محايدة تقتصر مهمتها على التنظيم المادي لعملية الاستشارة.
وبخصوص الأحزاب تمثلت سياسة الدولة الاستبدادية طوال عهد الحسن الثاني في اصطناعها لتشارك في صنع ما سمّي بالديكور الديمقراطي. وفي هذا السياق تخصّص وزير الداخلية السابق إدريس البصري في خلق أحزاب حكومية من اشهرها حزب الحركة الديمقراطية الاجتماعية الذي أسّسه تحت إشرافه ضابط في المخابرات اسمه محمود عرشان، ومنها أيضا الاتحاد الدستوري الذي تحصل سنة 1983 على الأغلبية في البرلمان. أمّا في عهد محمّد السادس فقد اكتشفت السلطة أنّ هناك طريقة أذكى لإفراغ هذه الأحزاب من كلّ دور حقيقي: التفريخ الذاتي.
لقد وصل عدد الأحزاب في أواخر التسعينات 38 حزبا(1). فبجانب الأحزاب السياسية العريقة، انفجرت كالفقاقيع أحزاب خلقتها الدولة أو مقاولون سياسيون وحتّى بعض الناس الذين تقدموا فجأة لقيادة الشعب، والحال أن لا أحد سمع بنضالهم أيام كان النضال مكلفا.
هذه الأحزاب في المغرب هي اليوم سرّ مستعصي على الفهم حتى على الإدارة فما بالك بالنسبة للمواطنين البسطاء. لا أحد قادر على التفريق بين برنامج ''حزب العمل'' و''حزب المواطنة'' وبين هذا الأخير و''الحزب الديمقراطي الليبرالي'' أ و''الحركة الديمقراطية الاجتماعية''. انتظروا نهاية الدكتاتورية أو تراخيها في كل قطر عربي وإطلاق حرية التنظم وسترون العجب العجاب: بروز ما لا يحصى ولا يعدّ من الأحزاب المتنافسة التي لا ترتكز لا على قاعدة شعبية أو على خيار ايدولوجي متميّز عن الجار وإنما تتشكّل أغلبيتها الساحقة كدكاكين لمقاولين سياسيين صغار اشتمّوا رائحة الكراسي. هناك أيضا آلية الانشقاق الداخلي التي تقسم حزبا إلى حزبين وأحيانا تقسم المنقسم هو نفسه.
لقائل أن يقول أننا أمام ظاهرة طبيعية تحصل بعد أفول كلّ دكتاتورية. ففي يابان بعد نهاية الحرب ودكتاتورية العسكر ولد أربعمائة حزب، وفي البرتغال بعد ثورة القرنفل ثمانون، تبخّرت جلّها في وقت قصير. السؤال هل سيعطينا التاريخ الوقت الكافي لتصفية الفقاقيع قبل أن تصفي الفقاقيع الديمقراطية عبر البهدلة والفلكلور وسقوط الهيبة والمصداقية ؟
المشكلة الخطرة الأخرى أنّ هذه الأحزاب لا تؤطّر لما يجب أن تؤطّر له وتؤطّر لما لا يجب أن تفعل. فهي رغم شعاراتها وبرامجها ''الوطنية''، تأخذ طابعا جهويا فاضحا. فالتجمّع الوطني للأحرار هو حزب المنطقة الشرقية والحزب الوطني الديمقراطي مملكته منطقة دكّالة. أما الحركة الشعبية (والحركة الوطنية الشعبية المنشقة عنها) فحزب الأطلس المتوسّط هو فضائها الأساسي. وبخصوص المناطق الصحراوية فالقبلية هي مفتاح سيطرة هذا الحزب أو ذلك. حقّا هناك أحزاب وطنية مثل حزب الاستقلال أو إتحاد القوى الاشتراكية، لكن الصبغة الجهوية لا تغيب أبدا. لقد بدأنا نرى تتفاقم نفس الظاهرة في العراق المحتلّ مما قد يساهم بشكل كبير في حرب أهلية كما حدث في لبنان السبعينات حيث لعبت الأحزاب الطائفية دورها المشئوم المعروف. هي لا تخفى أيضا على عين بصيرة في الجزائر حيث تتشكّل بعض الأحزاب على قاعدة إثنية صرف مثل حزب'' التجمّع من أجل الديمقراطية والثقافة'' الذي لا يمثّل إلا الأمازيغ وعلى وجه التحديد جزء منهم.
نأتي لدور السلطة. يتخذ التوجه القارّ لتطويق ''الإرادة الشعبية'' اليوم أشكالا جديدة. لقد اكتشفت الدولة سلاحا أمضى للتحكّم في نتائج الانتخابات دون أن تلطّخ سمعتها بحشو الصناديق. هي اليوم لا تتدخل إلا في تقطيع الدوائر الانتخابية. إذا ثبت مثلا أن مدينة كالدار البيضاء يمكن أن تكون معقلا للإسلاميين، فإنه يقع تفتيتها إلى مناطق فيها عشرة أحياء راقية لا تعدّ سوى بعض الآلاف من السكّان وأربع مناطق لملاين سكّان مدن القصدير. هكذا يمكن للأغلبية الإسلامية أن تفوز بنسبة كبيرة في ثلاث أو أربع من هذه المناطق، لكنها لا تستطيع أن تفوز على مستوى المدينة التي كانت ستسقط في قبضتها حتّى بنسبة واحد بخمسين في المئة لو شكّلت دائرة انتخابية واحدة. ومن ثمة أصبح تقطيع الدوائر الانتخابية فنّا يمكّن من التحايل على قاعدة التمثيلية دون أن تزيّف الدولة ورقة واحدة. لا يبقى عليها آنذاك سوى الوقوف موقف المتفرّج حيال مهازل الأحزاب وصراعها للفوز بجزء من المناقصة السياسية بل قل بجزء من غنيمة المسؤولية. أمّا الناخب فينصرف يدا فارغة وأخرى لا شيء فيها .....اللهم إلا إذا قبض بالمسبق فتات الوليمة. حقّا لا يجوز التعميم ونحن أمام طيف من المواقف والتصرفات تمرّ من أقصى التفاني إلى أقصى الغشّ، لكن هناك ظواهر تسترعي الانتباه بانتشارها.
فالناخب المغربي مستقيل في أحسن الحالات من لعبة تتجاوزه لأنه يعرف قيمة الوعود. وفي بعض الحالات تراه يصبح انتهازيا صغيرا أخذ عن كبار الحيتان أخلاقهم وإن عجز عن اللعب في المستويات التي تجنى فيها الأرباح الكبيرة .هو يغتنم فرصة الانتخابات ليقايض بصوته شعاره'' درهم في اليد خير من درهمين على الشجرة ''. هكذا أصبح يفرض على بعض المترشّحين تقديم الرشوة إليه، وفي حالة غيابها يرفض تضييع وقته في طقوس هو متأكّد أنها لن تعود عليه بأي فائدة ملموسة.
وبخصوص المترشّحين ففيهم من يرفض المساومة وفيهم من يخضع لها. ولولا جدّية الموضوع، لكان قاموس التحيّل الانتخابي في المغرب، ينبوعا لا ينفذ للتفكّه والتعجّب أمام ما وصلت إليه المخيلة الجماعية في فنّ الغشّ. على سبيل العدّ لا الحصر، هناك طرق مختلفة لشراء الذمم ومنها توزيع الأحذية على الناخبين، لكن الفردة اليسرى في بداية الحملة واليمنى عندما يأتي الناخب ببطاقة اقتراع الخصم. هناك، مصادرة مئات بطاقات الناخبين المشتبه في تصويتهم واسترجاعها مقابل عمولة بعد الاستشارة لتترك الصناديق للموثوق في تصويتهم ؟ هناك تقنية الإنزال وهي تعبئة القوائم الانتخابية بأسماء الأصدقاء والمناصرين (الأمر الذي يتطلب تعاون الإدارة وتفهمها). هناك دور''الخاطبات'' المتعاظم في الأرياف وهن نساء مهمتهن تنظيم الحفلات العائلية بما يجب من الذبائح لدفع النساء لتصويت لوليّ النعمة الموعود؟
وأمام وضع أصبح يهدّد عملية ترميم الواجهة، بادرت السلطة في صيف 2003 إلى إصدار منشور لكلّ دواليب الدولة لتطويق ظاهرة هي مصدر تفكّه لا ينضب للشعب المغربي. فالإدارة بحاجة لنسبة معقولة من المشاركة والنزاهة حتى تتواصل التغطية على مراكز وآليات القرار الحقيقية. وما من شكّ أنّ أصحاب هذا المنشور لم يفهموا أن تطبيقه لن يغيّر شيئا في الأصل عدا بعض الإحالات الاستعراضية أمام المحاكم لأقلية من تعساء الحظّ سقطت وحدها في قبضة العدالة.
لقائل أن يقول أن الانتخابات الفلكلورية في بلدان العروبة والإسلام، وهي في بداية تمرّنها على اللعبة، ليست حجّة على آليات الديمقراطية، أن علينا أن ننتظر''النضج'' لكي تتحسّن طقوسنا ونقترب من المنشود الذي هو مستوى الغرب الذي لا يعرف مثل هذه الأمور. ليس هناك للأسف ما يدعو لمثل هذا التفاؤل حيث أن ما نراه في المغرب اليوم، وما قد نراه غدا في عدد متزايد من أقطار الأمّة، ليس سوى تضخيما كاريكاتوريا لعيوب تنخر الديمقراطية الغربية نفسها.
إنّ فراغ الانتخاب من كل محتوى حقيقي قضية هيكلية لا علاقة لها بتصرفات الأفراد و ناتجة في بلداننا عن تفاعل خبث نظام سياسي ما زال متشبّعا بالاستبداد، مع تخلف عامّ مبني على انتشار الفقر والجهل، مع آليات أظهرت التجربة حتّى في أعرق الديمقراطيات أنّها شاخت وتعبت.
لا بدّ هنا من التوقّف عند انتخابات سنة 2000 التي شهدت انتصاب رئيس مشكوك في شرعيته هو جورج بوش الابن حيث انتخب بفارق ضئيل جدّا من الأصوات. ففي ولاية فلوريدا ،التي كان يحكمها شقيق الرئيس المنتخب والتي لعبت الدور الحاسم في فرض فوزه المشبوه ، أظهرت العملية جملة من العيوب طال إخفاؤها عن الأمريكيين وعن عالم أقنع كذبا بأن النموذج الانتخابي الأمريكي آية في الشفافية والنزاهة . لقد أثبتت عمليات المراجعة والتقييم التي انكبت عليها قوى من المجتمع المدني الأمريكي بعد انتهاء العملية خطورة الانتهاكات التي أدت إلى تعيين رئيس أقوى دولة في العالم تدّعي ريادة المسار الديمقراطي في العالم أجمع .
على سبيل العدّ لا الحصر نذكر تفادي ترسيم الأقليات التي تصوت عادة للحزب الديمقراطي ، والتعقيد المقصود لأوراق التصويت ( مما جعل العديد من الناخبين يصوتون لمن كانوا ينوون مقاطعته ) و التشدّد في حساب البطاقات الملغاة إذا كانت ضدّ شقيق حاكم الولاية والتساهل في قبولها إذا كانت لفائدته , والأخطر من هذا أن القضاء تدخّل لفائدة بوش حيث أوقفت المحكمة الدستورية العليا إعادة تعداد الأصوات الذي أمرت به المحكمة الدستورية للولاية .
لقد فضحت كل هذه الخروقات الخطيرة الوجه المخفي لحقيقة أكثر انتشارا مما نظن. فوراء الواجهة البراقة هناك أزلية الطبيعة البشرية وأزلية طبيعة السياسة بما يعنيه الأمر من تسلّل التدليس والتزييف والمحاباة والرشوة والفساد داخل أي منظومة أو آلية تدعي أنها فوق شوائب التي لا توجد إلا عند الآخرين .
وقد تكون ظاهرة تقلص الناخبين في الغرب أهمّ مؤشر على خطورة مرض الركن الانتخابي. هذه الظاهرة هي التي أدّت في بعض الحالات إلى إلغاء نتائج الاستشارة لعدم توفّر النصاب وأجبرت بعض الدول مثل إيطاليا على جعل الانتخاب واجبا بالقانون. وفي شهر نوفمبر 2003 توجّه الوزير الأوّل لصربيا بنداء عاجل، حتى لا نقول بتوسّل إلى الناخبين الصرب، ليتوجهوا لمكاتب الاقتراع واختيار رئيس لهم حيث أنّ أغلبية الناخبين فضّلت في السابق تجاهل العملية برمتها مما أدّى إلى إلغائها مرّتين.
صحيح أن الناخبين الأمريكيين تجندوا بكيفية غير مسبوقة غي انتخابات 2004 . لكن قراءة الظاهرة تعني أن هناك
'' مخزون من المواطنية '' يمكن أن يستيقظ في حالات معينة تتميز برهان سياسي خارق للعادة وتباين شديد في السياسات ومباراة مشوقة وغير محسومة مسبقا لطرف ما . لكن هذه الشروط إذا توفّرت تؤدي إلى إحباط شديد عند الفريق المهزوم مما يعمق أزمة الثقة في قدرة الاقتراع على التأثير و عودة إغراء البقاء خارج اللعبة .
إن هجر الفرنسيين المتزايد لصناديق الاقتراع هو الذي مكّن اليمين المتطرف ممثلا في شخص جان ماري لوبان من الوصول إلى الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية الفرنسية لقدرة اليمين على اغتنام حالة الاستقالة الجماعية. ومن مفارقات الأمور التي تفضح هشاشة النظام الانتخابي في ادّعاء التمثيل،أن اليمين المتطرّف حصل في انتخابات محلية على 1300 صوت سنة 1999 وكانت النسبة 17% من مجمل الأصوات. وبعد خمس سنوات تحصل على 1301 صوت لكن وزنه وصل إلى 37% نظرا لأهمية العزوف عن الانتخاب، خاصة بين الشباب والفقراء وذوي الأصول الأجنبية أي كل من يتهددهم اليمين المتطرف. ما أغرب أن يتخلّى الناس أو أن يجبروا على ممارسة حقّ يمنحهم نظريا الاعتبار والمسؤولية والمشاركة في صنع مستقبل المجموعة الوطنية. إن جزء متعاظم من الناخبين في الغرب سواء استقالوا من العملية الانتخابية أو ما زالوا أوفياء لها مدفوعين بالغضب على الماسكين بالسلطة أو بوعود يشكّون في جديتها، مقتنعون بلا جدوى هذه الانتخابات في تغيير مجرى الأمور. كيف لا يصدق هذا الشعور والعملية الانتخابية من أصلها بمثابة إمضاء شيك على بياض لمجهول أنيق لبق وعد كثيرا واخلف الوعد أكثر من مرّة.
يكتشف المتأمّل لوضع الديمقراطية في الغرب أن المواطن القاعدي انسحب من اللعبة بالغنيمة الوحيدة وهي حريته الفردية. هذه الحرية تتحوّل يوما بعد يوم إلى فردانية معنية بتحقيق مصلحة الشخص. أما ما عدا هذا فعلى الدنيا السلام. تبقى في مواجهة تمركز السلطة بين الأيادي القليلة مجموعات من المواطنين المتحصنين داخل مؤسسات المجتمع المدني في حرب عصابات سلمية ضدّ النظام، لكنها عديمة الجدوى في آخر المطاف لأنها لا تزعج النظام بل تقويه.
قلّ من ينتبه للدور المدمّر لصورة السياسة والسياسيين الذي يتسبب فيه إشهار رخيص يبيع المترشح وبرنامجه حسب نفس آليات بيع العطور.
إن وضع هذا الأخير لا يحسد عليه وهو بين سندان استهزاء الأرستقراطيات المخفية التي تستعمله أحيانا كواجهة ومطرقة احتقار الناخبين المتزايد له. أضف إلى هذا التأثير المدمّر لتقنية القدح في الخصم وتحقيره وتسليط الضوء على عيوبه ومناطق الظلّ في حياته الشخصية. أيّ اعتبار يمكن أن يتحصل عليه المهزوم وحتى المنتصر من عملية كهذه ؟ والأخطر من هذا كلّه أن محرّك العملية لم يعد صراع الأفكار وإنما صراع التمويل، فحجم الموارد المالية التي تتطلبها الانتخابات الأمريكية مثلا ، هو اليوم إحدى عناصر النصر فيها إن لم يكن أهمّها. لقد بلغ حجم تمويل الحملة سنة 2004 مليار دولار وهو رقم خيالي لم يسقط في جيوب المترشحين صدفة وإنما كان نوع من التسبقة لقوى اقتصادية هائلة . لا غرابة أن ينجح أكثر المرشحين تمويلا وهو جورج بوش الذي قال عنه خصومه أنه يملك من المال ما لا يملكه الله نفسه . وبقدر ما يتضح أن السلطة الحقيقية التي تحرك الديمقراطية الأمريكية هي سلطة المال والإعلام وأن أصحابها يتحركون من وراء الستار ولا أحد يحاسبهم ، بقدر ما تمعن الآلة في سعيها الأعمى : مزيد من المال ، مزيد من الاشهار ، مزيد من الابتذال ، مزيد من خضوع السياسي لأصحاب القرار الحقيقي .
وقد يجد البعض العزاء والسلوى في تذكيرنا أنّ هذه العيوب المعروفة أفرزت ولا تزال تفرز مؤسسات تعمل وتعطي النتائج الكافية لتواصل النظام الديمقراطي.
هذا صحيح، لكن التمعن عن قرب في نتاج العملية يظهر أن الاستقالة المتزايدة للناخبين هي بداية تصدّع خطير في البناء، أمّا الأزمات الهيكلية فمؤجلة وليست ملغاة. صحيح أنّ الانتخابات ليست كلّ الديمقراطية حيث لا تختزل هذه الأخيرة في أي من أركانها مثلما لا يختزل الإسلام في الحجّ وحده أو الصوم وحده. لكن أيّ دابة، ولو بساق عرجاء واحدة ، لا تحسن المشي فما بالك بالركض. لكن تأثير مرض الركن الانتخابي على باقي الأركان بديهي، فالشرعية التي تسمح للبرلمان بسنّ القوانين المنظمة للمجتمع مستقاة من إرادة الشعب التي يفترض أن الانتخابات تعبّر عنها. لكن إذا عزف الشعب عن التوجّه لصناديق الاقتراع أو إذا وصلت سمعة السياسيين إلى ما وصلت إليه فأي شرعية يمكن أن تتمتع بها المؤسسات المنتخبة وأيّ قيمة للقوانين الذي تسنّ ؟ وإذا ضعفت الشرعية فأي إلزام للقوانين والسياسات وعلى ماذا نبني العقد الديمقراطي ؟
*
أخيرا وليس آخرا، ثمّة قدرة مثل هذه الانتخابات على إفراز نظام يمكن أن يقتل الديمقراطية باسم الديمقراطية وأدواتها .من نقاش حديث العهد مع صديق إسلامي متنوّر:
- عظيم قبولكم بالديمقراطية. هذا سيسهّل كثيرا الحوار بيننا نحن العلمانيون وأنتم.
- نعم نحن مع الديمقراطية. بل ونذهب إلى حدّ القول أنّه إذا قرّر الشعب أن يبعث غدا بأغلبية شيوعية للحكم وبدأ تطبيق سياسته الشيوعية فسنقبل بالأمر. لكن إذا أعطانا تفويضه فما الذي يمنع من تطبيق الشريعة ديمقراطيا؟
-بصراحة أنا دائما في حالة استغراب من الأهمية التي تكتسبها هذه القضية بالنسبة إليكم. كأن قطع الأيدي في الساحات العمومية وجلد الناس ورجم النساء المذنبات هو قضية العرب والمسلمين الأولى. كأن مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية ستتبخّر حالما طبّقتم قوانين طبقت على مرّ العصور فلم تحل مشكلة الفقر والظلم. كأنّ تجربة أربعة عشر قرنا لم تقنع أحدا بأن الشريعة، في صبغتها الجزرية التي حصرت فيها، كانت دوما أداة قمع وإرهاب بأيدي المتسلطين، لا يتعرّض لها إلا صغار الأسماك. أقولها بوضوح وبمنتهى الصراحة. هذا الفهم الضيق المتحجر للشريعة يتناقض مع روح العصر ومع مبادئ حقوق الإنسان.... الخ.
- ولكنها لا تتناقض مع ما قاله الله ....الخ.
- اشعر أننا دخلنا في ما أسميه نقاش كرة المضرب. تعرف أن لاعبين ماهرين يستطيعان تبادل الضربات مدة طويلة وكذلك مناقشان ماهران. لنترك هذا الموضوع الفلسفي والفكري وقد أشبعناه نقاشا. لننطلق من كوننا مختلفون سياسيا فنحن لا نريد الشريعة وأنت تقول أنه إذا أعطاكم الشعب السلطة فلكم الحق ديمقراطيا في سنها قانونا ولا قدرة لأحد على الاعتراض. هل هذا موقفك ؟
- تماما
- إذن أنت تعتبر أنكم إذا امتلكتم الأغلبية في البرلمان فالديمقراطية تشرّع لكم فرض أي قانون؟
- نعم أليس هذه الديمقراطية التي تنادي بها ؟
- اتركني أتابع فكرتي. إذن بما أنكم تملكون الأغلبية فإنكم تستطيعون سنّ قانون يلغي ويقيد حرية الصحافة '' حفاظا على قيمنا العربية الإسلامية من الشطط والنقد المغرض والقدح في أولياء الأمر منّا''.
- لا، أنا لم أقل هذا.
- ويمكنكم كذلك سنّ قانون يقضي'' بقصر حق التنظم على المؤمنين بقيم الأمة والعاملين على إحياء مجدها''
- أنت تبالغ.
- كلاّ، إنه التسلسل المنطقي لفكرتك القائلة أنه من حقّ برلمان منتخب شرعيا من الشعب أن يسنّ كل القوانين التي يريد . يمكنكم سنّ قانون يجعل'' العدالة في خدمة النضال من أجل سيادة الإسلام وقيمه الخالدة ووضعها تحت إشراف مجلس العلماء ليتأكد من سلامة إيمان القضاة وفهمهم لمقاصد الشريعة''.
- لا أنا لم أقل هذا.
- ولم لا ؟ هذا أمر جدّ منطقي في إطار فهمك أن بوسع أغلبية عابرة ومؤقتة في البرلمان سنّ كل القوانين التي تريد ومنها القوانين القاتلة للديمقراطية.
صمت ثقيل ثمّ :
- حقا هناك ثوابت ديمقراطية مثل الحريات لا تمسّ.
- كم أنا سعيد بأن أسمع منك هذا الاستنتاج. إن خاصية الديمقراطية ليست في اعتبارها أن عدد النواب هو المرجع الأسمى الذي يقرّر ما هي القيم والقوانين التي يجب أن تحكم. فالعدد الذي يهمها هو عدد من يتمتعون بالحريات الفردية والجماعية ويستحسن أن يشمل كلّ المواطنين. هل لي أن أذكّرك أنّ النظام الديمقراطي كلّ متكامل لا يختزل في الانتخاب ومبني أيضا على الأركان الثلاثة الأخرى أي حرية الرأي وحرية التنظم واستقلال القضاء وكلها بأهمية متساوية. بعبارة أخرى، إن التفويض الذي سيتلقاه أي حزب إسلامي أو غير إسلامي هو لإرادة شؤون المجتمع في إطار احترام هذه الأركان فإذا خرج عليها خرج على الشرعية الديمقراطية.
- إذن أنت تريد أن تقيّد حق الشعب في تغيير قواعد اللعبة أي أنّك لا تؤمن بسيادته.
- لا أخلط بين الشعب والقوائم الانتخابية. إن القول بأن هذه القوائم التي يتدخل في تركيبها خبث الدولة ومهارة الإدارة والطاقة التعبوية لأكثر التنظيمات ثروة وتحمسا والأزمات الطارئة، تمثل الشعب، كالقول بأن يوم عاصف في الشتاء يمثل مناخ البلاد. إن الشعب ليس كائنا هلاميا. هو مكوّن من أفراد وطبقات وأجيال. هو الماضي وهو الأجيال المقبلة. ليس من حق شخص أو مجموعة مهما كانت أن تدّعي الكلام باسم كلّ هذا. إن التواضع والموضوعية يفرضان القول بأن سيادة الشعب، وهي هدفنا الأسمى، تتمثل في تمتعه بشروط السيادة وهي الحريات الفردية والجماعية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية ثم قدرة تقييم من يحكمونه واستبدالهم. لكن إذا جاءت أغلبية عابرة لتدّعي أن لها الحق في تقييد الحريات وفي فرض إيديولوجيتها على مجتمع تعدّدي فالأمر بداية الاستبداد.
أضف إلى هذا الديمقراطية كما تعلم ليست سوى الجزء السياسي من حقوق الإنسان وهذه الأخيرة كل مترابط لا تفصل أجزاءه. أكون أقنعت محاوري وقد يكون أظهر من التأدب أكثر مما يجب. لكن من الثابت أنّ هناك قوى داخل الطيف الإسلامي تخطط لغزو الدولة بالنظام الديمقراطي والانقلاب عليه بحجة سيادة السواد الأعظم.
هل سندخل الاستبداد من النافذة بعد أن طردناه من الباب بل وعبر آليات الديمقراطية نفسها لمزيد شماتة التاريخ فينا؟ وحتى لو طبقناها أي برء يمكن أن نتوقّع من تطبيق جيّد لوصفة سيئة ؟
--------------------
1-د .محمد ظريف: الأحزاب السياسية المغربية من سياق المواجهة إلى سياق التوافق :المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي- مطبعة النجاح الدار لبيضاء 1934-1999.
4- الديمقراطية التي يعدونها لنا
يبقي ، حتى من يعرف جزءا بسيطا من تاريخ الحرب التي شنّتها الإدارة الأمريكية على امتداد القرن الماضي ضدّ الديمقراطية خاصة في بلدان العالم الثالث، مشدوها أمام وقاحة موقف الرئيس بوش عندما خرج في نوفمبر 2003 وفبراير 2004 بأوامره العليّة بخصوص الإسراع في الإصلاحات الديمقراطية في منطقتنا.
لذلك واجهت أغلبية الأمّة ولا تزال هذا الادعاء بكثير من السخرية لمعرفتها الوثيقة بإدارة لا تعرف عنّا الكثير رغم كثرة عملائها وكثرة الإنفاق عليهم. نحن نعلم تاريخ هذه الإدارة على تنوّع من تحمل فيها المسؤولية، في التدخل السافر بالانقلاب المنظّم ضدّ حكومات ديمقراطية في إيران سنة 53 19وغواتيمالا في 54 19 والكونغو في 1960 والاكوادور في 61 19 وبوليفيا في 64 19 واليونان في 67 19 وفيدجي في 87 19. كما نعلم أنها استعملت كل ما في جراب المخابرات، من تقنيات التخريب والاغتيال والتمويل السرّي والتزييف والتضليل الإعلامي، للتحكّم في المسار الديمقراطي وتوظيفه في أكثر من بلد. وعلى سبيل العدّ والحصر وانطلاقا مما هو ثابت موثّق ومعروف نذكر (1) : الفيليبين سنة 1950 ، ايطاليا من 48 19الى 1970، لبنان في الخمسينات، اندونيسيا في 55 19، فيتنام في 55 19، اليابان من 1958 إلى 1970، النيبال في 1959، لاوس في 1960 ، البرازيل في 1962، جمهورية الدومينيكان في 1962، غواتيمالا في 1963، بوليفيا في 1966، شيلي من 1964 إلى 1970، البرتغال من 1974 إلى 75 19، استراليا في 74 19، جامييكا في 76 19، باناما من 84 19 إلى 89 19، نيكاراغوا في 84 19 ، هايتي في 87 19، بلغاريا في 90 19، روسيا في 96 19، منغوليا في 1996، البوسنة في 98 19.
وتمثّلت هذه السياسة أيضا في التغطية على انتهاكات حقوق الإنسان للأنظمة الدكتاتورية الصديقة ومساندتها مثل ما وقع طيلة عقود في التعامل مع كل نظام قائم وحتى العراقي، لمّا كان الحليف المدلّل ضدّ إيران. أضف إلى هذا أن الإدارة الأمريكية تقاطع اليوم الرئيس العربي الوحيد المنتخب ديمقراطيا وهو عرفات. وبالمقابل نراها تقدّم لنا نماذج الديمقراطيين الذين تحبّهم : الفاتحون لبلدانهم على ظهر الدبابات الأمريكية.
لنتصوّر لحظة أن الديمقراطية ، الفعلية وليست تلك التي يدعو إليها بوش، استطاعت بقدرة قادر الانتصاب غدا في إحدى أقطار الوطن الكبرى مثل شبه الجزيرة أو مصر أو العراق . لقد أصبح واضحا بالنسبة للشعوب العربية أن الاستعمار هو استبداد خارجي والاستبداد استعمار داخلي وأن العلاقة بينهما جدّ وثيقة، لذلك هي ستضع في السلطة عبر الانتخاب الحرّ والنزيه كلّ القوى الراغبة ليس فقط في إنهاء ثلاثية الفساد والقمع والتضليل التي تعرّف الاستبداد، وإنما أيضا القوى الداعية إلى الاستقلال الخارجي والسيادة على الثروات الطبيعية ونصرة الشعب الفلسطيني بكل الوسائل العملية المتاحة. يعلم الكلّ أن هذا سيؤدّي آليا إلى مجابهة مع الإدارة الأمريكية وأن على أي بلد '' مارق'' تحكمه مثل هذه الديمقراطية، توقّّع حرب شعواء سياسية واقتصادية قد تصل حدّ إنزال القوّات العسكرية للدفاع .....عن الحرية والديمقراطية. ولمتسائل أن يتساءل مفتعلا الجهل أو السذاجة: كيف حاربت دولة ديمقراطية الديمقراطية بمثل هذه الإرادة الحديدية وبمثل هذا التواصل والشمول ؟ والردّ البديهي الوحيد هو : لأن الدولة الأمريكية غير ديمقراطية. وكأنني بالقارئ في هذا الموضع من النصّ - حتّى على شدّة ضغينته على سياسة بوش - يهزّ كتفيه. كيف ننكر أن هذه الدولة تمارس وتخضع لآليات الديمقراطية مثل حرية الإعلام والانتخاب الحرّ والتداول على السلطة واستقلال القضاء ؟ كيف يمكن إنكار مساهمة الدولة الأمريكية في نشر الديمقراطية عبر حروب مريرة، باردة أو ساخنة، أدّت إلى انهيار أكبر الأنظمة الشمولية التي عرفها القرن الماضي في ألمانيا وروسيا واليابان؟
ليتقبّل القارئ الفاضل بقية النظرية، علما وأن موضوعها ليس القدح في السياسة الأمريكية بقدر ما هو التعمّق في فهم الديمقراطية، وله سديد النظر في ما بعد. بداهة أنت لا تستطيع أن تكون مسلما بالتعبّد ليلا للشيطان حتى ولو نطقت بالشهادة و وصمت ورتّلت آيات القرآن بكرة وعشيا وصلّيت الخمس في أوقاتها. فعبادتك للشيطان تلغي عنك أي علاقة بالإسلام لا ينفع في الأمر قيامك بطقوسه لما بينها وبين عبادة الشيطان من تناقض جذري. من يستطيع إقناع نفسه وإقناع الآخرين بأنه يجوز مع هذا تسمية عابد الشيطان مسلما إذا صلّى وصام، فإنه يستطيع أن يقنع نفسه ويقنع الآخرين أن الإدارة الأمريكية ديمقراطية بما أنّها تمارس وتخضع لكل طقوس الديمقراطية جهرا رغم أنها تمارس سرّا كل طقوس الاستبداد من وراء ستار أصبح متزايد الشفافية. يلاحظ المتتبع لسياسة الدولة الأمريكية منذ نشأنها، أنّها تعمل بمقولة نيتشه '' على زاردوشترا أن يضع تصرفاته فوق اعتبارات الخير والشرّ''. يعني هذا عمليا أن يستعمل القويّ الخير بنفس البرودة التي يستعمل بها الشرّ لأنهما إستراتيجيتان متكاملتان في خدمة أهداف هي فوق الاعتبارات الأخلاقية. لقد كان هذا التوجه، وسيبقى، مفتاح فهم السياسة الأمريكية ويمكن تلخيصه في شعار، كان وسيبقى شعار كل الأرستقراطيات المخفية على مرّ العصور: ''بالقيم وبنقيضها مصالحنا ليس إلاّ'' نفهم إذن المنطق الخفيّ لدعم ديمقراطية ألمانية تحمي رأس المال الأمريكي وتقف أمام الخطر السوفييتي، وتنظيم انقلاب ضدّ محمد مصدّق المنتخب ديمقراطيا من قبل شعبه لأنه تجرّأ على تهديد مصالح الشركات البترولية الأمريكية والبريطانية في منطقة حسّاسة. إنّ المنطق السليم يغلّب في حالة الازدواجية المفضوحة السلب على الإيجاب، فلا نقول عمّن يستعمل الخير والشرّ بنفس الكيفية لتحقيق مصالحه أنه نصف خيّر ونصف شرّير وإنما ثمة اتفاق على أنه أخطر أنواع الأشرار. السؤال ما هي إذن الطبيعة الحقيقية لهذه الدولة التي ننفي عنها صفة الديمقراطية بنفس المنطق الذي ننفي بها صفة المسلم عن عابد الشيطان القائم بكل فرائض الإسلام. تكمن الإجابة في تحديد الثمار التي تريد السياسة الأمريكية جنيها عندما تحاول زرع ما تسميه الديمقراطية في بلد ما، أو على النقيض في تحديد ما تريد منعه وهي تتصدّى بالقوّة أو بالتآمر لتجربة ديمقراطية مستقلّة في هذا البلد أو ذاك.
سنة 1984،أسّس الكونجرس وكالة أطلق عليها اسم National endowment for democracy لتطوير الديمقراطية . لكن مهمتها ، التي كانت تقوم بها وكالة الاستخبارات من قبل، لم تتجاوز كما يقول'' وليام بلوم'' (1) توزيع الأموال على ما لا يحصى من الجمعيات المدنية في العالم ''للدراسات أو للتدخلات التي من شأنها تحسين الصلة بين العمّال وأرباب العمل أو محاربة الاشتراكية أو الدعوة لاقتصاد السوق''. ظاهريا كانت الدعوة إذن موجهة للدفاع عن الديمقراطية، وفي العمق كان المقصود الترويج لإيدولوجيا لليبرالية. يتدخّل هنا محامي الشيطان ليتساءل: وهل هناك تناقض بين الليبرالية* والديمقراطية ؟ أليستا وجهي نفس عملة النقد ؟أليست الديمقراطية الوجه السياسي للّيبرالية والليبرالية الوجه الاقتصادي للديمقراطية، أليستا أكمل تعبير، كلّ في مستواه، للقيمة المشتركة الأولى: الحرّية. إن القول بمثل هذا الرأي لا يأتي إلاّ من خادع أو مخدوع، فالليبرالية صادرت مفهوم الحرّية كما صادرت الشيوعية مفهوم العدالة، فضاعت الحرّية هنا وضاعت العدالة هناك. شتّان بين الدولة الديمقراطية والدولة الليبرالية.
حتّى يتضح الفرق لنستحضر أهمّ خصائص الأنظمة السياسية المتنازعة حاليا على قيادة الشعوب. وفي البداية لا بدّ من الاتفاق على المفاهيم والتذكير بأن الاستبداد هو كلّ نظام ، أيّا كان الشكل الذي يتخّذه (ملكي، جمهوري، جملكي، إسلامي ، قومي أو وطني)، يعتمد في تسيير شؤون الدولة والمجتمع على إخضاع الأغلبية لإرادة الشخص والمصالح الخاصّة عبر آليات المراقبة والتأطير والقمع. أمّا النظام الديمقراطي فكلّ نظام، أيّا كان الشكل التي يتخذه (ملكي أم جمهوري) يعتمد على إخضاع إرادة الشخص للإرادة العامة عبر ممارسة الحريات والتقييم الدوري للحاكم .
*ثمة اختلافات هامة في فهم مصطلح ليبرالي حسب البلدان رغم القاسم المشترك الذي هو التمسك باقتصاد السوق. ففي أوروبا يطلق الاسم على كل ما هو محافظ سياسيا بينما تلتصق بالمفهوم نكهة تقدمية وحتى يسارية في أمريكا. وفي هذا النصّ يتّخذ المفهوم بعدا آخر حيث يعرفها بالنظام المبني المتشدّد بخصوص الحقوق السياسية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمناوئ للحقوق الاقتصادية والاجتماعية منها عندما تتناقض مع مصالح الأرستقراطيات المالية التي تسيّر النظام برلماني أم رئاسي)

قد يعطي هذا الجدول فكرة أوضح عن أهمّ الاختلافات العملية بين النظامين.
النظام الاستبدادي النظام الديمقراطي
الواجب لا الحق الحق والواجب
الإنسان لا عقلاني وخطير الإنسان عقلاني قابل للتحسّن.
الطاعة هي ركيزة النظام المسؤولية الحرّة هي ركيزة النظام
القوّة ركيزة النظام ضامن تواصله التعاقد الحرّ
مصدر الشرعية الدكتاتور مصدر الشرعية الشعب
الناس رعايا الناس مواطنون
الحقوق منّة الدولة الحقوق واجب الدولة
منسوب الظلم مرتفع منسوب الظلم منخفض
منسوب العنف لاجتماعي مرتفع منسوب العنف منخفض
تضخّم نفوذ الأمن والجيش ضمور هذا النفوذ
لا تداول سلمي على السلطة تداول سلمي على السلطة
مصادرة الحريات إطلاق الحريات
زيف المؤسسات التمثيلية مصداقيتها
في خدمة أرستقراطيات فاسدة في خدمة الصالح العامّ
السلطة بيد العصابات السلطة بيد المؤسسات
القانون في خدمة المصالح الخاصة في خدمة المصالح العامّة
الولاء قبل الكفاءة في تقلد المناصب الكفاءة قبل الولاء
فعالية الأنظمة الثانوية منهارة فعالية الأنظمة مرتفعة.
عدوانية في العلاقات الخارجية منحى مسالم فيها
لنقارن الآن بين خصائص النظام الديمقراطي والنظام الليبرالي كما هو في أمريكا. إن أوجه الشبه كثيرة وهي أساسا:
-اعتماد الشعب كمصدر للشرعية
-التداول سلمي على السلطة
-إطلاق الحريات الفردية والعامة
- بناء المؤسسات التمثيلية
- ارتفاع فعالية الأنظمة الثانوية.
- ترجيح مبدأ الكفاءة قبل الولاء في تسييرها.
لكن أوجه التناقض هي الأخرى كثيرة بل و بالغة الأهمية.
النظام الديمقراطي النظام الليبرالي
السياسات في خدمة الصالح العامّ - في خدمة الصالح الخاص
السلطة الفعلية بيد المؤسسات بيد الأرستقراطيات
القانون في خدمة المصالح العامّة في خدمة المصالح الخاصة
مستوى منخفض من العنف الداخلي مستوى مرتفع
سلمية السياسة الخارجية عدوانيتها

لنذكّر هنا إن الدور الطبيعي لكل دولة هو تخفيض منسوب العنف لكن طبيعة الدولة الليبرالية تمنع شيئا كهذا، فالإدارة الأمريكية تتعهّد العنف على الصعيد العالمي بالتطوير الدائم للصناعات العسكرية الضخمة التي تجعل منها أوّل وتاجر للسلاح في العالم. هي تتعهّده داخل أراضيها بالتشريع ل''حرية'' امتلاك السلاح. لقد أدّت هذه '' الحرّية''السنة الماضية إلى مقتل إثني عشر ألف طفل بالرصاص '' المدني''. كلّ هذا لأن الأسلحة في الداخل وفي الخارج تجارة رابحة يترك للسوق حرّية تصريفها لمصلحة البائع والشاري دون أن يكون للضحّية رأي في الموضوع خاصّة وأن نظرية السوق لا تعترف هنا أصلا بوجوده. ليس من باب الصدفة أيضا أن تتشارك الولايات المتحدة مع '' السعودية'' والصين، في احتلال المرتبة الأولى عالميا في نسبة المحكوم عليهم بالإعدام على عدد السكّان، أن تكون صرامتها في تطبيقه لا تقلّ عن صرامة هاتين الدكتاتوريتين، فعقوبة الإعدام من أهمّ المؤشرات على تململ المجتمع وعنف الدولة وسياستها الإرهابية في إخضاع الجزء المتضرّر منه.على العكس سنرى العقوبة تختفي شيئا فشيئا في مجتمعات ودول ديمقراطية لم تعد بحاجة إليها.
ولقائل أن يقول أننا بالتركيز على نقط الخلاف الأخيرة، نختزل عن جهل أو عن سوء نية النظام الديمقراطي في طبعته الاشتراكية كما هو الأمر في السويد،والحال أن هناك طبعة ليبرالية لا تقل ديمقراطية عن الأولى، وإن اختلفت عنها في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية. لكن قراءة متمعنة لطبيعة الدولة الليبرالية تظهر أن القضية أعقد من هذا بكثير لأن الدولة في السويد لا تمتلك أي من خصائص الدولة الاستبدادية بينما هذا هو حال الدولة الليبرالية. ففي الحالتين نجد أن السياسات تخدم مصالح الأرستقراطيات الفاسدة أي الأقليات المستترة والتي لا يأتي إدعاء التميز من العمل والعبقرية والأخلاق وإنما من المال الجشع والمضاربات والقوة والخديعة.
أنّ القانون في خدمة المصالح الخاصة ، أنّ السلطة بيد أقليات، أن مستوى العنف الداخلي مرتفع أن هناك تضخّم غير طبيعي في المؤسسات الأمنية والجيش وأنّ هناك منحى عدواني في العلاقات الخارجية
قلّ من ينتبه إلى الدلالة العميقة للمفارقة الغريبة التي تجعل رائدة الحرية في الخارج و راعيتها في الداخل كما تدّعي الإدارة الأمريكية هي نفس الدولة التي تعرف أكبر نسبة سجناء في العالم حيث يعيش مليوني أمريكي في سبعة آلاف سجن بني منها ثلاثة آلاف سجن في العشرين سنة الأخيرة.
ألا يعني هذا الحرب الأهلية الصامتة بين المنتفعين بالليبرالية وضحاياها. ثمّة ظاهرة المتاجرة بعمل السجناء وبناء السجون وتعهّدها وهذا آخر مورد لليبرالية متوحشة لا يهمّها من أين تعتصر الدولار. قلّ من يعرف أيضا أن بريطانيا التي تعتبر قلعة من قلاع الديمقراطية هي اليوم أوّل بلد في العالم في ميدان المراقبة الالكترونية حيث تحصي مليوني كاميرا تحرّكات المواطنين دون أن يستطيع أحد معرفة حجم المراقبة الأخرى التي أصبحت التكنولوجيا الحديثة تسمح بها.
يخطئ من يتصور أن التضييق المتزايد على الحريات الذي تشهده أمريكا اليوم بحجة حماية المجتمع الأهلي وحتى الدولي من الإرهاب هو نتيجة أحداث 11 سبتمبر فقط (وهي عملية إرهابية مرفوضة جملة وتفصيلا). حقّا انكمشت بهذه المناسبة الضمانات الدنيا للحريات الفردية والجماعية وعومل المشتبه فيهم كالحيوانات وتسلّحت الإدارة الأمريكية بقوانين لا تحسدها عليها أي من الدكتاتوريات العريقة. لكن المراقبة اللصيقة لحرية المواطنين الأمريكيين كانت دوما جدّ نشيطة وما أغرب هذه الحرّية التي تتشدّق بها الليبرالية وهي حرّية الحركة تحت أنظار المخبرين والكاميرا.
في سنة 2001 وأنا محروم من السفر والهاتف والعمل والنشر وسيارة البوليس السياسي ترابط أمام بيتي أشهرا وتتبعني في كل تحركاتي، أبلغت بحصولي على'' جائزة الكتاب المضطهدين'' وتحمل اسم جائزة '' هامت'' و''هلمان''. كم كانت دهشتي كبيرة وأنا أكتشف منقبا عن تاريخ كاتبين لم أسمع بهما من قبل، أنهما أمريكيان تعرّضا في أمريكا الثلاثينات لما يتعرض له كل كاتب عربي حرّ من حبس وملاحقة وبنفس التهمة: معارضة النظام. وفي كتاب شيّق للأمريكية ناتالي روبنس (2) يجد القارئ تاريخا غريبا للاضطهاد والمراقبة اللصيقة التي خضع لها طوال عقود كبار الكتاب الأمريكيين مثل همنجواي وترومان كابوت وويليام فولكنر وبيرل بيك وأرثور ميلر وارزا باوند. وإبان الفترة الماكرثية في أواخر الأربعينات تطوّر الأمر من المراقبة والمضايقات إلى الاستجواب والتشهير والمنع عن العمل والسجن والتهجير كما حصل لشارلي شابلن، الذي لم تغفر له الأرستقراطيات المخفية وصفه للعمل في مصانع –محتشدات الليبرالية المتوحشة. لا غرابة في استهداف الكتاب والفنانين لأنهم قادرون وحدهم على فضح المسكوت عنه وهو انعدام الديمقراطية في الدولة الديمقراطية وحقيقة السلطة وطبيعة الماسكين بها. وبما أن تضليل الرعايا جزء من إستراتجية البقاء في سلطة الظلّ فلا أخطر على السلطة من المفكّرين الأحرار. هكذا استهدفوا في أمريكا مثلما استهدفوا في روسيا الشيوعية وألمانيا النازية لكن بطرق أقل فجاجة وأكثر خبثا إذ كانت الأرستقراطية المخفية بحاجة لوجودهم لإشاعة الوهم بوجود حرية غير حريتها. في نفس الوقت كان لا بدّ لها من مراقبة هذه الحرية حتى لا تشكّل تهديدا لمصالحها. وراء كلّ هذه الملاحقة الشرسة لكلّ ما يشتمّ منه نفس المعارضة كان هناك رجل اسمه ادجار هوفر وخاصة الجهاز الذي يرأسه: مكتب التحقيقات الداخلي الأمريكي. في الوقت الذي كان أربعة رؤساء يتتابعون بمعدّل رئيس جديد كل أربع أو ثماني سنوات و يحاسبهم الشعب على الكبائر والصغائر، كان إمبراطور المخابرات ثابتا في موقعه يقود السياسة الحقيقية ولا يحاسبه أحد. بل كان يبتزّ هؤلاء الرؤساء ومنهم جون كنيدي ويساهم في تعيينهم كما وقع مع صديقه الحميم ليندون جونسون. أمّا الأغلبية الساحقة للشعب الأمريكي فكانت تجهل وجوده، ولم يتضح حجم سلطانه وفساده إلا ....للمؤرخين.
إن أجهزة المخابرات الداخلية والخارجية التي تلعب دورا مركزيا في الولايات المتحدة هي من علامات تواصل النظام الاستبدادي لأنها تعني ضرورة بقاء جزء من الفضاء السياسي تلفه العتمة ولا يخضع إلا ظاهريا للقانون والقيم الرسمية. وفي هذه الجيوب المظلمة تتواصل قيم وممارسات الاستبداد تحرك الخيوط من وراء الستار بانتظار أن تؤدي رئاستها إلى منصب رئيس الدولة كما وقع في حالة جورج بوش الأب أو في روسيا، هذا البلد الليبرالي الواعد الذي لم يجد بالصدفة من يقوده إلا ضابط مخابرات شيوعي سابقا اسمه بوتين.
إن ما تفضحه ردود الفعل الهستيرية على أحداث 11 سبتمبر شهادة بليغة على قاعدة تسنّ على أنّه بقدر ما تكون الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية سهلة، بقدر ما ينجح الشكل في التغطية على الجوهر، وبقدر ما تشتدّ المصاعب الاقتصادية والسياسية والأمنية بأسرع ما تطفو على السطح الطبيعة الحقيقية للنظام وتسقط الأقنعة الجميلة. فللأرستقراطيات التي تحكم من وراء ستار المؤسسات التمثيلية خطوطها الحمراء لا يجب تجاوزها وإلا ثمة من يصفّر انتهاء حصّة اللعب.
ثمة إذن فرق كبير خلافا لما يتوهم البعض وما يخادع به البعض الآخر، بين الدولة الليبرالية والدولة الديمقراطية. فهذه الأخيرة هي دولة الخدمات التعليمية والصحية والضمان الاجتماعي والحريات. الفردية والجماعية التي لا تراقبها عشرات وكالات الاستخبارات والتجسّس. هي دولة ترتبط بالمجتمع بعلاقات تعاون لا تخشاه ولا يخشاها، ناهيك على كونها تخضع للقانون الدولي ولا تعتد على أحد. هذا ما يسمح بالقول أن الدولة الليبرالية هي دولة استبدادية بغطاء ديمقراطي تتستّر به كما تتستّر الدول الرجعية بالإسلام.
يتبادر إلى الذهن هنا اعتراض قويّ. أليس القول بإمكانية الجمع بين الحريات والاستبداد كالقول بإمكانية الجمع بين الماء والنّار؟ كيف يمكن لمؤسسات ديمقراطية غير مزيفة كالتي نعرفها في بلداننا أن تغطّي على الاستبداد ؟ أليست قادرة على فضحه بالرأي الحرّ وكنسه بالانتخاب النزيه الخ ؟ حذار من البديهيات فهي تخفي دوما واقعا أعقد من ذلك الذي تصفه الدعاية والإيديولوجيا.
إن ما يفضحه النظام الليبرالي هنا أمران لا يحبّ الديمقراطيون التعرّض لهما.
- عجز آليات الديمقراطية الحالية عن مواجهة استبداد قادر على التأقلم و تطويق هذه الآليات بل واستعمالها لصالحه.
- الصورة القبيحة للشعب وعلى وجه التحديد لما يسمّى الأغلبية الصامتة. يا ما ألّهنا هذا الشعب وأحطناه بكل هالات التقديس
وافترضنا دون أدنى حجة أنه سيختار العدل والخير والجمال إن وضعت آليات القرار بين يديه . ويبدو أن الليبرالية أكثر فهما للطبيعة الحقيقية لجماهير لا ترهب وتضلل وتخدع فحسب وإنما تشترى بمستوى معيشي معيّن ، دون أن يعنيها أنه في الواقع رشوة مقابل سكوتها عن نهب العالم وتعميق هوّة الفقر بين من يملكون ومن لا يملكون والأرباح الخيالية والسلطة المطلقة التي تتمتع بها الأرستقراطيات الفاسدة وحتى تقييد الحريات الجماعية.
لو نظرنا بالتدقيق لتركيبة المجتمع الأمريكي من الناحية السياسية لاكتشفنا أنه يتشكّل في ثلاث مجموعات:
-الأرستقراطيات التي تدير البلاد ، منها التي يعرفها الشعب، وأغلبها تلعب دورها من وراء الستار وتستغلّ أحسن استغلال آليات الديمقراطية التمثيلية.
- أغلبية انسحبت من اللعبة مؤقتا وقد غنمت من الديمقراطية حقها في وضع أنفها في مشاكلها الخاصة من دون تدخّل من قبل الأرستقراطيات مع الحصول على بعض فتات الوليمة الاقتصادية الكافي لكي لا تتمرّد. هذه الأغلبية الصامتة والمستقيلة هي من أين تشعر ولا تشعر رعية الدولة الديمقراطية لأنها سلّمت لقوى فوقية حق التصرّف في الشأن العامّ الذي هو في الواقع في الشأن الخاصّ للأغلبية.
- أقلية من المواطنين تمارس المواطنة بالمعنى الأثيني القديم للكلمة أي التدخّل المتواصل في السياسة بما هي أداة تسيير الشأن العامّ.
لا غرابة أن يكون المجتمع المدني في أمريكا هو حارس الديمقراطية داخل الدولة الليبرالية وأن تظهر في الأفق ملامح الحرب بينهما فالمجتمع لن يقبل إلى الأبد بأن يتشكّل من ملايين الخدم والحشم في خدمة حفنة من أصحاب المليارات الذين يدمّرون العالم باسمه ويستعدون عليه كل شعوب الأرض. ومن رموز هذا الصراع اليوم أشخاص مثل ناحوم شومسكي(3) و ليندون لاروش ورامزي كلارك ومايكل مور والقسّ جسّي جامس و رالف نادر الخ...
لو قارنا بين هذه التركيبة وهيكلة المجتمع تحت النظام الاستبدادي لما وجدنا إلا اختلافا كميا. فالنظام الاستبدادي هو الآخر مشكّل من أرستقراطية ورعايا ومواطنين. لكن عدد المواطنين لا يكاد يذكر وبالتالي ليس لهم القوّة الكافية لفرض الحدّ الأدنى من الحقوق والحريات بينما عدد المواطنين لحسن الحظ من الكثافة بمكان داخل أمريكا. نفهم لماذا يسعى النظام الاستبدادي في كل مكان و بكل قواه لمنع تكاثر عددهم وتشجيع تكاثر الرعايا. لا تحدث النقلة الحقيقية التي تنقل النظام من الاستبداد إلى الديمقراطية إلاّ عندما يصبح الرعايا هم الأقلية والمواطنون هم الأغلبية. لكن العملية يمكن أن تسير في الاتجاه المعاكس وهذا ما نشهده اليوم في الغرب. إن الانسحاب المتزايد من عملية الانتخاب والتسليم بالعجز عن تغيير الأمور عبر ورقة التصويت،من بوادر تدهور النظام الديمقراطي وانتقاله تدريجيا إلى نظام استبدادي أكثر ذكاء وأتقن تغليفا من الاستبداد البدائي الذي نعاني منه.
لا يمكننا إلاّ أن نتعاطف مع القوى الديمقراطية داخل أمريكا ولا بدّ أن نراهن عليها هي لا على الإدارة الأمريكية . هل نحن بحاجة للتأكيد بأنه لا مجال للخلط بين معاداتنا لليبرالية المتوحشة ومعاداة الشعب الأمريكي، مثلما لا مجال للخلط بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية.
هل نحن بحاجة للتذكير بأن عدائنا لسياسة إدارة بوش لا علاقة له بأي عداء للشعب الأمريكي بصفة خاصة وللغرب بصفة عامّة ؟ هل نحن بحاجة للتذكير مجدّدا بضرورة التعامل مع هذا الأخير كطيف لا ككتلة أي التفريق داخله بين القيم الحضارية والأنظمة السياسية والمجتمعات المدنية. وبخصوص الأولى لا يمكن أن تكون لنا أي مشكلة معها، فالأخذ بأحسن ما فيها ودمجها وهضمها من شروط تجددنا. أما المجتمعات المدنية فهي حليفتنا ضدّ استبدادهم واستبدادنا. وبقدر ما نطوّر العلاقات مع هذه المجتمعات بقدر ما نحدّ من خطر أنظمتها علينا. معنى هذا أننا لسنا في إطار صراع حضارات أو قيم وإنما في صراع مع الدولة الليبرالية المركزية التي تريد فرض دول ليبرالية محلية تحت ستار الديمقراطية لتجعل منها وكالات محلية لتصريف شؤونها ومصالحها. هذه السياسة مرفوضة داخل الدولة المركزية من الأمريكيين أنفسهم الذين يدركون يوما بعد يوم أن تلاقي مصالحهم مع مصالح النومكلاتورا الليبرالية لا يقلّ كذبا وهشاشة عن تلاقي مصالح الشعب الروسي مع مصالح النومنكلاتورا الشيوعية يوم كان يرزح تحت الفاشية الحمراء.
*****
1- William Blum
Rogue state: a guide to the world only superpower common courage press 200
2-Nathalie Robins
Alien Ink . The FBI’S war on freedom of expression ) William Morrow and company New York 1992
3-Noam Chomsky : Deux heures de lucidité- ed Les arènes -2002




5- الليبرالية المتوحشة اليوم كألدّ عدوّ للديمقراطية
إذا انطلقنا من فرضية محاولة الاستبداد العالمي والمحلّي التأقلم بوضع قناع المؤسسات الديمقراطية على نواة استبدادية صلبة قوامها سلطة رأس المال، فلا بدّ من الغوص في الايديولوجيا التي ترتهن اليوم كل مشروع ديمقراطي جدّي ،سواء كانت ذلك على مستوى العالم أو على مستوى الوطن العربي.
كم كان من الأنسب لو أن اللغة العربية ، التي سمت الاشتراكية اشتراكية وليس ''سوسياليزم '' أطلقت على الليبرالية اسم ''الحرياتية''. فليس بديهيا لمن لا يعرف اللغات الأوروبية أن الكلمة مشتقّة من الحرية في اللغة الفرنسية والإنجليزية ، أنها تعني إذن فكر ومشروع الحرية مثلما تعني الاشتراكية فكر ومشروع العدالة. هذا الفكر والمشروع هو عصارة أفكار وأحلام وآمال مفكرين عظام، كانوا أيضا من آباء الديمقراطية، منهم دافيد هيوم وبنجامين فرانكلن وتوماس باين و الكسيس توكفيل وشارل كومت وجون ستيوارت ميل وأدم سميث وليونارد ريد وغيرهم. السؤال كيف أصبحت ايديولوجيا الحرية اليوم ألدّ عدوّ للتحرّر ؟ كيف يمكن لنظرية ولدت من نفس الرحم الذي أولد الديمقراطية أن تشكّل اليوم اكبر تهديد لها ؟
لنعد إلى الأفكار المركزية التي تسندها وهي بكثير من التلخيص:
-أن الليبرالية ليست نظرية اقتصادية أو سياسية وإنما حركة فكرية تهدف إلى جعل الحرية قيم القيم، ذلك لأنه لو تركت لها كل الإمكانيات، لوجد الإنسان توازنه بصفة شبه تلقائية.
-إن هذا التوازن ناجم عن كون الآدميين مرتبطين دوما بعلاقة تبادل نسميها السوق في الميدان الاقتصادي. ومن قوانين السوق إنك إذا تركت شخصين في وضع تبادل حرّ، فإن كل واحد سيختار تلقائيا أحسن حلّ بالنسبة إليه ومن ضمنه التفاهم مع الآخر على ثمن مقبول من الطرفين، فتكون المقايضة عادلة والعملية مربحة لكليهما.
-أن تدخّل طرف ثالث -مثل الدولة - في شكل معونات لهذا أو ضرائب ضدّ ذلك، يظلم و يعاقب صاحب المبادرة. لذلك يجب أن يكون دورها جدّ محدود ومقتصرا على منع من يريد تغيير قواعد اللعبة والتصدي للمبادرة. إن المهامّ الشرعية الوحيدة للدولة هي فرض الاستقرار والنظام عبر وظائف الشرطي والجندي والقاضي. فالدولة في المجال الاقتصادي والاجتماعي ليست أكثر من جهاز طفيلي يقبض غاليا ثمن وجوده. هي لا تخلق الثروات وإنما تبذرها. وعندما يدّعي جهاز من أجهزتها القيام بمهمة التضامن الاجتماعي مثلا، فإنّه ينزع هذه الوظيفة عن المجتمع الأولى بتحقيقها لأنّه أنجع في ذلك من بيروقراطية الحكومة.
لنذكّر عرضا أن الدولة الأمريكية لا تكتفي بدور الشرطي والقاضي والجندي تاركة للسوق حرية البحث عن نقطة التوازن الاقتصادي والاجتماعي. هي تتدخل كأيّ دولة متخلّفة لفرض الضرائب على البضاعة الأجنبية وإغراق فلاحيها بالمعونات ليغرقوا أسواق العالم الثالث بالموادّ الرخيصة متسبّبين في إفلاس الملايين من الفلاحين الفقراء، في الوقت الذي تشجب فيه هذه الضرائب والمعونات عند الآخرين عندما تتنافى مع مصالح من تسهر على مصالحهم.
معنى هذا أننا يجب أن نأخذ أقوال منظرّي الليبرالية كما نأخذ أقوال كل المنتمين لهذه الايدولوجيا أو تلك، أي بكثير من الحذر متذكّرين أن الكلام العقائدي دعاية فيها الحق و الباطل.... أنها تغطية نظرية على ممارسات قد تكون على الطرف النقيض.
السؤال العامّ الذي يجب أن نواجه به أنفسنا : كيف نتعامل مع هذه المقولات (أو مع أي مقولة ايديولوجية أخرى) بحيث لا نخدع ولا نخدع (بضمّ النون). يتطلب هذا قدرا كبيرا من نزاهة فكرية ترفض أن ترى القشة في عين الخصم ولا ترى الجذع الذي في عيننا. يتطلب الأمر الالتجاء إلى التقييم الموضوعي الذي يستعمل مؤشرات علمية.
ومن نافلة القول أننا لا نستطيع أن نذهب بعيدا في اتجاه موازاة التفكير العلمي، لأن تقييمنا يتعامل مع ظواهر اجتماعية وسياسية بالغة التعقيد ولا تقاس بالكمّ. لنحاول مع هذا تكوين مقياس نقيّم به جدّية ما يعرض علينا من بضاعة ايديولوجية منطلقين من بديهيات يتفق عليها الجميع ومن أهمّها :
- إنّ كلّ ظاهرة من عالم الفكر أو المادّة لا تتواصل عبر الزمن إلاّ وكان لها بالضرورة فائدة ما تتبلور عبر إنجازات ما. حتّى الموت من هذا المنظور له فوائد. فلولاه لما وجد الرضّع مكانا لهم في العالم ولما ارتاح الشيوخ من هموم الحياة . لنسمّ ( إ) مؤشّر الإنجازات هذه.
- إنّ قوانين هذا العالم دفّعت كل إنجاز ثمنه فجعلت أنجع المحركات تفقد جزءا من طاقتها بالحرارة الضائعة، وجعلت تمديد العمر يزيد في الأمراض المزمنة، وجعلت انتصار هذا يفرز هزيمة ذاك. هكذا رأينا الاشتراكية تنتج ''النومنكلاتورا'' والمسيحية التي تطالب بإدارة الخدّ الأيمن لمن صفعك على الخدّ الأيمن تخترع محاكم التفتيش وحرق الناسّ والحروب الصليبية. لنسمّ (س) مؤشّر السلبيات التي تظهر إبان عمل الظاهرة المدروسة.
- ما أن تظهر هذه السلبيات حتى تبرز كلّ أشكال مقاومتها لتتصاعد حدّتها بتصاعد حدّة السلبيات. لنسمّ ( م) مؤشّر المقاومة التي يبديها الواقع لتصحيحها. إن ما يشهده العالم اليوم من ردود فعل عنيفة ضدّ العولمة هو اصدق تعبير عن هذه الظاهرة الطبيعية.
لا بدّ من التركيز هنا على أنّه من واجب كلّ فكر نزيه أن يأخذها بعين الاعتبار كردّة فعل شرعية على السلبيات. فلا حقّ لأحد أن يصرخ على طريقة محمد عبده ''ما أجمل الليبرالية وما أقبح الليبراليون''. على العكس من هذا عليه استنتاج ما يجب من إصلاحات، علما وأن كل إصلاح سيولّد وضعا جديدا يفرز بدوره سلبيات فمقاومة، وهكذا إلى أن تستعصي الأيدولوجيا على كلّ إصلاح فيتمّ استبدالها نهائيا بأخرى تخضع لنفس القانون السرمدي أنه لا خلود لشيء أو أحد.
لنطبّق مقياس إ-س-م على الليبرالية علما وأنه أداة قراءة لأي ايدولوجيا أو سياسة وحتى أبسط خيار في الحياة الشخصية.
أمّا بخصوص الإنجازات فإنه لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ ''الحرّياتية'' أطلقت قوى جبارة داخل المجتمعات الغربية وأنّها لعبت دورا أساسيا في خلق الثروات المادية والفكرية والفنية. كم ننسى نحن العرب أن التخلّف المادي الذي تعرفه مجتمعاتنا المستعبدة ليس إلا الوجه الظاهر للقحط الفكري والفني والعلمي الناجم عن نفس السبب: تكبيل هذه الطاقة الجبارة. ومن الإنجازات أيضا خلق مجتمع ديناميكي يعوّل فيه الأفراد على أنفسهم فتسود روح المنافسة والتحدّي وكلّها من عوامل التقدّم المطّرد في كلّ الميادين.
لكن ماذا عن السلبيات خاصة في علاقتها بالديمقراطية ؟
*
إنها تتلخص في أربع نقط بلورتها التجربة التاريخية ونستقيها منها:
1-'' تسويق'' آليات الديمقراطية
لقد فرضت الليبرالية على الديمقراطية أن تكيّف آلياتها لتتطابق مع آلياتها هي، وكأنّ ساحة السياسة مجرّد سوق تباع فيها بضائع من نوع خاصّ ، لكنها في آخر المطاف خاضعة لنفس القوانين التي تتحكّم في تبادل الشاي والسكّر والسيّارات. الأخطر من هذا تبعية السياسي للاقتصادي أي لرأس المال. لنتذكّر هنا أن آباء الفكر الديمقراطي مثل لوك ومونتسكيو و روسو جعلوا من الفصل بين السلطات ضمان عدم تجدد الاستبداد وشرطه الأوّل. إلا أن ما تفصله الدولة اللبرالية هو السلطة السياسية على صعيد أفراد ومؤسسات، لكنها لا تفصل بين السلطة السياسية والاقتصادية في مستوى طبقة تستعمل المؤسسات السياسية لضمان مصالحها. هكذا تستطيع الليبرالية أن تلتفّ حول أهمّ ركن في الديمقراطية كما حلمها مفكرون لم يكن لهم أدنى فكرة عن القوة المالية الرهيبة التي ستمتلكها هذه الأرستقراطيات وكيف ستوظفها للحصول على السلطة السياسية أو توجيهها عن بعد. يعطي الشيوخ الذين يستجوبون أمام الكاميرا مدير وكالة المخابرات المركزية ووزير الخارجية الانطباع بوجود ديمقراطية قوية يراقب فيها التشريعي كلّ دواليب التنفيذي. لكنهم أعضاء نفس نادي الأثرياء أي الأرستقراطيات الفاعلة التي صادرت الديمقراطية لمصلحتها. لقد أصبح معروفا ما للشركات البترولية من تأثير على سياسة الدولة الأمريكية وكيف تستطيع بتمويل الحملات الانتخابية لهذا المترشح أو ذاك شراء بوليصة تأمين على المستقبل. في أكتوبر 2003 أصدرت هيئة محايدة تدعى''اللجنة الأمريكية لمراقبة النزاهة''تقريرها السنوي الذي فضح ظاهرة كنّا نشكّ في وجودها دون قدرة إثباتها. لقد أبرز التقرير أن جلّ الشركات الأمريكية التي فازت بعقود ما سمّي بإعمار العراق الذي خربته الإدارة الأمريكية بمدافعها وحصارها اللا إنساني لعشرية كاملة، كانت بالصدفة من أكبر المساهمين في تغطية الحملة الانتخابية للرئيس بوش. وإن لم يكن هذا الفساد بعينه وفي أعلى مستويات، فما الفساد يا ترى؟ لكن من يعرف أن حماية مثل هؤلاء السياسيين امتدت إلى شركة من كبرى الشركات الصيدلية في العالم وهي''ايلاي ليلي'' التي استطاعت أن تسمّم ملايين الأطفال بلقاحات فاسدة لا زالت تسوقها في العالم الثالث ولم تستطع العائلات المنكوبة مقاضاتها لأن المشرّعين الأمريكيين المحتاجين هم أيضا للدعم المالي لحملاتهم الانتخابية اصدروا قوانين تمنع تتبع الشركة بحجة ....المصلحة الوطنية. من لا يعلم اليوم أن بوش الأب وبوش الابن ونائبه شيني وما لا يحصى من كبار الموظّفين وقدامى السفراء، كانوا ولا يزالوا في خدمة رأس المال هذا عبر ما يملكون وما يخدمون من الشركات العملاقة ....أنّ المكلفين بجمع أموال إعادة انتخاب الرئيس كلينتون كانوا يبيعون مقابل مئات الآلاف من الدولارات لقاءا مع الرئيس وليلة في سرير لينكولن بالبيت الأبيض وسفرة على متن الطائرة الرئاسية .....إن المرشحين لأعلى مراكز القرار هم دوما أثرياء في مواجهة أثرياء أو مدعومين منهم. هذا ما يفسّر التركيبة الطبقية للكونجرس الأمريكي، فنسبة المليونارات فيه خمسين مرّة أضعاف النسبة في الجمهرة العامّة للشعب الأمريكي. كيف استطاع شعب فيه أربعين مليون فقير أن يبعث بهذا العدد الرهيب من الأثرياء لتمثيله أو أن يوصل إلى أعلى مراكز القرار أشخاص مثل بوش ورامسفيلد وشيني المعروفين بثرائهم الفاحش وعلاقاتهم الوثيقة بالشركات البترولية الكبرى؟
والقاعدة أنّ السلطة السياسية في إفريقيا وبقية المناطق المتخلفة، هي المدخل للسلطة الاقتصادية أي لوضع اليد على المال العمومي، بينما تشكّل السلطة الاقتصادية في أمريكا المدخل للسلطة السياسية التي هي بدورها المدخل للسلطة الاقتصادية.
إنّ المفارقة في كلّ العملية تتمثّل في أن أحوج الناس للمؤسسة وهم الفقراء، يساهمون من حيث يدرون ولا يدرون في ملئها بمن هم ألدّ أعداء مصالحهم. إن أنهار الأموال التي تصرف في هذه المهرجانات مخصصة في جزء كبير لربح أصواتهم بكلّ الوسائل ومنها التضليل حتى تختلط السبل ويقع الجمع في اللاشعور بين مصالح لا تجتمع مثلما لا يجتمع الماء والنار.
لكن المال لا يحيد بالعملية الانتخابية وحدها عن أهدافها الأصلية وإنّما بآليات أخرى ضرورية لسلامة النظام الديمقراطي.إنّ الصحافة هي بصفة متعاظمة جزء من استراتيجية غزو المؤسسات الديمقراطية بهذا المال، حيث أنّ حرّية رأي جريدة مغمورة يكتب فيها بعض المعارضين للنظام ليست بوزن حرّية الرأي عند من يملك قنوات تلفزيونية يسخّرها في خدمة مرشّح معّين.إن بلورة رأي عام ّ والتلاعب به وتوجيهه هي اليوم بالأساس قضية إمكانيات مادّية والأقوى فيها هو الأغنى. حقّا هناك حدود للعملية لأن الشعوب ليست بالغباء الذي يتصوّره بعض الإعلاميين، لكن كم من وقت ومن طاقة ومن خسارة قبل أن ينكشف التضليل؟
وبخصوص حرية التنظم أي مقارنة ممكنة بين حظوظ حزب مدعوم بالمليارات وآخر لا يملك الحدّ الأدنى من الإمكانيات لإيصال صوته ؟ هذا ما دفع السينمائي والناقد الأمريكي'' مايكل مور'' للقول بأن عشرة في المائة من الأمريكيين لهما حزبان وتسعين في المائة ليس لهم ولا حزب واحد. هكذا ترى أباطرة المؤسسات المالية الضخمة يقودون مقاليد الأمور في الميادين الحساسة على امتداد العقود وترى مقاولي السياسة ومهرجيها الصغار يتخاصمون لخدمتهم على كراسي لنيابات قصيرة المدى. يظهر التدقيق في الظاهرة إذن العيب الهيكلي الخطير في الديمقراطية التمثيلية : سهولة التحكّم فيها وتوجيها بالمال، هذا الوقود الذي يجب ضخّه في دواليب السياسية في الدولة الليبرالية ودونه لا تستطيع أيّ آلة من آليات النظام أن تعمل أو بصفة أدقّ أن تعمل بالكيفية التي نعرفها.
ولقائل أن يقول أنّ الحلّ بسيط بمنع التمويل الخاصّ وقصر التبرّعات على حدّ معين وتمويل الحملات الانتخابية من المال العامّ. إن هذا ما تسعى إليه كثير من البلدان الديمقراطية التي لا تقبل السيرك الأمريكي. لكن حتّى لو سلّمنا بعدم وقوع الغشّ عبر التمويل السرّي، فإن هذا لا يلغي بقية الإشكالية أي قولبة آليات الديمقراطية وفق نموذج غير منظور للسوق.
ليس من باب الصدفة أن يواجه الناخب البرامج السياسية كما يواجه البضائع المعروضة عليه في سوق الفواكه واللحوم والأسماك. لنتذكّر أن أي واحد منّا عندما يذهب لشراء السمك لا يسلم أحيانا من الغشّ رغم تجربته الطويلة في التعرّف على الطازج منه وحرصه على المقارنة المطوّلة بين أسعار الباعة . افرض الآن أنّك أمام بائعين يتصايحان بخصوص جودة هذا الحاسوب أو ذاك. إنّ إمكانيات الخطأ في اختيار الأفضل ترتفع بصفة كبيرة لأنّك لست بالضرورة مهندسا مختصّا في الإعلامية. يتعقّد الخيار بصفة مطّردة وأنت تتردّد في التوجّه لهذه المصحّة أو تلك لعملية جراحية. أيّ قدرة لك على الخيار السليم وأنت لا تعرف حالة الأجهزة ومعنويات الممرضات وخبرة الجرّاحين ؟ كيف تستطيع التقرير بأن الخدمات التي قدّمت لك تستأهل الثمن المدفوع ؟ والآن تصوّر ناخبنا المسكين وهو مطالب بالخيار بين بائعين، كل واحد يريد إقناعه ب''شراء'' برنامجه حول تخفيض البطالة والعجز في ميزانية وميزانية الدفاع والسياسة الفلاحية والعلاقات مع العالم الخارجي والطاقات المتجدّدة ومحاربة الجريمة وألف موضوع تقني آخر. بداهة لا يمكن أن يكون رميه في الصندوق لهذه البطاقة أو تلك خيارا حرّا أي مبنيا على معرفة ووعي كما يمكن أن يقتنع هو نفسه بذلك . إنّها مقامرة بأتمّ معنى الكلمة حظوظ الفشل فيها أكبر بكثير من حظوظ النجاح. الإشكال هو أن رهان هذه المقامرة قد يكون مصير شعب وحتى مصير العالم.
هكذا خرّب منطق السوق آليات الديمقراطية عندما سمح للأرستقراطيات المخفية بالتمكن من مقاليدها عبر المال وفرض رؤيتها للعالم حتى على طريقة الانتخاب وخرّب صورتها عندما ضرب هيبة السياسة والسياسيين بالإشهار الرخيص.

2-زعزعة العقد الديمقراطي.
إن خلق الثروات شيء وتوزيعها العادل شيء آخر. وإذا أثبتت الليبرالية حقيقة لا تجادل فهي فائق قدرتها على الخلق وفائق عجزها عن توزيعها العادل. هذا ما أدّى إلى خلق مجتمعات غير سوية تتكدّس فيها جلّ الثروة بين أيادي قليلة ويترك الفتات للبقية. إن اقتصاد السوق، الذي افترض آباء الليبرالية عن سذاجة أنه عامل توازن، هو اليوم أكبر عامل اختلال في حياة العالم. لقد أصبحت هذه الأخيرة، نظرا لتوسعها من المركز الغربي إلى العالم عبر ما سمّي العولمة، مرادفا لتنمية الفقر الفاحش بجانب الثراء المشين وخلق جيوب مطردة الاتساع من المهمّشين والبطالين داخل كل مجتمع مما يؤدّي إجباريا إلى تفكّك الأسر وتفشّي الجريمة والدعارة والإدمان على المخدرات وانتشار الأمراض.
إن مجتمعا يعيش لا توازنا متزايدا وهوّة تتسع يوما بعد يوم بين من يملكون ومن لا يملكون ، هو مجتمع على فوهة بركان. إن مثل هذا الوضع، لا يمكن إلا أن يثير ردّ فعل عنيف طال الزمان أو قصر. وفي مثل هذا المجتمع التي تعركه قوى القمع وقوى التمرّد لا يمكن للحلول الوسطية والسلمية التي تشكل لبّ الديمقراطية أن تكون بديلا للعنف وحتى إن انتصبت، فلمدّة منتهية بالضرورة عندما تقتنع الأغلبية بأنه لا حلّ أمامها سوى الثورة. في الماضي كانت الليبرالية هي آلية خلق الثورة الشيوعية وما زال أمامها الكثير من الثورات تغذيها وتخلقها في المستقبل القريب.
3-إضعاف سلطة الدولة الديمقراطية.
لقد نجحت هذه الدولة، خاصة في البلدان الاسكندنافية، في الاضطلاع بالوظيفة الأهمّ لكلّ دولة أي توفير الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي وحتى العمل، كلّ هذا حتى تضمن تواصل انخراط الأغلبية في التعامل السلمي لحلّ المشاكل الاجتماعية.
إن هذه المهمّة هي التي تتعرّض اليوم للخطر في كلّ مكان لأن انهيار الحدود يمكّن رأس المال الوطني والدولي من ممارسة الابتزاز تجاه أيّ دولة تريد حماية الحقوق الاجتماعية لمواطنيها. ثمة دوما بلد فقير يمكن أن يهرع إليه رأس المال وبلد أفقر منه إن أرادت حكومته الديمقراطية الحفاظ على الحدّ الأدنى من الخدمات الاجتماعية أو حقوق الشغالين في الإضراب و الأجر العادل. وفي هذا المستوى أصبحت الحكومات الديمقراطية في البلدان الفقيرة والغنية في نفس الوضعية، فإمّا قبول الابتزاز بما يعنيه الأمر من ضرب الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للناس أو مواجهة وضع أصعب ناتج عن هروب رأس المال لا يجري إلاّ وراء الربح.
إنّ الخلل الأساسي في الليبرالية قلبها للأولويات الطبيعية. ففي كل مجتمع سويّ يجب أن تكون أداة الإنتاج في خدمة حاجات الناس من أكل وكساء وعمل الخ، أما ما ينتج من ربح فهو مكافأة اجتماعية للمجتهد والمبدع. لكن عندما يصبح الربح هو الهدف والحقوق الاقتصادية والاجتماعية مجرّد توابع ثانوية يمكن التضحية بها إذا تضاربت مع الربح، فإننا ندخل في منطق مريض لا يمكن أن يتمخّض عنه إلا مجتمع بل وعالم مريض. هذا الانقلاب في الأولويات هو الذي يجعل اليوم الليبرالية بعبعا مخيفا يدمّر البيئة والشعوب والعائلة من أجل تكديس الأرباح.
إنّ وصف الليبرالية بالمتوحشة ليس من باب البلاغة الجوفاء وإنما وصف فرضته عليّ متابعتي الدقيقة لعلاقة الشركات العملاقة بمشاكل الصحّة التي أدرّسها بالجامعة. فلا أشرس من الشركات الصيدلية الأمريكية في حربها المدعومة بالإدارة الأمريكية ضدّ توفّر الدواء بأرخص الأثمان في العالم. هي ترفض للبلدان الفقيرة حق تصنيع الأدوية الضرورية التي تمتلك براءتها بحجة حماية الملكية الفكرية وتقيم الدنيا وتقعدها على كلّ دولة ''مارقة'' رغم الأرباح الخيالية التي تحققها والمونوبول الواسع الذي تتمتع به. هكذا تعرف أفريقيا اليوم 28 مليون مريض بنقص المناعة المكتسب لا يحصل منهم على العلاج إلا واحد بالمائة. هذه السياسية المجرمة، التي تحرم حتى الفقراء في أمريكا من الدواء لغلائه الفاحش ، أثارت سخط المنظمة العالمية للصحة ( بيان ماي 2001) ولجنة الأمم المتحدة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ( بيان نوفمبر 2001) وصراع رهيب في ساحة المنظمة الدولية للتجارة. إنها الحرب بين حق الصحة وحق الربح الحرام. ثمة اليوم مجازر صامتة لملايين الأطفال في إفريقيا تجد ورائها أكلة لحوم البشر بالسموكنج ويحدثونك عن دور المنافسة في توفير أرخص السلع لمن لا يمتلكون ما يسدّون به الرمق
4-تلويث قيم الديمقراطية : ما من شكّ أنّ الحرية من أهمّ القيم بالنسبة لكل الديمقراطيين ، لكن استعمالها من قبل الليبراليين كتبرير لكل الموبقات التي تتمخض عنها العولمة المتوحشة، يلقي بضلاله على المفهوم بأسره بل قد يبغضّه للناس.
أنّ الحرية هي قدرتنا النظرية في اختيار الطريق الذي نظنّ أنه الأقصر والأسهل والأضمن لتحقيق مصالحنا وصيانة كرامتنا وذلك بدون ضغط أو إكراه. لكن أغلب الظروف البيولوجية والنفسية والاقتصادية والاجتماعية التي نعيش داخلها تتصرّف وكأن لا همّ لها سوى الحدّ من قدرتنا هذه. مما يعني أن مشكلتنا ليست الحرية بما هي قيمة مطلقة توجد أو لا توجد وإنما مع حالتها العملية أي التحرّر. هذا التحرّر هو جهد كلّ لحظة لتوسيع دائرة الخيار في وجه كل المعوقات . لكن أهم المعوقات في وجه تحرّر الأغلبية الساحقة للبشرية اليوم هو الحرية كما يفهمها الليبراليون.
لقد أظهرت التجربة التاريخية بما فيه الكفاية أنها كانت ولا تزال حرّية الذئب في المدجنة والتغليف النظري للداروينية الاجتماعية بمبدأها الأزلي : البقاء للأقوى والأقوى هنا هو الأغنى.
*
لا غرابة في مثل هذا الوضع أن تكون المقاومة بشراسة الهجوم على الحريات و الحقوق المشروعة لأغلبية البشرية. لقد تمثّلت هذه المقاومة في المظاهرات الشعبية الصاخبة التي انطلق مسلسلها منذ نهاية القرن الماضي من مدينة سياتل في الولايات المتحدة والتي انتشرت كالنار في الهشيم إلى كلّ مدينة في العالم شهدت فيها لقاء أساقفة الليبرالية. لقد تمثّلت أيضا في إعادة تجنيد النقابات التي قيل أن عهدها انتهى وفي بروز عدد هائل من التنظيمات المدنية لوقف الدّاء وفي ما لا يحصى من كتابات النقد والاحتجاج ومنها هذا الكتاب.
القاعدة أن بقدر ما تتشنّج الشعوب في مقاومتها للظاهرة بقدر ما تتشنّج الليبرالية في الدفاع عن مصالحها غير المشروعة.
ها هي تمرّ اليوم في حربها الخارجية ضدّ كل من يقف في وجه مصالحها حتى إلى خصخصة الأمن ( 1).
من كان يتصوّر إمكانية ظهور شركات أمريكية تعدّ بالمئات ويديرها جنرالات أمريكيون متقاعدون، تملك أسلحة من نوع قاذفات القنابل ب2 وأسلحة ثقيلة وجيوش خاصة من المرتزقة لحماية مصالح الشركات العملاقة وعملائها المحليين. وبالمناسبة نرجو من منظرّي الليبرالية إفهامنا أين هي آليات السوق التي ستجعل خدمات هذه الشركات توفّر الأمن والاستقرار بأبخس ثمن ممكن ولمصلحة أي مستهلك ؟ كيف سيحصل التنافس الشريف والنزيه بينها لجني أرباح لا بدّ أن يكون لها علاقة ما بثمن الدم ؟ ينذر ظهور هذه الشركات بأن الليبرالية دخلت في أخطر مراحل تطور كل ايدولوجيا أي الدفاع عن الذات بالعنف الأقصى وعدم تكّلف التقية والتمويه .
تبدأ الإيديولوجيا كعقيدة خصبة ومنظومة فكرية وسياسية تريد التحرّر من نظام فاسد متقدّم عليها. ثم تصبح بمرّ الزمان وبالتمكن السياسي أداة حكم تحقّق جزءا من برنامجها الثوري وتقعدها حدودها وتعقيد العالم عن تحقيق الباقي. ثم يحصل نوع من التوازن بين الايجابيات والسلبيات تمكّن من إطالة عمرها أحقابا وقرونا. تأتي المرحلة النهائية التي يتعمق فيها فشل المشروع وتغلّب السلبيات على الإيجابيات وتصاعد المقاومة في ثوب ظهور عقائد أخرى تدفع قدما المشروع التحرّري الإنساني. تتشنّج آنذاك إرادة السيطرة والبقاء على كل باقي مكونات الأيدولوجيا فتغدو عنفا أعمى بغطاء نظري وتبرير بالغ الهشاشة لا يقنع إلا من أصرّ على الصمم والعمى. كلّ هذا في خدمة طائفة تضيق رقعتها باطّراد أمام تكاثر المتضرّرين والمطالبين بالتغيير الجذري.
إنها ظاهرة أزلية عبّر عنها توماس مازاريك قائلا:" تسقط الشعوب بسقوط المثل العليا التي نهضت باسمها''. نحن بصدد معايشة هذه الفترة البالغة الخطورة في حياة الليبرالية.
كما مثّل المرحوم الاتحاد السوفييتي ذروة النظام الاستبدادي الشيوعي فإنّه يمكن اعتبار الولايات المتحدة الأمريكية هي ذروة النظام الاستبدادي الليبرالي، وقد تنتهي معه بنفس الكيفية عندما يستنفذ النظام كل طاقاته وعيوبه مثلما انتهى الاتحاد السوفييتي عندما أوصله نظامه السياسي إلى الهاوية بعد أن استنفذ كل طاقته وتمخّض عن كلّ موبقاته.
لقد أصبح واضحا اليوم أنه إذا كانت الشيوعية والفاشية ألدّ أعداء الديمقراطية في القرن الماضي فإن ألدّ أعدائها في هذا القرن هي الليبرالية المتوحشة.
***
1-P.W. Singer
Corporate warriors The rise of the privatized military industry
6- هل ستجهض الديمقراطية مشروع وحدة الأمة ؟

إنّ ما يعانيه العرب من انحطاط وإحباط وليد شبكة معقدة ومترابطة من الأسباب ولا علاج له خارج شبكة معقدة ومترابطة من الحلول. معنى هذا أن الديمقراطية لا يمكن أن تكون '' الحلّ'' حتى ولو فرضنا حسن تطبيقها. لا بدّ أن تكون جزءا من منظومة الحلول القادرة وحدها على وضع الأمّة أخيرا على السكّة.
نجد في مشروع حركة '' المؤتمر القومي العربي '' بداية الوعي بهذه الرؤيا. فبرنامج '' الحلّ '' بالنسبة لهذه الحركة الفكرية والسياسية يتكوّن من ستّة نقط (المستقبل العربي سبتمبر 2003-مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت)
- الوحدة العربية (لمواجهة التجزئة بكل صورها القطرية والطائفية والقبلية)
- التنمية المستقبلية( لمواجهة التخلف أو النموّ المشوّه التابع )
- العدالة الاجتماعية (لمواجهة الظلم والاستغلال بكل صوره ومستوياته)
- الاستقلال الوطني والقومي( لمواجهة الهيمنة الأجنبية والإقليمية والدولية )
- التجدد الحضاري( لمواجهة التجمّد الذاتي من الداخل والمسخ الثقافي من الخارج )
- الديمقراطية لمواجهة الاستبداد بكل صوره و أشكاله.
إن فهم تعدّد أبعاد الحلّ يعدّ تقدّما هائلا بالنسبة للذهنية الأحادية التبسيطية التي حكمت العقل السياسي العربي طيلة القرن الماضي . الإشكالية الآن مدى تجانس القطع الستّ التي تشكّل ''المحرّك''.
نعرف اليوم أنّ المشروع الوحدوي كان، مع التنمية والمواطنة،
من أهمّ ضحايا النظام الاستبدادي، أن هذا الأخير منع تكوين الفضاء العربي الواحد باليات مختلفة من بينها استحالة التوافق بين دكتاتور وآخر لا يطمح كل واحد إلا لبسط سلطانه على خصمه ، مرورا باحتماء المستبدّين المهدّدين بالأجنبي للبقاء في السلطة،
دون أن ننسى الخصومات الشخصية بين الطغاة.
لكن هل نحن متأكّدون أن النظام الديمقراطي سيفتح لنا الباب الذي أغلقه الاستبداد؟ من أين للديمقراطيين العرب الثقة في أن بوسع الديمقراطية تجديد المشروع العروبي ونفخ روح جديدة في محتضر يتمنى له الكثيرون موتا بلا بعث ؟ ألا يمكن أن تكون الديمقراطية هي التي ستقبر المشروع نهائيا؟ فالاستبداد لم يكتف بضربه في الماضي وتعطيله في الحاضر وإنما ارتهن أيضا مستقبله.
لا يمكن أن ننكر وجود ردّة فعل شعبية في سوريا والعراق وليبيا، قد تكون عابرة وقد تكون أعمق مما نظنّ، تضع في سلة واحدة جرائم وفظاعات النظام الاستبدادي والمشروع الوحدوي الذي شاء حظّه العاثر أن يكون الايدولوجيا الرسمية والغطاء الجميل لأنظمة الطائفية والمخابرات والفساد والقمع لنذهب إلى أبعد من هذا. ألا يمكن أن تجزّأ الأقطار نفسها التي نحلم بتوحيدها؟ إن ما ننساه هو أن النظام الاستبدادي العربي خرّب المشروع الوطني قبل أن يجهض المشروع العروبي. لقد تشكّلت داخل الدولة الوطنية المبنيّة نظريا على تجاوز الطائفية والقبلية والجهوية، كل مقومات نظام قبلي طائفي أي معادي لمبادئ الوحدة الوطنية لأنه من طبيعة حكم ظالم عنيف ومهدّد دوما، الاحتماء بالأقربين وإطلاق أيديهم مقابل الدعم والحماية. لا غرابة أن يقع الجمع في الأذهان بين المستبدّ من جهة و عشيرته أو طائفته من جهة أخرى، فتترعرع في صمت القمع الضغائن الدفينة والأحقاد المرجأة . هكذا توارت تحت رماد الوحدة الوطنية المفتعلة جمرات انقسامات خطيرة، دينية في لبنان ومصر، طائفية في سوريا، عرقية في السودان والعراق، عشائرية في السعودية واليمن وبلدان الخليج، ثقافية في الجزائر والمغرب. إن الامتحان القاسي الذي تتعرض له الوحدة الوطنية اليوم في العراق والسودان ليس بالضرورة آخر مآسينا في هذا الميدان.
لقائل أن يقول أن هذين المثالين يبرّآن النظام الاستبدادي أكثر مما يدينانه، فالانفصال الضمني لشمال العراق وجنوب السودان كان كامنا في الفوارق العرقية والثقافية. لذلك كان الاستبداد ولا يزال الضامن الأساسي للوحدة الوطنية. لكن اعتراضا كهذا غير جدّي لأنه لا معنى ولا وظيفة لوحدة وطنية مفروضة بالقوّة. فإمّا ترتكز على شعور عميق بالانتماء إلى نفس المجموعة وعلى التضامن الحرّ... أو لا تكون. أضف إلى هذا أنّ الفوارق العرقية والثقافية، التي أخضعها الاستبداد بالحديد والنار، كانت قابلة للترويض في إطار نظام فيدرالي عادل كالنظام السويسري مثلا.
على كل حال، نحن لا نستطيع إعادة كتابة التاريخ أو اللعب بفرضيات لا تخضع للتجربة. كل ما يمكن أن نقوله أنّ استفتاءا حرّا في العراق أو السودان اليوم سيؤول بصفة شبه حتمية إلى تفجّر الدولتين للظروف الموضوعية والتاريخية من جهة ، ومن جهة أخرى بسبب الطريقة التي تعامل بها الاستبداد مع هذه العوامل المتقدمة عليه.
وفي نفس السياق علينا أن نتوقّع أنّ عودة السيادة للشعب عبر انتخابات حرّة ونزيهة، ستعطي دفعا هائلا لمطالب الخصوصيات التي قمعت إبان الاستبداد حتّى ولو لم تشكّل تهديدا صارخا للوحدة الوطنية.
ثمة خطر حقيقي من تشكّل أحزاب وطنية بأضيق مفهوم وحتى طائفية وعنصرية تستلهم معاداتها للعروبة من مصادر ثلاثة : المطالب الشرعية للأقليات، العمالة لأنظمة غربية تتربّص بكلّ ما هو عروبة وإسلام وبحث المقاولين النشيطين عن ''أسواق '' سياسية أضمن ربحا من مشروع أحالوه مبكّرا على متحف الأحلام الضائعة.
لا أحد يستطيع التكهّن بالدور الذي ستلعبه الديمقراطية في الجزائر والمغرب. هل ستفتّت مطالب الأمازيغ في البلدين أم هل أن الاعتراف لهم بالحقوق السياسية سيدفع عن القطرين بلاء ''السودنة'' و''الأكردة''؟ إنّ الأصوات التي تدعو إلى إحياء فكرة فرعونية مصر و خروجها من العائلة العربية بداية مسلسل لا يجوز الاستهانة به وظاهرة لن تبقى معزولة. لننتبه لخطورة طرحها مثلا لقضية اللغة حيث تدعو إلى كتابة الدارجة المصرية والتخلّي عن الفصحى .إن تحقيق مشروع كهذا لن يعني إلا الإجهاز على الأمّة عبر تدمير عمودها الفقري : لغة الضادّ . ليس من باب الصدفة أن تطفو على السطح تلك النظريات السخيفة التي طالما قارنت العربية باللاتينية منادية بضرورة تحرّر''اللغات '' العربية من سطوة لغة '' ميتة'' ولم لا ظهور '' لوثر'' عربي يترجم القرآن إلى ''اللغة التونسية '' حتى يفهم التونسيون ما يقوله النصّ باللغة الميتة.
هل يجب أن نخشى دفعا أمازيغيا في الجزائر والمغرب لاستبدال العربية باللهجات المحلية سواء كانت من أصل عربي او أمازيغي ومن ثمة قطع الحبل الوريدي بين المغرب و المشرق ثمّ فرض توجّه نحو أوروبا للاندماج فيها . ليس بديهيا أيضا أن تقبل الشعوب الخليجية باتحاد لا يعني شيئا آخر غير ذوبان سكّر ثروتها داخل أنهار من الفقر العربي(بدل ذوبانها في كروش أمرائها). أما فلسطين التي خذلتها الدول وحتى الشعوب العربية، فليس بديهيا ألا يفضّل يوما شعبها البطل المثخن بالجراح اندماجا في تجمع إقليمي مع إسرائيل. أمّا من سيبادرون بالصراخ أن هذا مستحيل فالمرجوّ منهم العودة إلى تاريخ العلاقات الألمانية الفرنسية.
إنّ بوسع التاريخ أن يتمخض عن مفاجئات لا نتخيلها مثل وحدات إقليمية كاتحاد الهلال الخصيب تحت سيطرة إسرائيل، واتحاد المغرب العربي تحت سيطرة الاتحاد الأوروبي، واتحاد دول الخليج تحت سيطرة أمريكا، وربما اتحاد وادي النيل تحت سيطرة أمريكية –أوروبية-إسرائيلية.
يتطوّر السؤال إذن ليصبح : إذا فرضنا أن الديمقراطية ستشكّل هزّة خفيفة وليس زلزالا يدمّر حتى الوحدة الوطنية، فماذا سنفعل كديمقراطيين برفض الأقليات الدينية وحتى الاقتصادية فتح الفضاء الوطني على الفضاء العربي ؟ وبعبارة أخرى : حيث أن الفضاء الوطني أو الإقليمي هو نفسه لم يستنفذ كلّ شروط وحدته وحيث أن الديمقراطية قد تعطي للأقليات الدينية والثقافية حقّ رفض أي اتحاد عربي تخشى من الذوبان فيه، فكيف لنا تصوّر بناء الفضاء العربي الواحد في هذه الظروف ؟
إن تجارب الدول القريبة منا بخصوص علاقة الديمقراطية والوحدة السياسية متضاربة . حقّا هناك التجربة الأوروبية التي تظهر أن الشعوب لا تتوحّد ، رغم الخلافات التي تشقها وخلافاتها الداخلية ، إلا عند استتباب النظام الديمقراطي ... أن انهيار الدكتاتوريات في ألمانيا وإيطاليا و أسبانيا واليونان والبرتغال ثم في بلدان أوروبا الشرقية ، كان الشرط الأوّل لقيام الاتحاد الأوروبي. لكن الديمقراطية هي التي دمّرت وحدة يوغسلافيا أو الاتحاد السوفييتي.
إن التنبيه لهذه الأخطار لا يعني أنّ علينا رفض الديمقراطية باسم اتحاد لن يحصل في كلّ الحالات تحت راية الاستبداد، وإنما الوعي بأننا نتعامل مع أداة بالغة التعقيد والأبعاد، منها التي نتوقع ونريد ومنها التي ستشكّل معضلة بالنسبة لمشروع تتحرّري متكامل تشكلّ الديمقراطية جزءا منه، لا مبتدأ الخبر ومنتهاه.
*
ثمة اليوم إغراء كبير من قبل صغار النفوس والأفق للاستقالة من عروبة تبدو مفلسة بكل المعاني والمستويات وقد وضع المستهلك في نفس السلّة التاجر الغشاش والبضاعة المتضرّرة من غشّ البائع.
أليس من المضحكات المبكيات أن النظام الليبي، هو الآخر قرّر الاستقالة من العروبة التي ساهم كثيرا في تخريبها مكتشفا فجأة إفريقيته. لا يبقى لنا غير أن نصلّي لأفريقيا المسكينة.
إن تجدّد أمتنا يمرّ بوحدة ليست تكرارا لماض خيالي وإنما خلقا لاتحاد جمهوريات المواطنين العرب كلّنا نعلم مدى حاجتنا لفضاء قومي أوسع للحرية والتآخي ولا علاقة له بأي صورة لدولة مركزية قومجية متطرفة مبنية على العداء للخارج وقمع الأقليات.
إذا كان الإسلام هو المسلمون والديمقراطية هي الديمقراطيون فإنّ الإتحاد هو الاتحاديون وقدرتهم على ترجمة المشروع إلى واقع. هؤلاء الاتحاديون هم ضرورة ديمقراطيون لأن الديمقراطية شرط ضروري لنجاح المشروع كما يثبت ذلك فشل الوحدويين الاستبداديين ونجاح التجربة الاتحادية الأوروبية.
الدرس الأوّل الذي تعلمنا إياه هذه التجربة أن الاندماج لا يكون إلا بين دول لم تعد تخشى على وحدتها الوطنية أو على حدودها. معنى هذا أن نضالنا الطويل من أجل الاتحاد العربي يبدأ بنضال من أجل الوحدة الوطنية. إنّ مهمّة الديمقراطيين العرب أين تواجدوا تعزيز هذه الوحدة لأن الشظايا أصعب تجميعا من الأجزاء الكبيرة. فعلى صعيد المغرب الكبير مثلا لا يجب أن يتردّد العروبيون لحظة عن دعم المطالب الثقافية للأمازيغ على عكس القوميين التقليديين.
إنّ المغرب الكبير منذ تخليصه من الاحتلال البيزنطي هو نتاج شعبين توأمين حاربا معا في الأندلس وصنعا معا الحضارة التي تميزه وقاوما معا الاستعمار واختلطت الدماء بالدماء على مرّ التاريخ فتعرّب الأمازيغ وتمغزز العرب، وأصبحت الحدود بين العروبة والأمازيغية تمرّ داخل كل مغاربي. ورغم هذا المصير المشترك، أبقى الاستبداد الثقافة الأمازيغية في الظلّ وغيب اللغة وتجاهل وجود الشعب التوأم وما له من حقوق، فنشأت الحركات المتطرفة كالتي توجد في منطقة القبائل برفضها لكل ما هو عربي وتوجهها للغرب وحتى لإسرائيل وتصديها لكتابة الأمازيغية بالأحرف العربية.
تفرض علينا النزاهة وبعد الأفق السياسي أن يعترف كلّ العرب -وعلى رأسهم الاتحاديون -للأمازيغ في المنطقة المغاربية والأقباط والمسيحيين والأكراد والأفارقة في السودان وموريطانيا، بكل حقوقهم الثقافية والسياسية. إنّ أيّ مواجهة بين العروبة وبين الخصوصيات الوطنية لن تعود إلاّ بالوبال على العروبة وعلى المشروع الاتحادي.
الدرس الثاني للتجربة الأوروبية أنّ الاتحاد الأوروبي لم يكن مشروع كلّ الأحزاب الديمقراطية الوطنية. فقد حاربته البعض منها باسم الخصوصية مثلما سيقع ذلك في فضائنا العربي.
معنى هذا أنّ الاتحاد العربي إذا قدّر له أن يولد من رحم عملية شبيهة، فإنّ الأمر سيتطلّب تجنّد جزء هامّ ومؤثر من القوى الديمقراطية العربية لربح معركة الأفكار ضدّ صغار النفوس والأفق حتى يصبح بديهيا للكلّ أن العامل أو العالم المصري والفنانة اللبنانية والأديب السوداني المستثمر الخليجي والفلاح العراقي والكاتب التونسي والصحافي الفلسطيني والسائح المغربي الخ، بحاجة إلى فضاء كبير مثل الفضاء العربي، هم فيه أسياد بدل من التقوقع على فضاءهم الضيق أو التسوّل والتطفّل على فضاءات الآخرين. إن مهمّة الديمقراطيون –الاتحاديون ليست خلق الحزب القائد ليصبح الحزب - القيد كما حدث ذلك مرارا. هي ليست بناء ''كارتل'' أحزاب ديمقراطية تتحالف بينها ضدّ البعبع الاستبدادي أو المنافس الإسلامي. إن دورهم المعقّد يمرّ من تكوين الأحزاب والتنظيمات إلى تثوير العقليات وغرس الديمقراطية في العقول والقلوب إلى دفع كل القوى السياسية بما فيها القومية الجديدة والإسلامية المتنورة إلى جعل النظام الديمقراطي خيارهم الستراتيجي وليس فقط التكتيكي الانتهازي. فليتأهب الاتحاديون إذن إلى عقود من الدعوة والضغط والتربية وهم في المعارضة وعقود أخرى من التفاوض المضني والجهد الجهيد ليتبلور الاتحاد إذا حكموا يوما.
لا يجب أن يخفى عنّا هنا، أننا ربما بصدد السقوط في الفخّ الذي سقط فيه القوميون الاستبداديون. هم أيضا كانوا يتصوّرون وحدتهم على منوال أوروبا، لكن من أوروبا القرن التاسع عشر. لقد كانت الوحدة الألمانية والإيطالية النموذج الماثل أمام أعينهم. هكذا بقوا ينتظرون بزمارك العرب فرأوه مرة في عبد الناصر وأخرى في القذافي بل وحتى في صدام حسين . وفي أحسن الأحوال رأوا الحلّ في النموذج السوفييتي حيث يجب على حزب البعث أن يستولي في العشرين قطرا على السلطة ليتم التوحيد تحت راية الحزب الرائد وقيادته المركزية الحكيمة. ورأينا قدرة هذا الحزب الواحد على التفريق وهو يستولي على مقاليد السلطة في قطرين فقط هل نحن بصدد تكرار خطأ آبائنا المبهورين بالمثال الأوروبي لا نقلّ عنهم انبهارا وتقليدا أعمى؟ ألسنا بصدد الجري وراء نموذج غير قابل للتطبيق لأنه مثل اللاّئكية وليد تاريخه وإذا نقل مسخ وأنتج ما لا نتوقّع أو نرضى ؟ أليست القاعدة المعروفة أنّ التاريخ لا يكرّر نفسه وأن له حلولا مختلفة لنفس المشاكل؟
إن هذا الاعتراض صائب منهجيا ويجب أن يبقى ماثلا بين أعيينا لتكون لنا دوما من المرونة الفكرية ما يكفي للتأقلم مع معطيات تتغيّر باستمرار و تفاجئنا دوما. كلّ ما نستطيع قوله في هذه اللحظة من تاريخنا أنه لا خيار لنا غير تجربة هذا الطريق بعد أن تبين أن النموذج الاستبدادي يؤدي إلى عكس ما نطمح له. يبقى إغراء انفجار تحت قيادة ثورة إسلامية –قومية يختصر كل هذا الطريق. إن حدوث شيء كهذا أمر غير مستبعد خاصة في ظروف الاحتقان المتزايد للوضع السياسي في المنطقة .
الإشكالية هي هل ستستطيع القوى الديمقراطية أن تؤثّر على طريقة بناء النظام الوحدوي الجديد وهل ستستثمر القوى الأخرى تجارب التاريخ لتخلق بدل أن تكرّر. في هذه الحالة فإن البناء سيستقيم وسيصمد، أمّا إذا تمخضت الثورة عن ''اتحاد سوفياتي '' عربي فلن يطول الوقت حتى يبدأ العرب الذين ترجّوا الوحدة بكل قواهم الحلم ...... بالانفصال.

***





7- قواعد اللعبة وإغراء الغش

لو تمعنّا في طبيعة أركان الديمقراطية الأربعة ( حرية الرأي ، حرية التنظم ، استقلال القضاء ، التداول السلمي على السلطة) لاكتشفنا أنها أساسا قواعد إجرائية كتلك التي تحدّد كيفية وقوع مباراة كرة القدم أو كرة المضرب أو الشطرنج . يتضح الأمر في قدرتنا على كتابة الأركان في شكل تعليمات كالآتي :
- إلى الحكام : اقبلوا بالنقد والمراجعة . اقبلوا بحق المجتمع بالتنظم خارج إطار الدولة . استعملوا أجهزة هذه الدولة للمصلحة العامة لا للمصلحة الخاصة ومن بينها تنظيم الاستشارات الشعبية بصفة محايدة .لا تلجئوا أبدا للعنف للتعامل مع خصومكم السياسيين . تقدموا دوريا للتقييم الانتخابي . انسحبوا بهدوء وبسلام في حالة إعفائكم من المسؤولية.
-إلى المعارضين : لا تلجئوا إلى الوسائل العنيفة للتغير . مارسوا حرية النقد والتنظم في دائرة قانون ''حقوقي تنتهي أين تبدأ حقوق الآخرين'' . دافعوا بكل طمأنينة عن بدائلكم . تقدموا بها لانتخابات حرة ونزيهة .اقبلوا بنتائجها أكانت لصلحكم أم لصالح الخصم .
- إلى المواطنين : مارسوا حقكم في تقييم السلطة باستعمال حرية النقد. دافعوا عن حقوقكم بالتجمع داخل تنظيمات تحميكم من الاستبداد . تقدموا دوما للانتخاب حتى تساهموا في صنع القرارات التي تحدد مستقبلكم .
- إلى القضاة : لا تخضعوا للأهواء السياسية للسلطة التنفيذية أبدا . اسهروا على احترام الجميع لقواعد اللعبة الديمقراطية طبقا للدستور والقوانين المنظمة للحياة العامة .

من نافلة القول أننا لسنا أمام تعليمات بلا روح كتلك التي تشحن بها الآلات والحواسيب ، فقواعدنا تعكس قيما معينة ، تعمل أيضا على غرسها وإشاعتها، مثل الكرامة والحرية والوسطية والاعتدال والجنوح إلى فضّ الخلافات سلميا والنزاهة وحتى الروح الرياضية .
حقّا ، مثل هذه القيم لم تكن يوما حكرا على الديمقراطية . هي موجودة في الكثير من الأديان و المدارس الأخلاقية .
إلا أنه ثمة علاقة غير قابلة للفصم بين ما يمكن اعتبارهما وجهي نفس قطعة النقد . فبالنسبة للديمقراطية لا تتبلور مطالب العدل والكرامة والمسالمة عبر جهد فردي وإنما عبر تنظيم سياسي . كذلك لا يمكن للقواعد أن تنتصب وأن تستمرّ دون الأسس الأخلاقية التي ترتكز عليها . ومن ثمة يجوز القول أن الديمقراطية هي آليات في خدمة قيم وقيم تدعم آليات . إن هذه الرؤية هي التي ستسمح لنا الآن بتفكيك الغشّ وفهم كل أبعاده .
*
ما من شكّ أن وجود قواعد لعبة يعني ضرورة وجود الغش ، لا لشيء إلا لأنه لو لم يوجد لما كنا بحاجة أصلا للقواعد . وهذه قاعدة عامة فنحن نعيش في عالم تناظري : لا وجود للذكر إلا بوجود الأنثى . لا معنى للخير إلا بوجود الشرّ إما إذا وجد النور فالظلام حتمي ....الخ . هذا الغش هو بمثابة فساد معنوي لا يختلف في المصدر والوظيفة عن الفساد المالي الذي يمكن تشبيهه بنبتة مضرة تنبت باستمرار في حديقة السلطة ولا علاج لها سوى تواصل الانتباه والقصّ .
الهامّ أنه مثل كل طرفي معادلة التناظر، ليس حدثا طارئا أو شائبة سنتخلص منها يوما. هو جزء مهيكل ، ثابت ، ملتصق بقواعد اللعبة التصاق القذارة بالجلد الذي يتنفس ويعرق .
كم يخطئ من يتصوّر أن الغشّ غير موجود داخل الأنظمة الديمقراطية . كم من فضائح عرفتها أعرق البلدان الديمقراطية وآخرها فضيحة الانتخابات الأمريكية سنة 2000 التي لعب فيها التحايل دورا رئيسا في فوز جورج بوش بولاية فلوريدا ومن ثمة بفوزه برئاسة الولايات المتحدة . هذا الغش أو الخوف منه هو الذي جعل خصمه في انتخابات نوفمبر 2004 يجنّد آلاف المحامين تحسبا لكل عملية تزوير. إن الفرق الرئيسي مع السيناريو المبتذل في أقطارنا العربية هو وجود الحكم القوي الذي يصفّر المخالفة ويعيد اللعبة إلى قواعدها سواء اتخذ شكل الشعب الواعي بحقوقه أو القضاء المستقلّ أو الصحافة الحرّة.
ولو تمعنا في هذا النوع من الغشّ لاكتشفنا أن محرّكه الأساسي هو وهن الأسس الأخلاقية . والقاعدة أنه بقدر ما تتقلّص تضمحلّ بقدر ما يتزايد الغشّ .
الحالة القصوى لهذا التوجّه هي القطيعة المطلقة بين القواعد والمبادئ. إنها حالة تزييف الديمقراطية كما تمارسها بعض الأنظمة الاستبدادية التي لم تأخذ من الحداثة إلا قشورها ومن الديمقراطية إلا طقوسها ....كل هذا في خدمة
'' قيم'' مناهضة تماما للقيم الديمقراطية.
إن هذا الغش الفجّ - الذي نراه خاصة في تنظيم المبايعات التي تسميها السلطة الاستبدادية انتخابات – هو بمثابة تزييف العملة في وضح النهار وسط الحشود التي يطلب منها بكل وقاحة وسذاجة تصريف الدنانير المطبوعة على ورق الجرائد . هو إذن سهل الفضح ومستحيل التواصل مهما بلغت درجة عنف المزيف وطول مدة استكانة ضحية التزييف.
ثمة أنواع أخرى من الغش أكثر خبثا وتغليفا وأقلّ ظهورا لأنها ترصد عند لاعبين لم يتسلموا السلطة بعد.
إن أوضحها هو غشّ الديمقراطيين أنفسهم الذين تنكروا في الجزائر لإحدى أهمّ قواعد اللعبة وذلك عندما أدّت إلى انتصار الإسلاميين في انتخابات بداية التسعينات .
ثمة أيضا الموقف المعلن للإسلاميين وهو أنه لو أعطتهم أغلبية المقترعين السلطة، فإنه سيحق لهم تطبيق مشروعهم السياسي حتى ولو تناقض مع قيم الديمقراطية وأهدافها وربما وضع حدّا لها . إن نية الغشّ هنا واضحة لأن اللاعب يعلن صراحة(و قد ينوي في سرّه) الالتزام بالجزء الذي يخدم مصالحه وترك الجزء الذي لا يخدمها تماما كما فعل
'' الديمقراطيون '' الجزائريون .
هناك نوع أخير من الغش يفضحه موقف الأحزاب اليسارية العربية التي ترفض التعامل مع الأحزاب الإسلامية ولو قبلت نظريا بالديمقراطية بحجة أنها ''رجعية '' ، '' ظلامية'' وحتى لا تؤمن..... بالمساواة في الإرث. هي لا تنتبه لكون رفض التعامل مع الآخر، لأنه يحمل مشروعا ايدولوجيا مخالفا، مثل رفض فريق كرة قدم اللعب مع فريق منافس لأنه لا يقبل زيّه ومصدر تمويل النادي الذي ينتمي إليه .
لا نتحدثّ هنا عن الغشّ عند العرّاب الأجنبي الذي يفاضل بين الدكتاتورية التي تخدم مصالحه والدكتاتورية التي لا تخدمها ، بين الديمقراطية التي يمكن أن تضمن هذه المصالح وبين التي يمكن أن تهدّدها.
ها نحن في لب ّ الاشكالية نواجه القاسم المشترك بين كل الأطراف المتنازعة على مبتدأ الخبر ومنتهاه : نعم للمباراة نعم للقواعد.... شريطة أن تضمن الفوز - فوز السلطة أو فوز الإسلاميين أو فوز اليساريين أو فوز المشروع الأمريكي- و إلاّ فلتذهب القواعد إلى الجحيم .
*
إن الحكم المعياري على مثل هذا الموقف عديم الجدوى والأجدى منه فهم الأسباب التي تجعل مختلف الأطراف-أو على الأصح الجزء الغشاش منها – تنوي ( أو تركن إلى ) الغشّ حتى لا تؤدي قواعد اللعبة إلا للنتيجة التي تسعى إليها بوسائل أخرى .
ثمة بطبيعة الحال المنافع الفردية والحزبية العاجلة. لكن هناك دوافع أعمق وأقوى- وحتى أنبل - تتعلّق بالمنظومة الايدولوجية أو الرؤيا التي تتحرّك داخلها كل الأطراف السياسية.
لنعترف أنه لا أحد منّا يلعب من أجل اللعب أو( من أجل متعة وشرف المشاركة كما تقول الدعاية الأولمبية). كلنا نلعب من أجل النصر، فكلّ طرف سياسي يحمل صورة معينة للمجتمع المثالي الذي يطمح لتحقيقه ( المجتمع الطبقي العادل أو المجتمع الإسلامي أو المجتمع الليبرالي الخ ) . هذا المجتمع المنشود هو حلم الأجيال و مبرر كل الآلام ومحطّ كل الآمال .هو محور كل نضال في الفكر و السياسة .هو القطب المغناطيسي الذي تتوجه إليه كل خطوط القوّة . هو الطريق الطويل الذي يرتطم دوما بالعقبات التي يثيرها وجود الآخر .
هذا الآخر بمشروعه المعاكس هو العقبة الكأداء التي يجب اجتثاثها بالعنف إذا أمكن وتطويقها بالتغاضي والتفادي والتباعد إذا استعصى الأمر. لا شكّ أن أذكى وأخبث درجات هذه الستراتيجيا ما تسميه اللغة التسامح . لو تأملنا في العناصر المكونة له لاكتشفنا أن للمفهوم طبقات مثل الطبقات الجيولوجية . أما الغشاء السطحي فقبول متأفف وساخط بشرّ لا بدّ منه. وتحت هذا الغشاء، توجد طبقة القناعة المطلقة أن موقف الآخر خطأ يحتمل بعض الصواب أحيانا بينما موقفنا نحن صواب قد يخالجه نادرا بعض الخطأ .كل هذا محمول على أعمق الطبقات وهي الإيمان بحتمية تحقيق الانتصار على كل المشاريع المنافسة والمعادية لأنه لا يوجد إلا مشكل واحد: أي مجتمع يجب أن
نبني ؟ وإجابة واحدة : إجابتنا .
كيف نقبل في هذه الحالة بالمساومة في تحقيق مشروع جبّار تتوارثه العقول والقلوب أبا عن جدّ من أجل قواعد لعبة قد يحترمها خصم بغيض وقد لا يحترمها ؟ أضف إلى هذا أن احترامها يؤدي إلى التعايش مع ما نكره اشدّ الكره وما نحارب بكل الوسائل . فقبول كل تبعات القواعد الديمقراطية يعني بالنسبة للإسلاميين التعايش مع ''جيوب'' لائكية أو ملحدة لها الحق في الوجود والنشاط وحتى في الدعوة لقيمها داخل مجتمع يعملون على '' أسلمته''. كما يعني الأمر بالنسبة للشيوعيين الملحدين التعايش مع '' افيون الشعب'' أو مع عدم المساواة في الإرث. لا أشق على عروبي مثلي يؤمن ويدافع عن مشروع اتحادي كشرط ضروري لتجدّد الأمة ، من قبول إمكانية تسفيه قواعد اللعبة لكل أحلامه ببلورتها لمزيد من التفكّك القبلي والطائفي والجهوي. لا غرابة أن يتنطّع القوميون القدامى أمام منظومة فكرية وآليات تحمل في طياتها تهديدا لأقدس المقدسات : الوحدة .
نحن هنا إذن أمام تضارب قيم لا خروج منه بالنسبة للغارقين إلى أذانهم في الفكر الايدولوجي الساذج إلا بالغشّ أو بالرفض الكلي للديمقراطية .
لنذكّر أن المشروع المجتمعي لهذا وذاك مدفوع بطاقة هائلة تتشكّل أساسا من مصالح آنية لمبادئ معلقة و من مبادئ آنية لمصالح معلقة.
ما هي حظوظ قواعد اللعبة في فرض نفسها يوما على أطراف سياسية تحركها قوى جبارة مصنوعة من قوة المصلحة عند الأقلية وقوة الوهم عند الأغلبية ؟ إنها شبه معدومة . ها نحن إذن، والمشروع الديمقراطي في بدايته، أمام أنظمة تغشّ في الجهر و بدائل عزمت فتوكلت على الغشّ وهي لم تصل بعد سدّة السلطة .هل يعني ذلك أن علينا أن نعود لقواعدنا الاستبدادية مسلّمين بأننا لم ولن ''ننضج ''أبدا للديمقراطية ؟
طبعا لا . فلو سلّم الديمقراطيون في الغرب والشرق بنفس النوع من التفكير، لما انتصبت الديمقراطية يوما في ربوعهم لأنها لم تكن يوما قدر البعض و حلم البعض الآخر وإنما كانت ولا تزال ضرورة تقنية تفرضها درجة التعقيد في مجتمع ما . هذا ما يفسّر لماذا تواصل قواعد اللعبة تسيير عدد متزايد من البلدان رغم حيوية الغشّ وكثرة اللاعبين الغشّاشين في كل المجتمعات . ولتوضيح هذه النقطة المركزية لا بدّ من العودة إلى محرّك الغشّ الخفيّ وما يفضحه من أخطاء وأوهام بخصوص فحوى الرهان .
*
ثمة جملة من الخصائص المشتركة والقارّة للمجتمع الايدولوجي المنشود، على اختلاف الأشكال التي يتخذ في حلم هذا وذاك .
هو النموذج الوحيد للمجتمع الإنساني المكتمل . هو محمول في طيات التاريخ مثل الجنين الذي يتكون ببطء في رحم أمه . هو المرفأ الذي ستصله أخيرا بشرية طال تخبطها في الطرق المسدودة . هو اكتمال و نهاية التاريخ الذي تمخض أخيرا عن تنظيم مثالي ثابت مستقر حقق نهائيا التوازن المفقود للإنسان .
الإشكالية في مثل هذا الموقف أن كل تاريخ البشرية واجهه إلى حدّ الآن بتكذيب قطعي وصارم ومسترسل.
هو يثبت بكيفية لا تقبل الجدل أنه لا وجود لنموذج واحد يتطور في اتجاه حتمي.كم من مجتمعات اختارت حلولا متباينة للنفس المشاكل ؟
يكذّب التاريخ بنفس الصرامة وهم الوصول إلى مجتمع ثابت، فكل حالة وصلها هذا الأخير، مهما بلغت من التحول الجذري، لم تكن إلا مرحلة عابرة من تاريخه إذا تكلفنا النظر إليه بمقياس القرون والألفيات. كم من مجتمعات خرجت حتى من لغتها ومن دينها ومن محيطها الجغرافي لتتشكل وفق أنماط ما كانت تخطر ببال أحد؟ لا غرابة في ذلك لأننا نعيش في عالم لا ثبات فيه إلا للقوانين وما عدا ذلك حركة خلق متواصل قوامها تهديم كل ما شيّد الإنسان – أو الطبيعة - وتجاوز كل ما ابتدع وتحوير كل ما حوّر ألف مرّة .
ومن القوانين الثابتة التي تحكم عالما متحركا أن كل طفل يولد سيموت يوما . لكن مصير هذا الطفل فأمر متروك لتفاعل الصدفة والضرورة والإرادة . كذلك المجتمعات البشرية . هي محكومة من جهة بقوانين تخضعها للحاجيات الفردية والجماعية، و من جهة أخرى بقوانين تفرض عليها التأقلم المستمرّ مع ضغط المحيط . لكنها تتحرّك بحرية تامة داخل هذه الحدود وذلك نظرا للعدد الهائل للاعبين والإمكانيات اللانهائية التي تنتج عن تفاعلهم والتدخل المستمرّ لعامل الصدفة . هذا ما يجعل التنبؤ بما ستكون عليه مجتمعاتنا العربية الإسلامية بعد ألف سنة مثلا مغامرة لا تحمد عقباها على فرض أنها ستبقى .....عربية وإسلامية .
إن ما يثبته التاريخ بكيفية لا تقبل جدلا أو مكابرة أن المجتمعات البشرية تتحرّك مثل الأنهار . هي تجدّد مياهها باستمرار. هي تفيض وتجفّ . هي تنحت وديانا وترتطم بالسدود . هي تضيع في الصحاري أو المستنقعات . هي تغير طريقها كم من مرة حتى ولو كان البحر محطتها الأخيرة.
إذا كانت هذه طبيعة المجتمعات فإن السعي لتحقيق النموذج الايدولوجي بمثابة محاولة فرض شكل نهائي وطريق واحد للسحاب والريح . صحيح أن المجتمعات لا تتشكّل كما تتشكل السحب أي كمجرد ردّ آلي على تغييرات المناخ . هي دوما نتيجة أفعال تتنافس (داخل منظومة القيود الموضوعية التي تفرضها البيولوجيا و تكنولوجيا الظرف) معطية الشكل الذي نعرفه لحظة ما لمجتمع إنساني ما.
السؤال ما هي القوة المسئولة عن التدفق ، عن السيلان ، عن التجدّد ، عن تغيير الطريق كلما ارتطم النهر بالحاجز عن بقاء الماء نقيا لا يترسب في مستنقع نتن .
إن ما يثبته التاريخ وخاصة تاريخ العصور الحديثة أنه بقدر ما تكون الأفعال حرّة داخل أي مجتمع بقدر ما تزداد حركة المجتمع زخما وحيوية وعطاء والعكس بالعكس . وكأن هناك '' فيزيولوجيا'' للمجتمع السليم من متطلباتها ما نسميه اليوم الحريات الفردية والجماعية مثلما توجد فيزولوجيا للجسم من متطلباتها الغذاء والأوكسيجين والماء الشروب والحب والكرامة .
استبدل كلمة حرية الرأي بحاجة الرأي وحرية التنظم بحاجة التنظم وحرية الاشتراك في الشأن العام بحاجة الاشتراك في الشأن العام ومطلب العدل بحاجة العدل ، لكي تفهم لماذا تمرض المجتمعات بالاستبداد مثلما يمرض الجسم البشري إن لم يشبع حاجياته الأساسية التي تمكنه من الحفاظ على عافيته .
انظر من هذه الزاوية لقواعد اللعبة التي اقتنعنا بأننا لن نعرفها يوما لأننا لم نعرفها أبدا . يا للخطأ الفادح الناجم عن قصر النظر ومعالجة الأمور بمعزل عن الديناميكية التاريخية ! أليس تاريخنا حافلا على العكس بممارسة حرية الرأي .... ولو كانت ولا تزال، حرية معكوسة ، محاربة ، مضطهدة، محاصرة ومذمومة . ألم يستطع بفضلها الإسلام أن يجدّد الأمة وأن يفرض بها نفسه على الجاهلية. و داخل الإسلام ، ألم يستطع التشيّع أن يفرض بها وجوده كمدرسة مختلفة لممارسة السياسة والدين ؟ ورغم كل محاولات الإسلام السني أو الشيعي لفرض النموذج الفكري والجمالي الواحد، ألم يشقّ مفكّرون وشعراء وفلاسفة مثل الحلاج وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب وأبو نواس والمعرّي طريقهم الخاص وسط إجماع سطحي مفروض بالحديد والنار ؟ وبنفس الكيفية نرى تاريخنا حافلا بالتنظم المتواصل لما لا يحصى من الملل والنحل بالرغم كل المعوقات. أما التداول على السلطة فقد فرض فرضا بالقوة على أكثر من طاغية عاش خائفا ومات مرعوبا. حدّث ولا تسل عن قوة وزخم مطلب العدل أي مطلب عدل يخضع لمتطلبات العقل والضمير لا لأهواء ومصالح وليّ الأمر وأتباعه. أليس من الغريب أن تعمينا محاولات إخماد الشيء عن الانتباه لأهمية وعناد ما تريد القوّة الغاشمة عبثا إخماده ؟
إن انتشار الأركان الأربعة للديمقراطية في غرب القرن التاسع عشر لم يكن نتيجة اكتشاف هائل ميّز الثقافة الغربية (كما هو الحال مع المضادات الحيوية أو نظرية النسبية) بقدر ما كان فرض مطالب بالغة العمق والقوة للمجتمع على النخبة المكلفة بخدمة النظام السياسي . ولما بدأ الغرب يعيش بصفة تتلاءم أكثر مع القواعد
'' الفيزيولوجية '' لمجتمع سليم تحسن أداءه بصفة هائلة . يأتي بعد هذا من يستغرب أداء مجتمعاتنا ويعيب عليها عدم قدرتها على خوض السباق مع الأسوياء والحال أن غشّ قواعد اللعبة وتجاهلها جعل صحة أقلية تمرّ بمرض الأغلبية، تماما كما يكتسب الطفيلي حيويته من امتصاص دم الضحية التي يعيش في أحشاءها.
معنى هذا أن الحريات ضرورة قاهرة لا ترفا وهو ما يحدونا للتمسّك أكثر فأكثر بقواعد اللعبة والثقة في قدرتها على كسر كل الحواجر الاستبدادية.
لكن ليحذر الديمقراطيون من الوقوع في الوهم الأزلي الذي يهيكل كل المشاريع الايدولوجية للمجتمع المنشود .
إن قواعد اللعبة ستجبر كل المشاريع على التنافس النزيه في كنف السلم الاجتماعية مما يعني أنها لن تتمخض عن سيادة هذا النموذج أو ذاك بقدر ما ستتمخض عن تعايش النماذج وظهور الجديد منها والتزاوج والتبادل بين بعضها البعض. لكن هذه الحركية ،غير القابلة للتوقف يوما أو للتنبؤ البعيد المدى بنتيجتها ، قد تعرف نكسات يمكن أن تؤدي بالقواعد الديمقراطية ، حتى بدون غشّ ، إلى أوضاع استبدادية . فليس من الحتمي أن تصوّت الأغلبية دوما للقرارات التي تبدو للديمقراطي الأصلح والأجدى والأكثر أخلاقية أو فيزيولوجية .
ومن تبعات هذا الموقف أنه لا وجود لمحطة نهائية سيصل إليها المجتمع ولو كانت المحطة الديمقراطية ، فالنضال من أجل الديمقراطية مثل النضال من أجل الصحة : ظرفي وآني ومحلي و خاصة بلا نهاية، كل هذا لتعديل توازنات تختل طول الوقت ولا بد من العمل باستمرار على تعهدها ووقايتها واسترجاعها. إنه نضال الآن وهنا لرفع القيود عن أغلبية كبلتها وكممتها وشلتها أقلية أنانية وغير مسئولة اختارت الغشّ الذي يضمن ظرفيا مصالحها على القواعد التي تضمن لأمد أطول مصالح الجميع. إنها معركة بلا نهاية وكل نصر فيها نصر مؤقت ومهدّد .
إنها ضريبة حركية المجتمع مثلما الخلل والمرض ضريبة الحياة نفسها.
***

















الجزء الثاني
من أجل قواعد أصلب عودا وأطول عمرا


8- حتى نجدّد آليات التحليل .

لننطلق من إشكالية بدأت البيولوجيا المتقدّمة تطرحها بصفة جدّية : خلق نوع جديد من الإنسان عبر إعادة صنع الجينات التي تتحكم في '' هندسته'' ؟ ثمّة أيضا من الباحثين من يفكّر في زرع أجزاء من كمبيوترات متقدّمة في دماغ مثل هذا السوبرمان ممّا سيسمح له بتخزين معلومات كانت تستدعي عقودا من التعلّم والحفظ. بداهة سيكون هذا الآدمي الجديد المتأرجح بين المادي والالكتروني ،بالغ الذكاء أي أقدر على حلّ مختلف المشاكل التي تقض مضجعنا منذ نزولنا من الأشجار. إن حصول شيء كهذا لا يعني غير خلق هوّة بينا وبين هذا الإنسان الجديد قد لا تقلّ اتساعا عن تلك التي تفصل جنسنا عن أشباه القردة التي عاشت منذ مليوني سنة والتي يقول العلم أننا ننحدر منها .
السؤال ما الذي سيبادر بفعله هذا ''السوبرمان'' حال تمتعه بهذه القدرات العجيبة ؟ تمديد العمر إلى مئات السنين ؟ تحقيق الخلود ؟ القضاء على الفقر والجهل والقبح ؟ تغيير الطبيعة البشرية ذاتها ومن ثمة تحقيق مشروع المدينة الفاضلة والإنسان الفاضل الذي فشلت في تحقيقه الأديان ووالثورات السياسية على مرّ العصور ؟
لكن فرضيتي (التي سيردّ عليه هذا الإنسان الجديد بالابتسام المشفق أو بتذكّر أن أجداده لم يكونوا بالغباء الذي تصوّره كتب التاريخ ) هي أن جلّ همّه سينصبّ، لتحقيق مثل هذه المشاريع الجبّارة ، على هندسة النظام الاجتماعي الأول أي النظام السياسي وبناء الأنظمة الفرعية ( التعليمي ، الاقتصادي ، الصحي ، القضائي ، الثقافي الخ ) بمنتهى العناية والابتكار .
لا غرابة في هذا فحتّى هذه الكائن المتطوّر ليس جزيرة معزولة ولا يمكن أن يكتفي بذاته وإنما هو بالضرورة خلية في مجتمع يكتسب فعاليته من إحكام التنظيم القادر وحده على بلورة أحسن ما في الأفراد والجماعات . ذلك لأن القاعدة كانت وستبقى أنه بقدر ما ينجح مجتمع في بناء أنظمة فعّالة بقدر ما تتحسّن قدرته على خلق المادة والمعرفة والقيم والجمال. وبقدر ما تبدي هذه الأنظمة من ضعف بقدر ما ينهار العطاء في كلّ هذه الميادين.
إن أحسن مثال على هذا القانون وضع أمتنا. خذ أي عربي وضعه في أوروبا أو أمريكا. ستكتشف أنه لا يقل قدرة على التعلّم والابتكار والعطاء عن أي إنسان غربي أو أمريكي آسيوي. ضعه الآن في مجتمع يسيره النظام العربي، فإذا به طاقة معطّلة وأداة في اللافعالية العامة التي هي اليوم الخاصية الأولى لأمتنا. والفعالية هي قدرة الفكر والساعد على دفع الحضارة قدما، على التعامل مع الطبيعة، على بلورة القدرات الكامنة في الإنسان، على تغيير موازين القوى السياسية على حلّ مشاكل مجتمع مخلوق من نسيجها... كلّ هذا في إطار الظروف الصعبة التي تفرضها الحياة سواء تمثلت في شراسة التنافس بين الأمم الأخرى أو شحّ الإمكانيات المادية. بقدر ما يكون المجتمع فعّالا وبقدر ما تكون النتائج كبيرة ....والعكس بالعكس.
لا غرابة أن يكون تفوّق الأمم في تفوّق أنظمتها وأن يكون البحث عن نظام الفعالية القصوى هاجس العقل الجماعي على مرّ العصور.
هذا البحث عن أحسن الأنظمة هو دوما حركية تخبّرية – تجريبية أي أنه بحث يتعلّم و يتطوّر بالأخطاء والنجاحات. لكن عباقرتنا في المستقبل قد يجعلون من البناء عملية واعية منظمة تسهر عليها خيرة العقول درسا وتفكيرا ومقارنة وتجريبا . ولربح الوقت وعدم التسبب في دمار مجتمع كامل، فإنّ هذه العقول قد ترفع إلى أعلى المستويات تقنية برامج المماثلةsimulation على أضخم الحواسيب خالقة مجتمعات افتراضية تدرس تطورها حسب هذا النظام السياسي والاجتماعي أو ذاك.
إن هذا بالضبط ما نحاول تحقيقه بوسائلنا الذهنية'' البدائية'' ونحن نحلم لأمتنا وللعالم بديمقراطية تساهم في حلّ المشاكل لا في تغيير طبيعتها. نحن أيضا نبحث عن نظام مثالي في المجال السياسي. السؤال هل يمكن أن يوجد شيء كهذا ؟ هل ثمة نظام مثالي أصلا ؟ قبل محاولة الردّ لنبدأ بالتساؤل : ما النظام système؟
*
إنّ النظام اجتماع أجزاء في تشكيلة مترابطة و متناسقة تتأثر ببعضها البعض وتخضع لنفس القوانين و'' تتجاوب'' بينها بمرونة وسهولة للقيام بوظيفة ما، باحثة في تأديتها عن أقصى قدر ممكن من المردود و بأقل تكلفة ممكنة من الطاقة. الخاصية الأساسية لمثل هذا النظام تصحيح كل خلل يداهمه من الخارج أو من داخله، وذلك بفضل آليات بالغة الدقة والتخصص والمهارة ترجعه إلى نقطة توازن يكون فيها بتمام ''الصحّة'' أي في أوج قدراته وعطائه وفعاليته. لقد أعطتنا الفيزياء في صورة الذرّة أو النظام الشمسي والبيولوجيا في الجهاز العصبي أو الغدد، أحسن الأمثلة عن أحسن الأنظمة. ومن هذا المنظور يمكن أن نقول أن الجسم نفسه نظام كبير ينغلق على جملة من الأنظمة الصغرى. فهو مكوّن من أعضاء تنسّق العمل بينها وهو أيضا يحاول العودة والبقاء في نقطة التوازن التي تضمن له الفعالية القصوى. هكذا تراه يبادر لتعويض الكرويات الحمر التي تموت دوريا حتى يبقى عددها قارا ممكّنا الجهاز التنفسي من تأدية وظيفته على أحسن وجه. هكذا ترى جهاز الغدد يرفع كمية إفرازه من الهرمونات في الوقت المناسب ويخفض آليا منها إذا قلّت حاجته إليها... كل هذا في تناسق تامّ بين غدد كثيرة ومختلف الأعضاء.
إن همّ الآدميين على مرّ العصور كان وسيبقى خلق مثل هذه الأنظمة التي يبهر تعقيدها وجمالها وذكائها كلّ العلماء الذين قضوا حياتهم في محاولة فهمها.
الإشكالية أن الأنظمة الاجتماعية من غير طبيعة الأنظمة البيولوجية والفيزيائية وأن هذه الطبيعة تجعل الوصول إلى فعالية الأنظمة الفيزيائية والبيولوجية شبه مستحيل.
ولتوضيح الاستحالة وأسبابها سنأخذ مثال نظام'' بسيط'' يسهل تفكيكه هو النظام الصحّي.
إن أولى الصور التي تتبادر للذهن عندما نتحدّث عن مثل هذا النظام هي صور المستشفيات الضخمة والأجهزة المعقدة . لكن كلّ هذه البنايات والإمكانيات التقنية التي بداخلها لا تفهم ولا توجد إلاّ من أجل وبالبشر الذين يملئون المكاتب والأروقة والأسرّة. وكما قلنا أن الإسلام هو المسلمون والديمقراطية هي الديمقراطيون، فإن النظام الصحي في آخر تحليل ليس أكثر من الجماعات الإنسانية التي تشكّله وهي تتألف من :
- المهنيين ( أطباء وصيادلة وممرضين وباحثين وسواق عربات الإسعاف ومنظفين الخ ) ومهمتهم تقديم خدمات تقنية محدّدة تخدم وظائف النظام الكبرى.
- الزبائن وهم المرضى الذين خلق النظام لتلبية حاجياتهم.
- الإداريين ومهمتهم التصرّف في الموارد المادية التي تضخّ في النظام و تنظيم عمل الموارد البشرية بحيث يتحقق أحسن أداء بأقل تكلفة.
- أصحاب القرار السياسي ومهمتهم توفير هذه الموارد وسنّ القوانين التي تتحكّم في العلاقات بين كلّ الأطراف وتوجيه نظام ليس مستقلاّ وإنما يخضع لهيئة إشراف عليا: النظام السياسي.
إن القاعدة في عمل هذا النظام أن لا أحد راض تماما عن عمله والموضوع المفضّل لدى الجميع هو القدح والتشكّي من غياب التنسيق وضعف الروابط وأنانية الطرف الآخر وقلة الجدوى والفعالية في النظام ككلّ.
لنسأل هؤلاء الأطراف عن تصورهم المثالي للنظام الصحي الذي يريدون. ستتمحور تصورات الزبائن حول الاستقبال الحسن في المستشفيات وقربها من منازلهم وتوفر الطبيب الكفء والدواء الناجع وطلب مركزي : أحسن الخدمات لكن بأقلّ مقابل ممكن ولم لا مجّانا. وفي البلدان الديمقراطية المتطورة سيطالبون بنظام فيه مراقبة وتقييم للعمل الطبي وحق التدخل فيه لجمعياتهم المدنية الممثلة. لكنهم سيبدون امتعاضا شديدا لو طلب منهم الانضباط في استعمال الأدوية التي يلقون نصفها في سلة المهملات متسبّبين في خسائر هائلة للثروة الجماعية وتبذير لا يغتفر لموارد ثمينة نادرة. سيقوى صراخهم لو طولبوا بمضاعفة أجر الطبيب أو مساهمتهم في صناديق الضمان الاجتماعي. أما الأطباء فسيريدون من نظامهم المثالي أن يوفّر لهم أجورا محترمة و كلّ الأجهزة الباهظة الثمن والسماح لهم بوصف كل أنواع العلاج بغض النظر عن تكلفتها. هم سيريدون من المريض الطاعة ومن الإدارة أن تكون في خدمتهم ومن رجال السياسة أن يوفروا لهم استقلالية القرار والحماية القانونية. وفي نظامهم المثالي لا حقّ لأحد في تقييمهم حيث لا يخضعون في ممارسة وظيفتهم إلا لضمير مهني قد يوجد عند البعض ويغيب عند البعض الآخر. أما الإداريون فهم لا يحلمون إلا بنظام فيه الحدّ الأقصى من الاقتصاد وحسن استعمال الموارد حتى تبقى صناديق الضمان الاجتماعي الممولة للنظام رابحة على الدوام، مع توفّر الإدارة على أقصى قدر ممكن من الصلاحيات على حساب الأطباء أساسا. أمّا أصحاب القرار السياسي فمشكلهم الأوحد في النظام الديمقراطي الفوز بأصوات الناخبين ولا يهمّ أن تكون بعض المستشفيات عديمة الجدوى أو أن تتجاور على بعد بعض كيلومترات طالما أن هذا يوهم السكّان بشدّة اعتناء عمدتهم أو نائبهم بمشاكلهم الصحية. أمّا في النظام الاستبدادي فالهدف في إطار التزييف الشامل والتغطية على المشاكل إعطاء الانطباع بأن النظام قائم بمهمته الإنسانية ولا يهمّ نوع الخدمات التي تقدّم.
معنى هذا أن نظامنا ''المثالي'' مطالب بتحقيق رغبة المريض في دفع أقل ثمن ممكن ورغبة الطبيب في تلقي أعلى أجر ممكن ورغبة الإداري في دفع أقلّ تعويض ممكن ورغبة السياسي في أن لا يكلّف النظام الصحّي كثيرا، علما وإن كلّ طرف يريد أقصى الحرية على حساب حرية الآخر.
يحصل كلّ هذا لأن من طبيعة كل نظام اجتماعي أن تكون له أهداف عامة معلنة ومتفق عليها من قبل كل الأطراف، وأهدافا خاصة لا تتطابق دوما مع الأهداف العامة . فالأهداف المعلنة للنظام الصحي والحاصل حولها إجماع نظري، هي توفير الوقاية والعلاج للسكّان بدون تمييز. أمّا أهداف المرضى فاستغلال النظام بكل إمكانياته إلى أقصى مدى وأهداف الأطبّاء تكوين الثروة والسمعة أو استغلال المؤسسة للأبحاث العلمية. نفس الشيء عن الإداري والباحث أيضا عن قسط من السلطة يشعره بأهميته. أما صاحب القرار فقد يكون آخر ما يهمّه الوقاية والعلاج وإنما هدفه إعادة انتخابه في الديمقراطية وصمت السكّان في النظام الاستبدادي. نواجه مجدّدا بالقانون الذي يجعل وجود قواعد اللعبة يعني ضرورة وجود رغبة الغشّ.
هذا أيضا نظام تخترقه صراعات سياسية بالمعنى العميق والأول للكلمة تتعلق كلها بكيفية الردّ على سؤال بسيط : كيف ووفق أي أولوية تحدّد الخيارات والآليات الساهرة على توزيع الموارد المادية والمعنوية ومن يحدّدها ؟ ومن هذا المنظور يمكن القول أن هناك ''حزبين'' داخل النظام الصحي:
-''حزب'' الطبّ الإستشفائي التقني ''ومن ايدولوجيته أن الصحة تختزل في ردّها للمريض الذي فقدها، أن العملية مرتبطة بالتقدّم التقني والفني ومن ثمة فإن الموارد الأساسية يجب أن تخصص للمستشفيات والأطباء والتكنولوجيا المتطوّرة وما بقي يمكن أن يذهب للوقاية بما هي فرع تقني آخر من فروع الطبّ.
- ''حزب الطب الجماعي '' ومن ايديولوجيته أن الصحة مرتبطة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية...أن المستشفيات والتكنولوجيا عنصر ثانوي في تمتع الشعب بالصحة...أنّ مردودها جدّ قليل ولا بدّ للموارد الأساسية أن توضع في تحسين ظروف العيش والوقاية وما يبقى يمكن أن يذهب للعلاج التقني.*
أي ترابط وتناسق وتناغم وتصحيح آلي وعودة دائمة إلى نقطة التوازن عند الاختلال يمكن انتظاره من مثل هذه الأطراف التي تدفع النظام في اتجاهات مختلفة ولا توفيق بينها ؟ ولو كانت مكونات الجسم تعمل بخصائص الأطراف الاجتماعية لكان وضع الجهاز التنفسي هو الصراع الدائم بين الرئتين والقلب والخصومات التي لا تنتهي بين الكرويات الحمر والمطالب التي لا تتوقف للشرايين وتهديدها بالإضراب وسدّ الطريق أمام الدم إن لم تلبّى طلباتها العادلة والمشروعة.
معنى هذا أن تربيع الدائرة أسهل من رضا وتوافق وانسجام الأطراف المشكلة للنظام وكلّها تريد أكل التفاحة والاحتفاظ بها.
لا غرابة أن يكون عمل النظام مطبوعا بالتوتّر والأزمات المتلاحقة ومقايضات متواصلة لا ترضي أحدا مائة في المائة حيث يضطر كلّ طرف لتقديم تنازلات موجعة علما وأن ميزان القوى يجعل تنازلات هذا أوجع من تنازلات ذاك.
لا ننسى أن الصراع يدور تحت ضغط دائم للمحيط على النظام يطالبه بتحسين أداءه لمواجهة ندرة الموارد وتكاثر الحاجيات والطفرة التكنولوجية وارتفاع مستوى التوقعات عند الناس الخ...
يدخل النظام آنذاك في بحث محموم عن نقطة التوازن عبر مسلسل الإصلاحات. لكن هذه الأخيرة تبقى محكومة بصراع الأطراف على أكبر نصيب من الكعكة. فإصلاحات الضمان الاجتماعي المتواصلة في فرنسا مثلا، تعبّر في نفس الوقت عن صراع المصالح بين الإداريين ورجال السياسة من جهة و المرضى والأطباء من جهة أخرى. لكنها تعكس أيضا حالة تأزّم عامّة تتمثّل في العجز المالي للصناديق واستحالة تواصله.
تأتي مرحلة تصبح المشاكل الداخلية شغل النظام الشاغل تستنزف جلّ طاقاته في حين تصبح المهمة الأساسية من مشمولات الأشغال الروتينية. وفي المرحلة المتقدمة من مرض النظام تصبح الأهداف العامة مجرّد ورقة التوت لصراع المصالح بين أطراف لم يعد يهمّها إلا الخدمات التي يمكن للنظام أن يؤدّيها إليها. ها قد بدأ التصدّع ينذر بالانهيار التامّ وضرورة التأسيس لشيء جديد.
إن من يدرس تطوّر أيّ نظام صحي كمن يدرس تاريخ بناء قصر لا ينتهي أصحابه من ترميمه وتحسينه. فمرّة تتم إزالة جناح ومرّة أخرى يشيّد جناح جديد . وثمّة أماكن كانت تستخدم لوظيفة فإذا بها تخصّص لوظيفة مختلفة. كلّ هذا إلى أن تتبلور ظروف لا ترضى بأقلّ من تهديم جزء كبير من البناء وحتى البناء بأكمله لإعادته على دعامات أصلب . تحدث مثل هذه التغييرات النوعية في حالة توفر ظروف استثنائية مثل الثورة أو ظهور مصلح كبير يرتكز على القوى الغالبة داخل النظام لفرض هذه الإصلاحات. ثمّ يبدأ النظام الجديد مرحلة جديدة من تاريخه لن تختلف عن الأولى إلا في التفاصيل وتغيّر المشاكل والساهرين على خلقها و/ أو حلّها وطول أمد ظهور الحاجة الماسّة لتأسيس آخر.
*
الثابت أن هناك فترة تطول أو تقصر تعرف الحدّ الأدنى من التفاعل بين الأطراف، ممّا يمكّن النظام الصحّي من القيام بوظائفه المعروفة ولو بالاحتكاك الدائم والمشاكل التي لا تنتهي. بأي قدرة قادر تبقى الأطراف تتفاعل بينها ولا تفجّر ما يجب أن نسميه من هنا فصاعدا نظاما بين ظفرين ؟
ثمة في البداية قوّة ارتباط المصالح للأطراف المتنازعة . فالمرضى يدفعون للمهنيين ما يمكّنهم من العيش، والمهنيون يقدمون خدمات صحية للمرضى مما يمكنهم من الحياة، والإداريون يسهرون على تنظيم تبادل الخدمات هذه مقابل أجر في الوقت الذي يتمتعون فيه هم أيضا بخدمات المهنيين . أما أصحاب القرار السياسي فهم يخدمون الجميع عندما يوفرون للنظام موارد تتزاحم على الاستئثار بأكبر نصيب منها أنظمة أخرى مثل النظام التعليمي أو الاقتصادي. وفي مقابل هذه الخدمة فإنهم يستعملون النظام الصحي لحماية صحتهم ولإرساء سلطتهم. تدرك إذن كلّ الأطراف حاجتها لبعضها البعض والقاعدة أن كلّ الفاعلين يأملون دوما أن تتحقّق المكاسب الفئوية والشخصية، لكن في إطار الحفاظ على النظام ورفع أدائه. وثمة أيضا القانون الذي يحدّد لكل طرف حقوقه وواجباته محاولا وضع القواعد لحل النزاع عند نشوبه.
لكنّه من الظلم أن نتوقّف عند قراءة نفعية بحتة كالتي تنسجها وتشيعها الليبرالية جاعلة من المرضى والأطباء والإداريين والسياسيين، مجرّد مقاولين يتبادلون بينهم سلعة اسمها الخدمة الصحية، لا يتحكم في كل تصرفاتهم سوى هاجس الربح وقوانين العرض والطلب...أو خوف الشرطي والقاضي.
إنها صورة مشوهة وناقصة للوضع، فكلنا نعرف أن هناك أطباء لا يتحرّكون من موقع الدفاع عن مصالحهم المادية بل يذهب بهم التفاني إلى التضحية بالغالي والنفيس من أجل حق الناس عموما والفقراء خاصة في الصحة. وفي نفس السياق نجد إداريين وحتى سياسيين جعلوا من الدفاع عن حقوق المرضى هاجسا شخصيا لا يعود عليهم أحيانا إلا بكثير من المتاعب والأحزان وهم يواجهون زملائهم المنخرطين أكثر منهم في الرؤية الليبرالية للعالم.
إن فكرة الصحة كحقّ للجميع وكمسؤولية أساسية من مسؤوليات الدولة لا علاقة لها ببضاعة يمكن أن يشتريها الأثرياء وأن يتصدّق بثمنها المحسنون، فكرة ثورية لا يزيد عمرها عن قرن . هي تنبع من تغيّر عميق في سلّم القيم الجماعية. كذلك الخطاب الجديد عن حقوق المرضى داخل المستشفيات وحقوق كلّ الأطفال في الرعاية وحقوق المسنين في الرعاية الطبية وحقّ الشعب في الصحّة. ولولا هذه الثورة القيمية لما وجد النظام الصحي المعاصر بالشكل الذي نعرفه له. لنحاول تخيّل نظام صحّي ليس فيه مرضى و أطباء وتقنيون وإداريون ومستشفيات وأجهزة وأدوية. لا يمكن لنا وضع أيّ اسم أو صورة على مثل هذا الفراغ . لنتخيّل الآن كلّ هذا، لكن بأطبّاء جهلة، محتالون، قساة القلب، ومرضى يرفضون كلّ أوامر الطبيب ويتصرّفون بكيفية هوجاء تدمر صحتهم ، وجمهور يسرق أسرّة المستشفى في كل زيارة للأقارب، وإداريون وسياسيون لا همّ لهم سوى اقتسام الموارد العمومية لحسابهم الخاصّ. من نافلة القول أنّ نظاما مثل هذا سينهار على رؤوس أصحابه حتّى ولو وجد الممثلون والمال والمعرفة والقانون. إن ما يسند مواقف وتصرفات الجميع هي قيم أخلاقية مهنية وروحية. والقاعدة أنّه بقدر ما يتزايد التفاني والنزاهة والإخلاص والاحترام والتعاضد والتراحم، بقدر ما يرتفع أداء النظام والعكس بالعكس. وليسمح لنا أحمد شوقي باستعمال آخر لبيته الشهير لنقول:
إنما الأنظمة بالأخلاق إن ذهبت أخلاقها ذهبت.
لننتبه هنا إلى خاصية هامّة في الأنظمة الفعّالة وهي أخلاقيتها. إن هذه الأخلاقية في التعامل مع الأهداف والوسائل والأطراف العاملة داخل النظام هو أساس في كل فعالية تقنية. يمكن أن نذهب إلى أبعد من هذا والقول أنها جزء مكوّن وشرط ضروري من التقنية العالية في خلق وإدارة الأنظمة . فلو نظرت لشروط الفعالية التقنية في النظام الصحّي من تجدّد ومرونة وحسن استعمال للموارد البشرية والمادية لما اكتشفت وراء كل هذا سوى مواقف أخلاقية مثل الاحترام والتفتّح والحرّية والنزاهة. معنى هذا أن القيم لا تلعب دور التوابل في الطعام وإنما هي مكوّن رئيسي بدونه لا يوجد الأكل.
لنلخّص ونجمع هذه الأفكار حتى تتضح لنا صورة النظام الاجتماعي أكان النظام السياسي أو الصحي أو التعليمي أو القضائي.
أن أقرب الصور له هي صورة جبل الجليد الذي لا ترى منه إلا الجزء الطافي ، أما ما يحمل ما نلاحظ فلا يرى لكنه هو الأساس . وفي مثل هذه الصورة سنتخيّل نظامنا الصحي مشكّلا كالآتي:
- الطبقة السطحية وهي الموارد المادية والبشرية كالتي تتجلّى لنا في المباني الإدارية
والمستشفيات والمستوصفات والعيادات بما فيها من أجهزة ومختصين في خدمة أهداف عامة تتحسّن بخبرة علمية وإدارية تتراكم بمرور الوقت ... كلّ هذا وفي إطار عمل مشترك مع أنظمة أخرى تساهم هي أيضا في حماية الصحة مثل النظام التعليمي أو النظام الاقتصادي.
- الطبقة التحتية وهي جملة القوانين التي تنظم عمل القطاع وتحدّد لكلّ الأطراف حقوقها وواجباتها وتحدّ من الصراع بين الأهداف الخاصّة للأطراف المكونة للنظام وبينها والأهداف العامّة.
- طبقة الأسس وهي جملة القيم الفردية والجماعية التي تلعب دورا حيويا في الحفاظ على استقرار النظام ودينامكيته.
ولو طبقنا هذا النموذج على بقية الأنظمة الاجتماعية مثل النظام التعليمي لوجدناها تخضع لنفس الهيكلة إذ لا يوجد نظام إلا وهو طبقات متراكمة يستند فيها المرئي والمادي على غير المرئي والرمزي من قوانين وخاصة من قيم تشكّل الدعامات التي ترتكز عليها كلّ العوامل المادية للنظام.
*
لنطبق نموذجنا الآن على النظام السياسي. سنكتشف أنه هو أيضا مكوّن من أربعة أطراف:
- أصحاب القرار وينقسمون إلى أهل النظام وهي القلة النافذة التي تتحكم في أجهزة التنفيذ وتوجهها لتحقيق سياسات معينة في خلق وتوزيع الثروة المادية والمعنوية، وأهل الدولة الذين يأتمرون بأوامر أهل النظام لتنفيذ هذه السياسات ويسعون إبان التنفيذ للحصول على بعض فتات السلطة لصالحهم الخاصّ.
- الجماعات التي تساند النظام في أساليب التصرّف و خياراته الكبرى لأنها تتماشى مع مصالحها.
- الجماعات التي لا تساند النظام في أساليب التصرّف وخياراته الكبرى لأنها لا تتماشى مع مصالحها.
- الجماعات النشطة الساعية إلى تغيير طبيعة النظام والاستيلاء على مقاليد الدولة لتغيير السياسات وتغليب مصلحة طرف على آخر.
هذه الهيكلية العامة تسمح بالقول أن أهل النظام في الاستبداد هم المستبدّ وعصابة الشرّ والسوء المحيطة به، وأهل الدولة أجهزة الأمن ودواليب الإدارة الخاضعة لها ومن بينها القضاء المستغلّ ووظيفتها الأولى الحفاظ على وجود ومصالح المستبدّ وبطانته. أمّا الجماعات المساندة فهي العصابات التي تشارك في وليمة الضباع علما وأن هناك أقلية اجتماعية، قد تكون طبقة أو جهة أو طائفة، تحقّق بعض المكاسب بالعيش الراضي على فتات الوليمة. تترك هذه العصابات البدائية في الشكل الاستبدادي القديم مكانها في الليبرالية للشركات العالمية الكبرى. أمّا الجماعات التي لا تساند النظام (بالوقوف موقفا غاصبا وسلبيا أو بالنزول إلى الشارع) فهي تتشكّل بالأساس من الأغلبية أي من الرعايا الذين يضعهم النظام السياسي بين كماشة الفقر والقمع. وأخيرا فإن هذه الوضعية تفرز الطرف الرابع ويتخذ حسب العصور شكل النبيّ أو الثائر أو المصلح ومن يتبعهم وهمّهم كلهم تغيير الوضع بغزو القلوب بقيم جديدة وغزو السلطة بمن جندتهم هذه القيم.
أمّا في الديمقراطية فإن أهل النظام هم من انتخبهم الشعب للحكم باسمه، وأهل الدولة كلّ القائمين على دواليب الإدارة التي أصبحت نظريا في خدمة الجميع ومنها القضاء المستقلّ. أمّا الجماعات المساندة فهي القطاعات المختلفة من المجتمع التي تضمن الدولة مصالحها وهي تضيق وتتسع حسب السياسات المتبعة. أما الجماعات المعارضة فهي بقايا النظام الاستبدادي القديم وبراعم النظام الاستبدادي الجديد. أما الطرف الرابع فجزء منه متكوّن من مثقفي الديمقراطية الذين يتابعون بعين القلق مشاكل النظام الديمقراطي. لكن الجزء الأكبر يتشكّل من أنصار بدائل أخرى، منها الاستبدادية الواضحة أو المقنّعة، و تنجم عن حدود ونواقص النظام الديمقراطي خاصة إذا توقفت ديمقراطيته على الطقوس التمثيلية وتجاهلت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أو الثقافية للأغلبية.
تتضح من البداية كل الصعوبات الهيكلية في تخيّل نظام مثالي.
ثمة في البداية التناقض الجوهري بين مكونات اجتماعية تستعمل كل منها النظام السياسي لتحقيق مصالح فئوية يستحيل التوفيق بينها استحالة التوفيق بين مصالح الغزال والنمر.
ثمة الصراع الدائم بين الأفراد لغزو أجهزة التحكّم لتحسين أدائها ظاهريا باسم الصالح العامّ وعمليا لتحويل وجهتها نحو الصالح الخاصّ ، وهذه قاعدة عامة لا يهمّ هل النظام استبدادي أو ديمقراطي.
ثمة خاصّة التناقض بين قيم الأطراف المختلفة (وإن ادعت بعضها نفاقا وكذبا إجماعها على القيم الاستهلاكية مثل الحرية والعدالة والسلم الخ). وفي هذا المستوى سيرتطم علماء المستقبل بحدود البيولوجيا والهندسة الجينية لخلق نظام سياسي مثالي، لأنه لا وجود لجينات الأخلاق الفاضلة يمكن زرعها في نواة الخلية عند من لا يتوفرون عليها وتحسينها عند من توجد عندهم بنسبة قليلة.
ها نحن أمام وضع جدّ محبط للعزائم. لكنه أيضا وضع مثير لأنه يستفزّ فينا الفكر والخيال. نحن نعلم أن الأنظمة مثل القصور لا تبنى من السطوح خلافا لما يعتقده الديمقراطيون المقلّدون. نعلم إنّها تبنى على أنقاض خراب من المؤسسات والقوانين والقيم القديمة وقع جرفها. نعلم أنّ أي بناء نريد تشييده لا بدّ أن يغرس جذوره في طبقة من القيم الغالبة تستطيع حمل ''ثقل'' المؤسسات. معنى هذا أنّ التحديات الأساسية التي تنتظرنا في عملية الدمقرطة العربية ثقافية قبل أن تكون تشريعية.
****







9- تشخيص الأمراض المطلوب علاجها.
لنلخّص مآخذنا على ''الوصفة'' الديمقراطية.
1- حدود إرادة الشعب.
إن ''إرادة الشعب '' كقاعدة أساسية ومبدأ مطلق لإرساء الشرعية مفهوم طال وضعه خارج المحاسبة والحال أنّه بأمسّ الحاجة إليه. قلما نكون واعين عند ما نتحدّث عن هذه الإرادة بلغة التقديس، أنه موقف ضدّي من ايدولوجيا الاستبداد التي ترتكز على تقديس إرادة الفرد. لكن الآليات الفكرية للخيارين واحدة. ألا نستبدل استبداد الشعب باستبداد الفرد ؟ هل كانت لإرادة الشعب الألماني (وعلى وجه التحديد تواطؤه مع زعيمه هتلر طوال مرحلة الانتصارات) أي قيمة شرعية لتبرير غزو جيرانه؟ هل يمكن اليوم القبول بالمنطق الصهيوني لا لشيء إلاّ لأنه يعبّر عن إرادة الإسرائيليين ؟ بداهة هناك حدود لإرادة الشعب أولها المصالح المشروعة للشعوب الأخرى. لكن ألا توجد داخل الشعب نفسه قضايا يمكن أن تتضرّر من إرادة لا تستمدّ شرعيتها إلاّ من ذاتها. إن أحسن مثال على هذا الخلل الموقف من الأقليات العرقية والدينية التي يمكن لهذه الإرادة (وهي في أحسن الأحوال إرادة الأغلبية) أن تستعبدها بكلّ راحة ضمير. ثمة أيضا قضية عقوبة الإعدام التي تظهر كل الشعوب تعلقا بها عن جهل بفظاعتها وبوظيفتها التاريخية في قمع الأقليات السياسية والاجتماعية ولا فعاليتها في محاربة الجريمة. لقد وقع إلغاء هذه العقوبة في كل البلدان المتقدّمة بالرغم من رأي الأغلبية واتضح دوما أنه كان الخيار الأسلم. معنى هذا إن إرادة الشعب، أو قل دوما إرادة الأغلبية، ليست المرجع الأعلى وإنما ثمة مرجع أعلى منها يتمثّل في جملة القيم التي تمنع شعبا من استعباد شعب آخر أو هذا الشعب من اضطهاد أقلياته أو انتهاك حقوق الإنسان. أمّا ضرب هذه القيم أو تجاهلها باسم حقّ الأغلبية في خلق قيمها التي تتماشى مع مصالحها- وبالأحرى مع مصالح المحرّضين على اعتبار هذه المصالح قيما - فإن الأمر لا يعدو أن يكون بمثابة إطلاق إعصار على بستان.
أليس من الغريب أن أغلبية الناخبين الأمريكيين الذين صوتوا لجورج بوش قرّروا، بوعي أو دونه، جزءا هاما من مصير الشعب العراقي والفلسطيني والأفغاني وكم من شعوب أخرى على قاعدة تبنيهم لموقف الرجل من المبادئ الدينية وقضايا الاستنساخ وزواج الشواذّ والمشاكل الاقتصادية . أما التسعة وأربعون في المائة من الناخبين الذين صوتوا ضدّه ولفائدة السلام في العراق فإن آليات الديمقراطية ألغت بجرّة قلم أي تأثير لرأيهم ، مما يجعل السياسة الأمريكية تتواصل كما لو كان قرابة نصف الشعب الأمريكي غير موجود.
2 – حدود التمثيلية.
لو كانت التمثيلية شرط ممارسة الشعب لسيادته والضمان الرئيسي لمصالحه لكانت الوسيلة العادلة الوحيدة تسمية نوّاب الشعب ابتداء من عيّنة ممثلة للجمهرة. إنّها تقنية بسيطة يمارسها المختصّون في علم الإحصاء وتتمثل في اختيار عشوائي لجملة من الأشخاص داخل مجموعة الرجال ومجموعة النساء ومجموعات الأعمار والمهن. هكذا سنرى البرلمان نسخة طبق الأصل للتركيبة الحقيقية والدقيقة للشعب، فيكون نصفه من النساء والنصف الآخر من الرجال وستين في المائة من النواب في مجالسنا من الأميين مع نسبة كبيرة من الأطفال والمراهقين والشباب. ومن مزايا هذه الطريقة العلمية أن توفّر علينا مصاريف الحملات الانتخابية، حيث يمكن الانطلاق لتعيين نواب الشعب من ملفات الحالة المدنية مثلا. بل يستطيع القيام بالعملية حاسوب محايد يبعث لمن تمّ اختياره باستدعاء لاحتلال مقعده في البرلمان. لكن النظام الذي يدّعي أن هاجسه هو التمثيلية، يتحايل عليها، لتكون لنا برلمانات تحصى فيها النساء على الأصابع ويغيب فيها الشباب تماما ويتزاحم على المقاعد ممثلي تيّارات سياسية استطاعت الفوز بالمقاعد لقدراتها على بيع وعودها المعسولة. أي تمثيلية لإرادة الشعب'' والمؤسسات المنبثقة عن انتخابات الاستعراض والديماغوجية والاستقالة الجماعية، لا تعبّر إلا عن سيطرة الأقلية المتحركة، الأحسن تمويلا والأكثر تجنّدا لفرض توجهاتها. لنتذكّر أن الشعب طيف من المكونات ذات الرؤى والمصالح المتباينة. فمن أين لنا استخلاص موقف عامّ يعكس الإرادة الجماعية ؟ ما أغرب أن نقبل أنها إرادة 50،01 % من القوائم الانتخابية أما الباقي فلا ناقة لهم ولا جمل.
ثمة ظاهرة أخرى تظهر حتّى فشل تمثيل إرادة الأغلبية و يعرفها النظام البرلماني المنتخب على قاعدة النسبية. إذا انفجر الشرق الأوسط يوما كبرميل البارود وحرثته القنابل النووية، فلا يجب أن ينسى المحلّلون دور النظام السياسي الإسرائيلي وديمقراطيته المبنية على التمثيلية النسبية في الكارثة. فهذه الديمقراطية تمكّن حزيّبات دينية، تمثّل أقليات تتنافس على التطرف والعدوانية من دخول البرلمان. ورغم أنها تتوفّر على عدد ضئيل من المقاعد فإنّها تفرض إرادتها بلعبة التحالفات على حزبين كبيرين أضعف من قدرة الحكم لوحدهما. هكذا انزلقت السياسة الإسرائيلية على مرّ السنين تحت الابتزاز الدائم للأقلية، نحو مزيد من التطرّف يقوده تحكّم الأقلية في الأغلبية . هكذا لم تعكس أزمة الشرق الأوسط فقط أزمة احتلال وإنما عكست أيضا أزمة النظام داخل الكيان الصهيوني.
3- الاستحواذ على آليات الديمقراطية.
إن النموذج الأشهر لوصول الشخص إلى أعلى مراكز القرار بالانتخاب الديمقراطي، ثم الانقلاب على الديمقراطية، هو انتخابات 1933 في ألمانيا التي حملت هتلر للسلطة. لكن هناك أيضا إعلان إنديرا غاندي في الهند في السبعينات حكما استبداديا لم ينته إلا باغتيالها. ثمّة أيضا الليبرالية التي تستطيع بالمال إفراغ النظام الديمقراطي من كل مضمون دون أن يصرخ أحد إنه انقلاب لا يفصح عن هويته.
4- التداول على الوصاية والإقصاء.
إذا كانت الدكتاتورية تلغي مناهضيها بالعنف والإرهاب وتفرض وصاية ثقيلة على كلّ الأطراف الملغاة والمهمشة سياسيا ، فإن الديمقراطية التمثيلية تمارس نفس اللعبة لكن بالطرق السلمية. فالأحزاب التي هزمت لأنها لم تتحصّل إلا على 49،9% من الأصوات لا دور لها غير الصراخ. أما المنتصرة فيمكنها تطبيق سياستها مدّعية أنها خيار الأغلبية ومن ثمة خيار الشعب . ثم تعاد اللعبة وتوزيع الأدوار في الانتخابات الموالية. هكذا يبقى المجتمع يتأرجح بين حلّ ونقيضه، بين سياسة وأخرى. هكذا تصبح السياسة صراع القوى الملغية لبعضها البعض، فلا يؤدّي الإلغاء والتداول عليه إلاّ لتكوين جيوب مقاومة تنغّص على كل حاكم حكمه وتعيق برامجه مشكلة إهدارا مريعا لطاقات المجتمع.
وإذا كانت هناك فكرة مركزية واحدة يجب أن تبقى دوما نصب أعين كلّ مسئول نزيه فهي أنه لا يوجد حلّ حزبي-أيدولوجي للمشاكل الاجتماعية إلا من باب التدجيل. فلا حلّ إسلامي أو اشتراكي أو قومي أو ليبرالي للبطالة والتصحّر و شحّ الماء وعجز صناديق الضمان الاجتماعي والجباية العادلة وبطء القضاء وثقل البيروقراطية وإدماج المعاقين ورفع مستوى التعليم والخدمات الصحية وة الثقافة.
إن صراع الأحزاب السياسية على '' الحلّ'' في المطلق الذي هو دوما نقيض الحل في المطلق للخيار الحزبي الآخر، هو صراع عميان الأسطورة الهندية على تعريف الفيل. فهذا يتحسسه من خرطومه فيقول الفيل خرطوم، وذاك من ذيله فيقرّر بمنتهى الصدق أنه ذنب، ويغضب الثالث لأنه مقتنع أن الفيل عظم أملس وقد أمسك بنابه الأيسر. هكذا ترى الإسلامي يتحسّس المشاكل الاجتماعية من باب الهوية والثقافة، والليبرالي لا تعنيه غير وسائل خلق الثروة المادية لا'' يري'' تكلفتها البشرية إنتاجا وتوزيعا. أمّا الاشتراكي فهمّه الأوحد توزيع هذه الثروة بصفة عادلة لا يهمّه أن تنضب أو من أين تأتي . أما القومي فجلّ همّه منحصر على الأولوية المطلقة للبعد القومي والحال أن البعد العالمي هو أكثر من أي وقت مضى جزء من معادلة متزايدة التعقيد.ولو كانت السياسات تخضع للمنطق وليس للهوى، لما كان التعامل مع أي إشكالية إلا من باب دراسة الشبكة السببية المعقّدة والأبعاد المختلفة للموضوع والمستويات المتباينة له، في إطار رؤية شاملة بدل إنكار التعقيد والالتجاء إلى التبسيط السحري. هذا لا يستقيم بالطبع إلا في إطار جلوس كل التيارات إلى نفس المشكل وتقليبه من كل الأوجه، واعتراف كل طرف بأحقية الطرف الآخر في رؤيته، ثم استخلاص أقلّ الحلول ضررا وأكثرها اعتبارا لكل جوانب المشكل ، مع تحكيم دائم للقيم والمصلحة العليا والظروف الموضوعية. ما أبعدنا عن كلّ هذا في نظام يفرض فيه الأقوى رؤيته كما كان الأمر في الاستبداد وكلّ ما في الأمر تغيير طبيعة القوة التي تفرض.
صحيح أنه لا توجد ّ حلول تقنية في المطلق وإنما توجد حلول فعالة بالنسبة لخيارات سياسية معينة. ثمة سياسة جبائية فعّالة وذكية في خدمة مصالح الأثرياء وأخرى معاكسة لا تقلّ ذكاء وفعالية في مصلحة الفقراء تتمثّل في توزيع العبء الجبائي على الأقلية الثرية دون دفعها إلى تهريب أموالها للخارج ودفع الأغلبية المتلكئة أيا كان دخلها إلى تأدية واجبها الجبائي.
يبقى أن شكل النظام الحالي يدفع حتى بالأحزاب القريبة من نفس الخيار السياسي إلى عرقلة بعضها البعض وإظهار قدر كبير من سوء النية في تقييم سياسة الخصم وعرقلة مسعاه حتى ولو كان على صواب. إن هذه العيوب نتيجة شكل النظام الذي يكافئ التنافس ولا يكافئ التكامل ، يحرّض على التفرقة ولا يسهّل توحيد الأدمغة لحلّ مشاكل لا تخضع لتحليل بسيط وعلاج أحادي.
5-: التداول السريع على المسؤولية.
إذا كان من أهم أمراض النظام الاستبدادي بطء تغيير المسئولين فإن الديمقراطية تعاني من العكس أي سرعة التداول على المسئولية. ولو سألت أي ديمقراطي عن الظاهرة لاعتبرها جدّ صحية وأحسن ضمانة لمنع عودة الاستبداد وتجدّد الدماء في النظام. تأمل مليا في دوافع الأمر. ستجد أنها بالأساس نتيجة نوع من توافق المصالح بين إرادة الأرستقراطيات المخفية في تلهية الناس، ناخبين ومنتخبين، وإرادة هؤلاء المنتخبين في تبوّأ المراكز بأسرع وقت. إن عدد الطامعين في المناصب أكبر بكثير من عدد المناصب المتوفّرة، فلا بدّ إذن من قصر آجال من فازوا بها، حتى يتمكّن الخاسرون من تجربة حظّهم سريعا. لا مجال للشكّ أن للأمر إيجابيات منها الفرز المتواصل للطاقات ومنع تكوّن جيوب أرستقراطية كسولة أو منعدمة الكفاءة. لكن ماذا عن السلبيات ؟
ثمّة في البداية الهستيريا الإصلاحية أي التواتر السريع للإصلاحات التي تفرضها قصر النيابات. فمن طبيعة الإنسان أن يطمح لترك بصماته على الأشياء وان يؤرّخ لمروره الخاطف على المسؤولية.هكذا تتسارع الإصلاحات وإصلاحات الإصلاحات وإصلاحات إصلاحات الإصلاحات. لكنها عمليات قلما تعالج أزمات هيكلية. هي في أغلب الأحيان علاج عرضي لمرض مستفحل خطير لا قدرة لحكومة عابرة على التعامل العميق مع أسبابه ، أو لا إرادة لها على ذلك لما في الأمر من مخاطر انتخابية. هكذا يؤدّي التداول السريع إلى توارث المشاكل من حكومة إلى أخرى مع تزايد تعقيدها وخطورتها وتناقص إمكانيات حلّها، لأنها كالمرض المستفحل الذي تقلّ حظوظ علاجه بتقدّمه وتأخّر القرار الحازم الصائب بخصوص التعامل معه. قلما ينتبه الملاحظون لظاهرة أخطر وهي أن قصر النيابات السياسية يساهم في نقل السلطة الفعلية إلى مؤسسات عالم المال والصحافة وأجهزة المخابرات والبيروقراطية. فكلّ هذه القوى ثابتة في مكانها، توسّع ببطء مجال نفوذها وراء الستار، وجدّ مبسوطة من التتابع السريع للمسؤولين السياسيين. حقّا لا تستطيع الأرستقراطيات المخفية نفسها، أن تتصدّى مباشرة لسياسة قوية لا تتطابق مع مصالحها، لكن لها ألف وسيلة لإفشالها بالتراخي والسلبية وحتى التخريب. يكفي أن يسرّ بيروقراطي رفيع المستوى في أذن زميل أن الإصلاح الجديد ''أزمة مارّة'' وأن على الجميع انتظار الحكومة المقبلة أو التحوير الوزاري المقبل لكي يضيع الإصلاح في الرمال المتحرّكة.
أمام كل هذه النواقص والعيوب التي تشكل جزءا كبيرا من مشاغل الديمقراطيين وتستنزف طاقاتهم في محاولة تطويقها، لا بدّ من رؤيا شاملة لا تكتفي بإصلاحات شكلية وإنما تعود إلى الأسس ذاتها التي بنيت عليها المؤسسات الديمقراطية لعملية إعادة تأسيس شاملة.
****


10- العوائق الثقافية

يستحيل بداهة وجود الديمقراطية في غياب الديمقراطيين كما يستحيل تصوّر الديمقراطيين بدون جملة من السلوكيات أساسا في علاقتهم بالشأن العامّ ,
فإذا مارس ''الإنسان الديمقراطي'' السلطة مارسها بعدل واعتدال واضعا نصب عينيه دوما أنها وظيفة اجتماعية وليست غنيمة حرب. أمّا إذا مورست عليه تسلطا فإنه ينتصر لحقوقه و حرياته وإن مورست عليه قانونا فهو لها السميع المطيع. أمّا ''الإنسان الاستبدادي'' فإن مورست عليه السلطة قهرا وظلما سكن وخنع وجبن ونافق واستسلم ، وإذا وصل إليها طغى وتجبّر، لا يمارسها إلاّ تسلطا وانتفاعا،وهو دوما ذلك الأسد – النعامة الذي لا يعادل قسوته في السلطة إلا جبنه وهو خارجها ومن هذا المنطلق يمكننا قراءة طبيعة علاقة السلطة المهيمنة داخل الأسرة والمدرسة والإدارة والمصنع في وطننا العربي لنكتشف بسهولة أن ''الإنسان الاستبدادي'' هو القاعدة في كل المستويات. فأينما ولّيت الوجه لا ترى سوى نموذجا مصغّرا للمستبدّ القابع فوق عرش السلطة السياسية، ممّا يعني أن تصرفات هذا الأخير ليست سوى تضخيم وتعزيز وتصعيد لما هو موجود في شتى مستويات القاعدة الاجتماعية. هذا الموجود هو نوع أو آخر من التسلّط المرتكز على تضخم الأنا والشخصنة والإيمان بوجود درجات فاصلة بين البشر مما لا يسمح باعتبار الآخر ندّا ومسئولا حتى وإن ارتبطنا به بعلاقة قوية مثل الزواج أو البنوة، فما بالك إذا كان غريبا عنا وبعيدا. يعطي هذا التصوّر صاحب اليد العليا الحق المطلق في التصرف في صاحب اليد الدنيا لا رادع سوى ما يظهره الآخر من مقاومة. هذه السلطة الهرمية لا تمارس إلا بشكل أو آخر من العنف ومن ثمة تولّد دوما تصرفات لا تخرج عن الخنوع وملحقاته ثم التمرّد ومشتقاته. أمّا أخطر ما في الأمر فهو أن التحرّر داخل هذه العلاقة ليس في كسر الاستبداد وإنما في التداول عليه. هكذا يخلف الابن أباه على رأس العائلة أو المصنع ليعيد إنتاج نفس المواقف والتصرفات، هكذا تخلف البنت أمها وحماتها في لعبة القسوة والخنوع. هكذا يخلف المعلّم السيد المدير في الطريقة الشخصية للتحكم في شؤون المدرسة الخ ....
ومن نافلة القول أن مثل هذه المواقف والتصرفات هي نتاج تاريخ عميق الجذور أنتج إيديولوجيات التشريع والتبرير وسوّقها عبر النظام التعليمي وثقافة العامّة. نرى ذلك واضحا في الأمثال المشجّع على تداولها مثل ''رجل كألف وألف كأفّ'' أو ''إنما العاجز من لا يستبدّ'' أو ''العصا لمن عصى'' أو'' ألف سلطان جائر خير من ليلة دون سلطان'' الخ ..
ماذا الآن عن ''الإنسان الديمقراطي'' ؟ إذا اعتبرنا بعض المؤشرات الدالة على وجوده كالتعامل مع المنظورين باحترام، واعتبارهم أصحاب حق ورأي وكرامة ومسؤولية، فإنه لن يصعب علينا القول أن مثل هذه العلاقة، على رأس العائلة والمصنع والإدارة والمدرسة، شاذة تحصى ولا يقاس عليها. قد نعتقد أننا سنعثر على الكنز النادر في صفوف المعارضة، خاصة الديمقراطية منها.
يا للهول ! سنكتشف أنّ الأحزاب والجمعيات الديمقراطية نفسها تعجّ بأنصاف الديمقراطيين وأخماسهم وفي بعض الأحيان بأناس ضلّوا طريقهم وجاءوا لهذه الأحزاب والمؤسسات ليخربوها بعقلية لم تتغيّر إلا في مستوى الشعارات، كأن فصلا تامّا وقع بين المستوى الذهني الذي يردّد الأفكار والمستوى الباطني الذي يحرّك المواقف والتصرفات. لا غرابة في هذا فعندنا مصنع يعمل باستمرار لخلق المستبدّ والمستبدّ به . هذا المصنع هو العائلة والساهر على الإنتاج والإنتاجية هو الأب العربي. فكلّ أب ربّى ابنه على الخضوع المطلق له وابتزّه بقصة رضاه ''دنيا وآخرة'' يعدّ المواطن الذليل الذي سيقف أمام كل دكتاتور كما كان واقفا أمام أبيه. وهذا الإنسان الذليل لن يستطيع ''التحرّر'' إلا لما يصبح بدوره أبا وصاحب سلطان أي مستبدّا بعد أن شبع من وضع المستبدّ به. إنها حقّا أكبر عقبة في وجه تطوّر مجتمع لم يفهم الأب والمربي والسياسي أن الناجح منهم ليس من يستعبد وإنما من يحرّر ابنه وتلميذه ومرؤوسه ليطير بجناحيه. وهو آنذاك سيرفرف في سماء الحرية ليعود للعشّ عن طواعية وامتنان وليس في إطار العلاقة البغيضة التي تفرض بالقوة والنفاق وسوء الفهم المتواصل.
وفي هذه الحالة يتساءل البعض عن حسن نية، وغالبا عن سوء نية، عن حظوظ الدمقرطة في مجتمعاتنا ونحن بمثل هذه ''الثقافة الاستبدادية ''. أليس وضع مؤسسات سياسية ديمقراطية في أي مجتمع ، دون وجود الدعامات الفكرية والتصرفات الأخلاقية لها، بمثابة البناء على الرمل ؟ من أين للعرب والمسلمين القدرة على تشغيل مؤسسات البنى الفوقية كما يقول الماركسيون وبناهم التحتية تنضح بالاستبداد؟ هل من الممكن أن تكون نظرة العنصريين الغربيين لنا صحيحة وهم يقرّون بعدم قدرتنا على تشييد بناء لا نملك له أسسا؟
قد يفاجأ البعض بإجابتي لأنها نعم. هم محقّون في التهمة ولكن.....
*
ثمة فخّ لا يجب أن نقع فيه: محاولة تجاهل هذه الإشكالية أو التنقيص من أهميتها أو الركون إلى سبّ من يشهرونها في وجوهنا حقّا نحن نعلم أحسن العلم أنها تدخل في إطار نظرة عنصرية، لكن هذا لا يبرر أن نهرب منها بل بالعكس، يجب أن نقول للعنصريين ولأعداء العرب والمسلمين : من فضلكم دلّونا على عيوبنا ونواقصنا فعين السخط هي التي تبدي المساوئ، ونحن بأمس الحاجة لعين سخطكم هذه حتى نتبين كل نواقصنا وسترون أننا سنجيد استعمال هذا النقد ولو كان لا يبغي الإصلاح وإنما تخريب معنوياتنا وتسليمكم مقاليد أمورنا . إن أحسن ما نفعله بعد تسجيل كل ما تفضلت به عين السخط ، هو وضع كل المعلومات الهامة التي تحصّلنا عليها لتمحيصها وفرز الغث من السمين. أما الغث فكل ما يعبق بالكره والتجنّي والجهل والغرور. أمّا السمين فكلّ ما يتعلّق بالتشخيص الصحيح بمناطق الضعف في تفكيرنا وتصرفاتنا . إنّ الهاجس الذي يجب أن يحركنا دوما هو كيف نعطي لخياراتنا السياسية والاجتماعية كل الحظوظ لتصل إلى القدر الأقصى من الفعالية في جريها وراء أهداف نبيلة ....لأن ما وصلنا إليه من عجز مشين هو ثمن لا فعالية مؤسساتنا ونظمنا ، هذه اللا فعالية الناجمة، من بين العديد من الأسباب، عن رفض النقد أيا كان مصدره ومن ثمة تفويت فرص الإصلاح فالتطوّر فالحياة الأرقى.
لنتذكّر قول الشاعر
عداتي لهم عليّ فضل ومنّة فلا أذهب اللّه عنّي الأعاديا
هم بحثوا في زلّتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
ومن هذا المنطلق يجب أن نعترف للعنصريين ولأنفسنا، أننا لا نتوفّر فعلا على الأرضية الثقافية لبناء مؤسسات ديمقراطية ثابتة وراسخة الجذور، ممّا قد يعني استحالة البناء أو سرعة تهاوي ما قد نبنيه يوما. لكن على خصومنا الاعتراف بأن الأمور أعقد من هذا بكثير وأنّ عليهم أن ينتبهوا للغصن الذي في عينهم قبل أن يسخروا من القشة التي في عيننا.
إن المعجبين بأنفسهم من أصدقائنا الغربيين أو من العرب الراكعين أمام الثقافة الغربية، ينسون بسرعة وضع الأمور في سياق تاريخ يرجع في جزئه الموثق إلى عشرة آلاف سنة على الأقلّ. كم منهم يتذكّر (مع ما يعنيه الأمر من تواضع وتأني في الحكم على دوام الحال) أنّ عمر الديمقراطية في هذه المجتمعات لا يزيد عن مئتي سنة بالنسبة لبريطانيا، وثلاثين سنة بالنسبة لاسبانيا والبرتغال، أن بلدانا عريقة في الثقافة الفنية والعلمية مثل ألمانيا وإيطاليا وروسيا قدمت للعالم أبشع أنواع الدكتاتوريات، أن الشعب الفرنسي تأقلم بسرعة مذهلة مع نظام الماريشال بيتان في الحرب العالمية الثانية. أما رائدة الحرية والديمقراطية، حسب زعمها، الولايات المتحدة الأمريكية، فقد يتضح يوما للمؤرخين أنها بدأت انحدارها نحو النظام الاستبدادي في نهاية القرن العشرين ليتسارع الأمر على امتداد القرن الواحد والعشرين منتهية إلى شكل أو آخر من نظام Brother Big الذي تنبأ به الكاتب الكبير'' جورج أوروال''.
إنّ ظاهرة ''الإنسان الاستبدادي'' بما هي علاقة التسلّط بين الآدميين، ليس خاصية ثقافية يتميّز بها العرب والمسلمون وإنما الحالة الغالبة على مرّ التاريخ وفي كل المجتمعات البشرية، إن كلفنا أنفسنا عناء النظر للأمور والمحكّ زمن المؤرّخين لا زمن الصحافيين. لا أدلّ على ذلك من دوام العلاقة وصلابتها واستعصائها على الكسر رغم تعدّد الثورات ممّا يعني أنّ هناك خصائص قارّة تتشارك فيه كل المجتمعات البشرية، تتراجع هنا وتنتصر هناك...دوما بصفة مؤقتة. لماذا؟
*
ثمة تجربة علمية مثيرة لا بدّ لكلّ منظّر للشأن السياسي أن يفكّر فيها مليا وهي كالآتي: إذا وضعت ستّة فئران في دهليز مع كمية قليلة من الجبن خلف حواجز عدّة تفرض الصراع بينهم للحصول على الغذاء، فإن الوضعية ستفرز بسرعة تنظيما اجتماعيا يتشكّل من ''سيّدين'' يستحوذان على جلّ الغنيمة، ومن ''عبدين'' في خدمتهما، ومن ''متمرّد''لا يعمل إلا لحسابه الخاصّ ومن'' مستضعف'' يعيش على الفتات و الصدقة. والآن خذ ستّة ''سادة'' تأخذهم من عينات مختلفة . المفروض أن يتقاتلوا إلى أن ينقرضوا جميعا حيث لا يقبل كل سيد إلا بالسيادة أو الموت. خطأ ! ها قد عادت نفس التركيبة أي سيدان وعبدان ومتمرّد ومتسوّل. خذ الآن ستّة مستضعفين. ربما تنتظر منهم وقد عرفوا كلّهم ذلّ العبودية أن يفرزوا '' مجتمعا أخويا''. خطأ من جديد !هم سيبلورون داخلهم كذلك سيدان وعبدان ومتمرّد ومتسوّل. ولقائل أن يقول وقد اشتمّ مني سوء النية أن الآدميين ليسوا فئرانا. إن أفضل وسيلة للتخلّص من هذا النقد المزايدة عليه بالقول أن الفئران هم الذين يظهرون خصائص كنا نعتقدها آدمية بحتة. من يستطيع إنكار توزّع الآدميين في كل مجتمع إلى سادة وعبيد ومتمرّدين ومتسوّلين؟ من يستطيع إنكار سرعة رجوع أي مجتمع قام بالثورة إلى النموذج القديم؟ ففي روسيا وصين نهاية القرن حدث ما حدث في فرنسا القرن الثامن عشر: عادت كل الثورات إلى قواعدها غير سالمة، تجدّد المنكر الذي حاربته حتى ولو حصل شيء من التحسين. ففي كل مرّة أعيد تشكيل المجتمع الهرمي بسادته وعبيده ومستضعفيه ومتمرديه ومتسوّليه.
لو حلّلنا تصرّفات الفئران أو بشر ما بعد الثورة، لما استطعنا القول أنها لا تنطلق من قيم وإنما أنها تنبع من قيم كل ّ الأنظمة الاجتماعية البدائية الحيوانية منها والآدمية: القوّة، الغلبة، التسلّط العدوانية، الدوس على ما نسميه العدل والكرامة وكل هذه القيم الكبرى التي لا تكتسب أهميتها إلا إذا كانت تعنينا مباشرة..وقف المتنبي عند لب المشكلة في بيته الشهير:
والظلم في شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلّة لا يظلم
وفي لغة هذا العصر وعلمه، يمكن ترجمة ''شيم النفوس'' إلى الطبيعة البشرية في مفهومها البيولوجي، الوراثي، الغرائزي الحيواني، الذي تتحكم فيه الجينات والهرمونات. هذا الجزء من طبيعتنا هو الذي تلخصه كلّ الأديان والأساطير في مفهوم الشيطان هذا الكائن الذي نفضّل أن نحمّله كلّ نواقصنا وخطايانا وأن نرمي به خارج الذات حتى لا نضطرّ للاعتراف بأنه جزء منّا ثابت ومهيكل. لا يجب أن ننسى في آخر المطاف، أن الآدميين كائنات طبيعية تنتمي إلى العائلة الكبرى للثدييات التي تضم قردة الشامبنزي والأورانج والغوريلا. إنّ هذه الأجناس تقاسمنا 98% من الجينات المحمولة على صبغيات خلايانا، كما تقاسمنا التصرفات الأساسية ومنها الحياة العائلية والاجتماعية والتنظيم المبني على السلطة الهرمية المطلقة وسيادة الأقوياء. ومن هذه الأسس الغرائزية يستمد النظام الاستبدادي قوته. هو بدائي بالمعنى الأول للمصطلح أي أنه نظام بداية التاريخ بل بداية الحياة الاجتماعية، التي ترجع بنا إلى مئات الآلاف من السنين. لا غرابة أن تكون المواقف والتصرفات الاستبدادية بهذا العمق وهذا الثبات وخاصة بهذا الانتشار. لقائل أن يقول أنني نشرت الغصن الذي أجلس فوقه، فللتدليل على أنه ليس للعرب والمسلمين قابلية أكثر من غيرهم للاستبداد، عممت هذه الخاصية على كل البشرية، فلماذا نحاول غرس الديمقراطية إذن في وطننا العربي بما أنها نظام غير طبيعي و بالتالي مؤهل للاختفاء أينما وجد كحدث طارئ في مرحلة قصيرة من تاريخ هذه الأمة أو تلك لنعد إلى بيت المتنبي متسائلين عن مختلف معانيه. لماذا نشتمّ من الشاعر إدانته للظلم وكيف نفهم محاولة الإنسانية المتواصلة في النضال ضدّه والاستماتة في محاولة اجتثاثه؟ ألم يقف المتنبي عند ويل للمصلين؟ ألم يصف نصف الكأس الفارغ والحال أن هناك وصفا لنصف الكأس الملآن؟ هل نجانب الصواب لو عارضنا البيت الشهير ببيت لم يتغنّى به أحد من نوع:
العدل في شيم النفوس فإن تجد ذا زلّة فلعلّة لا يعدل.
من البديهي أنه لو لم يكن العدل أيضا من شيم النفوس لما استطعنا أن نفهم توقنا له وبحثنا الدائم عنه ووضعنا لكل المؤسسات الممكنة لحمايته. ولو كانت طبيعتنا متشكلة من الظلم وحده لبقينا على تصرفات القردة. ولو كانت طبيعتنا العدل وحده ، لتحققت المدينة الفاضلة بصفة تلقائية طبيعية دون أن يحتاج أحد للحلم بها أو للتنظير لها. الإشكالية الكبرى هي ازدواجية طبيعتنا التي تجعلنا نتوق للعدل ولا نتورع عن ممارسة الظلم، وما أن نمارس الظلم حتى تتحرّك في ألف مستوى آليات الاحتجاج والتصحيح.
إنّ شيم النفوس في الواقع، وفي مستوى كل المواقف والتصرفات البشرية، مزيج من الشيء ونقيضه. هل الخاصية خطأ هندسي في خلق الآدمي ؟ ربّما. لكن هناك تفسير أقلّ تشاؤما، وتجنيا على السلطات العليا التي خلقت بل قل ارتكبت الإنسان.
إن القضية الأولى لكل الأجناس الحية ومنها الآدمية هو البقاء في خضمّ عالم لا يرحم ضعفا ولا يقبل بعاجز. أمّا السلاح الأوّل في معركة الوجود هذه فهي القوة ولو بترتباتها السلبية مثل التسلط والهرمية لأنّ إيجابيات التنظيم تغطي على سلبياته. من هذا المنظور يمكن القول أن ما نسميه الغريزة أو الطبيعة ليست سوى استراتيجية لا هدف لها سوى الانتصار في صراع البقاء. لكن التوجه المعاكس الذي نختصره في مصطلح الحضارة هو أيضا ا ستراتيجية للبقاء لا تقلّ أهمية عن ستراتيجية الغريزة.
قلنا أنّ الآدمي كائن طبيعي يشارك الشمبنزي بنسبة 98% في الجينات التي تصوغ كل كائن حيّ. لكنه يختلف عنه في حجم الجماعات التي يمكن أن يشكلها ويعيش داخلها وما تفرضه من علاقات متصاعدة التعقيد. فالقردة لا تبني مدنا مثل نيويورك، لا تصرّف مجتمعات متعدّدة الأعراق والديانات والأحزاب السياسية. هي لا تدير مؤسسات إنتاج الفكر والمادة والقيم والجمال كما يضطرّ لذلك الآدميون. يكتشف الآدميون بسرعة وهم يصارعون من أجل البقاء أن العدل بما يحققه من تعاضد وتكافل أكبر بين أطراف المجموعة، يوفر فرصا أكبر للبقاء الجماعي والفردي من الظلم وهل هناك ما يهدّد البشرية إلى اليوم أكثر من استعباد الإنسان للإنسان؟ لا غرابة أن يحاول البشر منذ بداية التاريخ التخلّص منه أو على الأقل تحجيمه. ها هم يبنون الحضارة بما هي جملة من المواقف والسلوكيات التي تتعارض مع ما تمليه الغرائز البدائية بعد أن تبيّن لهم أنها بوليصة إضافية للتأمين على الحياة أهمّ من شريعة الغاب. لكن ثقل الماضي وحضور ذكراه الكثيفة في الحاضر وتعقيد الواقع، يجعل الفصل بين الخيارين صعبا بل يصبح تجاورهما هو القاعدة ،وكأن هناك داخل المجتمع اتفاق ضمني على أنه من الأفضل على الأقل لبعض قطاعات المجتمع، أن توجد استراتيجيتان للبقاء بدل من واحدة. فإن فرضت الحاجة الظلم، هرعنا للظلم لا نأبه لما يتردّد حول القدح فيه من كلام ممجوج. لكن إن كان أداء العدل أحسن في الحفاظ على مصالحنا فإننا نصير للعدل جنودا بواسل.
ومن نافلة القول أن تجاور الشيء ونقيضه داخل الشخص الواحد والمجتمع الواحد والآدمية الواحدة، أمر بالغ الصعوبة حيث سنرى صراعا متواصلا بين التوجهين. هذا الصراع هو المحرّك الأساسي لتاريخ البشرية خاصّة إذا وضعناه في إطار ضغط المحيط المتواصل على هذه البشرية. فمرّة تنتصر قوى الطبيعة لأن ظروف المحيط لا زالت تفرض تغليب القوّة ولو بثمن الظلم. تارة أخرى يصبح الظلم الخطر الأكبر الذي يهدّد تماسك ووجود المجتمع فتتغلب قيم الحضارة وهكذا دواليك إلى اليوم. والقاعدة الغالبة هي أن التاريخ الإنساني لم يحسم بعد أي كفة سترجح. قد يصبح الأمر محسوما، لكن في مستقبل قريب، حيث قد تفرض علينا تغيرات المحيط العودة للهمجية أو على العكس ستنجح البشرية في كبح جماح غرائزها وتطويع محيطها ووضع دعائم مجتمع إنساني وليس ''حيواني إنساني'' كما هو الأمر حاليا، فتنتصر الحضارة وتصبح الحياة نعمة لا نقمة على جنس بشري شاء حظه العاثر أن تتداخل فيه طبائع القردة والآلهة. وعن هذه الازدواجية يتشكّل تباين الايديولوجيات الحاملة لهذا الخيار أو ذاك بما هي تنظير وتبرير ودعوة إلى تفضيل هذا التوجه بدل ذاك معنى هذا أنّك ستجد داخل كل فرد وأمة ''ثقافتان'': الأولى ويمكن تسميتها'' ثقافة الطبيعة''، قاعدتها الغريزة، تنطق باسمها الإيديولوجيات الفاشية، لا تمارس السلطة داخلها إلا على شكل أو آخر من التعسف، خيار القرار فيها الأسرع والأسهل والأخطر.
أمّا الثانية فهي ما يمكن تسميتها '' ثقافة الحضارة''.هي التي تنتج الأديان والأخلاق والديمقراطية، قاعدتها العقل والقيم، لا تمارس السلطة داخلها إلاّ سلما وتوافقا، خيار القرار فيها الأصعب والأطول لكنه الأضمن. والقاعدة العامّة كما رأينا، تجاور التوجهان واحد على الركح والآخر وراء الأستار. هكذا تجد دوما تيارا ثوريا داخل أشدّ المجتمعات محافظة ، وتيارا محافظا داخل أكثر المجتمعات الثورية، والصراع على أشده بينهما على امتداد التاريخ. هكذا تجد أنّ الثقافة الغالبة ليست ثقافة الأغلبية وإنما ثقافة الغالبين فرضت على الأغلبية بالقوة. هذا ما يجعل انتصارها مؤقتا ورهن موازين القوى. هذا ما يجعل غرور المنتصرين دوما مزيجا من السذاجة وقصر النظر، مآله الصحوة المؤلمة على واقع بشري ما زال بعيدا عن نقطة توازنه.
*
إن من شأن هذه القراءة إعادة طرح الموضوع الذي يشغلنا برمته حيث لم يعد من الإشكال أن يتواجد عندنا'' الإنسان الاستبدادي'' بكثافة وأن يغيب ''الإنسان الديمقراطي''، بما أن هذا هو الأمر الغالب في كل الشعوب . إنما الموضوع استراتيجيات كسر شوكة ثقافة الاستبداد وجعل ''الإنسان الاستبدادي'' في مجتمعنا يوما ما هو الأقلية والهدف الحقيقي في ظلّ الازدواجية الهيكلية لشيم النفوس، هو إطالة عمر'' عصر الحضارة'' يوم ننجح في تدشينه ووضع القنابل الموقوتة في وجه ''عصر الغرائز'' لأنه عائد لا محالة كما تعود الآفات الطبيعية.
إن هذا التحليل '' المتشائل'' حسب التعبير الشهير لأميل حبيبي، يجعلنا نعي بأن في أعماق مجتمعنا العربي الإسلامي المتشبّع بقيم الاستبداد والغارق في ممارساتها إلى الأذنين، قوى جبارة يمكن أن تدفع ب''الإنسان الديمقراطي '' إلى مركز الصدارة. هكذا ستجد عملية التأسيس في العائلة والمصنع والإدارة مخزونا هائلا من الأفكار والقيم وحتى السلوكيات السرية الرافضة للاستبداد وظلمه والمستعدة للدفاع عن أي نظام بديل يرجع الكرامة المسلوبة والاعتبار الذي صادره الاستبداد.
يرتكب العنصريون خطأ آخر هو تصورهم للثقافة كمعطى ثابت وموجود بمعزل عن التغيرات التي يشهدها المحيط. هذه التغيرات هي كما أسلفنا ترجمة صادقة لصراع القوى داخل المجتمع، لكنها بدورها قوى مستقلة عنها مثل المناخ الذي لا قبل لأحد التحكم فيه حتى ولو ساهم البشر في بعض آليات تغيّره. واصدق مثال على هذا التكنولوجيا وما تحدثه من تغييرات جذرية في مواقف وتصرفات البشر. فما من أحد توقّع أو خطّط التحكم في كلّ ترتبات ظهور الكهرباء والمطبعة والطائرة والحاسوب وانترنت. لا جدال اليوم أن الدمقرطة العالمية المتصاعدة هي إحدى نتائج ثورة الاتصالات والمعلومات حيث انتهى بمفعولها المونوبول الايديولوجي الذي هو حجر الزاوية في النظام الاستبدادي. هذا لا يعني أن الاستبداد لا ينجح في توظيف الثورة التكنولوجية لصالحه، كما يفعل باستعمال الكاميرا والحاسوب لإحكام المراقبة على الناس حتى في أرقى الديمقراطيات. لكن تداعيات الثورة التكنولوجية أضرّت بعمق في ركائز و مقومات الاستبداد الرمزية منها والاجتماعية والسياسية انظر إلى تعقيد المجتمع المعاصر وما يتطلب تسييره من مهارات موزعة بشكل كبير على مستويات مختلفة. هكذا ترى السلطة اليوم تتوزع بصفة متصاعدة بين أهل الإعلام وأهل العلم وأهل الاقتصاد وأهل الخبرة الفنية. هي لم تعد وقفا كما الأمر من قبل على رجال السلطة السياسية ومواليها. كل هذه المهارات توازيها سلطة وكل سلطة توازيها إرادة اعتبار. لا غرابة أن تنتشر قيم الحرية والمساواة لأنها مطلب وحاجة كلّ هذه القوى التي لا يمكن للمجتمعات البشرية المتصاعدة التعقيد تجاهل دورها وتأثيرها. ها قد هدمت ترتبات الثورة التكنولوجية ركنا آخر من النظام الاستبدادي وهو مركزية وأحادية السلطة. إنها الحالة الجديدة التي وصفها عالم الاجتماع الأمريكي الكبير ألفين طوفلر عندما قال :" لقد جعلت الثورة التكنولوجية من الديمقراطية ضرورة تقنية وليس فقط ضرورة أخلاقية''.
وفي الختام نحن لسنا مطالبين بالاعتذار أو التبرير أو الإنكار لما تنضح به ثقافتنا العربية الإسلامية من قيم وأفكار وممارسات الاستبداد. لكن الثابت أننا تخلفنا كثيرا عن دخول المعركة الأزلية التي تحتدم داخل كل مجموعة بشرية لتنتصر داخلها قيم الحضارة على قيم الغريزة. وهذه معركة أصبحت اليوم التكنولوجيا الحديثة نصير هامّ لنا فيها (رغم محاولة الاستبداد تفويضها هو الآخر).
السؤال الآن : ما هي قيم الحضارة هذه التي يجب زرعها عبر التربية والقدوة والمؤسسات وعلى امتداد السنوات والعقود لتكون الدعامة الحاملة لنظامنا السياسي المنشود ؟

****



11- أي قيم للتأسيس ؟

لو فكّرنا في صعوبات الأنظمة الاجتماعية في التشكّل على غرار الأنظمة الطبيعية، لاكتشفنا أن المانع دوما خلل ما في عمل القيم. فلو كانت كل القيم المطلوبة موجودة وفي أنصع وأقوى مظاهرها، لوجد التناسق والتناغم والاندماج التام بين المكونات وهي، كما ردّدنا، خصائص الأنظمة الطبيعية. ولو تأملنا في هذه الأخيرة لقلنا أن فعاليتها ناجمة عن سيادة'' القيم '' والتناسق بينها، حيث تظهر الخلايا مثلا القدر الأقصى من الانضباط والاثرة والتفاني، لا تطلب شكرا أو جزاء بل ولا تتوانى عن التضحية بحياتها إن طلب منها ذلك في خدمة مصلحة الجسم. ولحظة تفقد بعض الخلايا ''أخلاقها العامّة '' لصالح '' قيمها'' الخاصة مثل الأنانية ،والبحث عن الخلود، يظهر السرطان أو أي مرض آخر. إنّ هذا ما يحدث دوما في أنظمتنا الاجتماعية حيث تفقد تناسقها وفعاليتها لخلل ما في مستوى القيم التي تحرّك أطراف النظام السياسي.
لكن ما المقصود بالضبط بالقيم ؟
لنتفق على تعريف بسيط قائلين أنها الحالات المثالية التي تتخذها مواقفنا وتصرفاتنا في تعاملنا مع أنفسنا ومع الآخرين والعالم حتى يتمّ القدر الأقصى من الانسجام والتناسق بين كلّ الأطراف. فالحبّ مثلا أروع حالة يمكن أن تربط الإنسان بالآخر والإيمان أصفى حالة لعلاقة العبد بربّه، والتعاضد أحسن علاقة تربط أفراد عائلة أو مهنة أو مجتمع، واللاّعنف العلاقة المثالية بين الإنسان والطبيعة الخ ... تخلق كلّ هذه القيم، إذا وجدت وعلى أوسع نطاق، مجتمعا يقترب من عمل الأنظمة الطبيعية من حيث الفعالية وقلة تكلفة تسييره.
لننتبه لأهم ظاهرة في القيم يتناساها الناس وهم يتعاملون معها تارة كقواعد جوفاء يجب استعمالها عندما تقتضي ذلك المصلحة وتركها عندما تتناقض معها، وتارة أخرى كأوامر ونواهي يجب تطبيقها ببعض التعسّف على الذات لأنها ثقيلة عليها. تحضرني هنا مقولة سمعتها من امرأة تشتكي: كل ما أحب في هذه الحياة لا قانوني أو لا أخلاقي أو يزيد في الوزن.
إن الصدق مثلا قيمة نطبقها بعقلية الشخص الذي يقوم ببطولة ينتظر منها الثناء والشكر، أو بعقلية الساخر الذي يستبله من يطبقها باحثا عن الكذب الذي يتستّر عليه وعن الخديعة التي يخفيها.
لكن الصدق الذي تحثّ عليه مقولات وأمثلة لا تحصى، هو أولا وقبل كل شيء خلاصة تجربة طويلة للجماعات والأفراد في الكذب والخداع، انتهت كلّها إلى نفس النتيجة أن ''حبل الكذب قصير''
و أنه كما يقول المثل العامي ''إذا كان الكذب ينجّي فالصدق أنجى وأنجى''. هذا ما يؤكّد أن القيم هي في الواقع عصارة تجربة الشعوب والأشخاص بخصوص المواقف والتصرفات التي تعود بالخير على الأفراد والمجموعات. يعني هذا أيضا أن من يتعاملون مع الأخلاق بازدراء كمن يتعاملون بتهوّر مع قوانين السير ونصائح الصحة العامة. ما أغرب أن يرفض المرء استعمال مخزون قرون من التجربة ليعيد الأخطاء الباهظة الثمن التي كانت وراء سنّ قواعد لا هدف لها غير الأداء الأفضل للأشخاص والجماعات.
السؤال إذن لماذا يصرّ البشر على تجاهل أو التطبيق المتأفف لتعليمات هي في آخر المطاف الأداء الأصحّ والأنجع في مصلحتهم كأفراد وكخلايا تنظيم اجتماعي؟
لننطلق من الفكرة الأساسية التي تعرضنا لها في تحليل الأرضية البيولوجية للاستبداد أي ازدواجية شيم النفوس. هذا ما يفسّر أنّ فضاء القيم الذي يبنيه الإنسان، محكوم دوما بالشدّ والجذب بين ''طبيعتيه'' أو قل ''استراتيجيتيه '' لصراع الوجود.
أن ما نسميه القيم هي تعليمات الجزء المتحضّر من طبيعتنا تواجهها ''قيم '' الجزء الغريزي من هذه الطبيعة. فهذه الأخيرة تسنّ بكل وضوح في الأذن اليسرى عكس ما تسرّ به الطبيعة المتحضّرة في الأذن اليمنى. هي تأمر: اقتل، اسرق، اكذب، ناور، اخدع، إنها أصلح تقنيات البقاء والتواصل وأخذ نصيبنا من الدنيا. تواجه القيم الغريزية التي تشكّل فضاء الأخلاق في النظام الاستبدادي مشكلة أزلية: ارتطامها بالقيم الحضارية التي تدّعي هي الأخرى أنها التعليمات الأكثر فعالية في الحفاظ على الجنس البشري وتحقيق مصالح المجتمعات والأفراد. معنى هذا أن قيمنا الحضارية التي نريد أن نبني عليها نظامنا السياسي المثالي لن تتحرّك أبدا في فضاء بكر وإنّما بالضرورة في إطار صراع أزلي مع القيم الغريزية لا تنصر هنا إلا وتوعدتها الأحداث ولا تنهزم هناك إلا لجولة انتصار جديدة.
تدفعنا نظرة كهذه إلى الوعي بأن دور قيم نظامنا المنشود هو مواجهة القيم الغريزية والتعامل معها بحكمة وذكاء واحتوائها وشلّها أطول وقت ...خاصّة الوعي بأن هناك ظروف موضوعية -كتلك التي تبرز عند ظهور كبرى الكوارث التي تعرّض البقاء لخطر داهم - ستلهب جذوة نارها ولا بدّ من منع ظهورها بكلّ الوسائل ....الأخلاقية الممكنة.
لنتصوّر أننا نستطيع اختيار القيم التي سنبني عليها نظامنا السياسي بنفس الكيفية التي نذهب بها إلى السوق لشراء ما نحتاجه من الأغذية اللذيذة النافعة.
لنتذكّر هنا إنّ بني آدم لا يختارون القيم اعتباطيا وإنما من منطلق البحث عن الأصلح والأنفع. هكذا يتجمّع المسحوقون حول العدل لأنّه مطلبهم الأساسي. لكن جهابذة مفكري ''الحرياتية'' اختاروا الحرّية كأسمى القيم لأنها أحسن غطاء لمصالح طبقة اجتماعية من التجار والمقاولين والمستكشفين والمتمردين على سيادة نبالة الرداء والسيف في أوروبا القرن الثامن والتاسع عشر. ثمة قاعدة عامّة في تشكّل فضاء الأخلاق وهي أنه لا أخطر على المجتمع من سيادة قيمة مطلقة حتى ولو كانت العدالة أو الحرّية مثلما لا أخطر على الجسم من العودة يوميا من السوق بنفس البطاطا لا نأكل سواها طوال الحياة.
إن من يحبّون بكلّ قواهم أوطانهم (أو عقيدتهم أو طائفتهم) ولا شيء آخر،هم أخطر الناس على بقيّة الأوطان والطوائف والعقائد وحتّى على من يدّعون الموت في حبّه، لأن وطنيتهم المفرطة قادتهم وقادت ضحاياهم وأحيانا شعبهم نفسه إلى الهلاك. لقد علّمنا التاريخ أنّه لا ألعن على المجتمعات من ''الأطهار'' مثل روبسبيار وبول بوت والمستعدّين دوما للتضحية بالثلثين الفاسدين لإنقاذ الثلث الصالح. فهؤلاء القادة ألأكثر تطرفا في البحث عن العدل والسلام والمساواة كلّفوا شعوبهم فاتورات رهيبة من الدم والدموع لجهلهم بأن الثلث الصالح الذي يريدون إنقاذه موبوء بالشرّ هو الآخر، وأن الثلثان '' الفاسدان'' أقلّ فسادا منهم بتطرّفهم الأخلاقي المرضي.
ولو كان لنا ميزان أو مقياس من 100 ''وحدة أخلاقية'' نزن به أو نقيس الفضائل، لأتضح أن نجاعة القيم في تأدية وظيفتها ترتفع تدريجيا من صفر إلى درجة 80 مثلا. يكفي أن يتجاوز المقياس هذا الرقم ب،00010 لكي تنقلب فجأة الشجاعة تهوّرا والصراحة قلّة أدب والكرم تبذيرا الخ.
لنتصوّر الآن أن حبّ الوطنيين لأوطانهم كان جزءا من منظومة فيها حبّ الإنسانية وحبّ الإنسان وحبّ الطبيعة وحبّ الحيوان.
لو وجد هذا، لكانت حروبنا أقلّ عددا وأقلّ وحشية على فرض إمكانية قيامها أصلا. إن فضاء القيم عند الليبرالي مثل غابة لا يوجد فيها إلا صنف واحد من الأشجار وهذه بيئة سريعة العطب، خلافا لفضاء فيه التنوع والتكامل بين أصناف مختلفة كما يعلم المختصّون في زراعة الغابات. قد يعترض علينا البعض بأن الحرية ليست القيمة الوحيدة في الليبرالية وإنما هي أعلى درجات ما يسمّى سلّم القيم. هذا السلّم هو الذي يجب أن ترفضه المبدئية الديمقراطية لأنّ التجربة تثبت أن وجود قيمة يتيمة على رأس السلّم، يهمّش بقية القيم إن لم يلغها تماما من الفعل الاجتماعي.
معنى هذا أن خلق التوازن في فضاء القيم، كما هو الحال في فضاء الطبيعة، لا يكون إلا بتجاور أكبر عدد ممكن من القيم تقوى ببعضها البعض وتتعدّل ببعضها البعض وتكتسب من التناسق بينها أداء أرفع في القيام بوظيفتها، كل واحدة على حدة وبشكل جماعي. إن ما يجب أن يهيكل النظام السياسي المنشود ليس سلّما وإنّما قلادة تلعب فيها كلّ قيمة دور الجوهرة الثمينة ، إن غابت واحدة تركت ثغرة قبيحة قبح الثغرة التي تتركها لطمة على صفّ أسنان ناصعة البياض. فالمنظومة المتكاملة من القيم هي وحدها الكفيلة بخلق مجتمع متوازن لا يكرّر موبقات تاريخية كانت أهمّ أسبابها تأليه الحرية أو العدالة أو الوطنية على حساب كل ما عداها.
من أين لنا مثل هذه القلادة الثمينة ؟
*
لنتصوّر بعضا من خصائصها، لا يهمنا في هذا الموضع من الحديث أن نغالي في الطلب والتمنّي وتاركين إلى وقت لاحق إشكالية التطبيق وحظوظ نجاحه. وحيث أن القيم كما قلنا عصارة تجربة حياتية فلتكن قيمنا خلاصة تجربة الإنسانية جمعاء وليس تجربة شعب أو شخص. لا بدّ أن تحتوي القلادة على القيم الحضارية الكبرى مثل الحرية والكرامة والمساواة والعدالة وأن لا تتناسى ولو قيمة واحدة ضرورية لبلورة إنسانيتنا.
لنمعن في الشطط مطالبين مثلا أن تأخذ القلادة شكل نصّ مؤسس:
- يخرج بالقيم من المفهوم التقليدي للأخلاق كجهد خاص يتحمّل عبأه وينوء بثقله الشخص، لتصبح علاقة سياسية تنظمّ حياة المجتمع.
- يسنّ قيما لا نسعى لزرعها بالوعد أو الوعيد. فلا أضرّ بالقيم من أسلوب التلقين والتهديد الذي يتعامل منذ بداية الحضارة مع الآدميين وكأنهم أطفال لا يتحركون إلاّ تحت ضغط شكل أو آخر من الخوف أو الطمع. نحن نريد من قيمنا أن تتوجّه إلى آدميين راشدين وأسوياء ومسئولين، لأنّ إنسان هذا العصر غير الإنسان البدائي الذي لا زال الاستبداد يتعامل معه بمنطق الترغيب والترهيب.
ها قد اكتملت أهمّ المواصفات التي نريدها لفضاء القيم الحامل لمؤسسات الديمقراطية وسياستها.
ولأننا في عالم القاعدة فيه ابتذال الخوارق والمعجزات، فلن نستغرب وجود النصّ، خاصة وأنه كان موجودا قبل افتعالنا البحث عنه. إنه ما يسمّى ''الإعلان العالمي لحقوق الإنسان *''. أقول ما يسمى لا استنقاصا أو استهزاء، وإنما لأنني سأقترح على القارئ الكريم قراءة مغايرة له قد تضطرّنا إلى مراجعة الكثير من الأفكار المسبقة والبديهيات حوله ومن بينها العنوان.
*
لنذكّر أنّ النصّ يبدأ بديباجة تقول ' إنّ ' الجمعية العمومية تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنّه المستوى المشترك
الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتّى يسعى كلّ فرد وهيئة في المجتمع (واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم) إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات مطردة ، قومية وعالمية ، لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها ''.
الإشكالية الأولى التي يجب أن ندقّق فيها قبل تفحّص النصّ هو لمن يتوجّه النداء الذي يفتتح قائمة حقوق ليست سوى قيم صيغت في قالب قانوني. ولقائل أن يقول أن الأمر واضح حيث تتوجه الجمعية العمومية للأمم المتحدة- بما هي المشرّع العالمي - إلى كل البشرية عبر توجهها إلى '' كافة الشعوب والأمم والأفراد''. إن الإشكالية المزعجة في هذا التعميم ،أنّك إذا توجّهت باللوم والتقريع، أو بالثناء والشكر لجمهور غفير، فإنك تتوجّه للجميع نظريا وفي الواقع لا تتوجّه لأحد. لذلك لن يثير كلامك سوى لامبالاة مؤدّبة. لكن خصّص شكرك لفريق وثنائك لشخص أو سمّي بواضح العبارة من تدين من الجماعات أو من الأشخاص، وستواجه بردود فعل تثبت أنه كان لكلامك وقع لتعرّف متلّقي على رسالة قدّرها حقّ قدرها.
ثمة شبه قانون أنه إذا كثر اللغط في بلد أو زمن عن حقوق الإنسان فاعلم أنها في حالة يرثى لها . فلو كانت محترمة لما احتاج أحد لتدبيجها والدعوة إليها. إن حقوق الإنسان لم توجد إلا كردّ فعل على انتهاكاتها. معنى هذا أن العملية المركزية في وجود حقوق الإنسان هي الانتهاك وليس التمتّع الذي يبقى حالة مثالية ما زالت بعيدة المنال على الأقل في ما يخصّ أغلبية البشرية.
إن وجود الانتهاك يفترض على الأقلّ وجود إنسان ينتهك حقوق الإنسان وإنسان منتهك الحقوق من طرف إنسان آخر.
ومن هذا المنظور يمكن القول أن النصّ يتوجّه إلى الإنسان المنتهكة حقوقه ليعلن تعاطفه معه والإقرار له بجملة الحقوق التي سحبت منه وتشريع نضاله من أجلها. هو يتوجّه ثانيا إلى الإنسان الذي ينتهك هذه الحقوق ليذكّره بعلوية قيم الحضارة على قيم الغريزة التي تبناها منبها إياه إلى انتهاء سيطرة شريعة الغاب التي ما زالت تصرفاته مطبوعة بها. لكنه يتوجّه أيضا إلى طرف ثالث سمّاه الضمير البشري ويفترض أن يتبلور عبر مؤسسات المجتمع المتحضّر، مطالبا إياه بالعمل على ردّ هذه الحقوق إذا سحبت والدفاع عنها إذا هدّدت وتطويرها إذا تحققت.
إنّ الحدّ الفاصل بين الظالم والمظلوم لا يمرّ بين جنس معيّن من البشر، هم دوما الضحايا، و جنس آخر، هم دوما الجلاّدون. فالكلّ يعرف أنه يمرّ داخل كلّ واحد منّا، مما يجعلنا جلادو بعضنا البعض وضحايا بعضنا البعض ، دون أن ننسى أننا في كثير من الحالات جلادو أنفسنا وضحايا أنفسنا.
هذا ما يحيلنا لفهم مختلف لمصطلح الحقّ.
لنأخذ على سبيل المثال المادة التاسعة عشر من الإعلان والتي تقول :" لكل شخص الحق في حرية الرأي و التعبير ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل و استقاء الأنباء و الأخبار و تلقيها و أذاعها بأية وسيلة كانت دون تقيّد بالحدود الجغرافية ".
لنستبدل المصطلح الفضفاض "لكل شخص" بتعريف المتكلّم بحيث تكون صياغة المقطع الأول للجملة كالآتي: لي أنا فلان ابن علان ...الحق في حرية الرأي و التعبير الخ ..
السؤال : من المقصود بهذه الجملة ؟ لمن أتوجّه بهذا التأكيد... بهذا التذكير ؟ لا يمكنني بطبيعة الحال أن أخاطب إلاّ من يستطيع التعرض لحقي في حرية الرأي أو من يستطيع إعانتي بأي صفة كانت على التمتع بهذا الحقّ. بداهة المانع والمانح هو دوما شخص قد يكون أنت المنتمي إلى هذه السلطة المستبدّة أو ذلك التيّار العقائدي المنافس. لا غرابة في هذا لأنّ الحق ليس مفهوما طوباويا معلّقا في فضاء الرموز وإنما حاجة أساسية للإنسان لا يلبيها ولا يتعرّض لها إلاّ الآخر .هذا ما يجبر القانون على التدخل لفرض ما لم تقبله الإرادة الحرّة. من يستطيع التعرض لحقك أنت في حرية الرأي ... أنا بالطبع أو من هم على شاكلتي الحزبية أو العقائدية بقوّة الحكم إن حكمنا وبشراسة التنافس إن عارضنا. حتى نتمتع أنا وأنت بحق الرأي لا مخرج لنا سوى أن أعترف (بما يترتب على ذلك من مواقف وتصرفات) بحقّك في حرية الرأي (أي بحقّك في مخالفتي ونقدي) على أن تقرّ لي بنفس الحقّ.
بعبارة أخرى، إنّ واجبي ضمان حقك في حرية الرأي، مثلما يشمل واجبك ضمان حقّي في حرية الرأي. توضح هذه القراءة البسيطة التي لم تتجنّى على النصّ في شيء، أن كلّ حقّ واجب شخص أو مؤسسة ما وكل واجب حقّ شخص أو مؤسسة ما، والتفريق بين الحق والواجب ناجم إما عن جهل وإما عن سوء نية وغالبا عن اجتماعهما. يعني هذا أن الإعلان العالمي هو إعلان حقوق الإنسان المظلوم من قبل الإنسان وإذا قرأناه في المرآة هو الإعلان العالمي لواجبات الإنسان الظالم للإنسان.
إن التفريق بين الحق والواجب هو إحدى حيل الاستبداد، يستعملها ليفرض عليك دوما مقايضة تجعل حقوقه أكبر من واجباته وواجباتك لا تحصى ولا تعدّ بالمقارنة مع حقوقك. وفي آخر المطاف فإن التفريق ليس سوى الدخان اللفظي الذي يخفي شكلا أو آخر من الظلم. على العكس من هذا فإن المطابقة بينهما لا تترك للاستبداد منفذا بما أن عدد الواجبات يساوي عدد الحقوق سواء كنت في السلطة أو خارجها. لنتعمّق في هذه الفكرة بتحليل البند الواحد والعشرين من النصّ: ''لكل شخص الحقّ في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده إما مباشرة وإمّا بواسطة ممثلين يختارون اختيارا حرّا وله نفس الحق الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد ، وإن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات حرة نزيهة تجري على أساس الاقتراع السرّي وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت.''
إذا كان كل حقّ واجب وكلّ واجب حقّ ، فإن النصّ لا يقول شيئا آخر غير أنّه من إذا كان من حقّ كل شخص الاشتراك في إدارة الشؤون العامّة لبلده فإن من واجبه الاشتراك في العملية.
إن هذه النقطة محورية في بناء فضاء قيم النظام الديمقراطي لسبب بديهي. فلو أخذنا الإعلان كجملة من الحقوق في المطلق لا ترتبط آليا بالواجبات التي تتمخض عنها ، لرأينا فيه وصفا لمجتمع مثالي من الرعايا ....لكن من الرعايا السعداء. أمّا إذا أخذنا الإعلان بما هو إعلان الحقوق-الواجبات، فإننا سنصف الحالة المثالية لمجتمع مكوّن من المواطنين ....لكن من المواطنين السعداء.
رأينا أن المشرّع العالمي ألمح إلى ضرورة التعريف بهذا النصّ عبر وسائل التربية والتعليم لشدّة علمه أن القيم تولد وتحي وتتطور (ثم تهرم وتموت) داخل العقول والقلوب ...أنّه بقدر ما تتوسّع رقعة الحاملين لها، بقدر ما تتجذّر داخلهم عميقا، بقدر ما تتحوّل إلى طاقة رهيبة تصنع المعجزات.
من البديهي أن أحسن تربة تبذر فيها هي عقول الأجيال المتلاطمة التي تصنع مصير البشرية. لنتصوّر كيف سنقدّم الوثيقة المؤسسة للفضاء المؤسس إلى أطفال لا زالت عقولهم وقلوبهم غضّة طرية تستطيع أن تتشبّع ببذور الورود والشوك. هذا المرجع ليس الوثيقة الأصلية التي اعتمدها المشرّع العالمي يوم 10 ديسمبر 1948 وإنما نسخة منقحة منها، لا تنقص شيئا من الأصل وإنما تزيد من لمعان مجوهرات القلادة. لنسمّ هذا النصّ.....
****



12-الصياغة الأخرى لإعلان 10 ديسمبر 1948

المتحدّث في الصياغة شخص عندما يتعلّق الأمر بالحقوق الفردية وممثل مؤسسة أو دولة وعندما يتعلق الأمر بالحقوق الجماعية. كما أوردنا فعل الالتزام في كل موضع يتحدّد فيه موقف معنوي ذلك لأن المشرّع العالمي يستعمله في المادّة العاشرة لما بما يزخر به من معاني منها الانتباه والاعتبار و الاحترام . كما وضعنا الفعل الذي يحدّد الواجب كلّما تعلّق الحق بموقف عملي. إذن تعاد صياغة النص الذي يجب أن يكون قاعدة نظامنا السياسي المنشود كالتالي.

المادة الأولى
- لي(أنا فلان بن فلان) الحق في أن أصنف من بين جميع الناس الذين يولدون أحرارا متساوين في الكرامة و''الحقوق -واجبات'' ووهبوا عقلا وضميرا وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء.
- عليّ الالتزام بأنّ جميع الناس يولدون أحرارا متساوين في الكرامة و''الحقوق -واجبات '' وأنهم وهبوا عقلا وضميرا وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء.
المادة الثانية
- لي حقّ التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة دون أي تمييز كالتمييز بسبب العنصر واللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو البلاد أو دون تفرقة بين الرجال والنساء.
- عليّ الالتزام بحقّ كل شخص في التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة دون أي تمييز كالتمييز بسبب العنصر واللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو البلاد و دون تفرقة بين الرجال والنساء.
المادة الثالثة
- لي الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصي .
- عليّ الالتزام بحقّ كل شخص في الحياة والحرية وسلامة شخصه.
المادة الرابعة
- ليس لأحد الحقّ في استرقاقي أو استعبادي.
- عليّ ألاّ استرق أ و استعبد أي شخص.
المادة الخامسة
- لي الحق في ألا أتعرّض من قبل أيّ شخص للتعذيب أو العقوبات أو المعاملات القاسية أو الحاطة بالكرامة
- لا أعرّض أي شخص للتعذيب أو العقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة.
المادة السادسة
- لي الحق أينما وجدت في أن يعترف لي بشخصيتي القانونية
- أعترف لكل شخص أ ينما وجد بشخصيته القانونية
المادة السابعة
- لي الحق أن أكون سواسية مع كل الناس أمام القانون و لي ولهم الحق في التمتع بحماية متساوية ضد أي تميز يخلّ بهذا الإعلان وضدّ أي تحريض على تمييز كهذا
- عليّ الالتزام بأن كل الناس سواسية أمام القانون ولهم الحق في التمتع بحماية متساوية ضد أي تميز يخل بهذا الإعلان وضدّ أي تحريض على تمييز كهذا.
المادة الثامنة
- لي الحق في الالتجاء إلى المحاكم الوطنية لإنصافي من أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها لي القانون.
- عليّ الالتزام بحقّ كل شخص في الالتجاء إلى المحاكم الوطنية لإنصافه من أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها له القانون.
المادة التاسعة
- لي الحق في ألا يقبض عليّ أو أن أ حجز أو أ نفى تعسفيا .
- لا أشارك في الّقبض على أي إنسان أو احتجازه أو نفيه تعسّفا.
المادة العاشرة
- لي الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن تنظر في قضيتي أمام محكمة مستقلة نزيهة نظرا عادلا علنيا للفصل في حقوقي والتزاماتي وأي تهمة جنائية توجه إليّ
- عليّ الدفاع عن حقّ كل شخص وعلى قدم المساواة التامة في أن تنظر في قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظرا عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وأي تهمة جنائية توجه إليه .
المادة الحادية عشر
- لي الحق أن أعتبر بريئا من كل جريمة إلى أن تثبت إدانتي قانونيا في محاكمة علنية تؤمن لي فيها الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسي
- عليّ اعتبار كل شخص بريئا من كل جريمة إلى أن تثبت إدانته قانونيا في محاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه.
المادة الثانية عشر
- لي الحق في عدم تدخل الغير تعسفا في حياتي الخاصة وفي شؤون أسرتي أو مسكني أو مراسلاتي أو لحملات تمسّ من شرفي وسمعتي ، ولي الحق في حماية القانون من مثل هذه التدخلات والحملات.
- عليّ عدم التدخّل تعسفا في حياة الغير الخاصة وفي شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته أو شنّ حملات تمسّ من شرفه وسمعته و كذلك الاعتراف بحقه في حماية القانون من مثل هذه التدخلات والحملات.
المادة الثالثة عشر
- لي الحق في حرية التنقل واختيار محل إقامتي داخل حدود كل دولة ويحق لي أن أغادر أية بلاد بما في ذلك بلدي كما يحق لي العودة إليه .
- عليّ السعي إلى أن يتمتع كل شخص بحقه في حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة ومغادرة أية بلاد بما في ذلك بلده وحق العودة إليه.
المادة الرابعة عشر
- لي الحق في اللجوء إلى بلاد أخرى أو محاولة الالتجاء إليها هربا من الاضطهاد ولا أتنفع بهذا الحق إن قدمت للمحاكمة من أجل قضايا غير سياسية أو لأعمال تناقض أغراض الأمم المتحدة ومبادئها.
- عليّ الدفاع عن حقّ كل شخص في اللجوء إلى بلاد أخرى أو محاولة الالتجاء إليها هربا من الاضطهاد على ألا ينتفع بهذا الحق إن قدّم لمحاكمة من أجل قضايا غير سياسية أو لأعمال تناقض أغراض الأمم المتحدة ومبادئه.
المادة الخامسة عشر
- عليّ الالتزام بحقّ كل شخص في التمتع بجنسية ما وعدم حرمانه من جنسيته تعسفا أو إنكار حقه في تغييرها.
- لي الحق في التمتع بجنسية ما ولا يجوز حرماني من جنسيتي تعسفا أو إنكار حقي في تغييرها.
المادة السادسة عشر
- عليّ الالتزام بحقّ كل شخص، رجلا أو امرأة متى بلغ سن الزواج في تأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين وبحقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله وعدم إبرام عقد الزواج إلاّ برضا الطرفين ورضا كاملا لا إكراه فيه اعتبارا لأنّ الأسرة هي الوحدة الطبيعية الأساسية للمجتمع ولها الحق في التمتع بحماية المجتمع والدولة.
-لي الحق رجلا أو امرأة متى بلغت سن الزواج في تأسيس أسرة دون أي قيد بسبب الجنس أو الدين ولي حقوق متساوية عند الزواج وأثناء قيامه وعند انحلاله.ولا يبرم عقد الزواج إلاّ برضا الطرفين ورضا كاملا لا إكراه فيه والأسرة هي الوحدة الطبيعية الأساسية للمجتمع ولها الحق في التمتع بحماية المجتمع والدولة .
المادة السابعة عشر
- عليّ الالتزام بحقّ كل شخص في التملك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره ولا حق لي في تجريده من ملكه تعسفا.
- لي الحق في التملك بمفردي أو بالاشتراك مع غيري ولا حق لأحد في تجريدي من ملكي تعسفا .
المادة الثامنة عشر
- عليّ الالتزام بحقّ كل شخص في حرية التفكير والضمير والدين ويشمل هذا الحق حرية تغيير الدين أو العقيدة وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء كان بمفرده أو مع الجماعة وأمام ملأ أو على حدة.
- لي الحق في حرية التفكير والضمير والدين ويشمل هذا الحق حرية تغيير الدين أو العقيدة وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء كان بمفردي أو مع الجماعة وأمام ملأ أو على حدة.
المادة التاسعة عشر
- عليّ ألا أمنع أي شخص من حرية الر أي والتعبير ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت ودون تقيد بالحدود الجغرافية
- لي الحق في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت ودون تقيد بالحدود الجغرافية .
المادة العشرون
- عليّ الالتزام بحقّ كل شخص في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية وعدم إرغامه على الانضمام إلى جمعية ما.
- لي الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية ولا يجوز إرغامي على الانضمام إلى جمعية ما .
المادة الحادية والعشرون
- عليّ الالتزام بالاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلادي ، إما مباشرة وإمّا بواسطة ممثلين يختارون اختيارا حرّا، وأنّ لي نفس الحق الذي لغيري في تقلد الوظائف العامة في البلاد، قابلا أن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة، ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات حرة نزيهة تجري على أساس الاقتراع السرّي وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت.
- لي الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلادي إما مباشرة وإمّا بواسطة ممثلين يختارون اختيارا حرّا ولي نفس الحق الذي لغيري في تقلد الوظائف العامة في البلاد قابلا أن إرادة الشعب هي مصدر سلطة الحكومة ويعبر عن هذه الإرادة بانتخابات حرة نزيهة تجري على أساس الاقتراع السرّي وعلى قدم المساواة بين الجميع أو حسب أي إجراء مماثل يضمن حرية التصويت.
المادة الثانية والعشرون
- عليّّ السعي إلى أن يتمتع كل شخص بحقه ، بصفته عضوا في المجتمع، في الضمانة الاجتماعية و في أن تحقق له بواسطة المجهود القومي والتعاون الدولي وبما يتفق ونظم كل دولة ومواردها، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي لا غنى عنها لكرامته والنمو الحر لشخصيته.
- لي الحق بصفتي عضوا في المجتمع في الضمانة الاجتماعية في أن تحقق لي بواسطة المجهود القومي والتعاون الدولي وبما يتفق ونظم كل دولة ومواردها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي لا غنى عنها لكرامتي والنمو الحر لشخصيتي .
المادة الثالثة والعشرون
- عليّ السعي إلى أن يتمتع كل شخص بحقه في العمل وفي حرية اختياره وفي شروط عادلة ومرضية و حق الحماية من البطالة وعدم التمييز في أجر متساو للعمل و الحق في أجر عادل مرض يكفل له ولأسرتي عيشة لائقة بكرامة الإنسان تضاف إليه عند اللزوم وسائل أخرى للحماية الاجتماعية وله الحق في أن ينشئ وينضمّ إلى النقابات من أجل حماية مصلحته.
- لي الحق في العمل وفي حرية اختياره وفي شروط عادلة ومرضية كمالي حق الحماية من البطالة وعدم التمييز في أجر متساو للعمل ولي الحق في أجر عادل مرض يكفل لي ولأسرتي عيشة لائقة بكرامة الإنسان تضاف إليه عند اللزوم وسائل أخرى للحماية الاجتماعية ولي الحق في أن أنشئ وأنضمّ إلى النقابات من أجل حماية مصلحتي.
المادة الرابعة والعشرون
- عليّ السعي إلى أن يتمتع كل شخص بحقه في الراحة وفي أوقات الفراغ ولا سيما في تحديد اجر معقول لساعات العمل وفي عطلات دورية باجر.
- لي الحق في الراحة وفي أوقات الفراغ ولا سيما في تحديد اجر معقول لساعات العمل وفي عطلات دورية باجر .
المادة الخامسة والعشرون
- عليّ السعي إلى أن يتمتع كل شخص بحقه في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة والحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته وللأمومة والطفولة الحق في المساعدة والرعاية ولجميع الأطفال حق التمتع بنفس الحماية الاجتماعية سواء كانت ولادتهم في إطار الزواج أو خارجه .
- لي الحق في مستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة والرفاهية لي ولأسرتي ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة ولي الحق في تأمين معيشتي في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته وللأمومة والطفولة الحق في المساعدة والرعاية ولجميع الأطفال حق التمتع بنفس الحماية الاجتماعية سواء كانت ولادتهم في إطار الزواج أو خارجه .
المادة السادسة والعشرون
- عليّ السعي إلى أن يتمتع كل شخص بحقه في التعليم ويجب أن يكون التعليم في مراحله الابتدائية والأساسية على الأقل بالمجّان ويكون التعليم الابتدائي إلزاميا وينبغي أن يعمم التعليم الفني والمهني وأن ييسر القبول للتعليم العالي على قدم المساواة للجميع وعلى أساس الكفاءة ويجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملا وإلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وتنمية التفاهم والتسامح بين الشعوب والجماعات العنصرية والدينية وإلى تعزيز مجهود الأمم المتحدة لحفظ السلام وللآباء الحق الأول في تربية أولادهم .
- لي الحق في التعليم ويجب أن يكون التعليم في مراحله الابتدائية والأساسية على الأقل بالمجّان ويكون التعليم الابتدائي إلزاميا وينبغي أن يعمم التعليم الفني والمهني وأن ييسر القبول للتعليم العالي على قدم المساواة للجميع وعلى أساس الكفاءة ويجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملا وغلى تعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية وتنمية التفاهم والتسامح بين الشعوب والجماعات العنصرية والدينية وإلى تعزيز مجهود الأمم المتحدة لحفظ السلام وللآباء الحق الأول في تربية أولادهم .
المادة السابعة والعشرون
- عليّ السعي إلى أن يتمتع كل شخص بحقه في الاشتراك اشتراكا حرّا في حياة المجتمع الثقافية وفي الاستمتاع بالفنون والمساهمة في التقدم العلمي والاستفادة من نتائجه و الحق في حماية المصالح الأدبية والمادية المترتبة على إنتاجه العلمي أو الفنّي أو الأدبي.
- لي الحق في الاشتراك اشتراكا حرّا في حياة المجتمع الثقافية وفي الاستمتاع بالفنون والمساهمة في التقدم العلمي والاستفادة من نتائجه ولي الحق في حماية المصالح الأدبية والمادية المترتبة على إنتاجي العلمي أو الفنّي أو الأدبي.
المادة الثامنة والعشرون
- عليّ السعي إلى أن يتمتع كل شخص بحقه في التمتع بنظام اجتماعي ودولي تتحقق بمقتضاه الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققا تاما
-لي الحق في التمتع بنظام اجتماعي ودولي تتحقق بمقتضاه الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققا تاما .
المادة التاسعة والعشرون
- لي ولكل فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيتي أن تنمو نموا حرا كاملا.
-لا أخضع ولا أخضع في ممارسة حقوقي وحرياتي إلا لتلك القيود التي يقررها القانون مستهدفا لأمنها منها ضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها لتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي و لا يصح بحال من الأحوال أن تمارس هذه الحقوق ممارسة تناقض مع أغراض الأمم المتحدة ومبادئها .
المادة الثلاثون
عليّ مثل على كل شخص آخر الاعتراف بأنه '' ليس في هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخوّل لدولة أو جماعة أو فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه '' .
*
لنقلب النصّ الآن نتساءل هل يفي حقا بالغرض أي قدرة تحمّل هيكل مؤسسات ديمقراطية فعّالة وقادرة على تحمّل كلّ الهزّات الناجمة عن غليان قيم الغريزة في الأعماق المظلمة.
إنّ النصّ، على جرده الشامل لكلّ الفضائل الضرورية لنظام سياسي سليم، شبيه بقانون طرقات تقرأ فيه : لك الحق في المرور في الضوء الأخضر، عليك التوقف في الضوء الأحمر...لك الحق في المجاوزة، عليك في هذه الحالة وضع الإشارة الضوئية للتنبيه الخ. ثمّة أوجه شبه كثيرة بين الإعلان والقوانين المنظمة للسير لأن بنود النصّ ترسم مسار الطريق وتضع علامات المنع حتى لا يختلط الحابل بالنابل وتصطدم المصالح بالمصالح وتعمّ فوضى شبيهة بتلك التي نعرفها أوقات الزحمة وتعطّل الأضواء وإصرار البعض على المرور قبل غيرهم. صحيح أنّ هذا عالم تتقلّص مساحته يوما يعد يوم و أصبحنا فيه البعض فوق البعض. هو بحاجة إلى قانون واحد ينظم حركة الطيران و إلا تساقطت كحجارة من سجّيل طائرات لا تتبع إلا قانونا خاصا فوق سماء كل دولة لا تتكلم إلا لغتها. هو بحاجة أيضا إلى قانون وقيم عامة تمكّن من تنظيم العلاقات بين كلّ الحضارات. معنى هذا أن انخراطنا في قيم الإعلان هو مثل انخراطنا في قانون الملاحة الجوية الدولي . لكن حتى ولو سلّمنا بضرورة أن يكون النص بمثل هذا التوجّه، فإنه لا يغيب عنّا أن المستعمل للطريق العام يستطيع الانصياع لكلّ هذه التعليمات بالوقوف مثلا في الضوء الأحمر وهو يزفر من الغيظ أو يتجاوز السيارة التي تسبقه بوضع الإشارة الضوئية وهو يصبّ لعناته على السائق الآخر لأنه أضاع له بعض الثواني. ومن نافلة القول أن مثل هذا المستعمل لن يتورّع رغم فهمه لأهمية قانون الطريق من التعدّي عليه كلما سنحت فرصة تحقق له مصلحة صغيرة لا ينجرّ عنها أي عقاب. معنى هذا أن قائمة الحقوق –الواجبات للإعلان قيم إجرائية تسهّل على المجتمع تنظيم حركته لكنها قابلة للخرق لغياب عنصر أساسي في كل القيم المؤسسة : العنصر الروحي.
لنعد قراءة النص منقبين فيه عن المشاعر التي يجب أن تسند المواقف والتصرفات التي نترجم بها حقوقنا وواجباتنا. هي غائبة تماما باستثناء إشارة عابرة في البند الأول ( وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء) فلا ذكر لكلمات المحبة الرحمة والشفقة والأثرة والتضحية وحتى الإنسانية. بداهة لا يعقل أن يغفل المشرّع العالمي، وهو عصارة أحسن ما يوجد من الأدمغة البشرية، عن حقيقة ببساطة أنه لا دوام ولا قوّة لقيم إجرائية لا تتجذّر في القيم الروحية. كيف يمكن تفسير غياب بمثل هذه الخطورة ؟ نحن في الواقع أمام إحالة وليس أمام غياب أو تغييب.
إن المشرّع العالمي، بحكم تواجده في نقطة تلاقي حضارات وعقائد ونظم سياسية مختلفة وأحيانا على حافة الحرب، غير قادر وغير مؤهّل للاختيار بين قيم روحية تتلاقى في الأصل لكنها تختلف في طرق التعبير. وحيث أنها في الأساس واحدة فإنه يتصرّف على قاعدة إحالة كل حضارة أو ثقافة أو دين إلى قيمه الروحية لتكون الأرض الخصبة التي تغرس فيها القيم الإجرائية . معنى هذا أن المجتمع السليم الذي نصبو إليه هو الذي تتجذر فيه قيم حقوق الإنسان في القيم الروحية للإسلام (أو للمسيحية أو البوذية الخ ) . إنّ القيم الإجرائية دون الروحية جسد بلا روح ، والقيم الروحية دون الإجرائية روح بلا جسد.
ها هي إذن القيم الإجرائية بالمستوى الروحي المخفي التي سنبني عليها فضاء المهامّ والأهداف السياسية لنظامنا المنشود. بالطبع نحن أشدّ الناس وعيا أن ترسيخها في العقول والقلوب هي قضية زمن الأجيال وليس زمن الأفراد، أنه لا شيء يضمن نجاحها أو استمرارها إن تمكنت يوما، لأن الجزء الحيواني المظلم بقيمه باق فينا هو الآخر ابد الدهر. لكننا نعلم أصدق العلم أيضا أن هذه القيم هي الردّ الأسلم لمتطلبات بقاء الجنس البشري وتطوّر الحضارة الإنسانية وتقدم الأمة ... أننا نركب موجة عارمة من القوى العاملة على ترسيخها .... إنها مسألة وقت ومثابرة وصراع طويل.
هذه القناعة وحبّ رفع التحدّيات وتوق الإنسان إلى العلى، هي مصدر الطاقة التي ستجعلنا نواصل حلما نترجمه إلى أفعال وأفعال تستمدّ قوتّها من قوّة الأحلام التي يحلم بها العقل الجماعي عبر المثقف والسياسي والمناضل والفنّان رجل الشارع وكلّ الأشكال والمظاهر التي يتخذها أداة وقناعا.
***



13-التخصيب لا الغزو الثقافي .
ثمة السؤال الملحّ دوما حول قابلية مثل هذا النصّ للاندماج في المنظومة القيمية المتقدمة عليه لأننا لا نزرع في أرض بكر وإنما في أرض حرثها التاريخ على امتداد خمسة عشر قرن وزرع فيها الشوك والورود. لا بدّ أن يكون واضحا بالنسبة لدينا أن النصّ ليس جزءا من الغزو الثقافي الذي نتعرّض لها حسب منظري الاستبداد القومي أو الديني. بالعكس هو غنيمة فزنا بها لما خرجنا للعالم الواسع نبحث فيه عمّا يمكن أن يثرينا. يجب اعتباره بمثابة مياه نهر حولناها بقوة العزيمة لتصب في مجرى نهرنا الذي نضبت منه المياه وأصبح عاجزا عن سقي الصحاري التي صنعناها بأنفسنا. لكن هذه الفكرة ما زالت جدّ بعيدة عن الاستقرار بأمان في كلّ العقول والقلوب.
سنة 1986 ، نشبت في تونس معركة شرسة حول تدبيج ميثاق الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، بين الديمقراطيين والإسلاميين حيث تبيّن وجود اختلاف جذري بين أربعة مواد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والشريعة التي كان الإسلاميون يرفضون دخول الميثاق في أدنى تناقض معها
لقد تمحورت الاختلافات حول حقّ المعتقد (ومنه حق تغيير الديانة) وحرمة الجسد (أي قضية الحدود) والمساواة التامة بين الرجل والمرأة (ومن بينها حق المسلمة في أن تتزوج بغير المسلم و المساواة في الإرث) وأخيرا المساواة بين الأطفال ولدوا من الزواج أو خارجه وحقهم في التبنّي.
يومها قامت القيامة. فقد أصرّ جزء كبير من الديمقراطيين على ليّ ذراع الإسلاميين وإجبارهم على الاعتراف ببنود تتنافى مع معتقداتهم وجعلوا – ولا يزالون – من الأمر الشرط الضروري لقبولهم في نادي الحقوقيين والمؤلفة قلوبهم ديمقراطيا. وفي الاتجاه المعاكس حاول الإسلاميون قدر جهدهم إبطال تبني هذه البنود لكن عبثا. وعلى مرّ الأسابيع تراشقت الأطراف بالشتائم والاتهامات دون أن تعي بمدى سخافة كل الصراع بالقياس للمشاكل الحقيقية للنساء والرجال في تونس في تلك الفترة. فلم يكن هناك من يتظاهر يوميا مطالبا بقطع الأيدي والرؤوس بعد صلاة الجمعة. أمّا عدد التونسيات المقدمات على الزواج بغير المسلمين فكان ولا يزال لا يكاد يذكر، ولم يكن هناك من يعارض التبني. وفي الواقع كان هدف المعركة إظهار كل طرف لقوّته ولو على حساب تكوين جبهة متحدة ضدّ الانتهاكات الخطيرة التي كان المجتمع يتعرض إليها في ظلّ نظام بصدد الانهيار وعشيّة وقوع البلاد في قبضة نظام بوليسي لم تعرف له تونس مثيلا من قبل.
هكذا تطوّر الصراع الفكري السياسي من مقاومة الاستبداد إلى معركة ثانوية ومبذرة للطاقات بين أصوليتين، الأولى ترفض الدين باسم الديمقراطية والثانية ترفض الديمقراطية باسم الدين، كل هذا في خسارة تامة للديمقراطية وللدين على حدّ السواء.
وقد استعمل الاستبداد بمهارة هذا الخلاف ليقنع جزءا مهمّا من التيار الحداثي المتمثّل في الطبقات الوسطى خاصّة، أنّ الخطر الأصولي هو العدوّ والترتيب المنطقي هو أن تركّز على العدوّ لا على الخصم. لذلك دخل بعض الديمقراطيين في حكومة الدكتاتور، معتبرين إن النظام حارس للحداثة ولو ببعض الغلظة والتجاوزات التي يمكن تطويرها بالصبر لنوع ما من الديمقراطية الممنوحة. رأينا هذا التوجّه أيضا في موقف '' الديمقراطيين '' الجزائريين سنة 1991. فباسم الدفاع عن ديمقراطية نظريّة، تمّ تأييد الانقلاب عليها والتنكّر لقوانينها. وباسم الحفاظ على ما لم ولن يوجد، تمّ الانخراط في لعبة سياسية قذرة قادتها نخب فاسدة ومتوحشة كلّفت الجزائر ما كلّفت. كان الموقف خطأ لأنه كان بذكاء أم تخنق طفلها كي لا يصاب بالزكام. كان خطيئة لأنّه ضرب مصداقية الديمقراطية في الصميم. وكانت النتيجة المعروفة لهذه السياسة العصماء تعمّق الاستبداد وتفاقم الخطر الأصولي وضياع شرف هؤلاء الديمقراطيين وفقدان الديمقراطية جزءا من هيبتها أمام الرأي العامّ.
إن ما لم يفهموه أن موقفهم لم يكن مدفوعا بتشبعهم بالديمقراطية بقدر ما كان متشبّعا بإيديولوجية أخرى هي اللائكية.
ثمة دوما خلط متواصل بين العلمانية واللائكية والإلحاد، لذلك لا بدّ من توضيح مصطلحات مستقلّة
ليس بينها ترابط آلي. فالإلحاد موقف فلسفي ينفي وجود الله، واللائكية خاصية تاريخية ثقافية سياسية فرنسية ترتكز على رفض أي دور سياسي للدين وتفصل العلاقة بين الكنائس و الدولة أمّا العلمانية فموقف فكري لا علاقة له بالإلحاد أو اللائكية وإنما يؤمن بقدرة العقل على فهم ظواهر العالم وخيار سياسي يدعو إلى تمكين المجتمعات العربية المعاصرة من العيش تحت قوانين وضعية ترتكز على مبادئ حقوق الإنسان والنظام الديمقراطي وإن اختلفت عن القوانين التي سنّت في القرن الأول للهجرة تحت اسم الشريعة لتسيير شؤون مجتمعات زراعية وبدوية لا علاقة لها بمجتمعات هذا العصر.
المهمّ أن من رموا أنفسهم في أحضان الدكتاتورية خلطوا بين الديمقراطية واللائيكية بل جعلوا منهما جسما واحدا والحال أن هذه الأخيرة تجربة تاريخية ثقافية فرنسية محض وليست حتّى غربية. هي نتاج ظروف محلّية في فرنسا جعلت الزواج بينها وبين الديمقراطية شرعيا وحتى ناجحا لتضافر شروط ثلاثة يتميّز بها تاريخ هذا البلد.
1-كان الدين ممثلا بالأساس في كنيسة كاثوليكية تحالفت على امتداد التاريخ مع الإقطاع والملكية،
مما جعل منها إلى عشيّة الثورة آخر الإقطاعيات التي لم يقع تصفيتها. كما كانت بتعصبها وحربها ضدّ التنوير (كما ظهر ذلك في محاكم التفتيش و اضطهاد غاليلي وجيوردانو برونو وغيرهم) ركيزة أساسية من ركائز الاستبداد.
2-كان القضاء على سلطانها المدخل الوحيد لتحقيق إحدى أهمّ قيم الثورة الفرنسية وهي المساواة. فالسبيل الوحيد لتحقيقها في شعب تنتمي فيه الأغلبية للكاثوليكية والأقلية للبروتستينية أو اليهودية (واليوم للإسلام)، يمرّ إجباريا بتحييد العنصر الديني وبناء المواطنة على قانون وضعي وتضمنه دولة منفصلة عن أيّ دين.
3- كانت الكنيسة الكاثوليكية جسما سهل التحديد بما هي هيكل فيه تنظيم وسلطة مركزية وأملاك. هذا الجسم الواضح المعالم والممثل لكل الكاثوليك، هو الذي جعل ممكنا إبرام المعاهدات معه ومنها عقد الطلاق مع طرف محدّد المعالم واضح الحدود هو الآخر أي الدولة.
لكن هذه العوامل مفقودة تماما بل ومعكوسة في واقعنا. فالإسلام كان غطاء الاستبداد ولكنّه كان ولا يزال أيضا راية الثورة ضدّه. كما أنه لا يوجد في حضارتنا جسم واضح المعالم شبيه بالكنيسة الكاثوليكية يمكن الانفصال عنه. فالإسلام، وخاصة السنّي، مثل ضباب الغابة عند طلوع الفجر.هو في كل مكان ولا من مركز له، لذلك تستحيل عملية طلاق على الطريقة الفرنسية. وأخيرا وليس آخرا فإن الإسلام، وليس الدولة، هو الذي كان ولا يزال، الضامن الكبير للمساواة بين الأشخاص والأعراق والجهات، حتى وإن كانت المساواة بين الجنسين دون المستوى المطلوب والضروري. أضف إلى هذا أنّه العنصر الأساسي في تكوين الهوية الوطنية. ما الحكمة إذن في نقل تجارب ليست تجاربنا وفرضها علينا لإعادة نتاج مسخ مشوّه ليس من تاريخنا ؟
قد يحتجّ عليّ البعض بالقول أن المواطنة هي أيضا مثل اللائكية فكرة مستوردة من نفس التاريخ الفرنسي بل ومن أبعد منه. فلماذا نقبل هذه ونرفض تلك ؟ لا أسهل من دحض هذا الاعتراض فالمواطنة حجر الزاوية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهو إعلان صاغته كل الخصوصيات الحضارية منها خصوصيتنا. أضف إلى هذا أنها ليست مثل اللائكية الفرنسية وسيلة لتحقيق أهداف نختلف عليها وإنما هدف لا اختلاف حوله لأنه مطمح البشر في كلّ زمان ومكان.
المهمّ أنّ الخلط بين واقعين متباينين ومحاولة فرض رؤية تاريخية على وضعية مختلفة وحتى متناقضة أدّى إلى ظهور هذا النمط الغريب من الديمقراطيين الذين يرقصون فرحا لإلغاء أول انتخابات نزيهة في تاريخ بلادهم أو يخدمون أنظمة الفساد والتعذيب.
لا بدّ أن نقول للاّئكيين المتشدّدين، بعد الرثاء لعمق اغترابهم، أنه إذا كان لهم مشاكل مع الإسلاميين فليكن ذلك تحت راية تبتلهم في محراب اللاّئكية وليس باسم الديمقراطية كما يفعلون. وإن كان للإسلاميين مشاكل مع اللاّئكيين ، فعليهم التفريق بين ايدولوجيا فرنسية اعتنقها جملة من المستغربين والديمقراطية كقاعدة لعبة سياسية ليس لها مشكل مع أي دين طالما لم يشكّل غطاءا للاستبداد.
لقائل أن يقول أن مثل هذا الكلام يلغي الصعوبة الأساسية وهي تنظيم العلاقة بين الديمقراطية بما هي منظومة فكرية وأخلاقية وليست فقط آليات سياسية، مع دين ليس مجرّد طقوس وإنما منظومة فكرية أخلاقية تريد أن يكون لها آلياتها السياسية.
إننا ضحايا تمويه خبيث عندما نقبل بتسمية الأشياء كما تقدّم لنا وكأن الدين والديمقراطية كائنان موضوعيان لهما حدود واضحة وخصائص قارّة و يتخاصمان مثل ديكان غيوران كلّ على فضائه. إنّ الإسلام هو المسلمون على مرّ العصور وعلى اختلاف مللهم ونحلهم والديمقراطية هي الديمقراطيون بمختلف مدارسهم. نفس الشيء عن الدولة. فلو حلّلنا من هذا المنظور ما هي الدولة لاكتشفنا أنها البيروقراطية المتشكّلة في تونس من 380 ألف موظّف أعلاهم رتبة رئيس الدولة وأقلها عون البلدية المكلّف بتنظيف الشوارع.
أيّ وجود للإسلام لو تبخّر المسلمون وما معنى مسيحية لا يعتنقها أحد ؟ هؤلاء البشر لهم وضع ودور من منظور علم الاجتماع والتاريخ والفلسفة الخ، أمّا بالنسبة للسياسة فالمسلمون:
- تقليديون يقتصر الدين عندهم على الإيمان بجملة من المعتقدات وممارسة جملة من الطقوس يحكمون على أي نظام بمدى احترامه لعقيدتهم وتلبية مطالبهم الاجتماعية.
- متصوفون هاجروا من الدنيا ومشاكلها ولا علاقة لهم بالصراع السياسي بتاتا.
- مفكّرون وباحثون وأئمة مهمتهم المحافظة على الأسس ونقلها إلى الأجيال المتلاحقة.
- مسيّسون يريدون توظيف جهاز الدولة للتعامل مع مشاكل المجتمع وفق رؤية عقائدية.
من المجحف إذن الحديث عن إشكال بين الدين في المطلق والديمقراطية في المطلق. فالمشكل الوحيد القابل للدرس هو علاقة الديمقراطيين بالإسلاميين في زمان ما ومكان ما، وعلى وجه التحديد علاقة فصائل مختلفة من الديمقراطيين بفصائل مختلفة من الإسلاميين. إنّ الصراع الفعلي هو بين أشخاص وتيارات سياسية تتنازع على السلطة السياسية والمعنوية بالسعي للسيطرة على أهمّ جهازي داخل المجتمع لممارسة هاتين السلطتين أي جهاز الدولة وجهاز الدين. إنّ ادّعاء الأطراف المتنازعة تمثيل الدين أو الديمقراطية جزء من الحرب وليس جزءا من الحقيقة.
لقد نسي مثلا الديمقراطيون والإسلاميون في خلافهم حول ميثاق الرابطة أن الخلاف النظري كان حول أربعة بنود من ثلاثين، بينما الاتفاق بين النظريتين حاصل في ستّة وعشرين بندا، منها كلّ التي تتعلّق بآليات النظام الديمقراطي من حرية رأي واجتماع وتنظّم واستقلال القضاء وهي المطالب الحقيقية للمجتمع. هذا الاتفاق، ستة وعشرون مرّة، هو الذي يجب أن يغلّب وليس الاختلاف أربع مرّات بخصوص مواضيع كانت إمّا مجمّدة وإمّا ستسقط بمفعول الزمن أو ستجد لها حلاّ ما.
إن تغليب خيار التنازع حول أربعة بنود بدل الاتفاق حول ستة وعشرين أو العكس، موقف سياسي تتخذه أطراف متصارعة حسب موازين القوى ولا علاقة له بأمر صادر من الإسلام ككلّ أو الديمقراطية ككلّ.
لا بدّ أن يذكّرنا أحد هنا بالحجّة المألوفة أن الإسلام لا يفصل بين العبادة والسياسة (لنترجم أن الإسلاميين وحتى المسلمين لا يفصلون بين العبادة والسياسة). ومن منظور الديمقراطية فإنه لا أحد يطالبهم بعدم ممارسة السياسة أو ألا تكون مواقفهم السياسية متطابقة مع عقيدتهم. كلّ المطلوب منهم أن يكون نشاطهم السياسي باسم السياسة وليس باسم دين يشاركهم فيه المتصوفون والتقليديون والمفكرون واللامبالون وأن يتمّ في الساحة التي توفّر نفس الفرص للجميع، لا داخل الكتاتيب أو المدارس أو المساجد .
إن توظيف حزب ديني للمساجد كمنبر لمواقفه هو''مونوبول '' غير شرعي بخطورة ''المونوبول'' الإعلامي التي تحاول الليبرالية المتوحشة فرضه عبر تملّكها كبرى وسائل الاتصال. هو عنصر غشّ في لعبة لا تحتمل الغشّ.
الثابت أن الاستبداد يولّد علاقة مرضية بين طرفين يسعى كل واحد للسيطرة على الآخر.هذه العلاقة هي التي تستطيع الديمقراطية حلّها لا بإعلان طلاق غير مفهوم أو ممكن،وإنما بسنّ قواعد تعامل سليمة بين الأطراف السياسية ذات المرجعية الدينية وذات المرجعية العلمية قوامها الاستقلال وليس الاستغلال، التنافس الشريف وليس الصراع المدمّر.
وفي إطار العقد الديمقراطي، على الأطراف السياسية ذات المرجعية الإسلامية أن تقبل أن دور الدولة الديمقراطية هو حماية حقّ المعتقد لكلّ السكّان، ليس فقط للمسلمين أو للإسلاميين، أنها الضامن لحقوقهم الثقافية والسياسية والمساواة التامة، أنه لا سبيل لقبول أي ممارسة تتخذ من الدين حجّة للتعرّض للحقوق والحريات الديمقراطية. إنّ مسؤولية النظام الديمقراطي تتمثل في ضمان الحريات للجميع دون وصاية أو إقصاء وحماية عقيدة الأغلبية، مثل كلّ العقائد من أيّ استنقاص ووتخصيص نصيب من المال العامّ للمساجد دون توظيف الأئمة بالمعنى المادّي والسياسي. أن مثل هذا العقد ينهي الخلل الكبير الذي رعاه الاستبداد دوما والذي يجعل من الدولة رهينة لطائفة والدين رهينة لطائفة أخرى، معيدا بهذا الدين والدولة أخيرا للجميع.
يجب أن ينطلق موقف الديمقراطيين من الإسلام من كون الديمقراطية لا تريد نفسها بديلا لمعتقدات هذا أو ذاك ولا تتعارض مع مبادئ الدين وأهدافه . هي تبحث عن الصيغ التي تمكّن كل المكونات المتباينة للمجتمع من العيش بسلام في ظلّ اختلاف باق إلى قيام الساعة.
لنذكّر مجدّدا أن طرافة الديمقراطية ليست في قيم تتقاطع مع قيم الكثير من المدارس الفكرية والسياسية وإنما في القواعد التي تضعها للعبة السياسية . معنى هذا أنها محايدة أيدولوجيا إذ تستطيع أن تتحمّل أي مشروع شريطة ألا يكون استبداديا . لذلك نرى باطراد أذكى العقائديين يتوجهون للديمقراطية يسعون لتوظيفها في البداية ثم يقبلون بشروطها وينخرطون بطول المدة في صيرورتها . هذا ما يجعل اليوم الخط الفاصل بين الديمقراطي وغير الديمقراطي لا يمرّ بين ديمقراطي متبتل في محراب الديمقراطية الإجرائية وبين ايدولوجي متعصب . هو يمرّ أكثر فأكثر بين ديمقراطي- ديمقراطي معتدل ولائيكي متعصب ، بين ديمقراطي إسلامي وإسلامي غير ديمقراطي ، بين اتحادي ديمقراطي ووحدوي استبدادي ، بين شيوعي ديمقراطي وبين تلميذ الرفيق يوسف ستالين.
المواجهة إذن هي اليوم بين ديمقراطيين يحملون مشاريع ايدولوجية مختلفة وقابلون بقواعد اللعبة لتمرير مشاريعهم وعقائديون لا يعترفون أصلا بها .
ومن هذا المنظور لا أبعد عن الديمقراطية ومنطقها من موقف الاستئصاليين أو أصحاب الدعوة إلى '' ابارتايد'' سياسي يتم بموجبه قبول حق الإسلاميين في الوجود( خاصة وقد فرضوه) لكن بعزلهم وعدم التعامل معهم وكأنهم مصابون بالجذام السياسي . فأي ديمقراطية هذه التي يريدون والحال أن مبدأها الأساسي هو أن يكون الصراع الحضاري بين أعداء حقيقيين و إلاّ هرب الطرف الذي نريد جرّه للحرب السلمية إلى السلاح. إنها الديمقراطية المزيّفة التي يريد الاستبداد تسويقها بعد أن استعصى عليه الوقوف في وجه المدّ الجارف لكنها شبيهة بمباراة كرة قدم، تقع لا بين فريقين متنازعين على الكأس، وإنما بين نفس الفريق (بعد الاتفاق المسبق على اقتسام ثمن الكأس واستبعاد فريق أجنبي من اللعب ).
يدّعي غلاة الاّئكية عن جهل أو سوء نية أن الإسلاميين كتلة واحدة لا تشقّ وليس فيها تيارات أو تناقضات. بل ثمة من يؤمن داخل التيار (والكثير منهم لهم ماض ثقيل في معاداة الديمقراطية) بأن كل مسلم متديّن إسلامي وكلّ إسلامي إرهابي. وهذا كلام له من الوجاهة ما لقول أحدهم في الستينات من القرن الماضي أن كل روسي شيوعي وكل شيوعي من الخمير الحمر.
على العكس من هذا، تبرز القراءة السياسية للظاهرة أن الإسلام السياسي طيف بالغ التعقيد يمتدّ حسب المجتمعات والظروف التاريخية من أقصى التشدّد والتخلّف إلى أقصى المرونة والتفتّح مرورا بالكثير من الحالات الوسطية المتداخلة. هذا ما يسمح ب''تسويق '' الديمقراطية إلى وسط الطيف الإسلامي الذي لا يرفضها مبدئيا. وفي هذا الوسط يمكن أن يقع التلاقي بين الديمقراطية والإسلام لتشكيل الحلّ الوحيد أمام تواصل أو تجدّد آفة الاستبداد. لكن الخوف من وصول الإسلاميين غير الديمقراطيين للحكم وإلغاء الآليات التي أوصلتهم للسلطة كما فعل هتلر خطر حقيقي. لكن التعامل معه لا يكون بالأسلوب الجزائري. إن سبب انتصار جبهة الإنقاذ كان نتيجة شعار ''أي شيء ولا النظام الحالي''وليس عمق تشبع الشعب الجزائري بالأطروحات الإسلامية. وثمة شكّ كبير في انتصار الإسلاميين السودانيين اليوم في انتخابات حرّة وقد أصبحوا هم حملة مشعل الاستبداد. لنتصوّر أنه سمح للإسلاميين بالحكم بعد انتخابات 1991وانتصارهم فيها. ما من شكّ أنه كانت ستوجد قوى مجتمعية هائلة، ومنها الجيش، لمنع أيّ انزلاق يقود إلى إلغاء الحريات التي أوصلت الإسلاميين للحكم. وحتى ولو حصل هذا، فإن الجزائر كانت ستجرّب مثل السودان اليوم، فترة من الاستبداد الإسلامي تنهي إلى الأبد فكرة ''الإسلام السياسي هو الحلّ'' وتنضج التجربة الديمقراطية، بينما دفعت البلاد مائتي ألف قتيل للمراوحة في نفس المكان وحتى للغرق في مستنقع لا نعرف إلى اليوم عمقه وحدوده. وأمام خيارات صعبة يجب أن تبقى المبادئ هي التي ترسم الطريق أيّا كانت الظروف. فإن لم يكن الديمقراطيون هم حرّاس قواعد اللعبة فمن يكون الحرّاس؟ إن ترك قواعد الديمقراطية تقوم بدرها في كل الظروف هو الرهان الرابح الوحيد أخلاقيا وسياسيا بالنسبة للديمقراطيين. فإن فشل الإسلاميون في إدارة شؤون الحكم، تبيّن لهم وللجميع أن الإصلاح ليس بالبساطة التي تصوروها، أنه أعقد من تطبيق وصفات جاهزة طبقت كم من مرة فلم تزد طين التخلف إلا بلّة. وإن نجحوا وانخرطوا في آليات اللعبة الديمقراطية فهذا نصر يحسب بالأساس للديمقراطية التي تكون قد وسّعت بهذا قاعدتها وأدمجت شرائح جديدة، لأنه بقدر ما تتوسّع دائرتها بقدر ما تقوى وتتجذّر.
خارج هذا العقد ، واجب الديمقراطية أن تدافع عن نفسها. هي ليست نعجة تسلم عنقها لمن يريد أن يذبحها لكن لا يجب أن تكون الذئب الذي يحارب الذئاب بأساليب الذئاب. إن معالجة كلّ تهديد يأتي من جماعات عنيفة لا يجب أن يخرج عن قيم الديمقراطية وقواعدها أيا كانت خطورة التهديد والضربات الموجعة التي يمكن أن تتلقاها الديمقراطية. فهذا الموقف الأخلاقي هو في آخر المطاف الموقف السياسي الأسلم وعلى الديمقراطية أن تبقى دوما ذلك الفيل النباتي المسالم الذي له من القوّة ما يكفي لفرض سيطرته على الكواسر. معنى هذا أنّ على الديمقراطية أن تتصدّى لكل تيار أصولي معادي وعنيف لا بصفته تيارا دينيا وإنما بصفته تيارا استبداديا. إنه من الضروري جدّا أن يتموقع العامل الديمقراطي، الذي نحاول زرعه في محرّك متعدّد الأبعاد، نأمل أن يدفع الأمة إلى الأمام، بحيث لا يكون في صراع مع العروبة والإسلام، و إلاّ فإن الديمقراطية ستكون جزءا من مشكل جديد لا جزءا من حلّ المشكل القديم.

***

14-أهداف التأسيس
''قبل أن تطلب الفضائل من الناس، تأكّد أنهم غير جائعين ''
دستويفسكي

لو سألت أي شخص عن الوظيفة الأساسية للديمقراطية لتباينت الأجوبة مع شبه إجماع على استعمال جملة من الاصطلاحات مثل سيادة الشعب، تمثيل، انتخابات حرّة ونزيهة الخ. إنه الخلط الكلاسيكي بين الآليات والأهداف التي تخدمها.
يعطينا عالم الاجتماع الأمريكي ''ألفين طوفلر ''(1) مثالا معبّرا عن هذا الخلط. لو سألت الناّس عن مرامي المدرسة فإن الردّ سيكون التربية والتعليم من أجل خلق إنسان متشبّع بالقيم والمعلومات حتى يندمج في المجتمع الخ...
يقول طوفلر أن كل هذا صحيح لكن هناك الأهمّ أي المرمى الحقيقي للتربية والتعليم. نحن لا نفهم المدرسة حسب رأيه إن لم نضعها في سياقها التاريخي وبالأساس ظهورها في غرب القرن التاسع عشر كإحدى تداعيات أهمّ حدث وقع آنذاك: الثورة الصناعية. لقد كانت الوظيفة الأولى للمدرسة في الواقع إعداد أطفال الفلاحين للاندماج في المصانع. ولأنه من الضروري لاندماجهم الناجح في المصنع تعلم العمل الجماعي والتعرّف على سلّم السلطة والتنافس على مرضاتها، فقد تهيكلت المدرسة على غرار المصنع بمدير عامّ ومدراء أقسام وفرق عمل هم التلاميذ. هكذا كلف التعليم بمدّ آلة الإنتاج بما تحتاجه من عمّال مهرة من مختلف المستويات العلمية وخاصّة بأناس استوعبوا ما يتطلبه العمل الصناعي من انضباط مثل الحضور في ساعة محدّدة وتقسيم الوقت إلى وحدات مضبوطة يتمّ أثناءها تأدية أعمال محدّدة ومجزّأة. إن الشبه الكبير بين المدرسة والمصنع (وبينه وبين المستشفى العصري) ليس وليد الصدفة. فالمدرسة أيضا مؤسسة، تقودها سلطة هرمية ،تتعامل مع مادّة خام اسمها التلاميذ تدخل من باب و تخرج من باب آخر بعد إعادة تشكيلها وفق مواصفات معينة لتأدية مهامّ معينة. معنى هذا أن تعليم القراءة والكتابة وقيم الدين والدولة، لم يكن الهدف وإنما الأداة أمّا الوظيفة الأولى فكانت ولا تزال تربية الناشئة على خدمة نظام اقتصادي معيّن وإعداد الكفاءات لتشغيل وسائل الإنتاج فيه على أحسن وجه.
السؤال ما هي المهمّة المخفية للديمقراطية التي تغطّي عليها آليات في خدمتها؟ هنا أيضا لا بدّ من منهجية تعود إلى التاريخ وتسأله عن النوايا العميقة لمن فتحوا الطريق والمنافع التي أرادوا جنيها من ظاهرة أصبحنا نختزلها في بعض أدواتها الثانوية.
السلم بدل الحرب
لو عدنا لظهور الديمقراطية في أثينا القرن الخامس قبل الميلاد لاكتشفنا تزامنها مع تزامن ظهور فكرة المواطنة بل قل بناءها على هذا المفهوم. هذه المواطنة هي ثمرة اتفاق بين أقليات نافذة على مبدأ التعامل بينها على قاعدة المساواة في الحقوق والواجبات في كل الميادين التي تهمّ الشأن العامّ. لكن وصول الأطراف المتعاقدة لفكرة المساواة هذه، لم يتمّ نتيجة نور قذفه الله في الصدور أو بعد دعوة فاضلة من قبل نبيّ ما فرض سيادة الأخلاق على سباع مفترسة شدّت لبعضها البعض. لقد حصل الاتفاق لأن المحافظة على سيادة الأقلية والتداول عليها بالقوّة، أنهكت قوى الجميع بما يتطلبه الأمر من حرب لا تضع أوزارها أبدا. هذه الحرب الأزلية التي لا يوجد فيها إلا رابح مؤقت ومهدّد دائم، أقنعت الجميع بأن الحلّ الوحيد للخروج من المأزق الدموي هو وضع قواعد تعامل جديدة تضمن توزيع المواطنة وليس الاستفراد بها. أضف إلى هذا أن مجتمعا متضامنا كهذا يوفّر طاقاته ولا يهدرها في حروب عقيمة، ممّا يعطيه تفوقا كبيرا على مجتمعات أكثر بدائية، الصراع فيها على قدم وساق داخلها ومع المجتمعات الأخرى.
لكن الحرب بتأثيرها الهائل وجذورها العميقة في الوعي واللاوعي الجماعي لم تختف وإنما أخفيت ...على وجه التحديد انتقلت إلى مستوى آخر يحقق '' مكاسبها'' ويوفّر على الجميع ثمنها الباهظ. تأملوا بانتباه آليات الديمقراطية وستكتشفون أوجه الشبه الكبيرة بين آلياتها وآليات الحرب. أليست الأحزاب بمثابة الجيوش التي تتواجه في ساحة المعركة ؟ أليست حرية الرأي والتعبير بمثابة التراشق براجمات الصواريخ اللفظية التي تخدش وتجرح وتؤلم دون أن تقتل ؟ ها قد أتى ما يسمى الاستحقاق الانتخابي. إنها المعركة الحاسمة التي سينتصر فيها جيش على آخر. لكن الانتصار سيعود إلى من أحضر أكبر عدد من الجنود إلى ساحة المعركة. وحال انتهاء عملية العدّ يتمّ إعلان اسم المنتصر فينسحب الجيش المهزوم من السلطة، لكن بوسع جنوده، وخاصة قائده، العودة إلى البيت والرأس فوق المنكبين. لا شكّ أن المستبدّين الذين يعيشون بالرعب ويموتون به، يشعرون أحيانا بالحسد تجاه القائد الديمقراطي الذي يستطيع الخروج بسلام من ورطة السلطة. إلاّ أن لهذا الامتياز الهائل ثمن لا يستطيعون قبوله: التداول على المسؤولية. وفي هذا المستوى من التحليل يمكن القول أن الديمقراطية تنتمي إلى عائلة واحدة من الاختراعات الاجتماعية البشرية تضمّ الرياضة والشطرنج. فهي الأخرى حروب لكن في فضاء رمزي تفرغ فيه شحنات العنف الغريزي و لا يسيل فيها سوى الحبر واللعاب و العرق.
هكذا يمكنك أن تثبت على رقعة الشطرنج تفوّقك في التكتيك والاستراتيجية على الآدمي الآخر دون أن تعرّض حياتك وحياته للخطر. هكذا يمكن للعراق أن'' ينتصر'' على إيران بثلاث أهداف لصفر في مباراة ''تصفية الأمم '' وأن تنزل الجماهير لتحتفل بالنصر المبين رافعة الأعلام متغنيّة بأبطالها وبتفوّق بلدها، دون أن تنوح ثكلى وأن يبكي يتيم أباه. يعني هذا أنّ الديمقراطية هي بنت الحرب وضرّتها. هي بنتها لأنها تمخضت عنها ولولاها لما وجدت. هي ضرّتها لأنها البديل المنافس الذي انتقل بالصراع من الفضاء الحسّي إلى الفضاء الرمزي.
لنحاول الآن تصوّر الأسباب التي قادت دوما البشر إلى الحرب الحسّية. إنّ أهمّ ما يدفعهم للخروج شاهرين سيوفهم على الناس، شكل أو آخر من الإذلال أو من التجويع. والقاعدة التي أثبتها التاريخ دوما أنّه إذا تجاوزت الفوارق الاجتماعية كل حدود الاحتمال وإذا تعرّض جزء كبير من المجتمع لحيف اجتماعي متواصل وعميق وانسدّت أمامه الآفاق، فإنه لا بديل عن الحرب الحسّية . معنى هذا أن الحرب الرمزية كبديل للحرب الحسية غير ممكنة إلاّ داخل الجزء الوسطي من طيف توزيع الاعتبار وخيرات الجهد الجماعي . وفي هذا المستوى يقبل الطرف الغالب بالتنازل عن جزء من امتيازاته وتحسين ظروف عيش الأغلبية ،والطرف المغلوب بالصبر والمطالبة السلمية المتواصلة لتحسين ظروفه، على أمل أن يتوّج صبره بما يضمن له العيش الكريم . لكن إذا اقتربت الأغلبية من الخطّ الأحمر لغياب الاعتبار وظلم لم يعد محتملا يولّد فقرا كافرا واقتنعت أن الحرب الرمزية لا تضمن له لا الكرامة ولا الخبز، فإنها ستدير الظهر لها لامتشاق سلاح وضع جانبا ولم يلق به في البئر.

من الاستغلال إلى الاستقلال
من يقدّر فداحة الخطأ الذي يرتكبه البعض عند الحديث عن هذا المناضل أو ذاك حيث يقولون : فلان مناضل من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، كأن الديمقراطية شيء يضاف إلى حقوق الإنسان. إن الديمقراطية ليست شيئا آخر غير الجزء السياسي من حقوق-واجبات الإنسان . هي البند 18 (حرية المعتقد) والبند 19(حرية الرأي ) والبند 20 (حرية المشاركة في الحياة العامة عبر انتخابات حرة ونزيهة ) والبند 21 ( حرية تكوين الجمعيات السلمية).
وفي منظومة حقوق –واجبات الإنسان لا يجوز فصل هذه الحقوق –الواجبات السياسية بمعزل عن الحقوق-الواجبات الأخرى التي تشكّل في مجموعها الإعلان أي الحقوق-الواجبات الفردية من جهة (مثل الحياة والكرامة والحرمة الجسدية الخ) و الحقوق -الواجبات الاقتصادية والاجتماعية (الشغل والصحة والتعليم والراحة والمستوى المعيشي اللائق).
إن التعبير الدقيق لوصف مناضلنا ليس الديمقراطية و حقوق الإنسان وإنما حقوق-واجبات الإنسان بما فيها الديمقراطية. لماذا هذا التركيز على نقطة تبدو شكلية ؟ لأن التعبير يفضح الفهم الليبرالي للديمقراطية الذي يضع على جنب الحريات وعلى جنب آخر الحقوق-الواجبات الاقتصادية والاجتماعية ولا يرى الصلة الوثيقة بينها. إن أكبر مظهر للعبودية وغياب الحرية هو الاستغلال المادّي الذي يرمي بالملايين في براثين الحاجة المادية القاهرة ويجعل منهم عبيدا بسلاسل غير منظورة. لهذا سنّت فلسفة المشرّع العالمي قاعدة ذهبية أنه لا مفاضلة ولا أولوية ولا ترتيب بين مختلف الحقوق-الواجبات. فلا حرية ولا كرامة بدون صحة وتعليم وعمل. ولا صحة وتعليم وعمل بدون الحرية والكرامة. إنّ مبدأ قياس التنمية الشاملة الذي تعتمده حاليا الأمم المتحدة ينطلق من فكرة أساسية و هي أن الديمقراطية ليست جزءا من التنمية وإنما التنمية ذاتها، أن ما يقدمه الاستبداد من تبرير لمصادرة الحقوق-الواجبات السياسية حتى ''لا تتعطّل مسيرة التقدّم الاقتصادي'' خزعبلات والخزعبلات المعاكسة هي مصادرة المستحقات الاقتصادية والاجتماعية للأغلبية المسحوقة وإلهائها بطقوس لا تهمّ إلا من ضمنوا الشروط المادية الدنيا للعيش الكريم. بداهة لا تتحقّق المهمّة الأولى للديمقراطية في وقف الحرب الحسية واستبدالها بالحرب الرمزية على الأمد البعيد إلاّ عبر تمكين أكبر عدد ممكن من أعضاء المجتمع من مستحقاتهم الاقتصادية والاجتماعية. هذا ما انتبه إليه المشرّع العالمي ولم ينتبه له الكثير ممن انخرطوا في فلسفته ومشروعه وهم يتصرفون وكأن الديمقراطية عدالة في توزيع السلطة لا علاقة لها بالعدالة في توزيع الخبز والصحة والعلم.
لا يغترّ أحد بوضع بلد كالهند ، فتحت الغشاء الرقيق للديمقراطية التمثيلية، تتوسّع دائرة التمرّد والقمع الوحشي خاصّة لصغار الفلاّحين والمنبوذين، ولا أحد يعلم كيف سينهار مثل هذا النظام ومتى. لكنّ تواصله بتعمّق الفقر والظلم أمر جدّ مشكوك فيه.
كذلك الأمر في الطرف الآخر من الطيف أي الوضع الأمريكي. فما دامت الليبرالية تستطيع توفير الحدّ الأدنى من العيش اللائق للأمريكيين باستغلال خيرات العالم، فإنها ستستطيع الحفاظ على وضع شاذّ . لكن يوم تصل الفوارق الطبقية الخطّ الأحمر ويستحيل مواصلة تأمين مستوى العيش الحالي، نظرا لتمرّد الشعوب المستغلّة، فإن الديمقراطية التمثيلية ستترك مكانها تدريجيا لشكل أو آخر من الاستبداد بدأت تتضّح معالمه من الآن. لا بدّ أن نستبطن إذن هذه القاعدة أنّ الوظيفة الأولى لا تؤدّى إلا إذا عاضدت الحريات السياسية الحقوق-الواجبات الاقتصادية الاجتماعية وان وجود هذه الأخيرة هو الضامن الأوحد لتواصل اللعبة الديمقراطية بما فيها من طقوس وحريات. إن تمكين الأغلبية من حرياتها السياسية وحقوقها الاقتصادية والاجتماعية لا يكفل فقط دوام الحرب الرمزية وإنما هو ينمي في ظل السلم التي تسمح بها تحقيق آخر أهدافها والتي تكتمل باكتمالها : المواطنة.
***





15- تسقط الوطنية، عاشت المواطنية.

يمكن تعريف المواطنة بأنها حالة يضمنها العرف و القانون يحقّ بموجبها لأعضاء المجتمع تسيير الشأن العام على قدم المساواة وفي كنف الحرية. هذه الفكرة كما رأينا إغريقية المصدر، لكن يمكن لكل حضارة أن ترصد في تاريخها تكّون نفس الظاهرة تحت أسماء مختلفة، فحاجات الإنسان الاجتماعية والسياسية واحدة مثل حاجاته الفيزيولوجية. إنما الاختلاف في طرق التعبير والتعامل مع الظاهرة القارّة. وإن انطلقنا من أثينا في القرن الخامس وليس من '' الجماعة '' في المجتمع الأمازيغي أو الافريقي، فلأنّ الرافد اليوناني هو الذي صنع البحيرة وليس الجداول الأخرى التي ضاعت الكثير منها في الصحراء. لنذكّر هنا أنه لا مكان للشوفينية في التعامل مع تجارب هي في آخر المطاف تجارب الإنسانية على ذاتها. ولو لم تأخذ الشعوب من بعضها البعض بحجة الوفاء لتقاليدها لتوقفت الكتابة عند أبجدية الفينيقيين.
ولو تتبعنا الآن تاريخ فكرة المواطنة لرأينا أنّها عرفت عبر العصور توسّعا يشبه ذلك الذي نشاهده عندما نرمي بحجر على صفحة الماء، فنرى توسّع الدوائر المنطلقة من نقطة الارتطام. نعلم أنها بدأت، أثينا القرن الخامس قبل الميلاد، في شكل أرستقراطية مدنية لأنها كانت تستثني النساء والعبيد والأجانب والأطفال أي أغلبية المجتمع. من البديهي أن وضعا كهذا غير مقبول من قبل المتروكين جانبا ويمكن تسميتهم برعايا الاستبداد الديمقراطي. هكذا سيشهد التاريخ صراعا، اتخذ أسماء مختلفة حسب البلد والزمن، لكنه معبر عن نفس الحاجة ونفس التطلّع عند الأغلبية أي تحقيق وضعية تعني تمتعها هي الأخرى بالحرية والكرامة. ثمة المواطنة الرومانية لكنها بقيت هي الأخرى محصورة في أرستقراطيات موسّعة وتستثني الكثيرين.
لن يحدث المنعطف الهامّ في تاريخ المفهوم إلاّ عند اندلاع الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، فقد اتسعت آنذاك الدائرة اليونانية والرومانية الضيقة بشكل هامّ ومفاجئ لتشمل عددا كبيرا من أعضاء المجتمع. لكنّ المهمّ ليس التطور العددي للمنخرطين في ''الأرستقراطية الجماعية''، وإنما بداية تحديد معالم جديدة للمواطنة كانت مجهولة في الشكل اليوناني والروماني.
يعتبر روجرز بروباكر (1) أنه لا قدرة لنا على فهم اختراع المواطنة طالما لم نضعها في سياق الخصائص الأربعة للثورة الفرنسية أي كونها ثورة بورجوازية ( تعلّقها بالملكية) و ديمقراطية (تمردّها على الاستبداد الملكي) ووطنية (تصدّيها للغزاة القادمين من وراء الحدود لإعادة النظام الملكي) وبيروقراطية -مركزية (الإدارة المباشرة من باريس وفق تنظيم هرمي صارم لا يعترف بأيّ استقلال ذاتي للمقاطعات ويعرف بالجاكوبينية)
إن هذه الخصائص التاريخية والثقافية للثورة الفرنسية هي التي حدّدت لنا وللعالم خصائص المواطن المعاصر بما هو شخص:
- ينتمي إلى وطن أي إلى قطعة من الجغرافيا آهلة بسكّان وتحكمها دولة قويّة.
- يخضع لحكم مركزي يسجّل ويحصي ويحمي كل التابعين له.
- يتمتّع بجملة من الحقوق السياسية منها المساواة والحرية التي تمكّنه من المشاركة في تسيير الشأن العام.
- له حقّ الملكية على ذاته وعلى ما استطاع الحصول علية بوسائل شريفة. هذه النقطة بارزة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن حيث تنص المادّة السابعة عشر على أن حقّ الامتلاك من الحقوق ''المقدّسة''.
لا بدّ من التذكير هنا أن الهوية كانت قبل الثورة تحدّد بالانتماء لهذه المقاطعة أو تلك لا لفرنسا، أنه لم يكن للناس حقوق سياسية، أنه كان للإقطاع حق في التصرّف في أرزاق الناس وخاصة مصادرة الإرث. ولأن هذه الثورة أعطت الفرد الحريات والاعتبار وحق الملكية فإنها كانت قادرة،عندما تدافع الروس والإنجليز والنمساويون لإعادة النظام الملكي، على أن تستصرخه في نشيدها الرسمي ''إلى السلاح أيها المواطن''. من أين له أن يتردّد في حمل السلاح وهو لا يوجّه إلاّ لصدور من يريدون من السيد أن يعود عبدا؟ هكذا بلورت الثورة من رعايا الإقطاع مواطنين سيقع تصدير معدنهم الجديد إلى كلّ أصقاع الأرض ، خاصّة تلك التي ارتبطت ولا تزال بالثقافة الفرنسية.
المهمّ في هذه القراءة الانتباه لكون المواطنة لا تتبلور إلا عبر جملة من الشروط المترابطة الوثيقة الصلة. كما لا يمكن تصوّر المواطن الفرنسي بدون فرنسا والدولة المركزية، لا يمكن تصوّر فرنسا المتطوّرة والمشعّة كما هي اليوم بدون المواطنين. ثمّة إذن علاقة جدلية بين المواطن والوطن أعمق من التي تصوّرها لنا دعاية الاستبداد والتي تجعل من الوطن قطعة أرض ثابتة ومن الوطنية وفاء معفى من كل شرط أو تعاقد بين الحاكم والمحكوم.
يبقى أنّ الثورة الفرنسية على عظمتها لم تكن إلا تقدّما هامّا على درب طويل. حقّا هي وسّعت حدود المواطنة الأثينية بكيفية لم يسبق لها مثيل. لكنها وقفت عند حدود التمييز الجنسي والعرقي. فصنّاع الثورة مثل نابليون هم الذين أعادوا العبودية التي اختفت لحظة اندلاعها، وهم الذين رفضوا المواطنة لنصف المجتمع. قلّ من يتذكّر أن فرنسا لم تعترف بحق النساء في التصويت إلا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أي قرابة 2500 سنة من انطلاق فكرة المواطنة.
إن المرحلة الثالثة من تاريخ المفهوم هي التي دشّنها الإعلان العالمي لحقوق-واجبات الإنسان سنة 1948. فلأوّل مرّة في التاريخ ، أصبحت المواطنة، عبر الحريات السياسية ( وخاصة الفصل 21) حقّ كلّ شخص '' دون أي تمييز كالتمييز بسبب العنصر واللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو البلاد ودون تفرقة بين الرجال والنساء '' إن مثل هذا الاعتراف السياسي والقانوني وعلى مثل هذا المستوى، قفزة نوعية هائلة في تطوّر فكرة المواطنة. هو خطوة أولى لا بدّ منها. لكن شتّان بين الاعتراف بالحق وممارسته الفعلية.
*
كما رصدنا للمفهوم تطوّرا أفقيا تمثّل في اطراد الكم من الأقلية الأرستقراطية الأثينية إلى كلّ البشرية، نستطيع أن نرصد للمفهوم تطوّرا عموديا في النوع.
لنختزل دسامة أو زخم أو عمق المواطنة في مؤشّر مركزي هو المشاركة في أخذ قرار الشأن العامّ وتقييمه وتنفيذه. ومن نافلة القول أن المشاركة الصفر في هذا المستوى تعني المواطنة الصفر. ومن البديهي كذلك أنّ استفراد البعض بالقرار، ومن ثمة بالاعتبار وبالثروة، هو الذي يخلق من جهة الرعايا وأشباه المواطنين ومن جهة أخرى المواطنين الحقيقيين.
ليكن الدليل دراسات عالم الاجتماع ''هانس'' التي اهتمت سنينا طويلة بعلاقة الماسك بالقرار بمنظوريه في الجمعيات الصغيرة أو في الحكومات المحلية مثل البلديات. لقد استخرج منها قواعد عامّة لخّصها في سلّم شهير عرف باسمه (ولو أنه لم يبلغ شهرة سلّم ''ريشتر'' في قياس حدّة الزلازل).
وحسب '' هانس'' فإن أي ممارسة للسلطة لا تخرج عن واحدة من ستّ حالات رتّبها كالآتي:
الدرجة الأولى: يتصرّف صاحب القرار فرديا ولا يولي أدنى اهتمام إلى منظوريه.
الدرجة الثانية : يعلم منظوريه بقراره دون أن يطلب رأيهم.
الدرجة الثالثة: يستشيرهم دون أن يأخذ برأيهم.
الدرجة الرابعة : يستشيرهم ويأخذ برأيهم.
الدرجة الخامسة: يشركهم في حلّ المشاكل.
الدرجة السادسة: يضع بين يديهم سلطة اتخاذ القرار الذي يهمّهم.
لنلاحظ عرضا أن ممارسة السلطة بتعقيدها وثرائها وتناقضاتها لا تخضع بالضرورة لفصل تام بين هذه الدرجات الستّ. فثمة حالات يستشير فيها المستبدّ و يأخذ برأي من استشار. ثمّة حالات خداع مقنّعة لأن الاستشارة والأخذ بالرأي في موضوع ثانوي تغطّي على قرارات هامة بقيت من صلاحيات صاحب السلطة.
بداهة تشكّل الدرجة الأولى والثانية من السلّم ملخّص وتعريف كل نظام استبدادي، فالمستبدّ لا يخضع إلاّ لإرادته بل أن إرادته هي منبع كل فعل وكل سلطة. هو لا يستشير وإن استشار فقد يقبل أو يتغنّى بمقولة علي '' شاورهم وخالف عنهم''.
ثمة ضرورة تقنية للمشاركة تتجاوز المطلب الأخلاقي.
ما الذي يجعل مثلا المنظمة العالمية للصحة تطالب بأن تكون المشاركة الجماعية ركنا أساسيا من سياسة الصحة للجميع والحال أن الصحة كانت إلى سنين خلت تعتبر من مشمولات الدولة والمختصين ؟ والردّ لأنّ مثل هذه المشاركة القاعدية هي اليوم العنصر الهامّ في تفعيل أي نظام صحّي. والقانون اليوم في كل المجالات، إن عالم تفشّى فيه التعليم والتعقيد لا يسيّر بفعالية من مراكز قرار هرمية وإنّما من مراكز قرار متعدّدة ومستقلة تستطيع الردّ بسرعة على متغيّرات المحيط في إطار تنسيق مرن. هذا أمر لا يقدر عليه الرعايا إنما المواطنون.
يجبر إذن النظام السياسي على التحرّك للارتقاء إلى درجة أعلى تحت ضغط لا فعاليته لحلّ مشاكل المجتمع إضافة لتصدّيه لحاجة الاعتبار، وهي لا تقلّ قوّة عن الحاجة الجنسية أو حاجة الشرب والأكل تتحقّق أبسط أشكال النظام الديمقراطي عندما ترتقي علاقة الحاكم بالمحكوم إلى الدرجة الثالثة من السلّم أي عندما يتعلّم الماسك بالسلطة استشارة منظوريه عبر الانتخابات أو أي شكل آخر من أشكال الاستشارة الدورية.
وفي أكمل أشكال الديمقراطية التمثيلية ترتقي العلاقة إلى الدرجة الرابعة. يحدث هذا عندما يأخذ الحاكم بالاستشارة ولا يكتفي بطقوسها (مثلا عندما يطبّق الوعود التي حملته لسدّة الحكم أو ينظّم الاستفتاء مثلما يحدث دوريا في سويسرا
هذا أقصى ما يمكن أن تحققه المرحلة التمثيلية من الديمقراطية فالقرار في نهاية المطاف بيد الحاكم بين دورتين استشاريتين . لنذكّر هنا،أنه إبان غزو العراق في فبراير 2003، خرجت المظاهرات الصاخبة في العالم أجمع للتنديد بهذه الحرب . حصلت أهمّ هذه المظاهرات في أمريكا وبريطانيا وأسبانيا وإيطاليا. وفي هذه البلدان الثلاثة الأخيرة أكّدت استطلاعات الرأي رفض الشعوب للتدخّل العسكري. ومع ذلك ضربت الحكومات، التي يقال أنها تمثل إرادة شعوبها، بعرض الحائط هذه الإرادة، ودخلت الحرب باسم شعوب تصرخ برغبتها في السلام.
هل معنى هذا أن علينا التخلي عن الأداة الانتخابية، أينما تحقق النظام الديمقراطي؟ طبعا لا، فالدولة مؤسسة اجتماعية صادرتها العصابات في النظام الاستبدادي والأرستقراطيات المخفية في الديمقراطية التمثيلية ولا بدّ للمواطنين من استعادتها. لكن علينا أن ننظر إلى ما أبعد حيث لا تتحقّق المواطنة الكاملة إلا في الدرجة الخامسة والسادسة للسلم وتترجم لها عقليات ومؤسسات تتجاوز التمثيلية.
قد يعترض علينا هنا قارئ ما بأن هذا بالضبط ما تردده النظرية الثالثة لمعمر القذافي، الذي سنّ قبل الجميع أن التمثيل تدجيل وأنّ من تحزّب خان وأن أحسن نموذج للمشاركة هو'' المؤتمرات الشعبية''. سنذكّر معارضنا الكريم أنّه إذا كانت الانتخابات على الطريقة التونسية هي كاريكاتور الديمقراطية، فإن المؤتمرات الليبية هي كاريكاتور المشاركة الشعبية . فهي تلعب نفس الدور الذي تلعبه الانتخابات المزيفة في تونس وبقية أقطار الوطن أي إضفاء غشاء الشرعية على تسلّط الزعيم الأوحد. إنّ القاسم المشترك في النظامين هو سطوة الأجهزة الأمنية بمراقبة الفولكور الانتخابي هنا أو فولكلور المؤتمرات الشعبية هناك. لا دخل بالطبع للمشاركة التلقائية والحرّة بمثل هذا.... التدجيل. هي لا توجد إلا بعد انهيار هذه الأجهزة واختفاء الزعيم الأوحد وانطلاق القوى المعطلة في ألف اتجاه لا تحدده سوى حاجات الأفراد وقدرات الخلق والإبداع فيهم ومتطلبات الظرف والمكان.
لنتمثّل الديمقراطية على شكل هرم قاعدته عدد المواطنين وعلوّه سلّم ''هانس'' . لنتخيّله موضوعا على ذبابته لا على قاعدته. وفي مستوى هذه الذبابة تتبلور أهمّ خاصية للاستبداد وهو أنّه لا وجود إلاّ لمواطن واحد هو الزعيم المفدّى الذي يمكن حتى أن يتسمّى الوطن باسمه. وبقدر ما نرتفع على سلّم ''هانس وتتسّع رقعة المواطنين بقدر ما تتعمق الديمقراطية والمواطنة. هي تتبلور في أحسن حالاتها على مستوى السطح ( قاعدة الهرم المقلوب) حيث كلّ الناس مواطنون وكلّهم من الدرجة السادسة في السلّم. أمّا ما بين القمة والقاعدة فتوجد المساحة التي يقطعها كل مجتمع نحو الديمقراطية. ولو دققنا الآن في هدف عمليتي التوسيع الأفقي والتصعيد العمودي لاكتشفنا أنه بالأساس توظيف الطاقات المعطّلة والمهمّشة التي يزخر بها المجتمع. إن إجرام النظام الاستبدادي الحقيقي هو في إهدار طاقات بشرية لا تتبلور إلا بالتكريم والاعتبار والحرية وكلها أشياء مقصورة على المستبدّ وعصابته ولا يتم الاعتراف بها إلا لمن دار في الفلك . إن النظام الاستبدادي بمثابة أداة مهمتها إطفاء أضواء المدينة حتى لا يشعّ إلا الضوء الباهت للعصابة الحاكمة. أما النظام الديمقراطي فهو مولّد كهرباء جبّار مهمّته الأولى شحن كلّ البطاريات بالاعتبار والثقة والتدريب لكي تتلألأ الأنوار من كلّ جهة وتتقلّص تدريجيا مساحات الظلام داخل المدينة الغارقة في النور. معنى هذا أيضا أن النظام الديمقراطي الناجح من يتعامل مع كل فرد، مهما كان، كطاقة لا بدّ من توفير كل الظروف لها – ومنها تدارك الفشل الأول والثاني والثالث الخ - حتى تتبلور كأحسن ما يكون التبلور في ألف ميدان وميدان.
***

1-Alvin Toeffler : la roisième vague –edit Denoel
2 2 - William Rogers Brubacker : The french revolution and the invention of citizenship in French politics and society
Volume 7 number 3-Center for European studies –Harvard university





16- من الرعايا إلى المواطنين .

. لنحاول الآن التعرّف على الوضعية الحقيقية للناس داخل النظام الاستبدادي انطلاقا من هذه الرؤيا. سنكتشف أن كل واحد منا ينتمي ضرورة إلى إحدى ثلاث مجموعات:
- الممنوعون من المواطنة الفعلية وهم أغلبية الناس المحرومون من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية و السياسية المنصوص عليها في الإعلان.
- المتصدون للمواطنة الفعلية وهم بالأساس أهل النظام وأعوانهم من أهل الدولة.
- المطالبون بالمواطنة الفعلية وهم الأقلية الواعية المسيّسة ويجوز تسميتهم بالمواطنين تحت التأسيس.
وفي آخر المطاف فإنه لا وجود للمواطنة أصلا في هذا النظام، فأهل النظام والدولة أنفسهم عبيد المستبدّ والمستبدّ ليس المواطن الأوّل لأنه لا وجود لمواطن ثاني وثالث الخ.
لنتوقف عند بعض خصائص''المواطنين في طور التأسيس'' لأنهم حملة مشروع النظام الديمقراطي ومنطلقه. هم من يحتدّ عندهم الوعي بخطورة انتهاكات حقوقهم وينتقلون من الوعي بالمنكر إلى إرادة وضع حدّ له. يتطور المواطنون تحت التأسيس كميا عندما يستطيعون توسيع دائرتهم تدريجيا بزرع بذور التمرّد عند الرعايا. هم يتطورون نوعيا عندما يصبح شعارهم ''حقوقنا نمارسها ولا نطالب بها''. وقد تبلور هذا الشعار في تونس سنة 8 199 عندما تأسس المجلس الوطني للحريات وقرّر متابعة أعماله بصفة علنية رغم منع السلطات له. وقد تواصل العمل بهذا الموقف عبر تأسيس العديد من المنظمات المدنية، منها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، بالرغم من قانون الجمعيات الاستبدادي وخروج هؤلاء المواطنين تحت التأسيس للشارع، ورفض بعضهم المثول أمام القضاء المستغلّ، والدعوة الصريحة لمقاطعة انتخابات التهريج الرخيص والتزييف المضحك الذي كان الاستبداد يموّه به على الشعب ليعطي شكلا انتخابيا ديمقراطيا للبيعة القديمة.
يبقى المواطنون تحت التأسيس أقلية داخل النظام الاستبدادي ...وحتى داخل النظام الديمقراطي عند استتبابه إذا نجحوا في قلب نظام الحكم وتسلّم مقاليد الأمور. ولأن هذه هي الوضعية التي تنتظرنا إذا نجحنا في كل بداية نظام الديمقراطي، فلا بدّ من التوقف عندها مطوّلا.
بداهة لا يؤدي انتصاب مثل هذا النظام، بما هو قوانين ومؤسسات موضوعة فوق الفراغ، إلى تغيّر جذري. ففي ظلّه لا تنقلب وضعية الرعايا فيصبحوا مواطنين بين عشية وضحاها. هو سيوفّر حقّا الإطار التشريعي الضامن قانونا للحقوق والحريات، لكن هذا الإطار شرط ضروري ولكنه غير كاف. هولا يخلق المواطنة وإنما يكفّ عن منعها. إنّ المواطنة ليست فقط اكتساب حقوق شكلية وممارستها بصفة عابرة وظرفية وإنما مساهمة فعلية ومتواصلة في أخذ القرار وتنفيذه وتقييمه كلّ في مستواه : العامل في مصنعه، التلميذ في مدرسته، عضو الجمعية في جمعيته، نائب البلدية والبرلمان في مؤسسته، الوزير في حكومته..... الخ .
لنحلّل طبيعة المجتمع المتحرّر لتوّه من الاستبداد. هو ما زال مهيكلا كالآتي:
- شريحة واسعة جدّا من الناّس تعاني من الخصاصة والحرمان والجهل والتضليل ولا تستطيع رفع أنفها عن المشاكل اليومية للحياة. إن مطالبتها بالمشاركة في الشأن العام من موقع الإدراك والجدارة، بمثابة مطالبة الكسيح بالتفوق في رياضة الغولف.
- شريحة هامّة من الناس اكتسبت مستوى معيشي وتعليمي كاف للمشاركة الفعالة في الحياة العامّة ولكنها غير معنية بمثل هذه المشاركة لطول تشبعها بقيم وعادات الاستبداد أو لسيطرة النظرة الفردية أو لسبب شخصي ما مثل المرض والعزلة.
- شريحة متواضعة هي قدماء المواطنين تحت التأسيس ومن التحق بهم وتنقسم إلى تيار يضطلع بكامل حقوقه - واجباته وآخر بدأ تهيكله كأرستقراطية جديدة ،إما داخل هياكل الدولة الديمقراطية وإما في دنيا الأعمال.
ومن نافلة القول أن هذه التركيبة لا تختلف داخل الديمقراطيات العريقة إلا في نسب المنتمين لهذه الشريحة أو تلك دون أن يؤدي التطور الديمقراطي لا إلى اختفاء العاجزين عن رفع الأنف عن مشاكل البقاء على قيد الحياة، أو غير المبالين، أو الساعين إلى إعادة شكل أو آخر من الأرستقراطية.
كيف يمكن الانتقال في أسرع وقت من جملكية الرعايا إلى جمهورية المواطنين لا لشيء إلاّ لأنّ تكاثر عددهم هو أكبر درع لحماية النظام الديمقراطي من أخطار الداخل والخارج؟
من سيقوم بعملية توسيع قاعدة الديمقراطية بما هي شرط بقائها وسبب وجودها ؟ كيف سيتمّ ''خلق'' اكبر عدد من المواطنين علما وأنه لا يمكن أن يشمل كلّ أفراد المجتمع مهما حاولنا ؟
من البديهي أنّ ''الخالق'' ليس فردا أو مجموعة تبشيرية وإنّما تضافر الإرادة السياسية والظروف الموضوعية التي ترفع في مجتمع ما نسبة المتحرّرين من الجوع والجهل والتضليل.
لنعدّد السياسات الضرورية التي يجب على النظام الديمقراطي انتهاجها لخلق اكبر عدد ممكن من المواطنين في أسرع وقت حفاظا على وجوده قبل كلّ أي اعتبار آخر، علما وأنها سياسات صعبة معقّدة ولا تأتي أكلها إلا بعد سنين وعقود طويلة، تبقى إبّانها الدولة الديمقراطية مهدّدة.
إنه من الضروري وضع الإطار التشريعي العامّ لضمان ممارسة كل الحريات الفردية والجماعية دون قيود أو شروط باستثناء تلك التي تتعارض مع ممارسة هذه الحريات.
كما يجب جعل تطوير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لتحرير أكبر عدد ممكن من عبودية الحاجة الماسّة، المحور الأساسي لسياسته مما يعني القطع الجذري مع فلسفة الليبرالية وبرامجها.
ثمّة الاستعمال الذكيّ لسلاح الإعلام. يجب أن ننطلق دوما من قناعة بوجود حسّ مرهف عند الناس بخصوص من يحترمهم ومن يستبلههم. هكذا نستطيع منازلة الإمبراطوريات الإعلامية بإعلام راق نزيه وتعددي يمكن المواطنين تحت التأسيس من أدوات النقد والتحليل لفهم عمليات التضليل التي يتعرضون لها دوما بتسليط الأضواء على ما يقع في كواليس المال والسياسة والمخابرات ....والإعلام نفسه.
لننبّه هنا، علما وأن أمتنا ما زالت غير معنية كثيرا بالأمر، إلى الدور الهائل الذي يمكن أن تلعبه وسائل الاتصال الحديثة في تبادل الخبرات والتشاور السريع لأخذ القرار الجماعي. ومما لا شكّ فيه أن هذه الوسائل ستلعب دورا متعاظما قد يغيّر بصفة جذرية من الطقوس الديمقراطية وربما حتى من التمثيل.إن خلق الشبكات من بين الطرق الكثيرة التي يجب استكشافها واستغلالها أحسن استغلال فالتكنولوجيا التي تستعملها الأرستقراطيات المخفية للمراقبة والسيطرة قادرة على أن تفتح لنا أبواب الحرية بنفس الفعالية.
ثمّة بالطبع دور التربية والتعليم على أن نتذكّر أن المدرسة ليست مكانا لغسل الأدمغة وحشوها بقيم الماسك المؤقت للسلطة. هي المكان الذي يجب أن يعكس وفاقا قيميا بين الحداثة الممثلة في القيم الإجرائية لحقوق الإنسان والقيم الروحية للدين. لا يجب أن نغالي أيضا في مردود هذا التعليم إذا كان جزيرة معزولة، فالقيم التي تدرس في المعاهد لا مستقبل لها إن لم تجد صداها وإن لم تكن هي أيضا صدى ما يحدث في المجتمع. إن هذا القانون هو ما جرّبه الاستبداد في تونس عندما فرض تدريس ''حقوق الإنسان'' في مجتمع كان ينوء بثقل الانتهاكات العديدة لها، فلم يلبث التلاميذ اكتشاف الخديعة لتصبح مثل هذه الدروس مسخرة في الأسلوب ومن حيث النتيجة ضمادة على جرح في ساق من خشب كما يقول الفرنسيون. معنى هذا أن تربيتنا على حقوق-واجبات الإنسان في المدرسة يجب أن تتماشى مع ممارسة الحريات خارجها ومشاركة العائلة وأجهزة الإعلام والشخصيات الاعتبارية في خلق مناخ عامّ يسهّل على الطفل التشبع بالقيم وتعديل مواقفه وتصرفاته على ضوئها. تبقى المشاكل العملية ومنها أن مثل هذه التربية لا علاقة لها بدروس التربية المدنية المملة في أقسام مكتظّة يسخر فيها التلاميذ من أستاذ فقير مرهق مكلّف بمدح النظام الديمقراطي. إنها تربية ترتكز على المشاركة وتحريك مشاعر التلميذ وهو يكتشف ظاهرة التعذيب عبر شهادة المعذبين الموثقة في شرائط سمعية وبصرية وظاهرة الفساد والغشّ الإعلامي والتمييز ضدّ النساء أو الأقليات عبر ملفّات الساعة التي تعرضها شاشات التلفزيون.
لا بدّ أيضا للتربية على المواطنة أن تكون مسؤولية مشتركة بين موادّ مختلفة مثل التاريخ والأدب والتربية الدينية وأن تتواصل بتعقيد متصاعد حتى مستوى التعليم العالي. وثمة إمكانيات أخرى لتنمية حسّ المواطنة وهو فتح مراكز الشأن العام على اختلاف مستوياتها مثل الجمعيات والبلديات و البرلمان و الوزارات و حتى رئاسة الجمهورية أمام التلاميذ والطلبة ...كمراكز تربّص وتدريب على المواطنة.
يبقى أن أهمّ مدرسة على الإطلاق هي المجتمع المدني. يمكن تعريف هذا الأخير أنه جملة المؤسسات السياسية والاجتماعية التي يفرزها تلقائيا المواطنون ولا تخضع للدولة ولو كانت الدولة الديمقراطية. فالمواطنة الحقيقية اليوم في حتى في أعرق الديمقراطيات، لا تتبلور إلا عبر نسيج هائل ومتوسّع من جمعيات مدنية مستقلة تتولّد من حركية جامحة لا قبل لأحد بالتعرّض إليها أو التحكّم في مسارها. صدق من قال أن القرن الواحد والعشرين سيكون قرن المافيات والجمعيات غير الحكومية والشركات.
إن هذا المجتمع المدني الذي يحرسه وينميه المواطنون هو الشرّ المطلق بالنسبة لاستبداد شعاره مقولة موسوليني الشهيرة'' الدولة هي المجتمع ولا يوجد شيء خارجها''. لكنه ليس بالضرورة الخير المطلق في ظلّ الديمقراطية التمثيلية التي تخشى استيلائه على صلاحياتها أو تضييق الخناق عليها بالمراقبة اللصيقة والمحاسبة الدقيقة. أمّا في الديمقراطية المتقدّمة فهو عنصر لا يتنافس مع الدولة وإنما يكمّلها خاصة في مستوى المهمّة الرئيسية لخلق المواطنين. لا ننسى كذلك أن مؤسساته هي المدرسة الأولى للتكوين المستمرّ والمجاني لإطارات الدولة الديمقراطية. إنّه الفضاء الذي تنتقل فيه الممارسة الديمقراطية على سلّم هانس إلى أرفع درجة. أخيرا وليس آخرا، هو جزء هامّ في التنمية الاجتماعية والاقتصادية ومن مصلحة الدولة أن تتعامل معه كما تتعامل الدولة الليبرالية مع الشركات أي بالتفويت لصالحه في كلّ ما يستطيع القيام به من خدمات، خاصة على المستوى المحلّي. إن النظام الديمقراطي في جنوب إفريقيا على سبيل المثال مرتبط بمعاهدات شراكة مع آلاف الجمعيات النشطة في مجال أطفال الشوارع والمعاقين والنساء ضحايا العنف المنزلي وإعادة اعمار هذا الحيّ القصديرى أو ذاك. وفي مثل هذا المستوى وهذا النوع من المشاكل يتضح ما للنسيج المدني من تفوق على بيروقراطية مكلفة وثقيلة الحركة أيا كان النظام السياسي. لا بدّ إذن أن تشجّع الدولة الديمقراطية تكوين أغنى نسيج ممكن وبكلّ وسائل الدعم القانوني مثل الاعتراف الآلي بمجرّد تلقي الإعلام الكتابي والإعفاء من الرسوم على مقرات الجمعيات. لا ننسى أهمية الدعم الأدبي كتشريك الجمعيات الجدّية في كل مراكز القرار وتشجيع موظفيها على العمل المدني واعتبار مثل هذا العمل من عناصر الترقية. في كل الحالات يجب خلق جوّ جديد يعتبر العمل التطوّعي في المنظمات شرف يرفع ممارسه عمن لا يرفعون أنوفهم عن مشاغلهم الخاصة. كما يجب ألا تترك الدولة الديمقراطية الناشئة فرصة إلاّ وثمّنت فيها هذا الجهد عبر ما تملكه من وسائل التشريف.
تطرح هنا قضية الدعم المادّي. فالمجتمع المدني بحاجة إلى التمويل وليس فقط للتشجيع القانوني والمعنوي. لكن هذا الأخير أيا كان مصدره، قادر على قتل الاستقلالية والتطوّع وهما مصدر قوته وشرعيته. فإن كانت الدولة هي الممول، قد تنقلب علاقات الشراكة إلى علاقة التوظيف. بمرور الوقت تظهر تبعية لا تخفى عواقبها. أمّا إذا ترك التمويل للقطاع الخاصّ ، فالخطر أعظم حيث تستطيع الأرستقراطيات المخفية التحكم عن بعد في أكثر من شخص هامّ وهيئة واعدة وبرنامج مثير.
إن الإشكالية الحالية في النسيج الجمعياتي العالمي وخاصة في بلدان الجنوب، هو تنافسه على تمويل نادر ومؤهل شيئا فشيئا للتحكم فيه بصفة غير مباشرة. إن التمويل ليس هبة مجانية من قبل هيئات هلامية لا مطامح سياسية لها ولا أولويات. هي متابعة مشاريع هذه الهيئات مثل البرلمان الأوروبي أو مؤسسة فورد. هذا ما يجبر الدولة الديمقراطية على التعامل بكثير من الحنكة مع معادلة صعبة. فيجب أن تمنع كل تمويل مشبوه دون السقوط في البارانويا، ويجب أن تموّل البرامج الجدية عبر صندوق مستقل تشرف عليه هيئة مشتركة من السلطة والمجتمع المدني ويجب أن تراقب ''سوقا'' ما زالت في بدايتها ومع ذلك بدأت تعجّ بالمتمعّشين وأحيانا باللصوص والمحتالين.
***






17- عقل التأسيس.

ليست السياسة فقط مبادئ وأهداف وإنما هي وسائل عملية لتحقيق هذه المبادئ والوصول إلى هذه الأهداف. هذه الوسائل هي مواقف وسلوكيات مبنية على عقلية وطرق تحليل وخيارات تجدها عند كل فاعل سياسي ويمكن تسميتها بالعقل السياسي. لا بدّ من العودة بالتدقيق إلى العقل السياسي العربي السائد اليوم وهو في اعتقادي طيف لكن الغالب فيه النقطتين القصوتين: العقل السياسي الجبان والعقل السياسي المتوحّش. وإن نتوقف عندهما بالتحليل فلسبب بديهي : لا مجال لبلورة المشروع الديمقراطي قبل التخلّص من هذين العقلين بما هما نتاج للاستبداد وإن تباينا شكلا ومضمونا.
العقل السياسي الجبان
إنه جملة الآليات الفكرية التي تنتج مواقف وسلوكيات تصرّف التفاعل السلبي مع الاستبداد أي الخضوع له وفي أحسن الأحوال محاولة التأثير عليه من الداخل علّ النمر ينقلب حملا وديعا.
يتمثّل هذا العقل أحسن ما يتمثّل في ''المعارضات'' التي يسمح بها النظام الاستبدادي ليعطي عن نفسه صورة الحداثة بل الديمقراطية ومن أهم خصائصه ومظاهره ما يلي:
- الهيكل أولا أخيرا: يقول هذا المبدأ العظيم بأولوية الهياكل على وظيفتها ويسنّ أنه إذا فرغت منظمة (مثل اتحاد الشغل) أو حزب (مثل الحزب المحكوم) أو منظمة (مثل أغلب المنظمات المهنية وحتى المجتمعية) من كل وظيفة سياسية، فلا بدّ من المحافظة على الوعاء الفارغ لأنه في آخر المطاف هو البضاعة. هكذا تجد في كل بلدان العالم أكثر من منظمة نقابية، إلا في تونس، حيث لا يجوز التخلي عن الوعاء خاصّة إذا ارتفع إلى مرتبة ما يسمى بالمكسب الوطني.
- المرونة '' المعكرونية'': لكي تفهم هذا المبدأ الأساسي، لا بدّ من القيام بتجربة علمية سهلة ومعبّرة. خذ رطلا من مقرونة ''السباجيتي''. غليّه ثلاث ساعات في الماء (إذا أردت أن تغتنم فرصة التجربة العلمية لتتغدّى، فعشرون دقيقة كافية كما يعرف حتى أردأ طبّاخ). حاول بعدها أن تجعل ''السباقيتي'' تنتصب واقفة، ولو بإسنادها على أي شيء صلب. ستكتشف استحالة الأمر لما اعتراها من ليونة مفرطة وميوعة تامّة، تجعلها عجينة لا تنتصب واقفة وإنما تتمدّد وتنبطح وتلتصق بكل ما يحملها. ها قد فهمت بعمق أهمّ خصائص هذا الفكر العجيب الذي يمكن أن تشبّهه بكائن يريد الانتصاب ليس له عمود فقري. وبالمقياس الذي فرضه العقل المريض للمرونة، أصبحت المواقف المعتدلة والمتمسكة بالحد الأدنى من المبادئ والحقوق والكرامة والتي يمكن أن تصنّف في أي بلد طبيعي وسطية ، أقول أصبحت تدخل في باب التشدّد والتنطّع والتطرّف والتهوّر.
- الواقعية السلبية: إنه تحليل للواقع يدّعي الواقعية أي التجرّد والموضوعية والبعد عن الأوهام والأحلام والإرادية والمغامراتية الخ. لكنه عقل لا يرى إلا موازين القوى المختلة لصالح العدوّ و لا يبرز إلا العوامل المحبطة للعزائم ولا يركّز إلا على ما يدعو إلى التريث والتفادي و عدم المواجهة والتضحية ''العبثية''. هكذا تصبح الواقعية تبرير أسباب القعود والرضوخ وتلك وظيفتها منذ البداية.
ففي تونس مثلا خلفت لنا التركة البورقيبية مبدأ '' خذ وطالب'' . لكن العقل المريض جعل الشعار '' طالب ثم طالب واصل الطلب حتى وإن لم تأخذ شيئا ، المهمّ أن تستميت في الطلب رغم الداء والأعداء ''. طالب أصحاب هذه المنهجية مثلا في تونس سنة 1989 ،بانتخابات حرّة ونزيهة . ''سّبقوا الخير'' فلم يحصدوا إلا الخازوق . لكنهم قرروا المطالبة بنفس الشيء في 1994 . لإثبات تمسّكهم بالسذاجة كخيار وكمهرب ،قرّروا المشاركة في العملية الواضحة الغشّ المفضوحة التزييف ، متعللين بأنهم على الأقل سيأخذون التمرين على الانتخابات والحضور في الجهات وبناء القواعد وفضح الخروقات. لا أخذوا خلايا في الجهات ولا تمرين ولا مقاعد غير التي وهبت ولا تزال لأهل الطاعة، وضاعت أصوات الاحتجاج في بيانات عصماء لم يحفل بها أحد. لكنهم قرروا سنة 1999 أن يمعنوا في الطلب تأكيدا على حقّهم غير القابل للتصرّف في استعمال الاستحقاقات الانتخابية لتبليغ صوتهم للشعب. بالطبع لم يأخذوا شيئا وزاد وضعهم ووضع البلاد سوءا. فهل اتعظوا أو راجعوا أنفسهم ؟ كلاّ ثم كلاّ. ها هم يرشحون ويترشّحون لدورة 2004 للتزييف ومصادرة سيادة الشعب وإذلال المواطن والسخرية من الديمقراطية. إنهم مصرّون ومقرّون العزم أكثر من أي وقت مضى على ترديد نفس المطالب لكن بصوت أقوى. لله درّهم. كل هذا والعصابات تسخر منهم وكذلك الشعب. لكن ما العمل وقد أصبح الهدف ليس تغيير الأوضاع وإنما توهّم الفعل وتوهّم الأهمية وحتى توهّم الوجود، لأن شعارهم أصبح : أنا أطالب إذا أنا موجود. وثمة مستوى آخر يصول فيه هذا العقل الغريب ويجول. إنه ميدان المحاماة في القضايا السياسية. وحتى لا يكون هناك أدنى سوء الفهم، أقول أنني آخر من يطعن في نزاهة وإخلاص وتفاني وشجاعة مئات المحامين الذين تطوّعوا بكل نبل للدفاع عن المظلومين. لكنني أوّل من طعن ولا يزال في أي جمود منهجي في التعامل مع وقف الظلم والمظالم. كم رأيت، ومنهم أخلص الأصدقاء، يدخلون لقاعة الجلسة، ينثرون الدرر على رؤوس البقر'' وهم أوّل من يعلم أن القوانين ظالمة والقضاء مستغل ( بالغين)ّ والقاضي فاسد والحكم جاهز. ومع ذلك لم يخرجوا ولو مرّة واحدة على سيناريو'' المحاكمة العادلة والعلنية بحضور الملاحظين الأجانب'' وإنما انخرطوا فيه مما سمح بتواصله كل هذا الوقت، بل شرّعوا له بدون وعي. كم سمعت على امتداد عشرين سنة من حضور المحاكمات السياسية، من يطالب الممثل البائس، المكلف بقراءة الأحكام التي قررها البوليس، بتطبيق العدل، يغازله بجمل من نوع'' نتوجه إلى القضاء بما هو حامي الحرية بموجب الدستور'' الخ. وفي كل مرّة كنت لا أعلم هل يجب أن انفجر بالضحك أم بالبكاء. كم حاولت إقناعهم أن كلامهم في النافخات زمرا، أن كل العملية تمثيلية من ألفها إلى يائها، أن الدفاع عن استقلال القضاء إن كان يتم بممارسات تؤصل نهج العملية القضائية في الوعي الجماعي فمهمة المحامي ليست صيرورته مع الوقت جزءا من المسرحية التي تؤصل قضاء التعليمات، ومهمتهم ليست إضفاء الطابع القانوني على المظلمة بالقانون، أن الحلّ الوحيد لوقف هذه الموبقات هو الانتقال من شجب المحكمة الذي استنفذ دوره إلى إدانة المسرحية برمتها، أن يقولوا للمخرج الخبيث: لن نكون كومبارس في تكرار مهزلي لمسرحية عرضت فصولها وعريت سماتها. ثمة من يحتج بفرصة لا تفوّت لفضح الظلم، في قاعة تضم مائة شخص نصفهم من البوليس ونصفهم الآخر من مناضلي حقوق الإنسان، والحال أن الجميع، بما فيهم البوليس والنظارة والملاحظين الأجانب، تحولوا مع الروتين إلى تقاسم الأدوار في مسرحية ركيكة قاسية... إن عدم إبداع وابتكار وسائل جديدة لتراكم بنيان فكرة إقامة العدل في القضاء والسياسة في بلد اغتالت سلطته العدالة يسقط الضحية مع الوقت في شبكة القامع الذي يتقن مع الزمن عملية تطويع وتدجين وسائل النضال المتكلسة.
هكذا أصبح الجزء الأكبر من هؤلاء الناس، من فرط المطالبة، يمثلون ''طلبة'' بالمعنى العامي للكلمة، أي متسولين ركيكين في سوق السياسة. يا كريم متاع الله ... شوية حرية ونزاهة في الانتخابات.. يا كريم متاع الله حقي في الترشح ...يا كريم متاع الله عفو تشريعي عام .... يا كريم متاع الله شوية ديمقراطية على رحمة الوالدين .....يا ملاذ العدل، يا حامي الدستور، يا قاضي القضاة ، براءة موكلي الله يخلّي لك وليداتك.
- الأنا فوق كل اعتبار: من ثوابت العقل المريض : كل فكرة لست صاحبها فاسدة، كلّ ايدولوجيا لا اعتنقها أفسد، كل مبادرة لست صاحبها تحارب، كل مشروع لست منطلقه يجهض، كل عمل لا أتحكمّ فيه خطر داهم، كلّ دائرة لست مركزها لا دارت ولا ارتكزت. و''إذا متّ ظمآنا فلا نزل القطر''.
المضحك في هذا العقل أنه لم يفهم قاعدة القواعد في السياسة وفي الحياة: لكي تكبر اصغر، لكي تجد نفسك ضيّعها، بقدر ما تضحّي وتعطي وتتنازل للمصلحة الجماعية، بقدر ما يزداد قدرك ونفوذك.
إن هذا العقل المريض عاجز عن تحقيق المصلحة الخاصة عجزه عن تحقيق المصلحة العامة. هو لا يفهم أن المصالح الشرعية كالاعتبار والتكريم والمشاركة، لا تتحقق بالأنانية وإنما بنقيضها، أن الناس لا يحترمون ولا يتذكّرون ولا يكرّمون إلا من وضع الأنا بصدق في خدمة ال'' نحن''.
- الإفتاء من فوق الربوة:المستقلّ في البلدان ''الطبيعية'' شخصية اعتبارية تعبّر عن أراء سياسية دون أن يكون لها طموح للسلطة. كان هذا شأن سارتر وكبار المثقفين في الغرب، ويمكن القول أن هذا وضع كبار الشخصيات الاعتبارية في بلادنا التي تحتاج الساحة السياسية لحكمتهم وتحكيمهم إن اقتضى الأمر. لكن المستقلّ القاعدي في بلانا غير هذا تماما. هو حزب سياسي بأتمّ معنى الكلمة لكنه حزب مكوّن من شخص واحد. هذا الحزب- الشخص لا يخجل من موازاة نفسه مع الأحزاب بل ويدّعي تفوقه الأخلاقي عليها موزّعا بكلّ صفاقة اللوم والنقد والدروس للجميع. هذا بخصوص الإفتاء. أما بخصوص الربوة فالرجل، أو المرأة، يربأ بنفسه عن السقوط إلى مستوى مشاكل التنظيم الذي يدّعي احتقاره. هو غير مستعدّ ليسلّم له بحريته العزيزة أو يتنازل له عن استقلاله الفكري الثمين. هو ينظر لكلّ هذا من برجه العاجي حيث لا قلق ولا إزعاج .... ولا خطر. وهذا بيت القصيد. انظر إلى ما خلف الموقف. ستجد أولا رفض مواجهة تبعات التنظم في نظام دكتاتوري يعاقب بشدّة على الأمر. أضف رفض اتخاذ مكان في خارطة الصراع من باب ''ربط الخيوط'' مع الجميع. أضف رفض تحمّل مصاعب العمل المشترك وما يتطلبه الأمر من صبر وذكاء وتفاعل وأعصاب حديدية وقدرة على بذل الجهد وتحمّل الأوجاع. إنه الثمن الباهظ الذي يرفض المستقلّ دفعه والحال أنه ضريبة الفعل في التاريخ الذي لا تقدر عليه إلا التنظيمات. وبخصوص الطهورية، هل لنا أن نذكّر أنّ غاندي لم يكن مستقلا وإنما كان روح حزب، أنّ مانديلا لم يكن مستقلاّ وإنما روح حزب آخر، أنّ لوثر كنج لم يكن مستقلاّ وإنما كان زعيم كنيسة وحركة منظمة . يا لهؤلاء المستقلّين – المستقيلين المتبرّئين من كلّ طموح للسلطة، يتأففون من مجرّد ذكرها وهم يسعون إليها مقنّعين الوجه يريدونها غنيمة بلا تكلفة.
القاسم المشترك بين كل هؤلاء عامل واحد لا شريك له : الاستكانة للخوف الذي تستعمله السلطة الاستبدادية كأداة الحكم الأولى والتي تصبح هي بدورها ضحيته. انظر لسياسة المستبدّ وستكتشف أنها لا تفهم في العمق إن لم يؤخذ بعين الاعتبار الخوف الشديد من فتح الملفات، من اتضاح حجم الفساد والخيانة. لا علاج للرهبة آنذاك إلا بالإرهاب. أنظر إلى المعارضة الراكعة ستجدها تتضوّع خوفا في أقوالها والأفعال. أما بخصوص المعارضة المترنحة، فالخوف أكثر أناقة وخبثا وأجمل تغليفا. هو يستعمل بذكاء فضاء الصياح المسموح به، لكي يغطّي على عجز الإرادة عن اتخاذ المواقف والتصرفات الذي لجأ إليها الإنسان الكريم منذ بداية التاريخ وهو يتعرّض لمصادرة حقوقه: الرفض والمقاومة والتضحية و الإصرار على قلب موازين القوى لصالح واقع جديد يبنى على أنقاض القديم.
ثمّة بالطبع علاقة جدلية بين كل أصناف الجبن هذه والانهيار المريع للعقل السياسي الذي يحكم اليوم بلادنا. فخوف ما يسمى بالمعارضة من المواجهة الحقيقية مع الاستبداد هو الذي فتح الباب بمصراعيه أمام الانتهازية لتصول وتجول وتستأسد على البلاد والعباد دون أن تخشى شيئا أو أحدا. هكذا لم تعد السلطة تخشى أن يصبح الكذب هو الحقيقة والتزييف هو الواقع والفساد هو الأخلاق ...... أمّا المنهجية فهي تكتيك ومناورة لترسيخ هذه '' المبادئ'' في مصلحة الهدف الأسمى أي الحفاظ أطول وقت على كنز علي بابا،الذي سقط بالصدفة بين المخالب القذرة و انتهاز الفرصة لن تتجدّد لاعتصار كل الممكن من اللذة والامتيازات ولو على حساب تدمير الوطن.
هذه الانتهازية المنفلتة من كل عقال، والتي تشكّل الطاقة التي تشحن كلّ أطراف اللعبة بنسب مختلفة، وصلت بنفسها والبلاد إلى نقطة اللاعودة، فلم يبق لها سوى تغذية إرهاب الدولة لتداوي خوفها من المستقبل المظلم، الشيء الذي يزيد في تعزيز الجبن عند الطرف الآخر، الشيء الذي يفتح الباب لمزيد من الظلم والبغي وهكذا دواليك إلى انهيار البيت فوق رؤوس الجميع.

العقل السياسي المتوحش
إنه جملة الآليات الفكرية التي تنتج مواقف وسلوكيات تصرّف التمرّد ضدّ الاستبداد بغية احتلال مكانه.
لا غرابة أن يتميّز بالخصائص المعاكسة للعقل الجبان. إن الطاقة التي تحركّه ليست الانتهازية وإنما التعصّب. هو يتسّم بالصلابة المفرطة وبالإرادية المبالغ فيها وبتفضيل العنف والحركية على الخنوع والاستسلام. هو يكره الأنا ويبغض الفرد ويحقر دوره بالمقارنة إلى أهمية الجماعة. لذلك تراه مستعدّا دوما للتضحية بالشخص من أجل القضايا الكبرى التي ينسى أن أهميتها تكمن أساسا في خدمتها لهذا الشخص لأنه وفي كل لحظة وفي كل مكان الممثل الشرعي والوحيد للوطن وللإنسانية.
وقد يكون من المهمّ الغوص في آليات هذا العقل الذي أسال أنهارا من الدماء والدموع عبر التاريخ والذي يبقى العقل الجبان بالمقارنة به أخفّ الضررين.
لنذكّر بأن العلماء يتشاركون في نفس طرق التفكير تجاه القضايا العلمية مهما تباعدت أجناسهم وجنسياتهم. تجد نفس الظاهرة عندما يتعلّق الأمر بالفنّ عند الفنّانين أيا كانت المدارس الفنّية التي يتبعون. كذلك نجد نفس مقومات الفكر عند عقائديين يدينون بالوفاء والولاء لهذا الدين أو لمنافسه ، لهذه المدرسة الفكرية السياسية أو لتلك.
ومن الخصائص القارّة لهذا العقل الثقة المطلقة في منطلقات الايدولوجيا وعدم تعريضها للمسائلة والنقد والمراجعة والاعتقاد بشموليتها وكمالها، ومحاولة قراءة كل ظواهر الحياة على ضوءها حشرا وتعسّفا وتجاوزا مع شديد الرفض لتاريخيتها، ناهيك عن الاعتراف بأنّ لها حدود وسلبيات . فما يحتجّ أحد على نواقصها عند التطبيق إلا وسارع أصحاب الشأن إلى الادّعاء أنّه أسيء فهمها ثمّ تجنيد كلّ أنواع كلاب الحراسة للذود عن الحصن المهدّد والانخراط السريع في نظرية المؤامرة التي تحاك من الخارج لإفشال المشروع العظيم. أمّا '' الحقائق '' التي يدافع عنها هذا العقل فهي دوما كاملة مكتملة لا تحتاج للدليل. هي الفرضية والاستنتاج في نفس الوقت. هي نتاج إيمان متخشب متصلب متحجر لا حياة فيه يشكّل وسيلة دفاع ضد تعقيد الواقع ومحاولة يائسة لإنكاره وتخطيه أكثر مما هو جهل بوجوده. ومن مظاهر العقل المتوحّش الوثنية اللفظية. توضع كلمات لا حياة فيها في مصاف المقدسات ، وتعبد كما تعبد اللات والعزى أي أن موضوع العبادة ( المعنى) غير موجود أوانه لم يعد يتجسد في المصطلحات الميتة. فالعقلية البدائية تؤمن بتواجد صلة وثيقة بين اللفظة وما تعنيه مثلما يؤمن الساحر بقدرته على إلحاق الأذى بإنسان ما إذا ما ثقب عين دمية ترمز له. وبسرعة تتحوّل الوثنية اللفظية إلى الإرهاب اللفظي. فمن طبيعة العقل المتوحش صبّ اللعنات بكثير من السخاء على أعدائه لأن المستحوذ على الكلمة يعتبر نفسه قيما على الفكرة. نحن إذن أمام عقل تبسيطي يلغي تعدد وتشعب الصلات بين المظاهر الطبيعية أو البشرية. فالصلات بالنسبة إليه قليلة واضحة لا برهان عليها ولكنها برهان على كل شيء، مع إلغاء سائر التجارب التي لا تدخل ضمن إطاره التفسيري. نحن أمام عقل يتعسّف على الواقع ولا ينتظر إلا أوّل فرصة ليتعسّف على البشر.
هكذا تراه حبيس منظومة التبرير والتنظير والطهارة والاطلاقية لمواقفه وشيطنة مواقف الآخر والتشدّد في رفضها وعدم محاولة فهمها من الداخل. هو مؤمن دوما أنه مصيب قد يتعرّض أحيانا للخطأ في مواجهة مخطئ قد يصيب أحيانا. إن هذا الفكر هو الذي تجده عند الأصولي الإسلامي بنفس الكيفية التي تجدها عند ألدّ خصومه تبعا لقانون يمكن أن يسنّ كالآتي: إن مواقف وتصرفات متطرف لائيكي أو قومي أو ديني في صراعه مع متطرف ينتمي إلى الاتجاه المعاكس ، ناجمة دوما عن تناقض مطلق في الأفكار وتشابه مطلق في التفكير.

العقل الديمقراطي
ربما قيل أن الكلام الذي سيتبع هو أيضا إفتاء من فوق الربوة.
كلاّ، إن هذه الأفكار حصيلة تجربة ربع قرن من الصراع وسط الساحة. الأهمّ من هذا أنها من بواكر عقل سياسي جماعي جديد يتشكّل ببطء وعمق داخلي وداخلكم وداخل المجتمع لتلبية مطالب وحاجيات عجز العقل القديم عن تلبيتها. كلّ مساهمتي أنني أنطق وأفصح بما لا زال مبهما وجنينيا في الكثير من العقول والقلوب التونسية العربية فهل لكم في هذه المبادئ والمقترحات، نتبادلها ، نفكّر فيها سويا بصوت عال، نشيعها بين الناس على مرّ السنين والعقود، ليتبلور في شعبنا وفي أمتنا هذا العقل الذي لن تقوم قائمة للديمقراطية دونه.
الفكرة الأولى أنه لا مجال لمعارضة في ظلّ نظام دكتاتوري إلا تصنعا وافتعالا أو تزييفا وتغطية إذ لا ينفع ضدّ الاستبداد إلاّ المقاومة، وأفضلها السلمية. إنّ من يريد أن يعارض في ظلّ الدكتاتورية، كمن يحمل السلاح في وجه الديمقراطية، مثلما ما حدث في أوروبا الغربية في السبعينات، أي أنّه يرتكب عملا عبثيا نتيجة عدم فهمه موقعه بالضبط ولا على أي مستوى هو يتحرّك.
لنسمّ إذن مبادئنا ومنهجيتنا وأهدافنا عقل المقاومة. وهذا عقل يجب أن يقطع كل صلة مع مبادئ ومنهجية وأهداف السلطة الاستبدادية وما أنتجت من أنصار و''معارضين''. ولأن الجذور العميقة للعقل السياسي المريض هي كل القيم التي تسند وتغذي وتبرّر الجبن والوحشية، فإن جذور العقل السياسي السليم هي ضرورة كل قيم العروبة والإسلام التي تضع الجرأة والتضحية في قلب كل موقف وكل فعل. إنها قيم عمر بن الخطّاب والمتنبّي وقريبا زمنا ومكانا منّا الدغباجي وجمال عبد الناصر ومحمود طه وأبو جهاد. ثمة شخصيتان حفظ تاريخنا وتاريخ الآخرين أروع الصور عنهما هما صلاح الدين وعبد القادر لأنهما مثلاّ خاصية بندرة أندر المجوهرات في أندر الكنوز : الفروسية. هذان الرجلان أروع ما في التاريخ العربي والإنساني لإدراكهما حكمة عميقة لا ينتبه لها المتوحشون وهي أن القوّة ليست العنف، أن القويّ من يتحكّم في قوّته وليس من يفرط فيها ليخفي ما به من جبن ومن ضعف. لهذا بقي عبد القادر وصلاح الدين في عقولنا وقلوبنا ولفضنا منها كلّ الوحوش الآدمية الذين تركوا المقابر الجماعية ومحتشدات الموت. هذه القيم، توقف ضخّها في عروق حياتنا الفكرية والاجتماعية والسياسية، فوصلنا للمستنقع الذي نتخبط فيه، نقيس عمق الانحطاط الشخصي والجماعي بدرجة تباعدنا عنها. ويوم تعود الجرأة والفروسية والتضحية سيعود لنا وهج الحياة وبريق الأمل ويصبح كل شيء ممكنا. كم كان شوقي محقا في قوله .
وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركابا.
لكن السياسة ليست أخلاقا مجرّدة نتباهى بها في أشعارنا. هي فعل في الواقع ومن ثمة لا بدّ للقيم أن تتواصل وأن تترجم عبر منهجية صارمة تتعامل مع العالم بقسوته وشراسته وصعوبة تغييره، لتعتصر منه كل الممكن الذي يسمح لنا كأشخاص وكشعوب وكأمة بأن نأخذ نصيبنا من الدنيا، لا نتسوّله من أحد أو نجمع فتاته من على طاولة الأسياد.
ترتكز هذه المنهجية بالأساس على خطوط القوّة التالية:
- القبول بالتعددية : إن الديمقراطية عقلية لا تستقيم إلا داخل فكر يقبل بتباين الرؤى وبالتعقيد والنسبية والتعددية في الظواهر الطبيعية والإنسانية. هكذا يستحيل على أي إنسان أن يكون ديمقراطيا وهو أحادي تبسيطي يؤمن بالمطلق والأزلي، فهذا فكر لا يتماشى إلا مع انخراط تامّ في نوع أو آخر من الاستبداد. فالفكر الديمقراطي لا يقرأ الظواهر إلا من باب النسبية والتاريخية والتواضع والبحث عن القواسم المشتركة والحلول الوسطى وعدم النفخ على النار و ترك جمرات القضايا الخلافية تنطفئ شيئا فشيئا.
-الواقعية الإيجابية: انظر إلى تحليل الواقعية السلبية لوضع بلادنا. إنها لا ترى إلا النصف الفارغ من الكأس. هي تركّز على وجود المائة وثلاثين ألف بوليس والدعم الخارجي وتشتّت المعارضة وسلبية الشعب الخ. لكن الواقعية الإيجابية ترى أيضا أنه لا يوجد في المائة وثلاثين ألف بوليس عشرة مستعدين للمخاطرة بحياتهم من أجل العصابات الحاكمة... أن إفلاس نظام فاقد الهيبة، فاقد المصداقية، فاقد الشرعية، أصبح يستعصي على الإخفاء داخليا وخارجيا... أن الشعب كالبركان الخامد الذي لا يعلم أحد متى سينفجر ولكنه سينفجر ...أنّ العرّاب الخارجي يريد التخلّص من الدكتاتوريات الفجّة كالتي يرمز لها الدكتاتور، ليستبدلها بأخرى أجود تغليفا. معنى هذا أن واقعيتنا ترى النصف الفارغ وترى النصف الملآن من الكأس. هي تستند على تحليل متعدد الأبعاد و معمّق للواقع ينطلق من ثراه وتعقيده وازدواجيته وديناميكيته المتواصلة. هي ترصد بدقة كل القوى المضادة للمشروع التحرّري في الوقت الذي ترصد بمنتهى الدقة كل القوى الدافعة له. هي التي لا تستهين لا بالعدوّ لا بالعراقيل، لكنها تراهن، حتى في أصعب الظروف، على قوى الخلق والتجدّد، التي لا تقلّ أهمية في فهم الواقع والتحكم فيه عن قوى العرقلة والتدمير. إنها واقعية الربان الماهر والشجاع المبحر على متن سفينة تتهددها الرياح العاصفة والموج الهادر وهي نفس الرياح والأمواج التي تدفع إلى الأمام نحو المرفأ وإلى الأعماق نحو الموت.
-الصلابة الاستراتجية:
إنّ شعار كل عقل سياسي سليم يعرف التاريخ هو أن الحقوق تمارس وتفرض وتفتكّ ولا تنتظر من الذين يستمدّوا وجودهم من انتهاكها. إن القوّة النفسية الضرورية لصراع طويل، مرير، خطر، لا تستمدّ إلا من الأنفة التي ترفض العيش في كنف الذلّ وخاصة من الإيمان بأن الشخص الكريم لا يعيش إلاّ لمهمّة تتجاوزه. إن العقل السياسي السليم من يفهم أنه أداة طيعة راضية لقوى مبهمة خفية تصنع من خلال تضحيات النضال ملامح وطن أجمل ومجتمع أكثر إنسانية . هل من سبب للعيش والموت أنبل وأهمّ من الشعور بأننا نصنع من آلامنا طريقا سيارة للحياة ؟ إن المهمة الأولى لكل عقل سياسي خلاق هي رسم الخطط وتجنيد الناس وتوفير الإمكانيات وخلق الفرص لتغيير موازين القوى لصالح مشروعه. وفي هذا الإطار يجب أن يكون واضحا أن الصلابة لا تتعلق فقط بالمضمون وإنما أيضا بطرق تحقيق هذا المضمون، حيث لا أخطر على مبادئنا وأهدافنا من الفكرة الحقيرة التي تجدها في أفواه كل الانتهازيين أي''الغاية تبرّر الوسيلة'' . فلم يعرف يوما أن هناك غايات نبيلة تحققت بوسائل قذرة وإنما أثبت التاريخ دوما أن بداية الالتجاء إلى هذا التبرير هو بداية المنزلق الذي سيضعنا على طرفي نقيض وفي الاتجاه المعاكس لما نطمح لتحقيقه.
المرونة التكتيكية:
بقدر ما يبقي الهدف دوما واضحا والخطّ مستقيما والوسائل شريفة والصلابة لا تلين في أي من هذه المستويات، بقدر ما يجب على الإنسان أن يكون مرنا في طرق تحقيقها. ثمة جملة من القواعد التي أثبتت أنها تحقق النصر، وإن لم تحققه فهي على الأقل تحفظ السمعة والشرف.
-قيّم دوما النتائج وأعد الكرّة: إن الفعل في السياسة هو دوما عمل شاق تتراكم فيه التجارب الفاشلة على التجارب الناجحة. وحتى تتغلب كمّا ونوعا التجارب الناجحة، لا بدّ في كل مرحلة من تقييم وسائل العمل للمراجعة أو التخلّي أو التحسين. أمّا سيدة الموقف فهي دوما التجربة لا غير.
لا تقاد المعارك السياسية ، خاصة في فترة المقاومة، إلا داخل تنظيمات قوية متماسكة. هذه التنظيمات معرضة لكثير من الصعوبات نظرا للمعركة الدائمة داخلها على السلطة والنفوذ. وهذا قانون لا معنى لتجاهله أو التنديد به من موقع الطوباوية. ومن خصائص العقل المريض تغليب الصراع الداخلي على الصراع الخارجي. ومن خصائص العقل السليم تصريف التناقض الداخلي بأقصى قدر ممكن من الحكمة والاعتدال والتنازل، طالما لا يمسّ بالثوابت، حتى يمكن تجنيد كل الطاقات ضدّ العدوّ أو الخصم.
ومن أهمّ مظاهر هذه المرونة التكتيكية ما يلي :
- اترك للصلح بابا ولعدوك منفذا.
قال نابوليون : ابني قنطرة من ذهب للعدوّ الفارّ. تسنّ قوانين الحرب في الصين القديمة أنّه إذا حاصرت عدوّا فإياك وإياك أن تحاصره من الجهات الأربع حتى يستطيع الفرار وإلا استمات في الدفاع عن نفسه وكلفك النصر عليه غاليا. لا بدّ للعقل السياسي السليم أن يترك دوما بابا للصلح ومنفذا للعدوّ لأن المهمّ ليس النصر بقدر ما هو النصر بأقل تكلفة ممكنة.
- إذا هزمت لا تستسلم إذا انتصرت لا تنتقم.
نحن نقيس دوما نجاحنا بالزمن البشري. لكن الفشل أو النجاح في السياسة، بما هي تحقيق تقدّم الأوطان والمجتمعات لا يقاس إلا بزمن الشعوب وهو جدّ طويل. لذلك على المرء الواثق من طريقه، ألاّ يستسلم أبدا للهزيمة، لأن مثلنا الشعبي محق ّ في قوله ''ما يعجبك في الزمان كان طوله'' أو '' الدوام ينقب الرخام''. لا بدّ أن تكون كلّ هزيمة منطلقا للمراجعة والتقييم والتغيير واكتساب مزيد من الصلابة والخبرة. وعندما يأتي النصر، فلا مجال لانتقام رخيص، فالانتقام في حالة النصر والنكوص على الأعقاب عند أوّل هزيمة، من خصائص العقل المريض المطبوع دوما بطابع النذالة والجبن.
- لا تكن مقلّدا أو سجينا لفكر أو هيكل وإنما مبتكر لهذا وذاك.
يتطلب الأمر أن تكون مستقل الفكر عن كل ايدولوجيا لا تتعامل مع أي معضلة إلا بعد تفكيكها إلى كلّ أجزائها والانتباه لتعقيدها وترابط مستوياتها لكن كن دوما ملتزما ومنسجما في جهد جماعي داخل المؤسسة. لكن إذا فرغت المؤسسة من '' السلعة'' فلا تهاجر للبرج العاجي وإنما بادر إلى خلق أدوات جديدة لأنه لا غنى عنها. إن المهمّة هما على مرّ السنين بناء أحسن المؤسسات والأنظمة وتعهّدها دوما لأنها هي وحدها القادرة على استغلال وتوظيف الطاقات الفردية وهي وحدها القادرة على تحقيق الفعالية والنجاعة التي تميز مجتمع حيّ وخلاّق . معنى هذا أن العقل السليم لا يطبق الوصفات وإنما يجرّبها ويتجاوزها باستمرار لما هو أرقى وأنجع.
بهذه العقلية يمكننا اليوم أن نتصور مؤسساتنا وبها يمكننا أن نبنيها يوم نكسر القيد.
***




18-أي إصلاحات على نظام ما زال في طور التجريب؟

عندما يصبح مرض نظام أو مؤسسة عصّيا على الإخفاء ، فإن هناك أمام المستعملين له ثلاث إمكانيات:
-تجاهل الأمر والمواصلة كأن شيئا لم يكن إلى أن ينهار البناء فوق رؤوس السكّان. هذا عادة خيار كل الأنظمة الاستبدادية والتي صحّت فيها مقولة حنا أرندت :''كل شيء في الدكتاتورية على أحسن ما يرام حتّى الربع ساعة الأخيرة''. لكنه يمكن أن يكون أيضا خيار النظام الديمقراطي نفسه مع وقت أطول بكثير لتسجيل الإفلاس.
- إدخال بعض الإصلاحات الترقيعية على النظام كمحاولة التحكّم في تمويل الانتخابات أو تحسين التمثيلية . إنّ الأمر بمثابة ترميم واجهة تصدّعت جدرانها لأن المياه الجوفية نخرت في دعامات البناء.
- إعادة التأسيس على قواعد جديدة تحافظ على أهداف الديمقراطية وقيمها لكن بآليات أكثر فعالية. يعني هذا الدخول في معركة طويلة المدى على أكثر من جبهة فكرية وسياسية. يعني هذا تكوين جبهة تهتمّ بالمشروع وتدفع به إلى الأمام. يعني هذا الوصول للسلطة والدخول في مفاوضات طويلة النفس مع مختلف الفرق السياسية ذات الرؤى والمصالح المتباينة. يعني هذا الوصول إلى صيغة تقدّم للشعب في إطار استفتاء على دستور علما وأننا سنتوجّه لشعب ملّ إصلاحات الدستور وتعوّد على أنها استشارات شكلية للتوقيع على شيك على بياض لصاحب السلطة. يعنى هذا أن علينا مغالبة ما لا يحصى من العقبات و الصعاب حتى نصل إلى إعمال الإصلاحات المنشودة. يعنى هذا أن القضية ليست قضية شخص أو حزب أو جيل وإنما هي قضية مجتمع وأنها قد تأخذ عقودا وعقودا.
لكن ألا يستأهل الإصلاح الجذري أن نعطيه كل الوقت وكل الجهد المطلوب ونحن نعلم أن فساد النظام السياسي هو الذي أفسد مجتمعاتنا وأفشل أمتنا على مرّ العصور؟ ألا يستأهل الأمر كل التضحيات ونحن نعي أن بلورة نظام سياسي فعّال يعني عودة الفعالية لمجتمعاتنا وأمتنا فترفع يومها إلى القمم التي هي جديرة بها إنتاجها من الثروة والعلم والقانون والجمال والقيم ؟
هذا خيارنا بعد التأكيد مجدّدا على إن الأفكار التي سيقع التعرّض لها ليست وصفة جاهزة ومكتملة. هي اقتراحات الهدف منها لفت انتباه الوعي الجماعي للإشكالية وأهميتها . هي منطلق النقاش وليست ختامه السحري. هي لا تنبع من تفكير تحصّن في برجه العاجي وإنما هي خلاصة ملاحظة سنوات طويلة لتجربة الديمقراطية وآلياتها في الغرب، كان فيها التعجب والإعجاب والغيرة، وكان فيها أيضا الوعي بعيوب ونواقص يجب التفكير فيها مليّا حتى لا ننقل في تربة بالغة الجفاف نبتة مريضة.
الملامح الكبرى والأفكار الخامّ.
لنذكّر أن أولى أهدافنا من كلّ نظام ديمقراطي هو قدرة التصدّي للاستبداد بما هو المرض الفتّاك والداء المتجدّد .
معنى هذا أن كل همّنا يجب أن يكون منصبّا على تحصين القلعة لأطول فترة من الزمن ضدّ عدو يحاصرها من الخارج ومن داخل كلّ واحد منّا .
إن أحسن درع للنظام الديمقراطي حال انتصابه، ليس جملة من القوانين المكتوبة في أكمل دستور، إنما كما قلنا توسيع المواطنة، في أسرع وقت ممكن إلى أكبر عدد من أعضاء المجتمع، عبر توسيع قاعدة المتمتعين بالحريات الفردية والجماعية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. إنها أولوية الأولويات في سياسة النظام لكن الأمر يتطلّب جهدا كبيرا وخاصّة وقتا طويلا. وفي الأثناء فإن النظام في وضع صعب وخطر. هو مثل جسم يعيش في محيط ملوّث ولم يأخذ بعد كلّ اللقاحات التي تمنحه الحصانة. لا بدّ إذن من إقامة المتاريس على مستوى المؤسسات، لتوفير القاعدة السياسية لوجودها و تحت تهديد بقايا استبداد تحاول منعها بكل ثمن من الوصول إلى برّ الأمان هذا. السؤال ما هو خطّ الدفاع الأوّل ؟
1-مجلس الجمهورية
الدستور هو النصّ الأسمى الذي يعبّر عن قيم الشعب وقوانينه. هو العقد الذي يربط بين مختلف مكونات المجتمع. لا بدّ له من حامي. هذا الحامي في الأنظمة التمثيلية شخص لا سلطة له اسمه رئيس الجمهورية. إن كان ضعيف الشخصية فهو شبه عاطل عن العمل براتب محترم، وإن كان قوي الشخصية فمصدر تشويش مستمرّ على رئيس الجهاز الحكومي نظرا لإرادة مقاسمته السلطة. وفي نظامنا المنشود لا يمكن أن يكون فردا حتى لا نعود إلى الأخطار التي نسعى بكلّ الوسائل للهروب منها
لنستعن هنا بنظرية بالغة الأهمية للباحث الروماني الأصل أدريان بيجان، المتخصص في دراسة الأنظمة الطبيعية، وتعرف في الوسط العلمي بالنظرية ''التشييدية'' théorie constructurale . إنها تنطلق من عجز أي نظام التخلّص من الشوائب والنواقص التي تهدّده وإنما كلّ الممكن .....تذويبها. وفي هذا المجال لا يكون التذويب إلا بوضع الفرد داخل العدد. لنقرّب هذه الفكرة بملاحظات علماء الاجتماع المختصين في سوسيولوجيا الجماعات الصغرى. لقد بيّنوا أن أي فريق عمل تحت ثلاثة أشخاص وفوق العشرين قليل الفعالية. ففي حالة العدد الصغير، تقلّ التفاعلات وينقص العطاء أو يكون التواطؤ. أما في حالة الكثرة، فإن المجموعة تنفجر إلى مجموعتين متناحرتين لتصبح الصراعات الداخلية و التحالفات ومشاكل التسيير سيدة الموقف. أما عندما يكون العدد كاف ومحدود، فإنه يسمح بربط علاقات إنسانية متينة وخفض سوء التفاهم وتبادل معمّق للخبرات في إطار المساواة. وفي مثل هذا الإطار يرتفع أداء الأشخاص وأداء المجموعة ككلّ بصفة ملحوظة. هذا العدد المثالي هو سبعة أو تسعة على أكثر تقدير ( لبلورة أغلبية في حالة التصويت ). إنها قاعدة هامّة في تذويب الأخطار وتفعيل الطاقات الفردية، يجب أن نتذكّرها في تشكيل مختلف طوابق نظامنا المنشود وأعلاهم بالطبع ما يمكن أن نسميه مجلس الجمهورية.
إن أهمّ وظيفة لهذا الهيكل الجماعي هي أن يكون قادرا على صدّ مؤامرات رئيس حكومة أفرزها برلمان منتخب اسمه في ألمانيا هتلر وموسيليني في إيطاليا وانديرا غاندي في الهند أو سالازار في البرتغال وغدا في أي قطر عربي زيد أو عمر.
لنتذكّر كيف يقع الاستيلاء عادة على مؤسسات الدولة. إن قدرة الانقلاب على النظام الديمقراطي، مرتبطة بوجود الظرف والمبرّر أي ظهور أزمة مهدّدة بعودة الفوضى. ما أكثر الأزمات في أي مجتمع مفتوح وشفّاف مثل المجتمع الديمقراطي قد تدفع البعض إلى ضرورة ''إنقاذ '' البلاد أو الأمن والقانون. لكن الظرف المناسب وحده لا يكفي. يجب أن توجد آليات داخل المؤسسات تمكّن من هذا.
إن الفيروس الذي يدخل الخلية ويدمّر الجسم، بحاجة للاستيلاء على حامض DNA الذي هو الكمبيوتر المتحكم في المفاعلات الكيماوية. هكذا ترى الفيروس يتسلّل داخل الخلية ثم يدخل نواتها ثمّ يذهب مباشرة إلى مصدر التحكّم ليحوّل وجهته حتى يؤمّن له الغذاء والتوالد على حساب مرض وحتى موت الخلية والجسم. كذلك يفعل الدكتاتور المتربّص .
نحن لا نستطيع التصدّي له إبان التسلّل إذ لا يمكن أن نضع طبيبا نفسيا وراء كل مسئول لتصيّد المرضى بالبارنويا وجنون العظمة. كذلك لا يمكن أن نضع شرطيا وراء كلّ ضابط ولا ضابطا وراء كلّ شرطي . لكننا نستطيع تصوّر نظام يجعل الفيروس غير قادر على الاستيلاء على آليات الخلية.
لنتذكّر ما هي أهمّ خاصية الأجهزة الرئيسية التي تفرض الدكتاتورية أي الجيش والشرطة والإدارة . هذه الخاصية هي الانضباط والطاعة المطلقة للماسك بزمام الأمور. هكذا ترى أجهزة الدولة المصادرة تواصل طاعة الفيروس –الدكتاتور حتى وهو يخرّب البلاد تحت عينيها ، حتى وهي تشارك المجتمع في كرهه والأمل في الخلاص منه. هذا ما يجعل الدولة معرّضة دوما لعملية سطو من داخلها لخاصية غرستها فيها عن قصد الأنظمة المتتابعة. ثمة حلّ تقني واحد لجعل يد الفيروس- الدكتاتور تقبض الريح وهي تسعى للتحكّم في هذه الأجهزة. إنه حلّ مرتبط بهيكلية جديدة لتوزيع السلطات.
هذا الحلّ التقني هو '' تعار'' الأجهزة الأمنية والجيش والإدارة للسلطة التنفيذية لا أن تعطى لها. فلا يؤدّى كبار المشرفين عليها قسم الطاعة لمن سنسميه مرحليا المسئول الأوّل عن الدولة، وإنما لمجلس الجمهورية الذي له وحده حق التسمية والترقية، كلّ هذا في إطار حقّه في إعفاء هذه الأجهزة على مختلف مستوياتها من واجب الطاعة مما يعني آليا نهاية مهمّة رئيس الجهاز التنفيذي.
لكن مدى فعالية هذا الجهاز إن سحبت منه الإدارة والشرطة والجيش؟ هنا يجب أن يكون واضحا أن ما يسحبه مجلس الجمهورية ليس حقّ الجهاز التنفيذي في التسيير الطبيعي لهذه الأجهزة وتوجيهها حسب الخيارات السياسية المتفق عليها وإنما حقّ التصرّف فيها خارج القانون واستعمالها لأغراض تتنافى مع أغراض الدستور . هكذا لن يصبح البوليس أداة للتعذيب وملاحقة الخصوم السياسيين ، والقضاء جهاز مكلّف بإضفاء شرعية على القمع السياسي والفكري، والجيش أداة طيعة تطلق الرصاص على المتظاهرين بغير موجب أو حق .... كلّ هذا ليحافظ شخص واحد على حق الخلود في منصبه وبطانته على حقّ النهب والسلب.
لنتصوّر السلطات التي يجب أن يتمتّع بها المجلس حتى تقام أمام وجه الاستبداد كلّ التحصينات الممكنة
- مراقبة مدى ملائمة القوانين والممارسات لقيم الإعلان والدستور وإبطال كل القوانين والسياسات المنافية لهما وضمان استقلال القضاء .
-الإشراف على ''أبراج مراقبة اندلاع النار'' أي مراكز وطنية تعطى لها الموارد المالية والبشرية الكافية لتتبع ظواهر الفساد في أي هيكل أو مؤسسة ولو كانت المؤسسة القضائية أو في ميادين الصحافة والمال والمخابرات ومراكز القرار السياسي. وانطلاقا من المتابعة الدقيقة لهذه الظواهر ينشر المجلس تقريره السنوي ويقدم توصياته للمجتمع المدني وأوامره للجهاز التنفيذي بالعلاج والوقاية.
- وضع ومتابعة ''خارطة '' المنظمات الحزبية والمهنية والنقابية والإنسانية والتنموية والثقافية، الفاعلة في المجتمع، مع تحديد المواصفات لكي تكتسب كل منظمة صفة الجمعية المواطنية أي تلك التي سيحق لها الترشيح والتصعيد لبناء مؤسسات الدولة والإشراف على العمليتين.
- تقييم عمل النظام السياسي وفعالية الأنظمة الثانوية، بعد فترة زمنية كافية من التجريب، عبر تجنيد المفكّرين وأهل الاختصاص وتنظيم الاستفتاءات الدورية لتحسين الهياكل وطرق العمل في كل مستويات النظام ككلّ.
نحن بداهة أمام هيكل له صلاحيات ما يعرف بالمجلس الدستوري في الديمقراطيات التمثيلية، لكنه مجلس دستوري بصلاحيات أوسع وخاصّة بأظافر وأنياب.
هو حكم ، لكن مدجّج بالسلاح وليس فقط بصفارة إنذار. هو ممثل الشعب ورمزه. هو رئاسة جمهورية جماعية تعطي النظام السياسي أهم ما يطلبه :الهيبة والاستقرار وأسباب القوّة.
السؤال- الهاجس: ما الذي يمنع هذا المجلس من أن يصبح هو الدكتاتور أو أن يفرز داخله شخصا نافذا يلعب الدور حتى ولو تحت غطاء الجماعة. صحيح أنه يمكن( بالرغم من كل قوانين الإحصائيات ) للسبعة أو التسعة أن يكونوا كلهم لسوء الطالع مرضى نفسانيين وغير أكفاء وغير جديرين بالمسئولية، أو أسوياء تفاهموا بينهم لأسباب ما على إرجاع الاستبداد تحت هذه الحجّة أو تلك. ما أكثر التعلات التي يوفرها وضع صعب ومضطرب لنتذكّر أننا لا ندّعي التخلّص من الخطر وإنما تذويبه.
لا بدّ إذن من تدابير وقائية أخرى.
لنستعرض، ما هي السلطات التي لا يجب أن يتمتع بها المجلس في إطار توزيع وتوازن السلطات. هو لا يعيّن الحكومة ولا يتدخّل في سنّ السياسيات الظرفية ولا يملي إرادته على الجهاز التشريعي أو القضائي. هو لا يسمّي ولا يرقّي ولا يعزل في هذه المؤسسات. هو جهاز متباعد وقور صامت طالما تسير قواعد اللعبة كما ينبغي وفقا لقواعد الدستور، لكنه يصفّر الأخطاء ويوقف اللعبة إذا خرجت عن القواعد.
ثمة طريقة ثالثة لمزيد من تذويب الخطر تلخصها مقولة ''وداوني بالتي كانت هي الداء''. إنه مبدأ التلقيح حيث نحقن الجسم بالجرثومة القاتلة، لكنها جرثومة انتزعت كلّ أنيابها. إنّ النظام الذكي من يعطي الأفراد ما يريدون لكن في مقابل مكاسب أهمّ. لنتذكّر دوما أن لبّ ومحرّك الاستبداد إرادة الدوام في السلطة. فلم لا نسدّ باب البلاء هذا بتسمية أعضاء مجلس الجمهورية مدى الحياة؟ فهؤلاء الناس لن يكون لهم مصلحة في قلب النظام بما أنه يضمن لهم أقصى ما يريدون . أضف على هذا أنّهم يتوفّرون على كلّ أدوات سدّ الطريق أمام شخص أو مجموعة ستهدّد بالضرورة مصالحهم والمصالح العامّة التي هي مصالحنا.
من البديهي أن مجلس كهذا لا يمكن أن يستمدّ قوته المعنوية إلا من دستور يمنحه الصلاحيات ومن طريقة اختيار أعضاءه، أخيرا وليس آخرا من نوعية المنتمين إليه. يجرّنا هذا إلى تصوّر كيفية بناء هذا الهيكل. لنبدأ بأسهل النقط. ثمة شروط تبدو بديهية وهي أن يكون أعضاء المجلس رجال ونساء ما فوق الخمسين، مشهود لهم بالخبرة والتألّق في ميدانهم ومعروف عنهم العطاء المتواصل للشأن العام ونظافة اليد، ينتمون إلى ألوان الطيف السياسي بغضّ النظر عن وزن هذا التيّار أو ذاك، ينتخبون بينهم منصب الرئيس لفترة واحدة من سبع سنوات. إنها فترة لها من الطول ما يكفي لتحقيق الاستقرار داخل المجلس ولها من القصر ما يدفع الطموحين إلى العمل لإظهار جدارتهم بالمنصب. بطبيعة الحال هم لا يترشحون وإنما ترشحهم أحزاب ومنظمات المجتمع المدني وشخصياته الاعتبارية كما هو الأمر بالنسبة لجائزة نوبل ، لكن لجنة الجائزة هي الشعب بأكمله.
ولقائل أن يقول أننا عدنا إلى إشكاليات الناخب والمنتخب والعملية الانتخابية التي أسهبنا في نقدها. هذا غير صحيح لاختلافات جوهرية مع الانتخابات الاشهارية بما يتخللها من تضليل ووعود معسولة. ففي هذه الحالة لا وجود لرقصة بطن من قبل المرشحين، إذ يتمّ اقتراح ضعف العدد المطلوب من بين صفوة الصفوة من قبل منظمات وأحزاب تعلم أن فوز مرشحيها يمرّ بحسن اختيارها لهم. هم غير مطالبون بالقيام بأي حملة انتخابية، ومن ثمة لا مال ولا تمويل ولا من يحزنون. بل يمكن اعتبار قيام مثل هذه الحملة، سرّا أو جهرا ، للفوز بالترشيح وبالأصوات مبطلا للترشّح.
كذلك ليس لهؤلاء المرشحين الدفاع عن ترشّحهم فماضيهم هو ملفّهم. ليس لهم الدفاع عن برنامجهم لأنه برنامج كل المرشحين . هو جملة المهامّ القارّة المناطة بعهدة المجلس الأعلى المحددة في الدستور، لا إضافة فيها ولا مراجعة. أمّا الناخبون فهم أمام عملية لا لبس فيها ولا غشّ، الهدف الأساسي منها التصديق على عقد مباشر بينهم وبين صفوة مكلفة بحماية المجتمع من لعنة الفوضى ولعنة الاستبداد. هم يعلمون أن مشاركة الجميع ترمز إلى إعطاء تفويض قويّ وشرعية لا جدال فيها لجهاز سيسهر على حماية حقوقهم وحرياتهم.
2-مجلس القضاء.
في النظام الدكتاتوري وقع الطلاق بالثلاث بين الحق والقانون، حيث سخّر القضاء لإضفاء مسحة من القانون على انتهاك الحقّ . حصل هذا لعيب في تكوين القضاة وانتدابهم واعتبارهم مجرّد موظفين عند الدولة يخضعون لها كما يخضع بقية الموظفين. أما في النظام الديمقراطي التمثيلي فإن للجهاز التنفيذي دوما دور في مراقبة الجهاز القضائي والتسلّل إليه عبر حق التنفيذي في تسمية عدد معين من ممثليه في المجلس الأعلى للقضاء أو عبر نظام وكيل الجمهورية أو عبر وزير العدل. وحتى يكون القضاء مستقلاّ فعلا، يجب فكّ كل ارتباط بينه وبين السلطة التنفيذية، فتلغى وزارة العدل لتستبدل بمفوضية إدارية تدير شؤون المحاكم والموظفين تحت إشراف المجلس الأعلى للقضاء. هذا المجلس يجب أن يكون منتخبا من القضاة والمحامين وجمعيات حقوق الإنسان فقط وممثلي المتقاضين هو وحده في النظام المنشود المسئول عن كل ما يخصّ القطاع. هو مطالب بتطوير خدمات التقاضي داخل المحاكم لكن أيضا تشجيع بناء خطّ الدفاع الأوّل في شكل لجان مدنية في الأحياء والمدن والقطاعات لتشجيع الصلح قبل الالتجاء إلى المحاكم. وفي نظامنا يجب أن يخرج السلك من الوظيفة العمومية ليعطى وضعا استثنائيا بخصوص التكوين والانتداب والترقية والمرتبات.
ولأنه لا وجود لقطاع مطلق الحرية والتصرّف، فإن على المجلس أن يخضع ككل المجالس ، لتقييم داخلي من صلب الجهاز تقوم به مؤسسة منتخبة ومستقلّة تراقب أداءه ولتقييم خارجي تقوم به جمعيات للمواطنين الذين يهمّهم أداء العدالة.
3-مجالس المواطنين.
إن هذا الجزء من هندسة النظام هو الأصعب لأنه يحتمل العديد من الحلول التي لا تخلو أي منها من العيوب والنواقص. ليس من البسيط استنباط نظام لا مجال فيه لتفويض على بياض لمجهول لبق وحزب مثقل بأموال الأرستقراطيات المخفية في إطار عملية إشهارية تبنى عليها مؤسسات إدارة الشأن العامّ . لكن في نفس الوقت من أين لنا آليات تبني هذه المؤسسات الضرورية دون الوقوع في شكل أو آخر من التفويض علما وأن المشاركة التامة لكلّ أعضاء المجتمع في كل مستويات القرار، أمر غير قابل للتحقيق تقنيا بل وليس ضروريا لفعالية النظام.
إن أحسن إمكانيات تربيع الدائرة هي محورة كل عملية البناء حول أولوية النسيج الجمعياتي الذي يكوّنه المواطنون من أحزاب وأيضا من نقابات وروابط وجمعيات مختلفة . لنتصوّر أن هذا النسيج هو الذي سيعيّن على المستوى المحلّي أعضاء المجلس البلدي وعلى المستوى الجهوي أعضاء المجلس الجهوي وعلى مستوى الوطن المجلس الوطني أي البرلمان. هل فكّرنا يوما في المفارقة التي تصرّ على بناء مجلس الشعب هذا انطلاقا من التمثيل للأحزاب في عصر انتقلت فيها القوة السياسية لمؤسسات الإعلام والمال والثقافة والجمعيات المدنية والنقابات والشخصيات الاعتبارية ؟
ثمة إنجاز هامّ في مثل هذا التنظيم وهو أن المجالس لن تمتلئ بمجهولين وقع اختيارهم بصفة عمياء على هوى ايدولوجي أو وعود معسولة أو شراء ضمائر أو تجنّد قبلي . هي ستمتلئ بنخبة من العاملين في الحقل السياسي والاجتماعي والذين تمرّنوا طويلا على الشأن العامّ داخل منظمات المواطنين المستقلّة والفاعلة.
ثمة أيضا فضيلة أخرى لمثل هذا الخيار هو أن الانتخاب سيقع داخل التنظيمات حيث سيختار العاملون داخلها من يمثل المنظمة من بين جملة النشطاء الذين ترشحهم الجمعية العامّة للمنظمة.
أخيرا وليس آخرا ، فإن مثل هذا الخيار سيمكّن من تمثيل طيف القوى الفاعلة دون إقصاء أو وصاية. ثمة أيضا تقنية التصعيد وهي أن تتشكّل المجالس الجهوية من جزء محدّد ممن تألقوا في المستوى البلدي ووقع وفق شروط معينة تصعيدهم إلى المستوى الجهوي. وبدورها تصعّد المجالس الجهوية من تألقوا إلى المجلس الوطني.
السؤال بالطبع، كيف سنحدّد نصيب هذا الحزب وتلك المنظمة من المقاعد. ثمة داخل المجتمع المدني تيارات سياسية كبرى معروفة ومنظمات نشطة وفعالة ونقابات قوية ومنظمات مهنية ذات وزن وشخصيات اعتبارية لها قيمة وهذه بالطبع لها الأولوية . ثمة بقية الجمعيات التي لا بدّ أن توفي بجملة من الشروط الصارمة من الأقدمية والفعالية والنشاط والديمقراطية الداخلية حتى تستطيع أن تعيّن. إن دور مجلس الجمهورية كما أسلفنا وضع المقاييس والشروط التي تمكّن من جعل اللعبة شفّافة ونزيهة وقادرة على ملء المؤسسات بخير ما في المجتمع بغضّ النظر عن اللون الحزبي أو الانتماء العائلي أو القبلي.
لا شكّ أن الأمر لن يكون سهلا وأن المفاوضات ستكون صعبة. لكن لا خيار لنا اللهم إلا إذا فضّلنا الطريقة القديمة. ثمّة اعتراض منهجي ومبدئي هامّ وهو إلغاء دور'' الشعب'' كما لو كان له دور حقيقي في النظام التمثيلي. وبالعكس من هذا النظام، فإنّ خيارنا يعطيه من السلطات ما لم يتوفر عليه أبدا. فالشعب هو الذي يعطي الشرعية لمجلس الجمهورية باختيار أعضائه بالانتخاب المباشر. نرى أن الجزء الفاعل منه أي المكوّن من المواطنين هو صاحب القول الفصل في اختيار المسئولين في كلّ مستويات النظام وذلك عن خبرة وتجربة. وحتى الرعايا أو المواطنون تحت التأسيس، يستطيعون التدخّل في العملية عبر التقييم المتواصل لسياسات المجالس ناهيك عن تشجيعهم في مثل هذا النظام على الانخراط في العمل القاعدي.
لنتذكّر أن نظامنا يتطوّر داخل مجتمع ترتفع داخله يوما بعد يوم ليس فقط المطالبة بحق الاعتبار وإنما أيضا نسبة التعليم ورغبة المشاركة. لنتذكّر أيضا أنه مجتمع الإعلامية، أنّ كثافة الحواسيب قد تصل يوما كثافة أجهزة التبريد والطبخ ، أن الاستفتاء على قضايا هامة قد يتمّ عبر هذه الشبكات المعلوماتية لتقييم سياسة بلدية أو حتى برلمان. هكذا نستطيع تصوّر''مواسم'' للتقييم تشارك فيها كل فئات الشعب وذلك حسب الطلب وتؤدّي إلى تعطيل هذه المؤسسة أو تلك. كما يمكن تصوّر مبادرات مواطنين يطالبون بالاستفتاء في كل موضوع يخصّهم، كما هو الأمر في سويسرا، إن تحصلوا على عدد معيّن من الإمضاءات.
4- مجلس الدولة:
لنذكّر أنّ الدولة ليست في منظومتنا الفكرية أكثر من البيروقراطية التي تصرّف مصالح الشأن العامّ بصرف المال العمومي . معنى هذا أنها ليست الجمهورية وليست المجتمع وإنما أداة في خدمتهما.
لكنها أداة هامّة وليس لنا الحق في تمييعها أو ضربها أو العمل على تهميشها كما يفعل النظام الليبرالي. إنّها أداة التوازن الأولى في مجتمع تخترقه قوى عديدة من أهمها الأرستقراطيات المخفية التي تسعى إما للسيطرة على الجهاز أو تقزيمه إن لم تنجح في ذلك.
لنسم القائم على الجهاز أمين الدولة مثلا وهو رئيس الحكومة في الديمقراطية التمثيلية.
لنتصوّر أن مجلس المواطنين الأعلى أو المجلس الوطني (البرلمان) هو الذي يختاره، من بين شخصيات تحظى بوفاق يتجاوز الحدود التنظيمية، على قاعدة برنامج سياسي معمّق موثّق ومرقّّّم - حتى لا يطلق الوعود جزافا- مع توقيت زمني دقيق وأدوات تقييم للبرنامج . لنتصوّر أن الأمر يتمّ بعقلية مجلس إدارة يختار أحسن عرض لبتّة عمومية هي في هذه الحالة تسيير شؤون الدولة في إطار المبادئ العامّة للنظام الديمقراطي. إن إحدى شروط ''البتّة'' هي عدم التدخّل في الميدان التشريعي الذي هو من اختصاص المجلس الوطني ولا في الميدان القضائي الذي هو من اختصاص مجلس القضاء ولا في صلاحيات مجلس الجمهورية، فميدان أمين الدولة هو تسيير دواليب هذه الأخيرة والتنسيق بينها وبين باقي القوى الفاعلة في المجتمع. إن أهمّ مهامه في الواقع هي تسيير الأنظمة الثانوية التي تنتج التعليم والصحة والأمان والتجهيز والتنسيق مع المحيط القومي والعالمي. معنى هذا أن الحكم له أو عليه يمرّ بفعالية هذه الأنظمة في أداء مهامها وأن البتّة هي الخطّة لتحسين أدائها. ها قد تغيّرت الأولويات لأن أمين الدولة سيطالب بالنتائج وهو ما سيجبره على ألاّ يعهد بالأنظمة الثانوية لمن هبّ ودبّ في إطار صفقات سياسية بين أحزاب وشخصيات يقع فيها تقاسم كعكة السلطة.أليس من الغريب أن يتم اختيار المسئولين على أدق القطاعات وأصعبها إدارة على قاعدة الهوى والصداقات والحسابات الحزبية. لقد جرّبت شخصيا في تونس تتابع وزراء صحة على امتداد ربع قرن، و كأن بينهم سباق في الحصول على قصب السباق في الرداءة وقلة الفعالية. وكان أرداهم على الإطلاق الأطبّاء ، لأن أهل مكّة ليس دوما أعرف بشعابها، وليسوا دوما من التقنيين كما يتبادر للذهن. بل عرفت منهم من اعتمد سياسة ''لا نغيّر شيئا ولا نحرّك ساكنا وإنما نتملّق ليلا نهارا للزعيم الأوحد'' فترقى ليصبح وزيرا للبوليس والتعذيب وترك وراءه الجهاز في حالة لا تصدّق من الخراب. لكن حتى لو كان الوزير صادق النية مثل الرجل الطيب الوحيد الذي احتل المنصب في بداية الثمانيات، فإن تعقيد الجهاز وما يتطلب تسييره من مهارات متعدّدة، ناهيك عن العبور السريع ،لم يكن يسمح إلا بأقل الفعالية. هل يعني هذا الركون، كما يتم ذلك دوريا عند تصاعد أزمات النظام التمثيلي، إلى حكومة التكنوقراط ؟ طبعا لا. يجب ألاّ ننسى أنهم ليسوا الأقدر على التعامل الموضوعي مع المشاكل الاجتماعية خلافا لما يفترض. هم بشر معرضون كغيرهم لتوظيف السلطة. هم أيضا مواجهون بخيارات ليست تقنية فحسب وإنما أيضا سياسية، فالمهمة تقع دوما على خطّ التماس بين السياسي والتكنوقراطي. لا بدّ للمسئول(ة) الفعّال(ة) أن يكون في نفس الوقت سياسي(ة) ومختص(ة) في الميدان. إن الحلّ الوحيد هو تطبيق قانون أدريان بيجان في تعويم الشوائب للتقليل من الأخطار. هذا لا يكون إلا باستبدال الوزير بفريق وزاري صغير العدد تتوفر فيهم الخبرة السياسية والمعرفة التقنية الدقيقة بالميدان و تتم رئاسته بالتداول بيينهم وتعطى لهم مهلة زمنية كافية لتقييم الموجود وإدخال الإصلاحات ومتابعتها وتكوين الخبرة التي يمكن أن تنقل للفريق الموالي.
لمتسائل أن يتساءل هل سنطبق نظام الفرق على كل المراكز والمهامّ فيكون لنا سبعة سواق سيارة لكل عضو السباعي وسبعة بوابين لكل مدخل إداري حتى يتمّ فتح الباب بكلّ كفاءة ومحاصرة كلّ بوّاب لا ينحني بالرشاقة المطلوبة أمام الزوّار. إنها فكرة لطيفة يمكن أن تحلّ مشكل البطالة، لكن أخشى أنها ستؤدي إلى كثير من الفوضى. إن مهمة مهندسي النظام هو اكتشاف المراكز الهامّة التي تتفرّع منها القرارات المصيرية. وهذه وحدها التي ''تسبّع''. أما باقي المستويات فتبقى بطبيعة الحال من مشمولات الأفراد. ألن يجبرنا هذا على أن يكون لنا سبعة مكاتب فخمة وسيارات فارهة للسيد الوزير المتعدّد ؟ أولا ليس من الضروري أن تكون السيارات الإدارية والمكاتب فخمة، ثانيا، لو سلّمنا بأنه لا مناص من الأمر، فإن هذه التكلفة الإضافية، قطرة من بحر سوء التصرف والتبذير الذي تتسبب فيه القرارات الفردية الطائشة وأحيانا الجهل المشين للوزير المبتدئ الذي يصحّ فيه مثلنا الشعبي :" يتعلّم الحجامة في رؤوس اليتامى''.
ثمة فكرة هامّة أخرى في النظرية التشييدية للمهندس الروماني وتقول أن النظام الأسلم هو الذي ينجح في بناء أحسن الروابط بين مكوناته. ومن هذا المنظور نفهم عيبا رئيسيا في النظام الصحي أينما وجد. هو يرتبط سياسيا مباشرة برئيس الدولة الذي يسمي الوزير ويصرفه على هواه. هذا ما يجعل النظام الصحي لا يتحرّك إلا في علاقة عمودية مع سلطة الأشراف هذه، شأنه في هذا شأن الأنظمة الثانوية الأخرى .لكن الصحّة في الواقع ليست من مشمولات وزارة الصحة (هي موضوعيا وزارة الخدمات الطبية العلاجية والوقائية). فالصحة ميدان أوسع من العلاج وحتى الوقاية إنّها لا تتحقق للشعب إلا إذا توفرت عوامل مترابطة مثل سلامة البيئة والتربية والتغذية السليمة والسكن الصحي ثم...المستشفيات. معنى هذا أن توفير الصحة للمجتمع يمرّ بتعاون وثيق بين وزارة نسميها تجاوزا وزارة'' الصحّة'' وزارة البيئة ووزارة التربية ووزارة الزراعة. فالتنظيم الأسلم هنا هو قيام جهاز تنسيقي وسطي بين الوزارات المعنية بصفة مباشرة أو غير مباشرة بالصحة. إنها نفس الوضعية لوزارة التربية التي تحتاج للتنسيق مع وزارتي الإعلام والثقافة حتى تتجانس السياسات وتتكامل لخلق مجتمع متعلّم ومتشبع بقيم الديمقراطية .كذلك الأمر بالنسبة لكل القطاعات الأخرى حيث لا يوجد اليوم ميدان لا تتقاطع فيه الاختصاصات ولا تتكامل. هذا التنسيق الأفقي لا يمكن أن يترك لإرادة هذا أو ذاك وإنما يجب أن يتمّ قانونا بخلق تجمعات وزارية يشرف عليها مجلس مشترك يتشكّل من رئيس كل فريق وزاري. ثمّ تفرز هذه التجمعات فريقا يجمع بين التخصص وسعة الأفق يشكّل تحت رئاسة أمين الدولة مجلس الدولة المكلف بالسهر على السياسة العامّة.
إن أمين الدولة لا يمكن أن يعمل بصفة فعّالة إلاّ إذا أعطي حق اختيار الفرق السياسية-التكنوقراطية المشرفة على الأنظمة الثانوية. لكن هذا الحق يجب أن يبقى خاضعا لمصادقة مجلس المواطنين الأعلى حتى تتواصل المراقبة إلى أبعد مدى ولا يتسلل الأشخاص غير المناسبين إلى مراكز القرار لقرابة الدم أو العقيدة.
*
لنطبّق الآن تحليل( إ-س-م )على نظام نعلم من البداية أنه قد يكون أحسن من النظام الكلاسيكي لكنه لن يكون خاليا من الثغرات والعيوب. أمّا الإيجابيات فهي بديهية. إنها تجعل من عودة الاستبداد عبر شخص أو مجموعة أمرا صعب للغاية، فالسلطة قوية وموزعة في نفس الوقت. كذلك يمكننا أن نتوقع ارتفاعا كبيرا في فعالية نظام تشارك في صنعه والمحافظة عليه كل القوى الفاعلة في المجتمع وتستمدّ من وجوده اعتبارا كان محصورا على أضيق نطاق. يمكننا أيضا أن نتوقع من مثل هذا النظام انخفاضا هاماّ في العنف الذي كان ضروريا لبقاء النظام الاستبدادي وحتى لنظام التمثيل ولو بصفة أقل فجاجة ووضوحا. هذا النظام سيكون أيضا أكبر عنصر في توسيع المواطنة بما هي مشاركة في الشأن العامّ . فمن البديهي أنه سيرفع إلى عنان السماء عدد ونشاط وفعالية جمعيات ، يعلم الجميع أن العطاء المميز داخلها هو من هنا فصاعدا مفتاح السلطة.
والآن ما هي العيوب ؟ ثمّة التي نستطيع استقراءها والتي ستفاجئنا بها التجربة. أمّا التي يمكن من الآن التنبؤ بها ومحاولة تصوّر حلول لها فتتعلق أساسا بالنقط التالية:
- إنّ حقّ تعيين دواليب الدولة الكبرى عبر النسيج الجمعياتي، ستعطى للأقلية النشطة والمتحرّكة التي تسمى المجتمع المدني امتيازا هامّا بالمقارنة مع الجزء الخامد من المجتمع. لم لا؟ لماذا يسّوى من يمارس حقوقه ومن يريد ها على طبق من ذهب وهو ليس مريضا أو ممنوعا من المشاركة؟ حتّى إذا افترضنا أن المواطنين الذين يتحركون عبر العمل التطوعي في الشأن العامّ هم الأرستقراطية الجديدة، فهي على الأقل أرستقراطية مفتوحة ، يمكن الانخراط فيها في أي وقت عبر البذل والعطاء. هي أرستقراطية شفافة وليس مخفية ومخادعة. وعلى كلّ حال فإن الرعايا المؤقتين يشاركون في تعيين مجلس الجمهورية ويعطون رأيهم في أداء مجالس المواطنين.
- يمكن للأحزاب وللمغامرين المسارعة لخلق بل واختلاق جمعيات تافهة تتصارع بينها على عظم السلطة. كما يمكن أن تتمّ داخل هذه التنظيمات، كل الصفقات المشبوهة تحت ستار ترشيح هو ترشح وانتخابات هي تعيين الأصحاب والأقارب.
إنه خطر حقيقي ولا يمكن تفاديه تماما. لكن يمكن وضع جملة من السياسات الوقائية منها شروط الحصول على حقّ المشاركة في تعيين مؤسسات النظام. ليس من الضروري أن تكون تعجيزية، لكنها يجب أن تكون صارمة ودقيقة بخصوص الجدية والأقدمية والعطاء والشفافية والديمقراطية الداخلية. إنها مهمّة رئاسة الجمهورية أن تحدّد المواصفات الدقيقة والتصنيف العادل والمراقبة الدائمة. أما بخصوص الطفرة في جمعيات قد يفوق عددها قدرة التحكّم ، فالزمن عادة مصفّي رهيب لا تصمد أمامه الفقاقيع. أمّا تنافس الأحزاب السياسية لخلق منظماتها المختصّة فلم لا إذا أدخل هذا تنافسا لا على شعارات جوفاء ومزايدات كاذبة وإنما على تكوين المناضلين و العطاء الميداني؟
- مثل هذا النظام صعب التسيير انطلاقا من تقييم آلاف الجمعيات ووضع قواعد التصعيد ومراقبتها وتنظيم مواسم الترشيح لتعيين المجالس المختصة وتقييمها الدوري.
إنها صعوبات حقيقية خاصة عند انطلاق التجربة. لكنها قابلة للتذليل في إطار استعمال محكم للتكنولوجيا الحديثة. الثابت أنه لا يجب أن يكون المجتمع في حالة حملة انتخابية متواصلة. وحيث أن الاستقرار هو خاصية مطلوبة من نظام يجب أن يستثمر التجربة لا التفريط فيها، فإن الحلّ هو أن تعيّن كل المجالس - ما عدا مجلس الجمهورية- لفترة لا تقلّ عن سبع سنوات والتجديد مرّة واحدة لنفس الشخص حسب نتيجة تقييم من داخل منظمته ومن خارجها. إنه من الضروري ألا يخصص المجتمع لمواسم التعيين أكثر من شهر كلّ سبع سنوات، وان تقع في نفس الوقت بالنسبة لكلّ المستويات حتى لا تكون ما يسمى بالاستحقاقات الانتخابية في الديمقراطية التمثيلية مهرجانا مسترسلا يستنزف الجهد والوقت.
-مثل هذا التنظيم سيلغي الحدود بين الدولة والمجتمع. لم لا ؟ يرتكز الاستبداد على مبدأ أن المجتمع أداة الدولة والدولة أداة النظام والنظام أداة شخص. أمّا بالنسبة للديمقراطية فإن الدولة ليست أكثر من أداة للمجتمع والنظام من أداة للدولة والشخص من أداة للنظام. إن محو الحدود لا يعني شيئا آخر غير تحقيق المشروع الديمقراطي الذي توقف في الديمقراطية التمثيلية عند دولة تتجاور مع مجتمع مدني في إطار علاقة باردة وسوء ظن متبادل. ففي مثل هذا النظام يصبح المواطنون عبر جمعياتهم هم الذين يتحكمون في دواليب الدولة وليس بيرقراطية غير مسئولة أو تعمل في أحسن الأحوال بمبدأ " شاورهم وخالف عنهم''.
كلمة أخيرة عن المقاومة المتوقعة. هي ستبرز عند كلّ المتضرّرين منه أي من الذين انسدّت في وجههم آفاق الانقلاب والتفويض أو يعانون من الحرب الدائمة ضدّ الفساد. ثمّة من لا يتحملون ما يصاحب مثل هذا التنظيم من حركية تكاد تشبه الفوضى ولكنها ليست الفوضى وإنما حركة هوجاء ،مضطربة ....وخلاّقة. هنا يجب على أنصار النظام الركون إلى مخيلتهم بخصوص العيوب التي تؤدي إلى النتائج المعاكسة للأهداف والقيم. عليهم الركون أيضا للقوّة في إطار القانون والقيم للدفاع عن هيكل لا يرضي الشيطان الذي في النفوس وليس همّنا إرضاء الشيطان وإنما خلع أنيابه وتقليم أظافره.
إن قوى الغريزة التي تريد النظام السياسي تغطية وأداة لمصالح أقلية شرسة ستعمل على تدمير النظام كما عمل النظام الديمقراطي على تدميرها. هي ستتسلّل عبر كل الثقوب الممكنة.
لكن الخطر الكبير على نظامنا المثالي لن يأتي فقط من الداخل وإنما أيضا وربما خاصة من الخارج .
إن مثل هذا النظام لا يمكن أن يجري العمل به – في البداية على الأقلّ – إلا في جزيرة معزولة وسط محيط من الاستبداد أو من الديمقراطيات المريضة. أي حظوظ له في التمكن في مثل هذا الظروف ومواجهة القوى الجبارة التي تتحكم اليوم بوعي أو بصفة عمياء في مصير الشعوب ؟
***













19- الحدود القاهرة الأخرى

يلاحظ المحلل السياسي صالح بشير أن الانتخابات الأمريكية المعاصرة لا تعين فقط رئيسا للولايات المتحدة وإنما أيضا '' امبراطورا '' للعالم . هذا ''الامبراطور'' العالمي هو الذي قرّر سنة 2003 احتلال بلاد مستقل على الورق والإطاحة بنظامه الدكتاتوري وتنصيب حكومة '' وطنية'' على رأسه وتنظيم انتخابات ...كل هذا باسم الديمقراطية .
لكن القاعدة في النظام الديمقراطي ، أن للمعنيين بسياسة ما من قبل حاكم ما ، الحق في تقييم هذه السياسة واستبدال الساهر عليها إذا لم تعجبهم . وفي مثل هذه الحالة فإنه كان من حق العراقيين أن يبدوا رأيهم في نتائج غزو بلادهم والإطاحة بالدكتاتور وهل هم راضون عن قرار'' الامبراطور '' بوش الثاني وتبعاته مثل مقتل مائة ألف شخص وتخريب البنية التحتية واندلاع حرب أهلية بالقياس للحالة التي كانت موجودة من قبل.
ألم يكن من حق العراقيين المشاركة في انتخابات 2004 بما أن نتائجها تتحكم في مصيرهم بنفس القوة التي تتحكم في مصير مواطني فلوريدا وكاليفورنيا؟ بالطبع لم يحدث شيء كهذا ولا نتوقع أن نرى عما قريب الشعوب الخاضعة بصفة مباشرة وغير مباشرة للامبراطورية الديمقراطية مدعوة للمشاركة في تعيين كبار المصوتين الذين سيختارون هذا الذي سيقرّر لهم تفاصيل الحرب والسلام. هل نجانب الصواب كثيرا إن قلنا أن العراقيين استبدلوا دكتاتورية داخلية بدكتاتورية أجنبية ، أو على وجه التدقيق أنهم يتحملون اليوم ثقل الدكتاتورية المحلية الجديدة المتمثلة في نظام إياد علاوي إضافة إلى ثقل دكتاتورية الاحتلال ''الديمقراطي'' .
ثمة مفارقة انتبه إليها أيضا صالح بشير وهو أن الامبراطور الديمقراطي محدود الصلاحيات في بلاده لتوزع السلطات بين الولايات والمركز ، ناهيك عن وجود الضوابط الأخرى مثل القضاء المستقل والصحافة الحرّة وهو الشيء الذي يحد بكيفية كبيرة من إمكانية ظهور الاستبداد. لكنه الآمر الناهي عندما يتعلّق الأمر بالتحكم في مصير شعوب أخرى لا يحدّ من شططه لا عرف ولا قانون ، كما ثبت ذلك في معالجته لقضية رهائن '' قوانتنامو''.
نحن إذن أمام مفارقة وهي أنه يمكن لنظام سياسي أن يكون ديمقراطيا- استبداديا وأنه ليس هناك ربط آلي بين الطريقة التي تسوس بها مجموعة بشرية معينة علاقتها ببعضها البعض والعلاقة التي تتعامل بها مع المجموعات البشرية الأخرى.
والحق أن هذه الظاهرة ليست جديدة ، فالدول الأوروبية حكمت بالحديد والنار مستعمراتها طوال القرن التاسع عشر وإلى منتصف القرن العشرين دون أن يمنعها ذلك من إتباع قواعد النظام الديمقراطي داخل حدودها .
إن ما يثبته التاريخ أن أولوية النظام الديمقراطي على ما عداه من الأنظمة السياسية تنبع من قدرته على إطلاق القوى الجبارة داخل المجتمع مما يجعل هذا الأخير أكثر ديناميكية وصحة وعطاء من المجتمعات التي يكبلها ويعفنها الاستبداد . لكن هذه المجتمعات الديمقراطية التي تتفجّر حيوية هي بمثابة ذئاب أطلقت في غاب تملؤه النعاج المريضة
معنى هذا أن بوسع الديمقراطية أن تكون ''أخلاقية '' على مستوى و عديمة الأخلاق في مستوى آخر...أداة تحرّر في المستوى المحلي وأداة استعباد في المستوى العالمي .
ولعدم فهمهم لهذه الخاصية ، يغضب الديمقراطيين العرب من دعم كثير من الدول الديمقراطية الغربية وخاصة فرنسا وأمريكا للدكتاتوريات التي تعيث فسادا في بلدانهم. ولقلة فهمهم هذا هم لا يتصورون ما سيلاقونه من صعوبات في التعامل معها لو قيض لنا يوما بناء دول ديمقراطية حتى على النموذج الغربي فما بالك لو ادعينا إمكانية بلورة نماذج أكثر تطورا .
لنتساءل عن الموقف المحتمل للامبراطورية العالمية تجاه استتباب أي دولة تعمل وفق النظام النموذجي المثالي الذي تصورناه. إنها بالطبع إشكالية نظرية ونوع من التجربة الذهنية ، لكن التعامل معها بجدية قادر على إظهار زوايا أخرى من الإشكالية التي تشغلنا.
نجد بداية رد على السؤال في طريقة تعامل الولايات المتحدة مع النماذج الديمقراطية التي تبتعد إما عن الشكل الليبرالي الفجّ أو عن السياسات المتماشية كل التماشي مع مصالحها .
ثمة حالة البلدان الاسكندنافية التي تجاهد لإبقاء الآليات الديمقراطية في خدمة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للأغلبية و الحدّ من تحكم رأس المال.
إن قاعدة التعامل معها كانت ولا تزال التغاضي لأنها دول تابعة وحليفة ولا يمكن أن تشكل مصدر إزعاج لصغر حجمها.
يصبح الأمر أكثر تعقيدا في علاقة المركز بأوروبا .
إن ما ينتبه له العرب بما فيه الكفاية ، وقد قنعوا من الأمور بقشورها ومن الظواهر بسطحها ، أنه يوجد اليوم
'' غربان '' لا غرب واحد . فأوروبا تتشكل وتتوحد ، أساسا كردّ على هيمنة الكتلة الغربية الأخرى : الولايات المتحدة .
ولو دققنا في العمق في أسباب الخلاف المستفحل ، الذي يتخذ يوما بعد يوم صبغة حرب تجارية لا هوادة فيها ،لاكتشفنا اختلافات جذرية . فالديمقراطية الغربية تامة الاستقلال عن المسيحية , هي تنحى -خاصة في فرنسا- منحى لائيكي واضح . هي تؤمن بوجود شرعية دولية تمثلها الأمم المتحدة ويجب الالتزام بها . هي تدعو إلى عالم متعدد القطبية . هي لا ترى جدوى في تصدير الديمقراطية أو فرضها .
على العكس من هذا نرى ديمقراطية الامبراطورية ممزوجة بدوغماتية مسيحية –صهيونية ، تكرّس أحادية القطبية رافضة وجود شرعية دولية يجب أن تخضع لها مصالحها ومصرّة على فرض الديمقراطية- بما هي التغطية السياسية لليبرالية- ولو بالحديد والنار مثلما يحدث اليوم في العراق وأفغانستان. كل هذه لاختلافات مرشحة للتفاقم رغم اتفاق ظاهري حول '' إرهاب '' إسلامي ضخّم لغرض افتعال وجود عدوّ موحّد ويمكن أن يلعب دور الخطر الشيوعي السابق.
لا غرابة في أن نرى شدّا وجذبا متواصلا بين '' الغربين '' نتيجة اختلافات في المصالح ولكن أيضا على الصعيد الفكري والأخلاقي . إن نظام الإمبراطورية يخضع ظاهريا لقيم الديمقراطية ولكنه يتحرّك في العمق بوحي من قيم أيدولوجية تغلّف مصالح الأرستقراطيات المخفية التي تدفع ثمن انتصاره في انتخابات تلغي رأي وقيم تسعة وأربعين في المائة من الشعب الأمريكي .
معنى هذا أن علينا أن نتوقع من المركز الصدّ و حتى التصدي لكل تجربة ديمقراطية عربية مستقلة ومتطورة لأسباب أخطر من وصول نظم وطنية غيورة على مصالح شعوبها واستقلالها . فالدافع الحقيقي مرتبط بديناميكية أهم قانوني العالم التعاضد والتنافس .
إن أيدولوجيا كل إمبراطورية هي تغليب التنافس على التعاضد وهذا ما يفسّر لنا دعم النظم الغربية الإمبريالية - الأوروبية البارحة والأمريكية اليوم - للدكتاتورية العربية. هي لا تريد فقط المحافظة على ما تعتقده علامة تفوقها الثقافي ومصالحها الظرفية وإنما بالأساس منع قواعد اللعبة من ضخّ الحيوية في مجتمعات من مصلحتها أن تبقى مقيدة، مكبلة ، ضعيفة ،وتابعة حتى تصبح يوما خصما فعّالا و منافسا كفؤا .
*
قلما ننتبه لكون الدول الديمقراطية تتصرف مع الشعوب الأضعف والخاضعة لتأثيرها كما تتصرف الأرستقراطيات المحلية أي من موقع مصالحها الأنانية وخارج كل ضوابط الأخلاق التي تتبعها بينها .
ننسى أيضا أن النموذج الخفي الذي يحرّك كل الديمقراطيات الغربية هو الديمقراطية الأثينية التي تشكلت منذ البداية على قاعدة إقصاء الآخر غير المعني بقواعد لعبة هدفها تقوية المدينة الإغريقية القديمة لا إنقاذ البشرية .
معنى هذا أنه لو قرأنا من الناحية العالمية وضع شعوبنا الخاضعة للاستبداد -بما هو استعمار داخلي- ولاستعمار -بما هو استبداد خارجي- لاكتشفنا أنها زالت خارج نطاق المواطنة الحقيقية وإن صراعها الداخلي والخارجي اليوم هو من أجل المواطنة في الداخل وعلى صعيد العالم .
لذلك يبدو من البديهي إن المعركة الأساسية للديمقراطية طوال هذا القرن لن تربح فقط بمجرّد تثبيت أكبر عدد ممكن من النظم الديمقراطية على أنقاض الدول الاستبدادية . هي لن تربح خاصة بفرض نموذج الامبراطورية لأن الأمر لن يعني بالنسبة لكل الشعوب سيادة الديمقراطية وإنما سيادة الأرستقراطيات المخفية التي وضعت اللجام في فك الشعب الأمريكي وتحاول وضع البردعة على ظهر العالم .
إن أخطر ما في الأمر في مثل هذا الوضع هو لن يفرض على الصعيد العالمي السلام الذي تنجح الديمقراطية في تحقيقه داخل المجتمعات المحلية والذي يمكن اعتباره أثمن مكاسبها . بل بالعكس سنرى رفض الهيمنة يؤدي إلى تفاقم الحروب الباردة وغير المعلنة – مثل الحرب التجارية بين الغرب الأوروبي والغرب الأمريكي أو حرب الأديان بين الصليبية الجديدة والتطرف الإسلامي أو الحروب بين دول ديمقراطية تابعة للمركز وأخرى خارجة عليه .
ألم تتقاتل فيتنام وكمبوديا رغم الانتماء إلى نفس النظام السياسي والمنظومة الفكرية والعقائدية لأنها كانت مرتبطة بمركزين متصارعين ؟
معنى هذا أن حظوظ كل نظام ديمقراطي في التأصل لا تبنى بمعزل عن وجود وسلامة نظام ديمقراطي عالمي هو وحده الضامن لاستتباب السلم بين الأمم وجعل القوة التي تضخها فيها الديمقراطية تتوجه للتنافس في الخلق والعطاء لا إلى السيطرة والاستغلال.
كيف نتصور هذا النموذج العالمي ؟ إنه موضوع آخر لألف كتاب . المهمّ أننا مواجهون كديمقراطيين بضرورة العمل على تحقيق '' يوطوبييتين'' لا ''يوطوبيا واحدة .
يا للتحدي الهائل وفي نفسي الوقت يا للمشروع العظيم ! ثمة من قد يهزّ كتفيه استخفافا وواقعية . لكن هل ينسى أننا خطونا خطوات جبارة على طريق الألف ميل والمجتمع الدولي يبني البارحة الأمم المتحدة ومؤسسات قضائية واحدة كمحكمة العدل والمحكمة الجنائية الدولية -وربما غدا المحكمة الدستورية العليا التي يدعو لها منذ سنين كاتب هذه السطور- و مطالبا اليوم بتوسيع مجلس الأمن وجعله جهازا أكثر تمثيلية . أضف إلى هذا الزخم المتصاعد للمجتمع المدني المحلي والدولي وهما من نتاج الطفرة الديمقراطية وأهم أدواتها .
إن ديناميكية المجتمعات البشرية ظاهرة تستعصي على الكبت حتى بالاستبداد والاستعمار لأنها ظاهرة تدفق الحياة فيها. هذه الحياة التي نحملها كالشعلة في الظلام الحالك هي التي تدفعنا إلى التفكير والحلم والتخطيط لسيادة الديمقراطية المتطورة محليا وعالميا . لكنها هي أيضا التي علمتنا أن مستقبل البشرية نص مفتوح قابل لأردأ السيناريوهات وأجملها وليس تلاوة للوح المحفوظ ولو كان لوح إمبراطورية ستعبر كما عبرت سابقاتها .
***




20-من التقليد إلى الإبداع

أقلّب النموذج الذي جادت به مخيلة محكومة بالمنطق ومنطق جنح به الخيال، محاولا تصوّر كل الاعتراضات التي يمكن أن يثيرها ، لا للردّ عليها بانفعال الواثق من أمره وإنما لتكون المحكّ الأوّل للتثبت من جدّية الأفكار من قبل فكر يحاسب أفكاره بصرامة الخصم اللجوج.
ثمة اعتراض الساخر- البراجماتي- العملي : نحن ما زلنا بين البراثن القذرة للوحش الاستبدادي وتضيع وقتنا في أضغاث أحلام . ليطمئن معارضنا أن الوحش القذر مات في العقول والقلوب وأننا نعايش احتضاره على أرض الواقع والعملية قد تأخذ سنوات لكنها ستنتهي بالمصير المحتوم. ولأن أنظمة المستقبل هي الأخرى تولد في العقول والقلوب سنينا وعقودا إن لم يكن قرونا قبل أن تسوس وتحكم الشعوب والأمم ، فنحن لا نسبق الأحداث وإنما نمهّد لها.
وثمة اعتراض الناكر لما يعمي الأبصار . وصول هتلر وشارون بالانتخابات ؟ الإشهار الرخيص ؟ التمويل المشبوه؟ الوعود الديماغوجية ؟ المقامرة على مجهول ؟ مجالس تمثيلية ولا تمثّل ؟ الاستقالة المتعاظمة للناخبين في جلّ البلدان الديمقراطية ؟ انهيار هيبة السياسة والسياسيين؟ أين ترون مرضا ؟
صدق من قال أنه لا أصمّ ممن لا يريد أن يسمع ولا أكثر عمى ممّن لا يريد أن يرى.
ثمة الاعتراض المنهجي والقائل بأن التحليل سياسي في الظاهر، لكنه محكوم بعقلية الطبيب الذي لم يستطع أو يرد التخلّص من آليات تفكير تحوم كلّها حول التشخيص والعلاج. لكن فعالية هذا النوع من
التفكير تتوقف عند المجال الطبّي. إنه اعتراض لا يثبت لأنّ النظام السياسي كائن حيّ يولد ويهرم ويموت ويتجدّد
في أشكال أخرى وقد يولد أيضا بتشوهات خلقية مثل الإنسان ويعرف أيضا أزمات جدّ شبيهة بالأمراض منها
الشلل والعته . وبالتالي هو أيضا قابل لمنطق وآليات التشخيص وإن اختلقت عن تلك المستعملة في طبّ الأجسام
البيولوجية. إن لم تكن الإصلاحات المتتالية التي يتمّ إدخالها باستمرار عليه في كل بلدان العالم علاجا فماذا تكون؟
ثمة اعتراض المستسلم للقضاء والقدر. حقّا للنظام الديمقراطي التمثيلي جملة من العيوب ولكنها من طبيعة كلّ نظام حيث الكمال للّه وحده. وعلى كلّ حال فهناك كلّ الإنجازات الرائعة التي تغطّي على هذه العيوب والتي ستسمح لنا بالانتقال من النظام البدائي الذي نعرفه إلى شيء أرقى منه بكثير. ولا اختلاف بخصوص النقلة النوعية، إنما التفكير كلّه محكوم بالخوف من أن تكون العيوب سبب عودة الاستبداد من النافذة بعد طرده من الباب.
ثمة اعتراض المرتاب. أليس كلّ هذا الهذر لتبرير منع القوى الصاعدة أي أحزاب الإسلام
السياسي من استلام السلطة عبر آليات الانتخاب العددي؟ ولنسلّم بأن الانتخابات ستوصل للسلطة هذه الأحزاب. بصراحة إنني أشفق على المجتمع وعلى الإسلام وحتى على'' المنتصرين'' من مثل هذا النصر المبين . إن الاحتمال الأرجح لو ترك الحكم لجبهة الإنقاذ في الجزائر بدل ذلك الانقلاب المجرم هو إفلاس سريع لجماعة لم تكن مستعدة لا سياسيا ولا تقنيا لمعالجة مشاكل مجتمع مشرف على الهاوية . إن ما ستجده أي حركة سياسية إسلامية تستفرد بالحكم حتى عبر آليات الانتخاب التمثيلي مشاكل سياسية تقنية هائلة التعقيد ولا يمكن حلّها في إطار أحادية الرؤيا والمنهج والطرف المباشر لها. إنه الطريق الذي انتهجته بنفس الغرور الأحمق الأحزاب الماركسية في العالم
والأحزاب العروبية في سوريا والعراق جاعلة من الوصاية والإقصاء قاعدتي سياستها الانتحارية ، فكانت النتيجة ما نعرف وخاصة انهيار صورة وقيم الاشتراكية أو العروبة . إن هذا بالضبط
ما ستعدّ له قوى تحلم بالاستفراد بالحكم وهي لا تعلم أنها ستستفرد بإيجابياته وفي نفس الوقت
بمسؤولياته وموبقاته وردود الفعل التي ستتبع. يخطئ من يتصوّر أن علاقة المسلمين بدينهم أقوى من
علاقة مسيحيّ القرون الوسطى في أوروبا بالمسيحية فالبشر هم البشر أينما كانوا. لقد خرج ثلثا المسيحيين من التدين على مرّ الثلاثة قرون الأخيرة لأنّ الدين كان مطية القوى التي أرهقتهم بمحاكم التفتيش وحرق المفكرين وتتبع العلماء والتغطية على الفساد والتعصّب واضطهاد الآخر المخالف في الرأي.إن خطر الحكم باسم الدين، إذا وصل الإسلاميون للحكم بالثورة أو بالانتخاب ، يعني حشره في الفضاعات التي يفرضها التعامل الأحادي مع صعوبات الحكم. والنتيجة أنهم سيبغضون الناس طال الزمن أو قصر في الإسلام السياسي وحتى في الإسلام .
ثمة الاعتراض المتكبّر والقائل بأن التشخيص قد يكون صحيحا لكن الحلول فلكلورية. هذا بداية جيدة لأنّ المهمّ ليس أن يصف ناقدي المحترم أفكارا جميلة كهذه بهذا النعت المحبط للعزائم الطيبة، وإنما أنه اعترف بوجود مشكل وحتى بوجود حلول ليست فلكلورية ما هي إذن؟ فلا أحد أكثر منّي شوقا لمعرفتها ونقاشها وقبولها إن كانت فعلا علاج الأمراض التي لا شكّ لي في وجودها وخطورتها. إن طموح هذا الكتاب، مرّة أخرى، ليس تقديم وصفة جاهزة وإنما إشكالية حقيقية يجب أن تستفزّ فينا قدراتنا على الخلق والإبداع.
وثمة الاعتراض الأخير، أنه حتى لو كان التشخيص صحيحا والحلول متفق عليها، فإنه لا مجال لتطبيقها لأننا لسنا أمام مريض منضبط واعي بما يتخبط فيه من صعوبات ومستعدّ لبذل الجهد لاستعادة صحته. نحن أمام نظام سياسي للعديد من الأطراف مصلحة في بقاءه بهذه الأمراض لا يهمّها أن خرّبت المجتمع. هي ستنقضّ على كلّ من يقترب من المريض لعلاجه إلى أن يأتيه الأجل المحتوم ويومها سنرى. أضف إلى هذا إن إصلاحات جوهرية مثل هذه لا تفرض من فوق وإنما هي نتيجة وفاق صعب يضمّن في دستور جديد. فمن سيصوغ هذا الدستور وكيف يطلب من الشعب الهلامي المصادقة عليه وهو سيكون مبنيا على نوع من القطع مع هذا'' الشعب''؟
لننطلق من كون هذا الموقف ليس ناجما عن الكسل الفكري وتعب قدماء المحاربين وإنما من الوعي بحجم المهمة وصعوباتها . هنا لا بدّ أن نذكّر أصحاب الاعتراض أنه لولا وعي النظام بأمراضه وظهور حاجته إلى العلاج لما كتبت هذه الأسطر ولما تكلّف أحدا عناء قراءتها. نحن دوما حملة وعي يتجاوزنا وهو الذي يأمر في وقت ما بأن ندير خطانا في هذا الاتجاه أو ذاك. معنى هذا أننا لا نتعسف على واقع ما عندما نحلم بتغييره لأن الأحلام كما يثبت ذلك تاريخ التكنولوجيا لا تبرز ولا تتكاثر إلا عندما تتواجد شروط تحقيق الحلم. لقد وقع بكل بساطة إعلامنا من قبل العقل الجماعي أنّه آن الأوان لطرح هذه المشاكل والتخاصم حولها والتجريب المتعثر لها.
إنّ السياسة في مستواها الراقي أحلام حلمها الحالمون وسير في طريق رسمه المفكّرون. هي أيضا تجريب متواصل لأفكار ومؤسسات تحاول المجتمعات البشرية من خلالها وضع أحسن النظم الممكنة لتصريف شؤونها. ومن هذا المنظور يمكن أن نفهم تعدّد النظم السياسية والاجتماعية وتضاربها لأنه لا توجد حلول جاهزة وقابلة للتطبيق. هذه الحركة هي التي نعيش اليوم فصولا منها ستتواصل بعدنا كما يتواصل سيلان الأنهار لأنه لا نهاية للتاريخ كما يدّعي ''فرانسيس يوكوهاما''. فللتاريخ كالقلب نبض، له كالعضلة شدّ وارتخاء وله كالبحر مدّ وجزر.
إن مسؤولية المفكّرين الديمقراطيين أن يؤشّروا على ثنايا لا تؤدّي إلاّ إلى الأنفاق والمستنقعات، أن يستبقوا الأحداث كالكشافة الذين يفتحون الطريق ليضمنوا أنّه خال من المطبّات، أنّ رفاق الطريق لا يركضون وراء السراب. نحن لا نفعل شيئا آخر ونحن نطلق صرخة إنذار حول البديل المغشوش أي خطر كلّ ديمقراطية :
- تجهل أن وظيفتها الأساسية لتأدية دورها كبديل للحرب توسيع رقعة المتمتعين بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.
- ترتكز على التمثيل فقط أو أساسا ( علما وأنّه يجب أن يفهم المصطلح أيضا بالمعنى المسرحي للكلمة) و تبني آلياتها على طقوس انتخابية تتحكّم فيها وتوظّفها الأرستقراطيات المخفية .
- تحمل لسدّة الحكم أناسا و برامج سوّقت وفق تقنيات الإشهار ولا دليل على جدّية البرنامج وكفاءة المترشّح غير حلاوة المظهر والخطاب وموهبة المناورة وعبقرية عقد الصفقات المريبة.
- ترمي انتخاباتها الإشهارية بهيبة السياسة والسياسيين في الحضيض ولا تفرز إلا أداة تستهلك جلّ طاقاتها في الصراع الداخلي والباقي لتسير أنظمة الصحة والتعليم والاقتصاد التي تبقى في مهبّ الريح.
-تجهل أن خاصيتنا الثقافية الأولى كشعوب مسلمة تفرض فصل الديمقراطية عن اللائيكية ....والخاصية التاريخية الأولى لشعوبنا كشعوب أخضعت للاستبداد باسم الدين ، تفرض فصل الممارسة السياسية عن الممارسة الدينية ،وإن خاصيتنا الاجتماعية الأولى كشعوب فقيرة مستغلّة تفرض علينا فصل الديمقراطية عن الليبرالية.
- تنسى أن تطوّرها وحتّى بقائها رهن بتوسّع رقعة المواطنة عبر المشاركة الحقيقية كلّ في مستواه وأن كل شخص هو الممثل الشرعي والوحيد للوطن والمجتمع بل للإنسانية ...أنه الأداة والهدف لكل تغيير ...أن هذا التغيير لا يحصل إلا به وعبر أرقى أنواع المشاركة.
لا يبقى أمامنا إذا قبلنا هذه الأفكار التي أوحت لنا بها تجاربنا وتجارب الآخرين سواء الإبداع والتجدّد . نحن مطالبون ببلورة نظام سليم يبلغ نقطة توازنه ويعود إليها بعد كل اختلال ويتمثل في بناء مجتمع، الحرية فيه ليست تسيبا، والمساواة ليست تسطيحا والقوة ليست عنفا، و الحزم ليس تشدّدا ، والتسامح ليس تساهلا، والحركة ليست جموحا، والاستقرار ليس ركودا.
وقد يكون واجب الذاكرة أهمّ واجبات المثقفين الديمقراطيين اليوم وغدا. نحن شعوب قصيرة الذاكرة لذلك علينا أن نتذكّر ونذكّر الأجيال المقبلة بتاريخنا السياسي المظلم وما زخر به من فساد وقمع وشخصانية فجّة وتضليل وتعذيب وقضاء فاسد. بدون هذه الذاكرة الحيّة لن ننجح في تعهّد الأجسام المضادّة الفكرية والأخلاقية والمؤسساتية لحماية أمتنا من وعكة صحية جديدة يوم يهاجمها فيروس قاتل تحمله في كلّ خلاياها. وبعد واجب الذاكرة هناك واجب الذكاء. لقد آن الأوان للديمقراطيين العرب ليبلوروا مشروعهم وليس فقط الاكتفاء برفض المشروع الأجنبي. آن الأوان ليكون لنا مشروع ورؤيا لديمقراطية تضيف ولا تقلّد، تحرّر ولا تضلّل نفرضها على أنفسنا ولا يفرضها علينا أي وصيّ، كلّ هذا حتى لا تصادر الأحلام من جديد، حتى لا يتمخّض الجبل فيلد خازوقا، حتى لا تصبح الديمقراطية تغطية على الاستبداد الجديد ومدخلا لعودة الاستبداد القديم.
وعبر هذا النظام نحن سنعيد صياغة ملامح الوطن الذي خربه الاستبداد.هذا الوطن الذي نحلم به عبر حلمنا بنظام ديمقراطي سليم ليس قطعة من الجغرافيا تسيّج بمعاهدات سايس بيكو وتقسّم بين الإقطاعيين وتسهر الذئاب فيها على عدد ورفاهة النعاج والخرفان الذين تسميهم الدعاية الغبية مواطنون. هذا وطن يجب إلقاءه في المزبلة لأنه كطعام تجاوز كلّ تواريخ الاستهلاك و أصبح عفنا صرفا. لقد أصبح بديهيا أنه لا وجود للوطن إذا غاب المواطن....أن رفعة الوطن في رفعة المواطن أنّه إذا غابت المواطنية انتهت الوطنية واستسلم الحرس الجمهوري البارحة في العراق وغدا في كلّ قطر لأن السلاح لم يكن مجنّدا يوما للدفاع عن الوطن وإنما عن الوحوش الآدمية التي استنزفته ودمّرته. إن الوفاء، الذي يجب أن نربيه في عقولنا وفي قلوبنا والذي يجب أن نتركه لأطفالنا، ليس لمراعي القطيع مهما كان جمالها الكاذب أو المخيّل وإنما لوطن يتجسّد في أكبر نابغة، في أبسط فلاّح وعامل، في معاق، في كلّ مجرم عتيّ، في كلّ مسكينة مظلومة تدعى عاهرة لأنّ خللا اجتماعيا رهيبا لم يكفل لها أولى شروط الكرامة الإنسانية. نعم يجب أن يكون وطننا متجسدا لا على الخريطة وإنما على كل جسد شعارنا ''كل واحد منا هو الممثل الشرعي والوحيد للوطن''. يومها ستنعكس مواسم الهجرة و تصبح الأرض التي ولدنا فوقها ويرقد في عمقها الأجداد ، المكان الذي نهرب إليه وليس المكان الذي نهرب منه.
لا شكّ كذلك أنّ الديمقراطية هي أيضا أداتنا لفتح طريق واعد حتى تتّحد الأمة وتحتلّ المكان الجدير بها بين الأمم.
إن حكمنا على واقعنا ،ومنه أيماننا أننا أمة فشلت في تحقيق أهدافها، مجرّد دوما من اعتبار أهمّ عامل في الحكم على مصير الأمم: العمق الزمني. ننسى أن الزمن أزمان منه زمن الأفراد و يقاس بالعقود، زمن الدول ويقاس بالقرون، زمن الحضارات ويقاس بآلاف السنين، زمن الأجناس الحيّة ويقاس بملايين منها، زمن الكواكب والشموس ويقاس بمئات الملايين وأخيرا زمن الكون ويقاس بمليارات السنين. لا تستطيع أن تكون نافذ الصبر لا مع الشموس لتلد لك الكواكب ولا مع الأمم لتتقدّم وفق سرعة نفاذ حياتك. نحن أيضا أفراد أو أمم ، كائنات حيّة مثل الفئران التي توضع في الأنفاق فتبقى تبحث عن المخرج وقطعة الجبن إلى أن يأتيها الموت. إن الخاصية الأولى للحياة هي الإصرار على البقاء وذلك عبر الصمود في كلّ وجه النوائب وتجريب كل الحلول الممكنة للتمتع بحياة أفضل. كل هذا يمرّ باستثمار التجربة والتعلّم من الأخطاء والبدء من نقطة الصفر بعد كلّ كارثة. معنى هذا أن التخبّط رغم ثمنه الباهظ جزء من البحث والتجريب وليس فشله كما يبدو لملاحظ سطحي ومتسرّع. إن من يقرأ تاريخنا المعاصر بهذه العقلية مكتشف لما في بحث أمتنا عن مستقبل أفضل من حيوية وإصرار واستعداد لدفع الثمن مهما كلّفها الأمر.لقد رأيناها على امتداد ماض استهلك خمسة عشر قرنا من التاريخ المدوّن والقابل للتذكّر والتخيّل، تجرّب بإصرار وعناد وترفع كلّ التحدّيات، فتنجح مرّة وتخفق مرّات. هكذا سيراها التاريخ طوال ما سيأتي من القرون، شأنها في هذا شأن الإنسانية التي هي خلية من خلاياها، تتقدّم وتتخلّف، تبدع وتكرّر، تحرّر وتستعبد. كم من مرّة ستموت وكم من مرّة ستبعث، لكن في أشكال جديدة لا قبل لنا بتصورها.هذا ما يجعلني أهزّ الكتفين أمام نواح النائحين على أمّة يقولون أنها أمة ضحكت من جهلها الأمم. هم لا يعون أن لها نسق وزمن غير نسق وزمن الأفراد، أنّها نهر جبّار يشقّ طريقه في حاضرنا بدفع هائل آت من أعماق الماضي وبجذب أكثر قوّة آت من أعماق المستقبل .هذا المستقبل هو الذي يستفزّ فينا الإصرار على الحلم والعمل لأن أولى خصائص الحياة، تبلورت في جنس أو في أمّة أو في شخص هو الإصرار الذي يستثمر التجربة ولا يكرّر أخطائها . ها هو إصرار الحياة يدفعها اليوم إلى الوعي بالتحدّي الجديد: أن تقضي على الاستبداد أو أن تتركه يقضي عليها.
و أيا كان نجاح الجهد أو فشله فلا قبل لأحد بالتعرّض للقوانين الثلاث التي تحكم صيرورة التاريخ.
-لا توجد قوّة في العالم قادرة على منع الأفكار –المؤسسات من الدفاع عن وجودها بكل الضراوة الممكنة ومنها أفكار –مؤسسات الاستبداد.
-لا توجد قوّة في العالم قادرة على منع الأفكار-المؤسسات من التحجّر والموت طال الزمان أو قصر ومنها أفكار-مؤسسات الديمقراطية.
-لا توجد قوّة في العالم قادرة على منع ولادة الأفكار-المؤسسات الجديدة ومنها الأفكار- المؤسسات المجدّدة لكل أشكال الاستبداد والمجدّدة لكلّ أشكال الديمقراطية.
هذه الأفكار هي إذن جزء من الحركة التي لا تنتهي، ولدت من رحم المعاناة والحاجة لتجاوز وتطوير التجربة السياسية. هي ترمى اليوم في خضمّ الحياة السياسية والفكرية على أمل المساهمة في بلورة واقع يصنعه على الدوام الفكر والحلم والخيال وأحيانا الجنون والهوس. وككل الكائنات الحية أكانت من الأجناس المحسوسة مثل الثدييات أو من الأجناس غير المحسوسة مثل ''الفكريات''، فإنها ستلقى صعوبات كبيرة في البقاء والتأثير. سيبقى مصيرها رهنا بقدرتها على شقّ طريقها في إطار التنافس الشرس للفكريات المتقاتلة من أجل التحكم في الفضاء الرمزي للبشرية. سيبقى المصير رهن بقدرتها على إثبات جدارتها بالبقاء أي بقدرتها على تقديم حلول ناجعة لعقل جماعي يبحث بلا كلل عبر كلّ من يتحدّث من خلالهم عن الطريق إلى أفضل المدائن إن استحال الوصول إلى المدينة الفاضلة.
تبقى القاعدة الأزلية: كل الأحلام لا تتحقق ولكن كلّ الإصلاحات كانت يوما ما أضغاث أحلام إن الخطير والمنعش في وعينا الجديد أنه لم يعد لنا وهم حول حتمية الوصول إلى جنة الاشتراكية أو جنّة التقدّم أو جنّة الديمقراطية. فالتاريخ فضاء مفتوح الفشل فيه وارد وكذلك النجاح، النجاح فيه محتمل، لا يقلّ عنه الفشل احتمالا. يعني هذا إن مشروعنا للتحرّر بفصله الجديد، كباخرة ما زالت بعيدة عن المرفأ والرياح التي تدفعها إلى الأمام هي نفس الرياح التي تدفعها إلى عمق البحر . إن هذا المرفأ هو ديمقراطية متجدّدة وحقوق إنسان متجذرة في خدمة العروبة والإسلام .. عروبة وإسلام في خدمة الإنسان والإنسانية. فهل سيجيد الربّان والملاحون استغلال الريح والموج أم هل سيبتلعهم هم وأحلامهم في آخر الأمر سمك القرش ؟
***

المنفي – نوفمبر 2004





الفهرس
تقديم عبد الوهاب الأفندي
وضعا في الإطار
الجزء الأوّل : الثغرات والحدود
1– الديمقراطية ليست وصفة جاهزة
2- جذور الاستبداد .
3-هل هذا حقّا ما نحتاج ؟
4- الديمقراطية الاستبدادية التي يعدونها لنا
5- الليبرالية المتوحشة اليوم كألدّ عدوّ للديمقراطية
6-هل ستجهض الديمقراطية مشروع وحدة الأمة ؟
7-القواعد وإغراء الغشّ
الجزء الثاني : من أجل قواعد أصلب عودا وأطول عمرا
8- حتى نجدّد آليات التحليل
9- تشخيص الأمراض المطلوب علاجها.
10- العوائق الثقافية
11- أي قيم للتأسيس ؟
12- الصياغة الأخرى لإعلان 10 ديسمبر 1948
13-التخصيب لا الغزو الثقافي
14-أهداف التأسيس
15- تسقط الوطنية، عاشت المواطنية.
16- من الرعايا إلى المواطنين .
17- عقل التأسيس
18-أي إصلاحات على نظام ما زال في طور التجريب؟
-19- الحدود القاهرة الأخرى
20 -من التقليد إلى الإبداع


من إصدارات اللجنة العربية لحقوق الإنسان

*فيوليت داغر وجيمس بول، من أجل نهاية الحصار على شعب العراق: نصّان حول العقوبات، (تقرير بالعربي)، 1998
*الحماية لنشطاء حقوق الإنسان في تونس، (تقرير بالعربي والفرنسي)، 1998
*محمود خليلي، الجزائر: قضية سركاجي من المجزرة إلى المهزلة، (تقرير بالفرنسي)، 1998
*فيوليت داغر، الزواج المدني في لبنان حق وضرورة، (تقرير بالعربي)، 1998
*جمال الهيثم النعال، الحريات الديمقراطية حقوق الإنسان وأزمة القضاء في الدستور السوري، (تقرير بالعربي)، 1998
*عمر المستيري، قراءة في الاتفاقية العربية لمناهضة الإرهاب، (تقرير بالعربي)، 1998
*محمد حافظ يعقوب، المحكمة الجنائية الدولية، (تقرير بالعربي والفرنسي)، 1998
*مصادرة جمعية المحامين في البحرين، (تقرير بالعربي)، (اللجنة العربية والمنظمة البحرينية لحقوق الإنسان)، 1998
*منصف المرزوقي، فيوليت داغر، عصام يونس، هيثم مناع: سلامة النفس والجسد، التعذيب في العالم العربي،(كتاب بالفرنسي،
والعربي)، طبعتين، 1998
*فيوليت داغر، العقوبات الاقتصادية على العراق، (تقرير بالعربي والفرنسي والانكليزي)، 1999
*من أجل الديمقراطية والحقوق الإنسانية في تونس، (تقرير بالعربي)، 1999
*هيثم مناع، مراقبة قضائية في محكمة راضية النصراوي والمتهمين بالانتماء لحزب العمال الشيوعي التونسي، (تقرير
بالعربي)، 1999
*هيثم مناع، مراقبة قضائية في محاكمة جلال بن بريك الزغلامي في تونس، (تقرير بالعربي)، 1999
*ناتالي بوجراده: مراقبة قضائية في محاكمة منصف المرزوقي ونجيب حسني في تونس، (تقرير بالعربي والفرنسي)، 2000
*هيثم مناع، مراقبة قضائية في محاكمة مناضلي الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، (تقرير بالعربي)، 2000
*محمود خليلي وأمينة القاضي، الاختفاء القسري والتعذيب في الجزائر، (تقرير بالفرنسي)، 2000
*توفيق بن بريك، الآن أصغ إلي، (دار الصبار واللجنة العربية لحقوق الإنسان والبرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان)، 2000
*محمد حافظ يعقوب، فيوليت داغر، محمد أبو حارثية: اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، ( كتاب بالعربي والانكليزي)، 2000
*هيثم مناع (إشراف) و38 باحثة وباحث، موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان، (دار الأهالي، دار بيسان، منشورات أوراب
واللجنة العربية لحقوق الإنسان)، 2000-2002
*فيوليت داغر، تقرير أولي عن الأوضاع الصحية في ظل الانتفاضة، (بالعربي)، 2001
*هيثم مناع، الحرية في الإبداع المهجري، سلسلة براعم، أوراب- الأهالي، (كتاب بالعربي)، 2001
*منصف المرزوقي، هل نحن أهل للديمقراطية؟ سلسلة براعم، أوراب- الأهالي، (كتاب بالعربي)، 2001
*هيثم مناع، ماذا عن المستقبل: ملاحظات على تقرير الحكومة السورية المقدم إلى لجنة حقوق الإنسان في نيويورك، (تقرير
بالعربي والفرنسي والانكليزي)، 2001
*تونس الغد. عمل جماعي شارك فيه: أحمد المناعي، توفيق بن بريك، راشد الغنوشي، مصطفى بن جعفر، منصف المرزوقي،
نور الدين ختروشي، سلسلة الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان، أوراب، (كتاب بالعربي)، 2001
*أحمد فوزي، مراقبة قضائية في محاكمة النائبين مأمون الحمصي ورياض سيف في دمشق، (تقرير اللجنة العربية
والبرنامج العربي بالعربي)، 2001
*استعمال القوة من قوى الأمن الإسرائيلية، مؤسسة الحق، (تقرير بالعربي نشرته اللجنة بالفرنسي)، 2001
*فيوليت داغر (إشراف) و18 باحث سوري، الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية، ( كتاب بالعربي، والانكليزي،
والفرنسي)، 2001
*حبيب عيسى، النداء الأخير للحرية، (كتاب بالعربي)، باريس 2002. بيروت 2003
*جان كلود بونسين وناتالي بوجرادة، انتهاكات حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، (تقرير بالفرنسي)، 2002
*ريتشارد موران، روجر نورمان، جيمس بول، جون رامبل وكريستوف ويلك، العقوبات على العراق: المترتبات الإنسانية
وخيارات المستقبل، بالإشتراك مع: منتدى السياسات الشاملة(نيويورك) وحماية الطفل (لندن) وعشرة منظمات غير حكومية،
(تقرير بالعربي والانكليزي)، 2002
*أنور البني، مراقبة قضائية لمحاكمة حبيب يونس في لبنان، (تقرير بالعربي)، 2002
*مها يوسف، عماد مبارك، مصطفى الحسن طه، القوانين الاستثنائية وحق التنظيم في مصر، (كتاب بالعربي)، 2002
*محكمة الشعب والعداء لحق التنظيم السياسي في ليبيا، (تقرير بالانكليزي والعربي)، 2002
*انجيلا غاف، واحدة من أفضل نجاحاتنا، تقرير عن مجزرة الدرج-غزة (بالاشتراك مع مركز الميزان لحقوق الإنسان)،
(بالانكليزي والعربي)، 2002
* ناتالي بوجرادة، حول محاكمات مروان البرغوثي، (تقريران بالعربي والفرنسي)، 2002
*حول انتخابات الهيئة الوطنية للمحامين الموريتانيين، تقرير مجلس الهيئة الوطنية للمحامين، (بالعربي)، 2002
*هيثم مناع، الولايات المتحدة وحقوق الإنسان، سلسلة براعم، باريس، دمشق، جدة، (كتاب بالعربي)، 2003
*الاعتقال التعسفي في الأسبوع الأول للعدوان على العراق، (تقرير للجنة بالعربي)، 2003
*هيثم مناع، تقرير حول أوضاع الفلسطينيين في العراق، (بالعربي)، 2003
*خليل معتوق وأنور البني، تقرير عن أوضاع الفلسطينيين في مخيم الرويشد، (بالعربي)، 2003
*فيوليت داغر، في جريمة العدوان، سلسلة براعم، أوراب-الأهالي، (كتاب بالعربي)، 2003
*محمد بن طارية، عباس عروة، يوسف بجاوي، تاريخ التعذيب وأصول تحريمه في الإسلام، جده ، بيروت،
(كتاب بالعربي عن اللجنة العربية ومركز الراية للتنمية الفكرية)، 2003
*دنيا الأمل اسماعيل، أوضاع الأطفال الفلسطينيين الأسرى في المعتقلات والسجون الإسرائيلية، (تقرير بالعربي
لمؤسسة الضمير واللجنة العربية)، 2003
*نجدة المستضعف، أعمال مؤتمر باريس للجمعيات الإنسانية والخيرية، (كتاب بالعربي ومقالات مختارة بالفرنسي
والانكليزي) أوراب- الأهالي، 2003
*مسؤوليتنا المشتركة، تقرير بالانكليزي للمنظمات غير حكومية حول نتائج حرب جديدة على أطفال العراق، 2003
*الكلمة الحرة والإرهاب، قضية تيسير علوني، (تقرير بالعربي)، 2003
* هيثم المالح، عبد المجيد منجونة، هيثم مناع، حالة الطوارئ ودولة القانون في سورية، (كتاب بالعربي)، 2004
*اليوم العالمي للتضامن مع المعتقلين السياسيين في تونس، (إصدار مشترك مع 25 منظمة غير حكومية بالفرنسي والعربي)، 2004
*الاعتقال التعسفي في العالم العربي، حالة قطر والسعودية وسورية وتونس، (بالاشتراك مع جمعية الكرامة للدفاع عن حقوق
الإنسان، بالفرنسية والعربية)، 2004
*هيثم المالح، حقوق المستضعفين، سلسلة براعم، أوراب-الأهالي، (كتاب بالعربي)، 2004
*من أجل مجتمع مدني في سورية، حوارات "منتدى الحوار الوطني، (كتاب بالعربي)، 2004
*حسين العودات (إشراف)، حرية الإعلام في العالم العربي والغرب، سلسلة براعم، أوراب-الأهالي، (كتاب بالعربي)، 2004
*هيثم مناع، صرخة قبل الاغتيال، مستقبل المنظمات الخيرية والإنسانية في المملكة العربية السعودية، (كتاب بالعربي
والفرنسي بالاشتراك مع المكتب الدولي للجمعيات الإنسانية والخيرية)، 2004
*فيوليت داغر (إشراف)، حق الصحة من حقوق الإنسان، سلسلة براعم، أوراب-الأهالي، (كتاب بالعربي)، 2004
*رشيد مصلي، ظاهرة الاختفاء القسري في الجزائر، (بالفرنسي)، 2004
*هيثم مناع، ومضات في ثقافة حقوق الإنسان، مركز التنمية الفكرية واللجنة العربية لحقوق الإنسان، 2004 (كتاب بالعربي)
* فيوليت داغر (إشراف)، المرأة والأسرة في المجتمعات العربية، 2004
*علي الدميني، نعم في الزنزانة لحن، سلسلة براعم، أوراب-الأهالي، (كتاب بالعربي)، 2004
*متروك الفالح، الإصلاح الدستوري في المملكة العربية السعودية، سلسلة براعم، أوراب-الأهالي، (كتاب بالعربي)، 2004،



سلسلة براعم
تصدر هذه السلسلة عن اللجنة العربية لحقوق الإنسان
يشرف عليها الدكتور هيثم مناع والدكتور منصف المرزوقي
تسعى للمشاركة في عملية بناء ثقافة حقوق إنسان عالمية المضمون والمبنى في العالم العربي، وتبحث عن نفسها في كنوز الثقافة العربية الإسلامية وتنهل من خصب الثقافات الإنسانية الكبرى.
كما تهدف إلى التعريف بالتراث الحقوقي العربي واستقراء الصفحات المشرقة في الحضارة العربية الإسلامية باعتبارها مكونا أساسيا من مكونات الثقافة الديمقراطية في العالم العربي.
صدر منها:
الحرية في الإبداع المهجري
هل نحن أهل للديمقراطية
حقوق المستضعفين
في جريمة العدوان
الولايات المتحدة وحقوق الإنسان
صرخة قبل الاغتيال
حق الصحة من حقوق الإنسان
حرية الإعلام في العالم العربي والغرب
المرأة والأسرة في المجتمعات العربية
نعم في الزنزانة لحن
الإصلاح الدستوري في المملكة العربية السعودية







الكاتب
منصف المرزوقي طبيب وكاتب ومناضل من أجل حقوق الإنسان، ومنها حق الديمقراطية، في تونس والوطن العربي
الكتاب
''إن أخطر ما في مشروع الإدارة الأمريكية لفرض الديمقراطية في منطقتنا ، وكأن الشعوب تقاد إلى الجنّة بالسلاسل ، هو نموذج النظام الذي تريد فرضه علينا . قلّ من يتذكّر أننا جربنا في عدد من البلدان العربية قبل منتصف القرن الراحل هذا النموذج المتمثل في نواة صلبة من الليبرالية الاقتصادية يغلفها نظام برلماني قوامه صراع سريالي وعبثي بين الأحزاب والأشخاص على المكاسب .
قلّ من يتذكّر أن عيوب هذا النموذج هي الذي ولّدت الانقلابات العسكرية ضد ّأنظمة كانت عميلة للخارج وعاملة على نشر الظلم الاجتماعي في الداخل . ولأن نفس الأسباب تولّد نفس النتائج ، فإنه من حقنا أن نفترض أنه لو استطاعت الإدارة الأمريكية فرض مثل هذه الديمقراطية، لما كانت إلا مرحلة عابرة بين دكتاتوريتين . لقد آن الأوان للديمقراطيين العرب أن يبلوروا مشروعهم وليس فقط الاكتفاء برفض المشروع الأجنبي. نعم آن الأوان ليكون لنا مشروع قومي ورؤيا لديمقراطية تضيف ولا تقلّد ، تحرّر ولا تضلّل ، نفرضها على أنفسنا ولا يفرضها علينا أي وصيّ. كلّ هذا حتى لا تصادر الأحلام من جديد ، حتى لا تصبح الديمقراطية الممنوحة تغطية على الاستبداد الجديد ومدخلا لعودة الاستبداد القديم."