منذ بدايات النهضة العربية الحديثة او ما اصطلح على تسميته بذلك و تفتح العقل العربي على الآخر كان حلم النخبة آنذاك هو هدم الهوة الفاصلة بين العرب و الشعوب المتحضرة في الغرب .
كانت هناك رغبة و كان هناك طموح على عكس الإحباط و اليأس اليوم فالنخبة اليوم على كثرتها لم تعد مهتمة بل أصبحت مقرة بالعجز و الاستسلام خاصة بعد التحولات و سقوط الإيديولوجيا الاشتراكية و الانفتاح الذي كشف عن التأخر الكبير في كل المجالات و على جميع الأصعدة ليس فقط في دولنا العربية التي كانت تتبنى الاشتراكية كخيار بل حتى التي كانت رأسمالية و موالية للغرب منذ البداية و بقينا نستعير كل شيء من العقل الغربي الأدوات و المناهج و الطرق وعاجزين على التأثير ولو قليلا على التحولات في هذا العالم بل على القضايا التي تخصنا.
مشكلة عويصة أصبحت عقدة في وعينا العربي فقد كان بريق الأيديولوجيات القومية يقوي فينا روح التحدي و لو تحت غطاء من النرجسية و تمجيد الذات لتبرير الاستبداد وغياب الديمقراطية والحرية و القتل الممنهج للوعي. والايديولوجيات الدينية التي تركزت على ما يجب و ما لا يجب أخذه من الغرب و بقي هذا السجال يستنزف كثيرا من الجهد العقيم و الهوة تزداد .فلا يوجد بلد عربي واحد يمكن ان يقال عنه بلد صناعي او متحضر بل اننا للاسف نعدم حتى هيكلية الدولة بمعناها الحديث.
فمذ اللحظة الاولى التي استمعنا فيها لصوت منادي النهضة العربية *جمال الدين الافغاني *سنة 1958 لوقارنا سيرنا الحضاري بسير مجتمعات اخرى فسوف نشعر بالاحباط في عصر السرعة هذا والذي يخضع فيه التطور الاجتماعي الى عوامل التاريخ.
فاليابان مثلا كانت استيقاظته الاولى بعدنا ب10 سنوات و نجحت ببناء تجربة التحديث الأولى منذ بداية عهد (ميجي) عام 1868م، ، فاستمر زخم التجربة مع خلفاء (ميجي) إلى أن انتكست بسقوط اليابان تحت الاحتلال الأمريكي عام 1945.
وعلى الرغم من وطأة الاحتلال، نجحت اليابان مجددا بإطلاق تجربة تحديث أكثر منعة من سابقتها، وهي مستمرة بفاعلية متزايدة على المستويين الإقليمي والدولي منذ أواسط القرن العشرين. واليوم هاهي اليابان القوة الاقتصادية الثالثة في العالم. "فالأفكار الميتة" في الغرب لم تصرفها عن طريقها؛ فقد بقيت وفية لثقافتها.. لتقاليدها.. لماضيها"( اذ ان الكثيرون من المغالطون يرجعون ثورة اليابان و المانيا لما بعد الحرب العالمية الثانية واعتمادهم النهج اللبرالي لكنها مغالطة اذا ان هناك تقاليد بيروقراطية عريقة كانت في اليابان قبل ذلك بكثير)".

فلماذا نجح اليابانيون حيث فشلنا نحن
فالمجتمع الياباني الذي ايقظه الاستعمار كما ايقظنا نحن و شعر بالخطر الذي يتهدد كيانه مثلنا. ادرك ان من واجبه ان ينهض و ان يقوم بدور حضاري حاسم قبل ان تمحو هويته و شخصيته ووصل الى الحضارة و اصبح خلال اربعين سنة قادرا على مقارعة دولة استعمارية كبرى هي روسيا القيصرية في ذلك الحين. ومقارنة نتاجنا الحضاري و نتاج اليابان اوائل القرن العشرين لا يسعنا الا الاعتراف انه لا مجال للمقارنة و هذا ببساطة يعني ان القوانين التي طبقها اليابانيون غير القوانين التي طبقناها نحن .
*ان القاعدة الاساسية لبناء مجتمع متحضر كما يقول فيلسوف الحضارة "مالك بن نبي" هي العمل لتكوين هاته الحضارة و الربط بين الفكرة و العمل* فالحضارة من يكون منتجاتها و ليس العكس و هذا غلط منطقي شائع. نحن مررنا بالحضارة في طريقنا مرور الكرام اما الياباني فقد فكر فيها علميا و خطط لها تخطيطا عمليا وبنى مجتمعا متحضرا لانه دخل الاشياء من ابوابها و طلب الاشياء لضرورة. درس الحضارة الغربية بمنطق الضرورة لا بمنطق الشهوة فلم يصبح زبونا لهاته الحضارة يصدر لها امواله و قيمه. اما نحن فالعكس و كما يقول مالك بن نبي في كتابه" حديث في البناء الجديد"* اذا عبرنا بالتعبير الصحيح اي بمصطلح له معنى فان اليابان سارت في الطريق لعمل نسميه البناء .فقامت ببناء مجتمع بينما نحن كدسنا عناصر مجتمع. لكن تكديس الاشياء لا ياتي بنتيجة و المنطق بسيط فلو اننا كدسنا مئات الاطنان من الاسمنت و الآجر و الحديد لبناء عمارة فاننا لا نستطيع ان نقيم بها بناءا و لو بعد مئات السنين بينما لو سلكنا طريق العمل فاننا على الاقل نبني كل شهر شقة واحدة*

فنحن لم نعدم الافكار منذ عهد جمال الدين الافغاني و محمد عبده الى اليوم لكن افكارنا بقيت على الرفوف و في صفحات الكتب و الفكرة ميتة ما لم يحييها العمل ولا عبرة بصحتها و خطئها اذا بقيت في عالم التفكير المجرد. لقد ظلت العلوم الطبيعية تعتمد على المنطق وحده قرونا طويلة فلما تحولت النظريات الى التطبيق تقدم العلم خطوات واسعة بنيت عليها اسس كثيرة من المدينة الحديثة اليوم. ولو ظل في العقول و صفحات الكتب لتوقفت البشرية عند كتاب الطبيعة لارسطو..
فعلينا لبناء الحضارة التفكير في المجتمع تفكير بناء لا تكديس فالفكرة الصحيحة المقرونة بالعمل وحده ما ياتي بالحضارة فتكديس منتجات حضارات غيرنا لا ياتي بالحضارة و الاستحالة هنا اقتصادية و اجتماعية فيكفي الكم الهائل من العقول البطالة عندنا التي لا تستطيع ترجمتها الى قوة فاعلة لبناء مجتمع متحضر و الثروة التي صارت عبئا علينا لاننا لم نحسن استغلالها و استغلال مواردها .لان الحقيقة المنطقية ان الحضارة هي التي تكون منتجاتها و ليس العكس فالبديهي ان الاسباب من يؤدي الى النتائج و ليس العكس.
لكننا نحن العرب نتميز باندفاعنا الشديد و تقبلنا للنقائض فنحن نتحمل الحار و البارد و المنبه و المخدر في آن واحد فنحن نجمع بين البداوة الفكرية و الحضارة المادية في آن واحد لا نرضى بمستوردات الحياة المادية الا ما هو آخر صرعة في الوقت نفسه نتمسك في تقاليدنا الموروثة الا ما هو موغل في التأخر الفكري ونجمعهما تحت سقف واحد مما شكل تصادما غريبا عجز عن فهمه اكثر المفكرين في حين نجحت حضارات اخرى في الجمع بين النقيضين و الاستفادة منه فجنت من الحضارة الغربية ما تريد مع المحافظة على ثراثها و نضرب المثل بالصين.

ان ثراث الصين التقليدي و الثقافي اكثر من ثراثنا و هذه حقيقة .لكنهم في الاخذ من مستوردات الحضارة الغربية يكتفون بالضروري للانتاج او ما يسميه *ابن خلدون بالحاجي من لوازم الوجود و بالتالي استطاعوا ان يلائموا بسهولة بين ثراتهم التقليدي الرفيع و مستوردات الحضارة الغربية ولم يعانو التناقض الصارخ الذي نعانيه نحن و الفرق بيننا و بينهم ليس فرقا في الانسانية بل يكمن في دور العقل في كلتا الحالتين فهم بدلو مجهودا فكريا على جبهتين .جبهة التراث التقليدي بالتنقية و التقييم و درس ما هو قابل للحياة و في منتجات الحضارة الغربية ما يصلح للانتاج بل استطاعوا ان يستخلصو منهما ما كان من تناقض معطل و يوجدوا تكاملا حركيا يزيد من سرعة التاريخ كالجمع بين الطب التقليدي و الطب الحديث وهو مالم نقم به نحن فبالتالي كان نتيجة هذا التصادم عندنا مجتمعا فاقدا للتكامل و تعطل فيه سير التاريخ . فالواضح أن المشكلة التي تطرح نفسها لا تتعلق بطبيعة الثقافة الغربية، بل بالطبيعة الخاصة بعلاقتنا بها فنحن لا نذهب إلى منابع الحضارة، بل إلى حيث تتفطر فيها أو تلقي فيها نفاياتها"
وهكذا نجد بعض المغتربين منا والمتمثلين تقليديا لأفكار الغرب لا ينظرون إلى الحضارة الغربية إلا من خلال قشورها، ولا ينقلون منها إلا ما يسميه ابن نبي "بالأفكار الميتة" أو "القاتلة" التي ترمي بها إليهم هذه الحضارة عن طريق مراصدها الفكرية حتى يظلوا تابعين لا مبدعين، منفعلين لا فاعلين منكرين حقيقة انهلا توجد قوالب للحضارة يمكن نقلها من مكان لانباتها في مجتمع اجنبي عنها في تقاليده و قيمه و لغته لان الوضع اشبه بملائمة رأس الحيوان لجسم الانسان. قد نستورد القماش من الصين او الجلد من سكوتلاندا لكننا لا نعتمر القبعة الصينية ولا الجيب الاسكتلندي فهي لا تلائم رؤوسنا وهو لا يلائم سيقاننا بالمثل لا يمكننا جلب قيم من الصين او روسيا او امريكا و نلصقها بشعوبنا لانها تتناقض مع قيمنا و تكون اشبه بالجسم الغريب فهو مرفوض. وبالتالي فما علينا فعله هو التفتح على ثراثنا و منبعنا الثقافي و التمحيص فيه بغية احيائه و الكشف عن الكنوز التي يتضمنها للانطلاق منها كقاعدة و هوية لوثبة انسانية هدفها خدمة الانسان وفق منهج علمي يتماشى مع العصر الذي نعيش فيه لان المشكلة ليست في فكرنا كمسلمين المرتبط بالدين كما يقول الغرب فالفكر الاسلامي على عكس الفكر الكنسي لم يكن فكرا غيبيا كما يدعون الا فيما لا يمكن للعقل ان يدركه و هي قضايا لم تحلها اي فلسفة و عجز عندها الفكر الانساني مع وضوح آثارها ولا يمكن اعتبار الايمان بها غيبيا. بل ان عدم الايمان بها يعتبر تنكرا وجحودا للفكر نفسه. لان الايمان حل مشكلة لم يستطع ان يحلها العلم ولن. فلو درج الانسان على انكار كل ما لا يستطيع العلم ان يؤكده لدخل في متاهات الجهل المطلق. لان معظم الظواهر التي ندركها في الكون اليوم كانت في عوالم الغيب قرونا مضت فلو انكرها الانسان آنذاك لما كانت حقيقة علمية نؤمن بها اليوم.
فالفكر الاسلامي في جوهره يفتح المجال للعقل في ميادين المعرفة و الحرية الفكرية و تطوير الحياة باسس منظمة للمحافظة على الروابط الحقيقية للكرامة البشرية لصالح الفكر الانساني على العموم بدل التخبط في متاهات تناقض القيم التي يعيشها عالم الغرب اليوم..

طرح على ستاندال أنه هناك عدد كبير من الأدباء يتقلدون ب (شكسبير) فسأل لماذا؟ قالوا لأنهم معجبون بشكسبير، فقال *أن يُعجب أديب بكبير مثل شكسبير شيء منطقي، لأن شكسبير رجل عبقري، لكن يجب أن تحاول ان تعطي ما أعطاه شكسبير لكي تكون ناجحا*
فليس المطلوب منا ان نقتبس قليلا عن اليابانيين ثم عن الصينين، .. و نمضي كل عمرنا بالاقتباس، مطلوب منا بما لدينا من طاقات بشرية كبيرة، و طاقات مالية كبيرة، وطاقات ثقافية كبيرة، كيف نوظف ؟ كيف ينتج بأنفسهنا مقولاتنا الثقافية؟ كيف نستفيد من تراثهم الإيجابي في مقاومة الخارج؟ كيف نستفيد من تجارب الشعوب اخرى، ليس فقط اليابان أو الصين، او الغرب . ندرس كل تجارب التحديث في العالم بدافع اتخاذ العبر وليس التقليد، نحن لا نستطيع أن نقلِّد اليابان، ولن تفيدنا التجربة اليابانية بشيء إذا كانت عملية تقليد، لانك أنت بحاجة أن تستورد الإنسان الياباني معها، فهذه التجربة أنشأها إنسان اسمه الإنسان الياباني، والتجربة الصينية أنشأها إنسان اسمه الإنسان الصيني،
فالحضارات يلد بعضها بعضا و حكاية صدام الحضارات اكذوبة لا اساس لها منطقيا لان الحضارات ظواهر تاريخية و ليست بنى ثابثة. انما حلقات متسلسلة من تاريخ الانسانية الطويل ولا توجد حضارة متكاملة بدأت من الصفر .فمن إكتشف النار في العصر الحجري لا يقل ذكاءا عن مكتشف الذرة في العصر الحديث كما ام مكتشف الدورة الدموية في العصر العباسي هو استاذ مكتشف البنيسيلين في العصر الحديث
فما وصلت اليه الحضارة الغربية في التاريخ الحديث هو ما لم يحلم به او يتخيله اي فيلسوف عبر التاريخ فإنسان الغرب اليوم حقق المعنى الاقرب للكمال بمعاييره الانتاجية*لا الاخلافية طبعا"لان الموضوع يبقى نسبيا"* و اكبر الم هو مغادرتنا لهاته الحياة بدون ان نرى امتنا تنعم بهاته الحضارة و ما فيها من علم و تضيف اليه ما في ثراتنا من قيم و اخلاق لتحقق الجنة بابسط معاني الكمال و نحن ننظر الى انفسنا و نحمل ورائنا حضارة بهرت العالم و نقول هل من امل ان نعيد تلك الحضارة المنقرضة الى الوجود بكل ثرواتها الانسانية و الفكرية و الاجتماعية هو حلم ليس مستحيل التحقيق وكما يقول مالك بن نبي يكفي الانسان الذي هو الفكرة و التراب و الزمن الذي نخلطه بالعمل و الحل العلمي لهاته المعادة ببناء انسان متكامل و الاعتناء بالثروة و عامل الزمن باضافة شرارة العمل نكون قد وضعنا الاطار الصحيح لبناء الحضارة و خلق الاسباب التي تؤدي حتما الى المنتوج الحضاري.
الغرب اليوم يفرض علينا باسم العولمة كل شروطه اما نحن فعلينا ان نتوقف على اجترار أخطائنا و نجيب على سؤال واحد بكل حزم و موضوعية كيف يكون مستقبلنا و ان لا نفقد الثقة في شعوبنا لانها ولدت من رحم الألم و من يعرف معنى الألم يدرك معنى التحدي .فهل ترف الحياة بعد ذبول و هل يلين الزمان بعد جفاء.لا يسعني الا ان اقول مثلما قال رائد الحريات المدنية"مارتن لوثر كينغ"I Have a Dream
ر. رزاق الجزائري
-مالك بن نبي: مفكر جزائري معاصر1905-1973
http://www.yabeyrouth.com/pages/index1355.ht
m
الامبرطور ميجي1852-1912 الامبراطور122 للامبراطورية اليابانية ورائد النهضةالاصلاحية اليابانية
http://en.wikipedia.org/wiki/Emperor_Meiji
-هنري بل ستاندال: كاتب و اديب فرنسي.1783-1842
http://www.armance.com/