الجزء السادس ،،
تحت عنوان "الأسلاف والمورثات والأجيال " يتحدث د. سايمنتن عن الأمر الأكثر تأثيرا في السلوك الإنساني ويضيف بأن بعض النظريات تظل تصر على أن السلوك الإنساني موجه من خلال ما تفرضه المعطيات البيولوجية أو ما يسمى بالطبيعة. وهم يصرون على أن هناك شيئا ما يمكن أن نطلق عليه لقب ( الطبيعة الإنسانية ) وهو بمثابة الأساس الغريزي للتفكير والنشاط . ولا يشعر أصحاب هذه الوجهة أفطرية في النظر بالحيرة أمام الفروق الفردية الموجودة بين الكائنات البشرية لأنها يمكن إرجاعها إلى الوراثة أي إلى عملية بيولوجية صارمة تقوم بشكل غير متعمد بإنتاج التباين في الجينات.
في الطرف الآخر حسب رأي د. سايمنتن يوجد البيئيون الذين يعزون الدور الرئيسي في تشكيل الشخصية الإنسانية إلى الأحداث التي تقوم بتشكيل الحياة منذ لحظة الولادة. وهذه الأحداث أو الوقائع هي التي تعزز ارتقاء الفرد الإنساني. وأصحاب هذه النظرية يرون أن التشابه بين الناس يأتي كنتيجة إن بعض الخبرات عامة وشائعة عبر الثقافات وعبر التاريخ. وعليه فان عمليات المعرفة وبعض الأفعال تبدو على السطح فطرية. كما انه يسهل إرجاع الاختلاف بين الأفراد إلى التنوع الواضح في البيئات الطبيعية والشخصية والاجتماعية.
طبعا هذا الاختلاف بين هاتين النظرتين قديم قدم الفلسفة فبعض الفلاسفة مثل أفلاطون وديكارت اعتقد أن بعض الأفكار فطرية. بينما تمسك بعض الفلاسفة مثل لوك وهيوم بأن العقل يبدأ مثل لوح حال وتقوم الخبرات البيئية بالنقش عليه.
ويضيف سايمنتن أن علماء النفس اليوم لا يدافعون عن هذين الاتجاهين المتطرفين. والاهم عند علماء النفس هو اثر كل العوامل في تشكيل الشخصية الإنسانية. ومن هنا تأتي محاولاتهم الحديثة في فهم العبقرية بشقيها عند سايمنتن الإبداع والقيادة. بمعنى أن بعض الناس يعتقدون أن العبقري (يولد) وبعضهم يعتقد انه ( يصنع) ودور علماء النفس هو البحث في أصل هذه التركيبة وهل تتعدد العوامل التي يكون لها تأثير. من هنا يلقي د. سايمنتن الضوء على بعض العوامل التي يرى بأنها تؤثر على تكوين الشخصية وبالتالي سماتها كالإبداع والقيادة ويهمنا منها لإغراض هذا البحث المؤثرات الأسرية وذلك لارتباطها الوثيق بموضوع البحث هنا والذي يقوم على افتراض أساسي يربط بين اليتم والإبداع في أعلى حالته ودرجاته . ويمكن لمن يرغب التوسع في دراسة هذه العوامل الرجوع إلى كتاب د. سايمنتن المذكور.
ويشير د. سايمنتن إلى الدراسة التي أجراها كل من فكتور وميلدرد غورتسل عام 1962 في هذا المجال والتي يقول أنها ألقت الكثير من الضوء على طفولة المشاهير.
حيث قام الباحثان بدراسة السير الشخصية لأكثر من أربعمائة من قادة القرن العشرين ومبدعيه. وقاما بدراسة الحياة المبكرة للأشخاص موضوع الدراسة لتبين ما إذا كانت هناك مواقف أو أحداث أسرية ومدرسية معينة تدعم تطور العبقرية وقاما بفحص الإعاقات الجسدية والصدمات المبكرة والاضطرابات الأسرية والبيئة المتصدعة اجتماعيا والأمهات المسيطرات والآباء المتصلبين والاتجاهات نحو التعلم في المنزل وردود الأفعال تجاه المدرسة والمعلمين.
كما قام هذان الشخصان في عمل لاحق بدراسة أكثر من ثلاثمائة شخصية من الشخصيات المعاصرة وأضاف بعض البنود إلى مجموعة أبعاد السيرة الشخصية التي اهتما بدراستها من قبل واجريا المعالجات الإحصائية المناسبة. أما الأبعاد الجديدة التي قام الباحثان على دراستها وركز عليها د. سايمنتن فهي ترتيب الميلاد واليتم والإرث العائلي :
ترتيب الميلاد:
يرى د. سايمنتن أن هذا العامل يفترض أن هناك مبرر نظري قوي يجعل الباحث ينظر إلى ترتيب الميلاد باعتباره عامل يمكن أن يفسر ظهور العبقرية. ويرى د. سايمنتن أن ترتيب الميلاد في الأسرة يفسر إلى حد بعيد الأسباب التي من اجلها لا يصل الإخوة إلى مستوى الشهرة نفسه. ويشير د. سايمنتن إلى الدراسات التي أجريت لتأكيد اثر هذا العامل على العبقرية. ففي دراسته وجد فراسنين غالتن عام 1874 أن نسبة الأبكار والأبناء الوحيدين بين العلماء المشاهير هي نسبة كبيرة بدرجة لا يمكن إرجاعها أبدا إلى الصدفة. ولكن الدراسات اللاحقة أظهرت مثلا أن الطفل الأصغر يتفوق على الطفل الأوسط وقد وجد ال غورتسل أن 30% من العينة التي درسوها والتي تكونت من 314 من مشاهير القرن العشرين كانوا من الأبكار و 16% منهم من الأطفال الوحيدين و27% من الأطفال الأصغر و26% فقط من فئة الطفل الأوسط Goertzel Goertzel & Coertzel, 1978 وعليه لقد كانت نسبة الأبكار أعلى بشكل لا نظير له بجمهور العينة ككل يليهم في ذلك الطفل الأصغر.
كما وجدت الدراسة نفسها بأن الأبكار لا يبرعون في مجال السياسة بينما تميل فئة الطفل الأوسط إلى البروز بشكل ملموس بين الشخصيات السياسية المعاصرة. كذلك إشارة دراستان استخدمتا عينات مختلفة إن الثوار لا يكونوا من الأبكار على الأغلب Stewart, 1977, Walberg, Rasher & Parker son, 1980 .
ويشير د. سايمنتن أن هذه الدراسات فشلت حتى الآن في الإجابة بشكل مقنع على السؤال المهم : ما هي الآليات التطورية النوعية التي يؤثر من خلالها ترتيب الميلاد داخل الأسرة على الانجاز؟ ويشير د. سايمنتن إلى ما يضعف هذا الفرضية من واقع الحياة ويقدم أمثلة على ذلك.
فقد الأبوين:
يشير د. سايمنتن أن والد لينين مات ولينين في سنوات المراهقة. وفقد بيتهوفن أمه عندما كان في السادسة عشرة من عمره وعندما بلغ الثامنة عشرة طرد والده من مدينة بون بسبب إدمانه للكحول وأصبح بيتهوفن مسئولا عن أسرته. وأصبح نابليون عائلا لأسرته في سن الخامسة عشرة عندما مات أبوه وفقد يوليوس قيصر والده في العمر نفسه. ومات والد نيتون قبل ولادته. ويضيف د. سايمنتن أن ملاحظة هذه الحالات أثارت العديد من الباحثين لكي يتساءلوا مندهشين حول ما إذا كان اليتم له أي فضل في نمو العبقرية. ويضيف د. سايمنتن أن الشواهد المجتمعة حتى اليوم يبدو أنها تؤيد وجود مثل ذلك الفضل. ويقدم مثال على ذلك ما توصلت إليه دراسة عينة كوكس عام 1926 حيث أظهرت العينة أن ما بين 22% إلى 31% من المشاهير في العينة المذكورة فقدوا احد والديهم قبل سن الرشد Albert, 1971, Walberg, Rasher Parkerson, 1980 . ويشير د. سايمنتن إلى عينة مارتنديل Martindale 1972 وهي عينة مكونة من مشاهير الشعراء الانجليز والفرنسيين على أن 30% من الشعراء كان والد كل منهم غائبا عن البيت. وفي عينة غورتسل الخاصة بمشاهير المعاصرين كانت هناك نسبة 18% فقدوا الأب. ونسبة 10% فقدوا الأم قبل سن الحادية والعشرين.
ويضيف د. سايمنتن أن أكثر الأبحاث تنظيما حول اليتم هو مقال ج مارفن ايزنشتات J . Marvin Eisenstadt وعنوانه " فقد احد الأبوين والعبقرية " Parental Loss and Genius, 1978 ، وقد قام هذا الباحث بفحص حالات 699 فردا مشهورا من أمم متعددة ويعلون من مجالات مختلفة. وقد كان تكرار اليتم بينهم كبيرا تماما. فربع هؤلاء العباقرة فقدوا احد والديهم عند عمر الثلاثين. كذلك فأن حوالي 10% من هؤلاء الأفراد فقدوا كلا الوالدين عند عمر الحادية والعشرين. وقد قارن ايزنشتات هذه النسب المئوية بالمعلومات المستقاة من البيانات الخاصة بالإحصاءات السكانية ومن الدراسات حول الأحداث الجانحين وكذلك المرضى النفسين فكان أهم ما وجده في المجموعات الأخرى والمجموعة الوحيدة التي جاءت قريبة في نسبتها من نسبة العباقرة هي مجموعة الجانحين، وكذلك بصفة خاصة المرضى الذين يعانون من اكتئاب حاد أو من ميول انتحارية. وتتماشى النتيجة الأخيرة مت المعدلات العالية من الاكتئاب الانتحاري الموجودة بين المشاهير ( انظر الفصل الثالث).
ملاحظة : هذه الدراسة مهمة وسيتم الاعتماد عليها أيضا في تفسير الكثير من الجوانب التي ما تزال غامضة بالنسبة لسمة الإبداع أثناء طرحي للجديد الذي أتت به "نظيرة تفسير الطاقة الإبداعية".
يتبع ،،الجزء السادس2
المفضلات