مقززات


قبل يومين حضرت ندوة أدبية خصصت من أجل مناقشة قصة لاحد الكتاب فى مدينة ساحلية كبيرة ، وقد صُدمت حين سمعت أكثر الحاضرين وهم يثنون على ما احتوته القصة من قبح الالفاظ ودقة التعبير فى وصف هذا القبح ، وبالرغم من أن الكثير منهم صرح بأنه صُدم عندما قرأ والبعض الاخر صرح بأنه شعر بالقرف وهو يقرأ ، وآخر قال انه تقزز مما قرأ ، وأخر قال أنه كاد أن يُغلق الكتاب بمجرد قراءة هذا التوصيف ، إلا انهم اعترفوا جميعا بأن الكاتب يستحق الثناء والتقدير على ما كتبه من مُقيِّئات ، وذهب بعضهم فى حماسة الى تنصيبه ملكاً لكتابة هذا النوع من ...!!
أود أن أقول وبصراحة تامة بأن الأدب هو عبارة عن كلام يجتهد المرء فى صياغته ليعبر به عما يجول فى خاطره أو تكتنزه سريرته أو يجود به فكره . والكلمة إن كانت متأدبة فهى أدب ويستحق كاتبها أن يحمل صفة أديب .. وقد عشنا زمناً اعتاد الناس أن يطلقوا على الصبى الذى أحسن والديه تربيته أديباً .. فيقال :
- هذا الولد أديب ..
أى أن والديه أحسنوا تربيته ، وفى المقابل ما كان يطلق أبدا على الصبى المشاكس الذى يُلقى بالألفاظ اعتباطاً ، أو يسيىء بها الى الناس قذفا او سباً أديباً ، وانما كان يوصف بأنه صبى عديم الأدب .. أى أن والديه أساؤا تربيته ...
وقد وصف رسول الله نفسه بقوله:
- أدَّبنى ربى فأحسن تأديبى ، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ...
وما يسيئنى أن أسمعه فى وقتنا هذا أن كل من هب ودب يطلق عليه أديباً ، بل ان كثيراً من الناس يمعنون فى اطلاق هذه التسمية بخاصة على الكتاب الذين يكتبون النصوص المقززة والتى تنضح قرفاً وغثياناً ، ولا يتحرجون من تقيأها فوق القراطيس البيضاء فيوسخونها ...
الأدهى من ذلك أنهم يجدون لهم أناس يقرأون لهم بنهم ويثنون عليهم بتعصب ، وينفخون فى بالوناتهم الرهيفة حتى لتكاد أن تنفجر من كثرة نفاقهم ..فبعضهم يتفاخر بأنه يستطيع أن يصور القبح بقلمه بكفاءة تفوق كفاءة كاميرا تلتقط المشاهد من الجهات الاربع . وبعضهم يُتحِفُنا بأن الكتاب يشبه فى طريقته الكاتب الأوروبى فلان أو الكاتب الامريكانى فلتكان.
وكأننا ملزمين بأن يكونوا هؤلاء هم قدوتنا فى الكتابة والصياغة والبناء ...
صحيح أن بعض دول أوروبا وليست كلها متقدمة فى العلوم التكنولوجية وهى التى صنعت لنا الطائرات والسيارات والقطارات والسفن والمركبات الفضائية والاقمار الصناعية وفضلها كبير فى هذا المجال وهى بلا شك فى المرتبة الاولى ...

أما فى جانب الأدب والاخلاق والحياء فهى فى الدرك الذى بعد الاسفل . هناك اتخذت الرذائل صنعة ومهنة وسميت بغير اسمائها والبست غير ثيابها حتى غدت امرا طبيعيا وعاديا لا يستحيى منه أحد ومن لا يمارسة يعد متخلفا وغير طبيعياً ، ولم يقتصر الامر على ذلك وإنما اجتهدوا فى تصديره لنا عبر قنوات كثيرة تعددت أنواعها واختلفت اسماؤها وتلونت أقنعتها ، فتارة عبر الفضائيات واخرى عبر المنظمات الانسانية وثالثة عبر المطالبة بحقوق المرأة والمساواة بالرجل ورابعة عبر شماعة اطلاق الحريات دون روابط أو ضوابط أو قيود من اجل فسح الطريق لاباحة كل شىء والخوض فى كل شىء .
أما الأدب بمعنى الأدب والاخلاق بمعنى الاخلاق فهى شرقية من أبوين شرقيين مائة بالمائة وستبقى فى الشرق الى أن يرث الله الارض ومن عليها شاء من شاء وأبى من أبى والله غالب على أمره رغم أنف المعارضين .
وأننى أتعجب من كاتب يستحسن كتابة القبح ومن قارىء يستحسن قراءته..!!
سالكين بذلك طريقاً مغايرا للفطرة السليمة التى فطر الخالق الناس عليها ...
ولنا فى كتاب الله المثل والقدوة مع إنى على يقين من أن مثل هؤلاء لا يتخذون مما جاء فى كتاب مثلا ولا قدوة ، وأنما يتبعون أهوائهم وما تمليه عليهم شياطينهم ، فإنه من الجن والشياطين كتاباً وقراءاً يتلذون بأن يجدوا لهم قرناءاً من الإنس يوحون اليهم فعل كل شىء قبيح ، لانه من المعروف ان الشياطين من الجن لا يتلذذون الا بكل ما هو قبيح وعفن وكل ما هو ذو رائحة نتنة .
ويظن كاتب القبح أن ما يأتيه إنما هو أدب وملكة ابداعية وُهِبتْ له ويظل يعيش هذا الوهم حتى تدركه الإفاقة أو يرحل من الدنيا على هذا الحال ...
لقد أثنى الله تبارك وتعالى على كل شىء حسن ، وأثنى بالتالى على فاعليه، فلا نجد سورة من سور القرءان الكريم تخلو من قوله تعالى " وسنجزى المحسنين " أو " وسنزيد المحسنين " الخ ...
وهناك كتابٌ يتنافسون فى صياغة القبح ونشره ويتفاخرون بذلك وكأنهم فى حلبة من السباق ، بل أنى سمعت بعضهم يتفاخر بأنه يكتب اقبح بكثير من فلان وأكثر منه إباحية .. فبأى عقل يعيش هؤلاء ...؟
إن الكلمة أمانة فى عنق صاحبها ، تلتصق به وتتعلق فى عنقه يوم القيامة ولا يستطيع الفكاك منها مادام قد تلفظها ثم أمعن فى توثيقها فوق القراطيس ...
وليس هذا من عندى بل بناء على نص قرءانى كريم لقوله تعالى :
" ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد " .
وفى السنة الشريفة عن ابن عباس عن رسول الله انه صلى الله عليه وسلم قال : " أن المرء ليتلفظ بالكلمة لا يلقى لها بالا تهوى به فى النار أربعين خريفا...
فإن كان هذا هو جزاء ما يلقاه المرء لقاء تلفظه بكلمة واحدة ، فما بالكم بمن كانت حرفته أو هوايته الكتابة وصناعة وتنميق الألفاظ القبيحة ...؟
إن الأدب والحياء قرينان وهما عنصران أساسيان لصناعة أى عمل أدبى محترم ...
ولذلك قالوا ما اكتنف الحياء عملا إلا زانه وما خالطت الإباحية شيئاً الا شانته ...
وقالوا أيضاً إن لم تستح فافعل ما شئت .. وأقول أن لم تستح فاكتب ما شئت..
تعالوا لنرى كيف تناول الحق تبارك وتعالى موضوع الممارسة الجنسية مثلا بين الرجل وزوجته بألفاظ بليغة ولغة راقية ، فقد سماها الله تبارك وتعالى " المباشرة " لقوله تعالى " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون فى المساجد " ، وفى موضع آخر عبر عنها بالمس فقال تبارك وتعالى " من قبل أن تمسوهن " وفى موضع ثالث عبر عنها بالحرث ، لقوله تبارك وتعالى : " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " .
فتشبيهه سبحانه وتعالى الرجل حين يأتى زوجته بالزارع الذى يتهيأ لحرث أرضه تمهيداً لإنباتها أملا فى أن تخرج له زرعاً يانعاً تطيب به نفسه وتقرُّ به عينه هو فى الحقيقة تشبيه لم يسبق إليه أحد ويتوجب علينا أن نتأسى به ونعلم منه . ذلك أن الرجل عندما يأتى لمباشرة زوجته إنما هو كواضع البذرة التى سوف ينشأ منها الجنين الذى يتشوق الوالدين الى التمتع برؤيته والاستئناس بصحبته والتلذذ بالنظر اليه وضمه الى احضانهما .
كذلك سمى تبارك وتعالى التقبيل والمداعبة قبل المباشرة بـ " التقديم " لقوله تعالى :" وقدموا لأنفسكم " .
إنها حقاً الفاظٌ راقية رفيعة القدر تضىء سطور الأوراق التى تكتب فوقها وكأنها قطع من الجوهر المرصوص أو اللؤلؤ المنثور .. ليتنا جميعا نتعلم منها ونتأسى بها .