لن استجديَ أحدا ً من العظماء كتابة َ مقدمة ٍ لهذا الديوان ، ولن أجعل بيني وبين قرائي واسطة ً تمهد الطريق بيني وبينهم تنشر المحاسن وتسلط عليها الضوء وتقفز من فوق الهفوات بأن ترش عليها المساحيق والاصباغ لتبدوَ جميلة ً مقبولة .
ولن أتحاكم في كتابة المقدمة إلى نفسي كما يتحاكم بعض الشعراء إلى كـُتـّاب المقدمات ولن أزين كما يزينون ولن أداهن كما يداهنون صدقا ً مع قرائي وإنصافا ً لشعري من نفسي فإن حقق هذا الديوان من نفسه قبولا ًلدى القراء
فقد أغنى بظاهر لفظه ومعناه عن نفائس النعوت وجميل الصفات وكان له الفضل في ذلك وليس للمقدمة وإن عجز عن الوصول إلى قلوب المتلقين من تلقاء نفسه فلن تغني َ عنه المقدماتُ شيئا ً وإن اسهبت في المدح والإطراء .
لا يظن ظانٌ أنني إنما أشن ّ هجوما ً على المقدمات قاصدا ً من وراء هذا الهجوم التدليل على عدم جدواها وإنما أريد أن أقول إنّ الذي يقدح الزندهو نفسه الذي يعرف حجم الشرر المتطاير من هذا القدح فهو بالتالي أكثرإلماما ً بطبيعة شعره وهو الأوْلى بالتقديم إليه .
ولما كانت المقدمة هي لسان حال كاتبها صارت تمثل أول ما تمثل نقدا ً متحيزا ً في كثير من الأحوال تتصدر قصائد الديوان أما إذا كانت المقدمة بقلم الشاعر نفسه فإنها حينئذ ٍ تكون إمتدادا ً يزيد من مساحة الديوان بماتتضمنه من آراء للشاعر تصور مذهبه الشعري وحينئذ ٍ تكون موضع تحليل ٍ ودراسة كالشعر تماما ً لأنها خرجت من نفس البوتقة التي خرج منها تنير الطريق الموّصل إلى دَوْحة الشاعر وعالمه الشعري .
لقد كان الشعراء فيمن سبق وإلى عهد ٍ قريب وحتى وقتنا هذا يفني الشاعر عمره كله في إنتاج ديوان ٍ أو ديوانين سواء ً أكان ينحت من صخرٍ أو يغرف من بحر وفي كلتا الحالتين ينهمر الشعر من الخاطر بعد معاناة ٍ حقيقية وتجربةٍ شعريةٍ صادقةٍ أشبه ما تكون بالحُمى تتلبس الشاعر ولكنها ليست كحُمى المرض يمتزج فيها عمل الفكر مع خلجات النفس عند كل ولادة ٍ أدبية يفيض بعدها الشعر من القلب إلى اللسان حيث يكون في انتظاره القلم والقرطاس يتلقاه بعد
ذلك عشاق الشعر والأدب بالرضى والقبول والمتعة والسرور فتنال منه جميع الأذواق كلٌ بحسب فهمه وتذوقه للنص الشعري وما زال الأمر على هذا الحال حتى اقتحم هذا الميدان المتقولون أو ما يسموْن بشعراء الحداثة فألقوا في
الساحة أرتالا ً لا تـُعد ولا تـُحصى من نتاجهم الذي أسموه شعرا ً وما هو بشعر ولا هو مما يشبه الشعر وإنما هو كلام ٌ في كلام يمجـّه الذوق العام وهو لا يعدو أن يكون من كلام العامة لا يزيد عنه في قليل ٍ أو كثير ولستُ أريد أن أعقد
مقارنة ً بينه وبين الشعر الملتزم لأن مثل هذه المقارنة لا طائل تحتها ولا فائدة من عقدها لأنه شتان ما بين شاعر ٍ غريد ومتشاعر ٍ بليد يُحسن أن يكون أي شيئ ٍ إلا أن يكون شاعرا ً .
فإلى أي مدى يمكن اعتبار شعر الحداثة أدبا ً راقيا ً نتاج تجربةٍ شعريةٍ أصيلةٍ ومعاناةٍ صادقة . لقد أغرق الحداثيون الساحة الأدبية بكم ٍ هائل ٍ يفوق الحصر حتى إنّ احدهم ليقذف في الساحة بالدواوين العشرة في فترةٍ محدودةٍ ولو أن أحدهم ذوّب نفسه ما أنتج ديوانا ً أو ديوانين في عمره كله هذا لو كان ينتج عن تجربة ٍ شعريةٍ صادقةٍ كانت أو كاذبة .
وما هذا الانتاج الهائل في مجمله إلا تركيباتٌ لغوية ٌ خالية ٌ من النفس الشعري العميق وروحه الشفافة وهذا أمر ٌ يحتاج إلى إدخال تلك الأعمال إلى مشرحة النقد لاستبطانها واصدار الحكم الأخيرعليها وإن كنتُ أقطع يقينا ً بأنّ شعر الحداثة انحدر انحدارا ً حادا ً وخاصة ً بعد جنوحه إلى قصيدة النثر هذا إن كان للنثر قصيدة والتي يُجمع رواد النقد وأعمدة الشعر على منافاتها للإبداع وما قصيدة النثر إلا نهاية النفق المظلم الذي انحدرت إليه الحداثة وإذا كان للشعر أغراض ٌُ كثيرة كالمدح والهجاء والحكمة والرثاء وما إلى ذلك من أغراض الشعر المتنوعة فما هي أغراض الشعر الحداثي ، لا أحسبها تحمل أكثر من غرض واحد وهو( الهدم ) وهو سهم ٌ ذو رؤوس ٍ متعددة فمن هدم الدين إلى هدم مكارم الأخلاق إلى هدم اللغة إلى هدم التراث وهذا في حد ذاته كاف ٍ لأن ينقلنا من أمة ٍ أصيلة ٍ بذاتها معصومة ٍ بدينها غنية ٍ بتراثها عريقة ٍ بلغتها متبوعة ٍ لا تابعة إلى أمة ٍ تابعة ٍ لا متبوعة تلهث وراء سراب ٍ خادع بحجة التطور والتحول والتجديد . أي تجديدٍ هذا الذي لا يحمل في يده إلا معول هدم ٍ فحسب ولماذا نلهث نحن وراءهم وننهل من أفكارهم ونبذر حداثتهم في أصالتنا ولماذا لا يبحثون هم عن أصالتنا ليستفيدوا منها في تنمية حداثتهم الهشة . أما تثوير اللغة فشيئ ٌ جميل أن تثور اللغة على كل ما هو شاذ ومخالف أما أن يكون تثوير اللغة ثورة عليها لا لها يُقصد من وراء ذلك كله طمس معالمها واستبدال حروفها بحروف أخرى هو تشويه مرفوض للغة ٍ ظلت أعواما ً عديدة هي اللسان الجامع بين أقطارالوطن العربي على طول امتداده وما استبدال اللغة الفصحى بلهجات محلية إلا غاية ٌ من غايات المتآمرين والمتربصين باللغة الفصحى وبالناطقين بها على حد ٍ سواء .
وما تثوير اللغة وهو المصطلح الذي يلجأ إليه دعاة الحداثة إلا مصطلحٌ أجوف لا يخضع بحال إلا إلى تحولات الموضة التي لا تلبث أن تتبدل مع ظهور موضةٍ أخرى بينما اللغة العربية الفصحى كيان ٌ راسخ ومتجذرأصله ثابت وفرعه في السماء .
واللغة العربية تحمل في ذاتها إيحاءات ٍ تثويرية ٍ متجددة الأداء وتثويرها من خارج ذاتها يعني حكما ًعليها بالذبول والإنقراض وإلا فكيف تتفاوت أذواق المتلقين وهي قبساتٌ كامنة في النص ذاته تمنحه من معاني الخلود ما يجعله راسخا ً أمام عوامل التعرية الادبية ، ولو كان لعامل الزمن تأثيرا ً في النصوص الأدبية إذن لكان احساسنا بجمال النصوص التي مضى عليها مئاتُ السنين مختلفا ً عن احساس المتلقين لها في حينها .
ولعل من عبقرية لغتنا العربية أنها ظلت راسخة الجذور واضحة المعالم شديدة التأثير حتى في عصور الانحطاط هذا ولا يخفى على الناقد الحاذق ما يظهر على جبين النص من ملامح التجربة الشعرية وما إذا كانت التجربة ناضجة ً مكتملة أم أنها فجة لم تكتمل بعد .
ولو نظرنا إلى النص التالي :
هيا نمشي ** نركض نلعب
نلهو دوما ً ** مـثـل الثعلب
لوجدنا أنه يحمل ما يحمله الشعر من سمات الوزن والقافية إلا أنه يفتقر إلى التجربة الشعرية الناضجة وهو وإن كان يمثل نشيدا ً للاطفال رُكبت ألفاظه تركيبا ً شعريا ً إلا أنّ بينه وبين الشعر المنبثق عن تجربة ٍ شعرية ٍناضجة بوْنٌ
واسع ، فإذا كان هذا حال نص ٍ ملتزم ٍ فكيف بنص ٍ حداثي غير ملتزم أليس أحرى به أن يكون بينه وبين الشعر بونا ً أكثر اتساعا ً .
وهنا ارى انّ من الضروري التعريج على شعر التفعيلة واقول في هذا الباب إنّ شعر التفعيلة هو شعر عربي اصيل تمت اضافته الى بحور الخليل من قبل الشاعرة نازك الملائكة إذا التزم الشاعر بوزن التفعيلة في جميع ابيات القصيدة دون إخلال وفيه كذلك من الموسيقى مثل ما في العمودي .
وليس شعر التفعيلة وزنٌ غربي لانّ الشعر الغربي ليست له اوزان مثل اوزاننا وهم يسمونه شعرا وهو لا يعدو ان يكون من احلام اليقظة او من تهويمات السكارى لا لون ولا طعم ولا رائحة.
اما شعر نزار الذي كتبه في النساء لا يليق وهو حر في ذلك اما في التفعيلة فمن اروع ما كتب قصيدته التالية
يرمي حجرا او حجرين ***يقطع افعى اسرائيل الى نصفين*** يمضغ لحم الدبابات ***ويأتينا من غير يدين ...الخ مما هو منشور في دواوينه.
والى الذين يطبلون لكل صغيرة وكبيرة من حيث يدرون ولا يدرون اهدي هذه الابيات :
عــــــلام المرء لا يثنيه رأي ٌ *** عن اللذات من رجل ٍ حكيم
لسوء الظن ام خـــابت عقولٌ *** عن الترحال عن أمر ذميـم
حسبت ُ الشعر لمحا ً في فؤاد *** يمر ببؤرة الفـكـر السلــيم
فكيف يكون حر الشعر سحرا *** وفيه ضحالة القول السقيم
إذا كــانت منــــابعه عفــانـــا *** فكيف يكون من نبت كريم
واخيرا وليس آخرا أسال الله لي ولكم الهداية ونفاذ البصيرة فليس كل النقد مدحا وليس كل النقد قدحا وإنما النقد دراسة وحكم غير أني ارى ان كثيرا من الشعراء هنا ليسوا بشعراء ولا يمتون الى الشعر بصلة ويتلقون من المدح والاطراء ما ليسوا له بأهل.
ملاحظة صغيرة :
بينما انا اقرا ما كتب في هذا الموضوع صادفتُ اخطاء في القواعد والاملاء والتعبير آمل عدم تكرار ذلك ودمتم...
المفضلات