مكاشفةٌ للمَلِكِ المَخلُوعِ


د. شاكر مطلق

كان المـُلْكُ قديماً
قِدَمَ الأصفادِ على الرّوحِ
و كانَ المَلكُ الكَونيُّ
عظيماً كالأحزانْ
يولدُ في حِضنِ الأفعى الـقُدسيَّةِ
مِسْْخاً مَجدوراً بالـفِطرةِ
شِبْهَ صبيٍّ
شِبْهَ خَصِيٍّ
من نَسلِ الجانْ
فتلامسهُ الأرواحُ الجوَّالـةُ
من " زمنِ الحُلمِ الأوَّلِ " ( 1 )
تُعطيهِ فَطيراً
من شَهْدِ العَذراواتِ
وتسقيهِ كثيراً
من عُري الأبدانْ …

تَزرعُ في خِصيتهِ اليُمنى
فانوساً للـعِشقِ
و في سُرَّتهِ اليسرى
تَزرعُ ، في اللـيلِ ، الأشْجانْ
سرَقَتها من دمع صبيٍّ " غَلبانْ "
هامَ طويلاً في شَطِّ " البَصرةِ "
يبحثُ عن لؤلؤةٍ سوداءَ
أضاعتها سيّدةُ المَرجانْ
يحيا في سردابِ الحلْمِ
نحيلَ القدمينِ وعُريانْ ...

يتنامى المَجدورُ سريعاً
يَنهَـلُ من ثدي الأفعى
سُمّاً أزرقَ
يُمسي تِـنّـيناً يسعى
تتطاولُ فيهِ الأنيابُ
و يَنضَجُ فيهِ الـثُّعبانُ
فيَغدو سُلطانْ .. .
***
يا منْ يُعطي الإنسانَ خطاياهُ
و يُعطي " القِرشَ " الأسنانْ
يعطي لسبايا " البوسْنَةِ " ( 2 )
أطفالَ الـعارِ
و لا يُعطي دمعاً للأجفانْ ...

يا من يَمسَحُ في اللَّـيلِ
نـبـيّاً بالزّيتِ
فينزلـقُ الحُلمُ بعيداً في الغيبِ
وننزلـقُ وئيداً في الطُّوفانُ ...

يا منْ يُعلِنُ في الصُّبحِ
الطّفلَ شقيَّاً
منْ أجلِ رغيفٍ مسروقٍ
في زمنِ التُّخمةِ
داسَتهُ بَغـِيُّ القصرِ
ونِدمانُ السّلطانْ
ماذا تعطينا اليومَ
كفافَ الصّمتِ
و قد صِرنا الآنَ ظلالَ الوقتِ
نَهيم عراةً في الوِديانْ
لنُجسّدَ أمجادَ الـعُربـانْ ؟ !
***
هلْ " عُرْوةُ " "نــَجْدٍ "يُُنجِدُنا
مِن يأسٍ يَنخُرُ في الأبدانْ ؟
هلْ هذا سجنٌ يَحشُرنا
أمْ هذي خارطةُ الأوطان ؟
جزُرٌ من رملٍ تَجمعُنا
والأخضرُ غاب عن الأذهانْ
أحلامٌ جفّتْ في دمنا
وكذالك أعوادُ الرَّيحانْ
يا جبلَ الرَّيْحانِ سلاماً
مِنْ " عُروَةَ " يَطويـهِ الـنِّسيانْ
مَنْ يسقي أشقرَ خِنْـذيذاً ( 3 )
في القَفر وحيداً دون عنانْ
مِنْ قِربةِ ماءٍ أو خمرٍ
مَنْ يسقي الآنَ
سوى الخِِصْيانْ ... ؟ !

صِرنا في تيهٍ لا ندري
أسماءَ القَهر أو الأوطانْ
لا نعرفُ حِساً يُطلقُنا
مِن سحر الحاكمِ والأوثانْ ...

في كفِّ " الحَلاَّجِ " المِسمارُ
يُـعلِّـقنا لـيلاً
في مِشْجَبِ روحِ مكسورٍ
يُشعل فينا الوجدَ
نذوبُ نذوبُ نـِفاقاً
نَضْطَرِمُ دُخَانْ …
***
يا مُعطي السُّلطانَ أمانينا
و جوائزَ ذاكَ " المتنبّي " الحَيْرانْ
ما زالَ يردِّدُ كي نُطرَبَ :
هلْ ثمَّةَ فضلٌ من " كولا "
في الكأسِ لنشربَ
نخباً أو نـهْباً
مِنْ أجلِ بقايا العِزَّةِ
حُلُم الدَّولةِ يُُبنى
كالأقْنانِ على عُريِ الأغصانْ ...؟ !

هذا المَسْخُ الخُنثى
يُقـعي فوق العرشِ الموشومِ
بخَتمِ السُّلطةِ و المُلْـكِ
ولا يعرفُ أسماءَ رعاياهُ
وأشكالَ ضحاياهُ
ويعرفُ لونَ عيونِ السَّجانْ ...

الكلُّ يراوغُ مفتوناً
مِنْ أجلِ خلاصٍ لا يأتي
لحياةٍ في ليلِ الخِصْيانْ
شعبٌ هذا أم خِرْفانْ ؟ !
بشَرٌ هذا أمْ حيوانْ ؟ !
و الطِّفلُ العربيُّ برغمِ الـتَّوراةِ
يـُقاتـلُ عنَّا بالحجَر الصُّلبِ
و يـَسقطُ غضَّاً في الأحضانْ …

نسألُ ربَّ الخَمرةِ صبراً
نبكي … نتأوَّهُ شِعراً
ونردِّدُ كالــعُميانْ
حولَ القبرِ المفتوحِ
دعاءَ الحَمدِ …
و نمضي
لا نعرفُ أسماءَ الشُّهداءِ
ولا نعرفُ أعدادَ الأكفانْ
نتساءَلُ في دَهَشٍ
هلْ هذا شَبحٌ
في زِيِّ الثَّورةِ حتى النَّصرِ
يغنِّي … يَـهذي
أم " مَـيْـفِـيسْتو " ( 4 ) عند القبرِ
يوقِّعُ في البيتِ الأسودِ
صَكَّ الغُفرانِ
ليُرضي مَلِكاً للجانْ ؟ ! …

سبحانكَ يا هذا سبحانْ !
سبحانَ " أريحا الغيتُّو "
صارتْ أوطانْ
" كالبوسنة " تُشوى
في مأدُبةٍ لـلـعُهرِ الكَونيِّ بصمتٍ
فوقَ البركانْ
و " القدسُ " تغوصُ عميقاً فينا
ونَغوصُ ، جميعاً، في النِّسيانْ …
***
الأفْـقُ يضجُّ براياتِ الــنَّصرِ
المَجبولِ بدمع القبرِ
على أكفان الموتى
وبطَعم القَهرِ
مع الصّبارِ أو الصّبرِ
على قمصان الأحياء - الموتى
و بكلِّ الأحلامِ المقبورةِ فينا
منْ دونِ كلامْ
و المِذْياعُ يردِّدُ لعنَـتَنا نصراً
في كلِّ جهاتِ الأرضِ
ونُصغي للآتي …
لا نسمعُ إلاَّ خطُواتِ
القاضي والسَّجانْ
و أنينَ الموتى من غيرِ نُشورْ
هلْ هذا وعْيٌ مشطورٌ
أمْ قدَرٌ يغرينا … فندورْ
في حلقاتٍ للذِّكرِ نديَّهْ
نُحيي الأمجادَ العربيَّهْ
بولائمِ ذُلٍّ نِِفْطـيَّه...؟
***
يا مَـلِـكَ " الأوزونِ "
تعالَ إلينا !
إنَّا أمسَينا
كالحُورِ الــعِـينِ
بلا لونٍ أو نزَواتْ …

اِحْرِقْ فينا الجلدَ الموْشومَ
بختْم المَسْخِ
وقشرةَ عقلٍ يَضمرُ
في ثلجِ القطبِ
ويعلوه صقيعٌ و سُباتْ !
علَّ النَّومَ الشَّتويَّ
يعيدُ إلينا الحلْمَ
ويحيي ، في دمنا ، فصْلَ الإنباتْ
طالَ زمانُ القَـحطِ علينا
وذوَتْ في نخلتنا العربيَّةِ
أشعارُ النَّخوةِ
و انطفأتْ أقمارٌ وجذورْ …

زمنٌ مَجدورٌ
وخُواءٌ يَطغى و قبورْ
فعلامَ ينادينا للحربِ السّلطانْ
ونراهُ يغنِّي ، نشواناً ، للشّيطانْ ؟
يتحَصَّنُ في خندقهِ ، مذعوراً ،كالجُرذانْ
ضلَّ الدربَ وضاعَ خَصيَّاً مَنسيَّاً
بينَ رمادِ التَّاجِ و بئر الـنِّفـطِ
ولعنةِ خيلِ العُربانْ …
***
المُلْكُ إلينا يتناهى
والمُلْكُ عظيمٌ كالأحزانْ …
هلْ يوأدُ ذاكَ المَجدورُ الآنَ
وهلْ يغدو الإنسانُ الإنسانَ
ليَذبحَ ، في دمهِ ، السَّجانْ ؟ ! .
==========
حمص _ سورية 6 / 11 / 1993 د. شاكر مطلق
E.-Mail:mutlak@scs-net.org
هوامش :
1 - : " زمنُ الحلُم الأول " عنوان المجموعة الشعرية الرابعة التي أصدرها الشاعر عن " دار الذاكرة " -حمص سورية عام 1991.
2 - :تـذكّر مذابح المسلمين في " البوسنة والهِرسِك "- البلقان .
3 - " الخِنْذيذ " ( الحصان ) المَخصي.
4 : " مَيْفيستو " عند شاعر ألمانيا العظيم غوته – بالتاء المخففة – هو أكثر من مجرد شيطانْ .