- تاريخية التأصيل والإبداع :
1ـ 1ـ في الفلسفة القديمة(اليونانية):إن الحديث عن أصول الفلسفة اليونانية ـ باعتبارها ذروة الفلسفة القديمة المبدعة والمتجددة ـ وعلاقتها بالتأصيل يدفعنا إلى السؤال عن منطق هذا التأصيل : هل هو الذات اليونانية ـ باعتبارها مبدعة ومتجددة ـ أم إن تأصيلها للفلسفة كان من فلسفات أخرى ؟
إن الجواب بالنفي عن هذا السؤال يتضمن عدة نقاط : ينبغي أن نحدد في البداية الوجهة لهؤلاء في مسألة الإبداع قبل الحديث عن مسألة التأصيلات " المدرسة المثالية" أو الفوطبيعية التي تزعمها أفلاطون Platon (429_ 347 ق_م) في التفسير الفلسفي يعتبر الإبداع البشري لغزا محيرا لايمكن تفسيره إلا " بالإلهام" المنسوب إلى تأثير المصادر السماوية والإلهية , والمرتبطة بالمنابع الروحية والعقائدية للمبدع, لكن اختلفت هذه النظرة مع النظرة المثالية التي تزعمها "أرسطو" aristoto ( 384_322 ق_م ) اختلافا جذريا
بتعويله على الطبيعة كمصدر للإبداع وإيمانه بالتفسير العقلاني بدلا من الاعتقاد بسحر العوامل فوق الطبيعة.(1)
لكن رغم هذه النظرة الفلسفية للإبداع لا تسلم الذات اليونانية من نقد تأصيلاتها الفلسفية القائل بأن هذه الذات لم تكن مبدعة لها بل متبعة ومقلدة وهذا بدليل:
1- « لقد كان المصريون القدماء والبابليون (سكان العراق) أساتذة اليونان في علوم كثيرة كما يذكر اليونان أنفسهم». وهذا دليل على أن اليونان في وضع أصول الفلسفة كان
ربما تأصيلا من نقول لفلسفات الأمم القديمة قبل اليونان, والتي كانت تكتم علومها عكس اليونان, وهذا منذ أواخر الألف الثاني قبل الميلاد. ففي مصر قامت حركة للتوحيد لكن لم يكتب لها النجاح, لأن البشر لم يكونوا مستعدين لتقبل هذا المستوى العلمي, وهذا ما يفسر طابع الوثنية التي امتازت به أصول الفلسفة اليونانية.
2- كما كانت هناك أيضا فلسفات في حضارات أخرى غير اليونانية مثل "الثنوية " في فارس والهند, و" التاوية " و "الكونفوشية " في الصين, ثم "البوذية" في الشرق الأقصى والهند, وهذا أيضا دليل على إن الأصول الفلسفية اليونانية قد تكون وضعت انطلاقا من فلسفات أخرى.
3- ولأن التفكير الفلسفي المنظم في اليونان لم يبدأ إلا في أواخر القرن السابع (ق_م)،( ) وهذه النقطة قد تحتسب من جهة إلا أنها ضمن جواب النفي وقد تكون أيضا من جهة جواب الإثبات للسؤال نفسه, لأن التأصيلات الأولى للفلسفة اليونانية امتازت بطابع التفكير العلمي ( الرياضي والطبيعي ) القائم على تعليل طبيعي مادي. هذا و في أوساط القرن ( 5 ق.م ) برزت تأصيلات فلسفية ذات نزعة إنسانية وبدأ الفلاسفة يهتمون بأحوال الإنسان الاجتماعية, وبتنظيم المعارف التي كان اليونان قد وصلوا إليها.
4- كما أن الفلسفات القديمة بكل أنواع مدارسها تميزت تأصيلاتها الفلسفية بالوثنية فلهذا انتشرت الوثنية في الأفكار والأخلاق في العصر الحديث مما جعلت رؤيا خاصة للإنسان في هذه الفلسفات القديمة تمتاز بالفطرة والطبيعة,وأنها الركيزة الأساسية للمتفلسفين
المحدثين" لدراسة تكوين الإنسان فسمي الاتجاه الجديد فيها هذا بـ"النزعة الإنسانية " المتأصلة في الفكر القديم وسميت الآداب القديمة بـ"الإنسانية " لشهودها تأصل لما يتعلق بالإنسان منذ بدأ الفلسفة السقراطية مع " سقراط " Socrate (470- 400 ق.م ), حيث أطلق على هذا فيما بعد "السقراطية المسيحية". وهذه النقطة قد تحتسب أيضا من جهة أنها ضمن جواب الإثبات للسؤال نفسه لأنها كانت من إبداع هذه الفلسفات. لكن ما يزيد من معقولية الإجابة بالنفي أكثر هو انتقال الفلسفة من الشرق إلى الغرب من خلال مراكز الإسكندرية في مصر ومدارس اللاهوت (الفقه المسيحي) ومدارس الفلسفة في أنطاكية والرها ونصبين و حران وجند ويسابور.... وغيرها.( )
وكما نجد أن التأصيل الفلسفي في جذوره الأولى يعود إلى الحضارات الأولى - في إبداعاتها- مع بداية الفكر الفلسفي في الظهور كما يقول " هنري توماس " Henri Thomas": « بأنه يمكن إرجاع التفكير الحديث إلى حكمة المصريين وذلك عن طريق" أفلاطون " والفلاسفة اليونانيين الآخرين , فقد أخذ اليونان فلسفتهم عن الشرق و الغربيين المحدثون بدورهم أخذوا فلسفتهم عن اليونان وأن عرضا مقتضبا للفكر المصري المبكر يوضح لنا أن ما أورثنا إياه "أفلاطون" و "أرسطو" موجود في فلسفة "تباح حوتب" Tpah Heutp وما تركه لنا "شوبن هاور" Schopen Hauer (1788-1860م) من تراث ممثلا في حكمة "أبور"Apôr" كما نجد وحي "سيبنوزا" Spino za Bruch (1632_1677) و "كانط" في رؤى "أخناتون" "Akhnaton" .( )
وهكذا نجد أنفسنا أمام أطروحات تفند القول بـ:"المعجزة اليونانية" وبالتالي نجد أنفسنا أيضا أمام سؤال عريض وجد مهم هو: هل الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة ؟. كما يرى "جميل صليبا" بأنه لا عجب أن نطلق على الحضارة اليونانية اسم"المعجزة اليوناينة" وأن نقول أن فلاسفة اليونان القدماء كانوا وما يزالون العقل البشري في معظم مغامراته الجريئة . ولكن يجب القول: «ليس في الحضارات القديمة حضارة تثير الدهشة والإعجاب كالحضارة اليونانية لأن هذه الحضارة جمعت أثار الحضارات البابلية والمصرية والفينيقية والفارسية ثم أضافت إليها أثارها أثارا فنية رائعة, ومذاهب فكرية مبتكرة, ومبادئ خلقية سامية يتجلى فيها الإبداع بأقوى مظاهره »,( ) وهذا ما يتفق فيه "جميل" مع "أندري كرسون" A .Cresson في كتابه "الفلسفة القديمة" la philosophie antique paris1947, وهو يرى أيضا أن "أفلاطون"و"أرسطو" لهما الأثر الكبير في الفلسفة العربية والفلسفة الأوربية أعمق تأثير .
والجواب بالإيجاب يجعل التأصيل في وضع هذه الأصول الفلسفية اليونانية يمتاز بـ: الاستقلالية التامة عن غيرها- يمكن القول أنها ذات مبدعة- بدليل أنها تعتبر هي الأصل عند الفلسفات التي جاءت من بعد وهذا ما سنراه في المراحل المتقدمة من هدا البحث.
أما فيما يخص الفلسفة العربية القديمة فإن التأصيل فيها كان انطلاقا من الترجمات للنصوص الأصلية للفلسفة اليونانية وهدا المتغير في عملية التأصيل مع ربط إبداعات هذه العملية أو نتائجها بالمأصول حيث الخلل كان أكبر إنه قرأ المأصول انطلاقا من الأفكار اليونانية .( ) فأنتج لنا فلسفة غير عربية إسلامية بمعنى الكلمة، كما كان العرب المسلمون لا يعرفون اللغات الأجنبية فقام بحركة النقل هم السريان والنصارى واليهود الذين كانوا يتقنون اللغتين اليونانية والسريانية فينقلون إلى العربية ما كانوا قد نقلوه من قبل من اليونانية إلى السريانية.( ) هذه التأصيلات في الفلسفة العربية لم تكن لها علاقة بالواقع العملي بقدر ما كانت لها علاقة بالجانب النظري فقط، لذلك اصطبغت بميزة الإتباع والتقليد للمنقول الفلسفي الخاص، فهناك ما يبين أصالة المسلمين في بعض نواحي فلسفتهم كرد على من جحد من الكتاب المحدثين المسلمين وغالبية الباحثين الأوربيين وهذا في رؤية طرحت في أوائل الأربعينيات من القرن الماضي عند "مصطفى عبد الرزاق (1885)" في كتابه "تمهيد في تاريخ الفلسفة الإسلامية" إذ يبين فيه أنه كان لدى المسلمين تفكيرا خالصا- أو إبداعا خالصا- صدورا فيه عن ذاتهم وتفكير تنسيقي لهم فيه أيضا حظا من الابتكار, وهذه ،المحاولة تثبت منشأ التفكير الإسلامي الفلسفي في كتابات المسلمين أنفسهم قبل أن يتصلوا بالفلسفة اليونانية.(8)
وهذا معناه في البداية أنه كان التأصيل للفلسفة الإسلامية انطلاقا من عملية الترجمة التي عرفها العالم الإسلامي. في عصر بني أمية ابتداء من القرن(1هـ) لما فتحو بلاد الأعجام, لكنها لم تكثر فيهم ولم تنتشر. لما كان السلف يمنعون من الخوض فيها ... ولقد أوتي أقوام كثيرة قبل اليونان حكمة وفكرا وحضارة وفنا, ولكن الحكمة التي اختص بها اليونان كانت فريدة في نوعها وإليها وحدها ينصرف اسم الفلسفة- المبدعة باسم الكلمة –و بمعناها الدقيق.1وهذا كله معناه أن الفلسفة اليونانية قد عرفت قبل حركة الترجمة التي بدأت في العصر العباسي الأول, عن طريق "الكندي" و "أبو البركات البغدادي " و "ابن باجة " و "ابن طفيل " و " ابن رشد "غير أن أعمالهم أقرب إلى الشرح والتعليق,وعليه لايمكن القول انه كان هناك استقلال في الإبداع الفلسفي بمعنى الكلمة للفلسفة. مع محاولة غير واضحة للتوفيق بينها وبين الفكر الإسلامي حتى إن بعض المستشرقين قد قال بعدم تمكن فلاسفة الإسلام من الإبداع الفلسفي وهذه المسألة رد عليها "إرنست رينانRenan Josph ; Ernest (1823- 1892م)" الذي حاول أن يحلل العقلية السامية اليهودية والمسيحية تحليلا عقليا بين قصور هؤلاء الفلاسفة عن الإبداع الفلسفي حيث وجد سببه هو التوحيد .(9) والعملية التأصيلية لابد لها أن تجمع بين الواقع المحسوس ومد لولاته المختلفة من لغة ومعرفة ودين ( أبعاد التجربة الدينية)، لكن هذه الأخيرة في حاجة إلى مراجعة تأصيلية, بدليل أن هذه التأصيلات الأولى لم تكن تراعي المعاني اللفظية في علاقتها بمجال التداولي للمتلقي, ويمكن القول إنها نفسها أخذت جاهزة مما كون مشكل في اللغات المتلقية وهذا ما يوضحه لنا تاريخ الترجمة والآداب الإفريقية عموما والعربية منها خصوصا مما يمكن القول: «إن النصوص الإفريقية في معانيها المعبرة عن اللغة الوطنية والأدب الوطني والأدب الإفريقي هم مشكل بالنسبة لهذه النصوص الإفريقية عند لقاء ما هو إفريقي بما هو غربي , أو اللغات الأوروبية التي خالطت لغات الأهليين بالتأكيد مثل الإنجليزية والفرنسية والمتنقلين الذين اكتسبوا تماثيل عن اللغات الرسمية».(10)
ولكنهم كانوا عالة على اليونان, تمذهبوا بالرواقية والأبيقورية, واقتبسوا بعض الآراء من المدارس الأخرى... وفي النصف الثاني من القرن (11و12م) بأكمله كان عصر تقدم اجتماعي وسياسي وازدهار أدبي وعلمي عرف عدة تأصيلات ترجمية من اليونانية والعربية وكان لهم الأثر الأكبر في نمو الحياة العملية وأنه لا يبدوا واضحا إلا في أواخر القرن(12 م) وأوائل (القرن13م).(11)
إن هذا التمهيد المختصر يبين أن جل الفلسفات التي كانت ربما عند الغرب لم تكن أصلية أي انطلاقا من واقع تاريخي حي لهم بل كانوا في أعظمهم مجرد مقلدين وتابعين للأفكار و الأخلاق التي سبقتهم في ذلك ... ـ وهذا ما معناه إنها لم تكن مبدعةـ والفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط عرفت باسم "الفلسفة المدرسية" أي التي كانت تعلم في المدارس، حيث شهدت الفلسفة في هذا المدارس عدة تأصيلات من أساتذة العصر الوسيط والثابت فيها إنها عبارة عن نقل من النصوص الأفلاطونية والأرسطية خصوصا.(12) والتي تم التركيز فيها على مسألة التوفيق بين الفلسفة والدين، وقد تجلى هذا باختصار في إبداعات عدة أساتذة هم القديس « أوغسطين»S-Aggustine (354-430م) مؤسس الأفلاطونية المسيحية ومثقف العصر بمؤلفاته الأدبية واللاهوتية والفلسفية والثاني "ديونيسيوس الإريوباغي "Denis l’A éropagite الذي يظن الأغلب إنه أسقف سوري كتب باليونانية متأثرا بالأفلاطونية وكان له الأثر العميق في الغرب ترجم كتاباته إلى اللاتينية واتخذها مرجعا في تدريس الإلهيات والتصوف , والثالث هو "بويس" Boéce المترجم لكتب "أرسطو" المنطقية , ولما كتب لتأصيلات الأفلاطونية النجاح بسبب ما أصاب روما وإمبراطورياتها من غزوات البربر التي دمرت المدارس وأتلفت الكتب حيث بقيت الكنيسة وحدها بمثابة الحافظ والمأوى للثقافات الوسطية من الضياع, وهذا ربما ما يفسر لنا سيطرة الكنيسة على التأصيلات -أو الإبداعات – في مرحلة متأخرة. وهذا ما شهده عصر النهضة التي بعثها "شارلمان Charlemagne " في الربع الأخير من القرن 8إلى نهاية القرن12م.(13) ففي القرن التاسع (9م) كانت هناك تأصيلات جديدة تمثلت عن اتصال الغرب بالشرق، وفي القرن (13م) دفعت هذه التأصيلات العقول إلى الأمام- والمقصود به الإبداع- ما جعل المدارس تنفصل عن السلطة الأسقفية واستقلت شؤونها العلمية والإدارية فكانت منها الجامعات. كما كانت هناك ترجمات رأسا من اليونان لأن الترجمات العربية خاصة "أرسطو"( 384- 322 ق م) و"الكندي"( 796-873م) و"ابن سينا"(980-1037م) "الفارابي"( 872-950م) و"الغزالي"( 1059-1111م) و"ابن رشد"(1126-1198م ) تضمنت قضايا فلسفية مخالفة للدين, فتمسكوا ب"أرسطو" بالرغم من التحريم الكنسي وفطنوا إذن إلى مساوئ الترجمات التي كانت بين أيديهم، ففرقوا بين ما "لأرسطو" وما لغيره من الشراح اليونان والعرب، فنهضوا بالعمل عطاء باليونانية. حيث تميزت هذه الإبداعات التأصيلية بسيطرة الأرسطية اللاهوتية والمسيحية فقامت عليها الجامعات في باريس "رشدية لاتينية".
وفي القرن (14م) ظهرت تأصيلات فلسفية جديدة في الغرب تسمى "باللفظية" أو"بالإسمية" الناقدة للماضي كله هذا باعتبار أنها قادت في تأصلاتها إلى علاقة واقعية أساسها النقد الشاك في العقل والمعقولات وقيام فلسفة خاصة للعقل مقطوعة الصلة بالدين, ودعت إلى الإيمان دون سند إلى العقل, فنقدت المجردات العقلية لـ"أرسطو" في علمه الطبيعي, وتحررت من سلطانها في العلم والفلسفة جميعا. الشيء الذي جعل النقد يجسد أكثر واقعية واستقلالية منطلقا من التاريخ الحي إلى الوصول إلى أصول الاجتماع, فأيد بالنظرة الحرمان والملوك في التمرد على البابوية, والقول أيضا بوجود الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية, وهذا ما جعل "الإصلاح الديني" -للكنيسة وليس للدين بمعنى الكلمة- يلح إلى الأفق فيما بعد, حيث أكدوا أن المعرفة الحسية أوضح من المعرفة المجردة فأكدوا تبعية هذه الأخيرة إلى الأولى, فهدموا ما شاده " أرسطو" ( للسماء والعالم) وأقبلوا على الطبيعة فوضعوا العلم الخاص المستقل عن الفلسفة. إلا أنه يمكننا أن نقول أن
فلسفتهم لم تكن مستقلة عن هذا العلم كما يدعون لأنها قائمة على أساس مادي هو ما يفسر الآن .
2-1- في الفلسفة الحديثة:
في البداية نلاحظ أن النظرة الفلسفية للإبداع لم تكن كسابقتها قبل عصر الحداثة, إذ نجدها تغيرت "فالمدرسة العقلية" مع "كانط" Emmanuel Kant (1724-1804م) الذي كان أكثر وضوحا من الذين سبقوه بالتركيز على أن جوهر الإبداع هو خلق ما هو غير موجود وليس محاكاة لما في الطبيعة كما اعتقد "أفلاطون" و"أرسطو", كما نجد "كانط" قد ميز بين "الخلق والتقليد" بإرجاع الخلق والابتكار إلى العبقرية و أقر أن الإبداع الحقيقي بالفن وليس بالعلم باعتبار أن الإبداع هو نتيجة التفاعل التبادلي بين التصور والإدراك. وكان "شوبنهاوز" Shopen Hauer (1788-1860م)" قد أيد "كانط" في فكرة الإبداع الفني على الإبداع العلمي وأولوية الإبداع الفني مكتسبة من العبقرية التي يتطلبها فيرتقي بالعقل البشري من طور القبول السلمي للمسلمات إلى التأمل الموضوعي للحقائق.
ويتبنى "بنديتوكروس" Bindittio Cross فكرة مشابهة متمثلة في المقارنة بين الفن والعلم فيشير إلى أن " الإبداع العلمي يأخذنا إلى الحيز الرياضي التجريدي بعيدا عن واقعية الفضاء الفردي, فيما يجرنا "الإبداع الفني" في أعماق دواخل الشخصية. وهذا الأقرب في نظرنا إلى "الإبداع الفلسفي" الذي نخص الحديث عنه لاحقا وبهذا يكون المنهج العلمي عن المعرفة المنطقية المتأنية عبر الفكر والمفاهيم والفرضيات. بينما يكون المنهج الفني عن المعرفة الحسية المتأنية عبر التصور والخيال. فالمصدر الأساسي للإبداع إذن هو التصور والتعبير الذهني للتصور الشيء الذي يؤكد عليه " كولرج "Kolergو "كولنكود" Kolinkod على أن الإبداع ينشأ ويتطور داخل حدود الوعي, كما يتفق "روثنبرك" Rôtenberg مع "كستل"Kestel موضحا أن عملية الخلق والإبداع تستلزم توفر ما يسمى بـ "الذهنية اليانوسية" والتي تتصف بالميل للتوفيق بين العناصر الفكرية المتعارضة لإنتاج شيء منسجم والتي يمكن وصفها مجازا بالقابلية على إيجاد الأفاق الجديدة.
والواقع أن الفلسفة القديمة والفلسفة المدرسية مازالت تؤثر كل منهما بشكل أو بآخر في الفكر الحديث. فنجد الفلاسفة المحدثين في تأصيلاتهم لايرفضون أفكار"أرسطو" ولم يتخلصوا من آثار المدرسين لعدائهم لهم.(14) كما أن المتفلسفة المحدثين مدينين لرجال النهضة وما جاءوا به من أفكار جديدة فـ: "ديكارت" Descartes René (1596 – 1650م) الملقب بـ"أبو الفلسفة الحديثة " لم يخترعها اختراعا، فقد سبق إلى الكثير من أفكاره والمنهج التجريبي الذي نسب إلى "فرانسيس بيكون" Bacon Francis (1561-1626م) في الواقع يرجع إلى "روجر بيكون" Bacon Roger (1214-1294م) في القرن (13م).و هذا بدوره قد أخذه من العرب. فالتأصيلات التي قامت بها التيارات الفكرية والإيديولوجية، يتطلب منا بداية فهم الأفكار الفلسفية التي تشكل الأساس الذي تقوم عليه هذه التيارات والأيديولوجيات.إذ أن الفلسفة اليونانية كان لها الأثر العميق على المتفلسفة في العصور الوسطى في أوروبا. حيث ظلوا ما يقرب عشرة قرون يرددون هذه الأفكار اليونانية وبذلوا جهودا معتبرة نتفهمها, فكانت ترجماتهم لها من العربية واليونانية إلى اللاتينية. حيث علقوا عليها وشرحوها وهذبوها وحاولوا التوفيق بينها وبين الدين, حيث نال "أرسطو" المكانة العظيمة والممتازة في الغرب فقد اعتنقت الكنيسة آراؤه واعتبرتها فلسفة إلهية للقرون الوسطى يعاقب كل مخالف لها ويعتبر عاصيا أو كافرا. (15) وعليه نجد أن الفكر الأوروبي في هذا العصر كان خاضع لسلطتين في تأصيله هما: سلطة دينية متمثلة في الكنيسة وأخرى عقلية متمثلة في سيطرت آراء "أرسطو" على العقل, وبعد التأصيل الذي سعت الكنيسة في العصور الوسطى إلى تطبيقه انطلاقا من ترجماتها العربية واليونانية إلى اللاتينية, ومحاولة التوفيق بين هذه الفلسفة المنقولة والدين المسيحي- كمؤسسة لا كدين بمعنى الكلمة- باعتبار أن هذا الدين هو الأصل في تأصيل هذا المنقول الفلسفي وجعل العقل خاضع له في كل مبادئه وأفعاله وأقواله. لكن في العصر الحديث كان ظهور تأصيلات فلسفية مبدعة وجديدة طابعها هو التحرر من سلطة الكهنوت السديمي وآرائه العسكرية منادين للانفصال بين العقل والدين كمؤسسة تتمثل في الكنيسة وتحقيق النهضة Renaissance الذي ساهم
في تطور الحركة العقلية خصوصا في الفلسفة الحديثة بدءا من القرن (15م) حيث امتاز التأصيل في هذه الفلسفة بعدة خصائص:
1- التحرر من سلطة الكنيسة وبروز النزعة الفردية والاتجاه إلى دراسة العلاقة بين الفرد والحياة وتحديدها.
2- اتجاه العلم إلى دراسة العالم المحيط بنا, وهي النظرة التي أصبغت الفكر الفلسفي نفسه ولم يعد قيد سلطة الكنيسة.
3- عودة الفكر اليوناني.
إن هذه الفلسفات في تأصيلاتها قائمة على خاصية أساسية لها علاقة بالإنسان والوجود, تبحث عن المشاكل الوجودية التي هي عبارة عن مشاكل إنسانية تتعلق بالحياة والموت والمعانات والألم وغيرها من المسائل التي تخص الوجود الإنساني. لأنها عبارة عن أسلوب جديد في التفلسف يبدأ من الإنسان لا من الطبيعة, وهذا ما سماه البعض بـ" فلسفة الذات " لا أكثر من فلسفة عن الموضوع فيمكن أن نطلق عليها اسم "فلسفات وجودية".(16)
فإن ما ميز التأصيل في الفلسفة الحديثة(النهضة): هو المؤاخاة بين العلم والدين على أساس الفصل بين منطقتي النفوذ لكل منهما.(17) بمعنى جعل لكل منهما مجال خاص بدراسته لكن هذه الدراسة قصر على غرض ديني صوفي هو اكتشاف المجالات الإلهية كمظاهر للكمال في الطبيعة المادية. هذا هو المظهر العام تقريبا لفلسفة النهضة الذي هو الطابع الصوفي الإنساني فهو صوفي لأنه شكل هذا الكون في وحدة إلهية لامتناهية تنشأ من الذات الأقدس وإليه تعود , ثم طابع إنساني لأنه قد وضع المبدأ الأول لتحقيق ذاتية الفرد ونمو شخصيته.(18)
كان هذا الحديث عن مسألة التأصيل والإبداع ضمن الفلسفة الغربية, أما إذا أردنا حديثنا عن هذه المسألة في الفلسفة العربية في هذا العصر فنجد إن مؤرخو الفكر الفلسفي قديما وحديثا قد اختلفوا في تقييم أصالة الفكر الفلسفي في الإسلام وكذا تقدير عناصر الابتكار والإبداع فيه, إذ رأى بعضهم إن هذا الفكر مجرد عن كل مزايا الفلسفة, فليس عند العرب خاصة والمسلمين عامة, مذهب فلسفي نسقي أو نظرة عقلية مجردة شاملة للكون والإنسان والحياة, وإن ما عرف عنهم لا يقوى أن يقدم في صورة مذهب فلسفي متماسك. وهو كما يقول" الشهرستاني" (1086 -1153م) - لتأكيد القول السابق- في كتاب "الملل والنحل": « أقراب إلى فلتات الطبع وخطرات الفكر والغالب عليهم الفطرة والطبع». وكما يقول"صاعد الأندلسي": «أن العرب لم يكن عندهم شيء من علم وفلسفة,وإن طبعهم خلو من التهيؤ لهذا العلم إلا شذوذا ». والمقارنة بين هذه الأقوال الفلسفية للدلالة على إن المتفلسفين الأوائل لم يخرجوا عن دائرة التقليد والإتباع الذي وضعتهم فيه فكراوية الترجمة وإن ما فعلوه هو محاولة منهم لمعرفة صناعة الفلسفة وليس إنتاجها بطابع متميزا بنوع من الاستقلال والجدة, حيث نجد هذه الدعوة في إنكار معاني التفلسف عند العرب كانت منذ القدم وعلى أيدي "الشعوبية" المتخذة لصور من الإنكار المحض لكل سمات التحضر والتقدم الفكريين عند العرب فكانوا يزعمون كما يقول "ابن خلدون"(1332-1406م):«إنه لم يكن للعرب ملك يجمع سوادها, ويضم قواصيها, ويقمع ظالمها وينهي سفيهها ولا كان لها قط نتيجة في صناعة ولا أثر في الفلسفة». ونعود لنذكر فكرة مهمة تشير إلى المقصود نفسه عند "ابن خلدون" القائل:«أن أكثر من عني بها من الأجيال هم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام, هما فارس والروم, فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم...فكانت هذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارها».
24- في الفلسفة المعاصرة:
لعل نشوء وتطور الإبداع يرتبط بتوفر وعمل وتظافر عوامل جديدة منها: معرفية وحركية إرادية وبيئية, حيث يوضح"أمابيل" Ambel في دراسته المكثفة عن" الإبداع في سياق محدد" المنشورة عام(1996 م) بأن الإبداع يشمل على ثلاث مكونات:
1- المهارات المتعلقة بحقل الاختصاص والتي تشمل المعرفة والخبرة والإمكانيات التكنيكية.
2- قاعدة الابتكار التي تضم نمط التفكير والذهنية, والميول الإدراكية والتي تقرر, مجتمعة, الكيفية التي يمكن لمبدع بموجبها التعامل مع المشاكل ومواجهة الصعوبات وحل الأزمات.
3- مدى الاندفاع وحجم وطبيعة المحفزات بنوعيها الداخلية والخارجية.
وفي النظرية البديلة "لستيرانبرغ" Lesteranberg و"لو بارت" Lepert نشرت عام (1995م) يوصف الإبداع بكونه عملية استثمارية تتطلب توافر الموارد إضافة إلى تراكم المعرفة والخبرة اللازمة لاستخدام الموارد بالطريقة التي تدرأ على العوائد, وتشمل الميزانية الاستثمارية لعملية الإبداع, مجازا, ستة موارد هي: 1- مورد الفهم.2- مورد المعرفة.3-مورد أنماط التفكير.4 -مورد الشخصية.5- مورد المحفزات الاستجابة الداخلية.6- مورد العوامل البيئية المحيطة بنوعيها الطبيعي والاجتماعي, وكما يؤكد"فنك"Finke في بحثه حول "الواقعية الإبداعية" عام(1995م) على أنه يمكن أن نضيف الأفكار الإبداعية في كل المجالات على أساس منابعها واتجاهاتها وماديات تطبيقها وقبولها في الحياة العلمية, ومختصر القول إن نظرية "فنك" تتركز حول الترابط التبادلي بين الإبداع والواقع حيث لا يمكن للعمل الإبداعي أن يستمد أي واقعية اجتماعية ما لم يكن مختصا, بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن الواقع.
فلا تقوى الأعمال الإبداعية الأصيلة على العيش في الفراغ وبمعزل عن الواقع, كما يحدد "فنك" أربعة محاورأساسية لتقرير انتماءات الأعمال الإبداعية وهي : الحيز الواقعي، الحيز المحافظ, الحيز المثالي,الحيز الإبداعي, حيث يؤدي تفاعلها المشترك إلى أربعة قطاعات متميزة هي : الواقعية المحافظة , المثالية المحافظة, المثالية الإبداعية, وأخيرا الواقعية الإبداعية. هذه الأخيرة هي المطلوب في مقصدنا لأنها تمثل القطاع المنشود الذي يشمل الأفكار والمشاريع والأعمال الرصينة والصميمية بأرض الواقع وتكيفها لمتطلباته ليدخل دائرة الإبداع الفلسفي وعلاقته بالواقع التاريخي الحي له.والتأصيل في هذه الفلسفات لم يكن واضحا إلا في ال التي قسمها إلي قسمين :« توجد هناك فلسفات للوجودية وليست واحدة فهناك الوجوديون المسيحيون وعلى رأسهم" هيدغر" والوجوديون الفرنسيون وأنا » .(14) معني أن هناك وجودية مسيحية مؤ منة وأخرى وجودية ملحدة تجعلنا نفهم أن التأصيل كان يتم انطلاقا من المعتقد, لذلك كان يتسم بفكرة الاستقلال الفلسفي فقد نجد الفيلسوف الدانماركي"كيركيجار" kierke Gaard Soeren (1813-1855م) من الرواد الأوائل للفلسفة الوجودية المعاصرة, كان مسيحيا ملتزما, وهو واضع نظرية قلق الإنسان في عزلته أمام الله. ومن جهة أخرى يقول"جان فال"Jean Wahl (1889-1951م): «إن تعبير الوجودية مقصور على مدرسة باريس التي يمثلها كل من "سارتر"و"سيمون دي بوفوار" Simon De Bouvoir , و"ميرلوبونتي"Merleau Ponty-Maurice (1908-1961م), أما الفلاسفة الآخرون الموصوفون بأنهم وجوديون فقد رفضوا أن يطلق عليهم هذا الوصف, "فجبريل مارسيل" Marcel Gbril (1883-1969م) أن الوجودية تعني موت فلسفة الوجود كما عارض"هيدغر" ما يسميه نفسه الفلسفة الوجودية».(15)
والغرض من هذا المثال هو التوضيح لأن المتلقي دائما عندما يسمع الفلسفة الوجودية يتبادر إلى ذهنه الوجودية السارترية التي كان لها الانتشار الواسع بعد الحرب العالمية الثانية. فإذا كان الطابع العام للتفلسف في العصور الوسطى " منذ القرن 6 قبل ميلاد المسيح حتى القرن15بعد الميلاد والطابع العام للتفلسف يتمثل –غالبا- في عناصر الفلسفة اليونانية كما تمثلها مراحلها الأولى ". (16) يعني لنا هذا أن التأصيل الفلسفي الذي كان في هذه القرون من الأصل الذي هو الفلسفة اليونانية لم يكن تأصيلا متعقلا بمعنى هذه الكلمة بل كان تابعا للمنقول اليوناني, ومحاولة التوفيق بين الفلسفة والدين المسيحيين، حيث تم استخدام الفلسفة في تأييد عقائد وتثبيت مقدسات في نفوس الناس, وعليه ظلت الفلسفة ما يزيد عن (ألف عام)تسير في خدمة الدين. هذا ما يعبر عنه مؤرخو الفلسفة بسلطة الكنيسة على الجماهير في فكرهم ومعتقداتهم ساعدهم في ذلك الوقوف في وجه غزوات البربر, حيث كانت السلطة الروحية الوحيدة التي تستطيع ذلك في هذه الآونة بالذات.
عصر الحالي بفضل كتابات "جان بول سارتر" (1905_ 1980م )
وتعرف الفلسفة الغربية في شكلها المعاصر إشكالا هاما يدور حول "الأصالة والمعاصرة", فالأصالة من جهة الأصول الأولى لهذه الفلسفة, أما المعاصرة من جهة التأسيس لها واستمرارها ,فإذا كان الفكر الغربي أمكنه وضع أصالة لفلسفته بدليل رفض الدين والاتجاه نحو الواقع قد أنتج, نستشف من قول "مارسيل كونش" Conche Marcel (1924م)الوارد في مقال بـ "مجلة الفلسفة"الصادرة في باريس (عدد يناير,مارس 1996م) والذي رفض فيه النموذج العقدي المسيحي وقبل النموذج الإفريقي الذي يستجيب لنداء العقل الذي هو فينا بمثابة قوة الرفض وهو يقول:« بعد أن رفضت الأنموذج العقدي المسيحي نما احترامي للإنسان...ويزعم أنه مر بأزمة مرضية أبقت عليه في سرير المرض فلم يجد السلوى في أي كتاب آخر سوى الإلياذة».(17) كل هذا يؤكد أنه من بعد أصبح فيلسوفا حقا يولع بثقافة الإغريق فمثله يحطم القيم المستقرة والضغوط الاجتماعية ويستجيب لنداء العقل الذي هو فينا بمثابة قوة الرفض.
والمفهوم من قول "كونش" في مقاله هذا هو أن ميزة الفكر الفلسفي عبر التاريخ قد شهدت أصول فلسفية هي الفلسفة الحقة وهي امتداد لفلسفة اليونان تستلهم "الإلياذة " وأشعار "هوميروس" بعامة,وهي في نفس الوقت رد على تلك " الأصولية " التي ظهرت عند معتنقي الديانات السماوية الذين لبثوا يعتنقون في المطلق وهو هنا ينصحهم بالتخلي عن "العقيدة "إن أرادوا أن يكونوا فلاسفة بحق, وهذا لا يتناقض مع ثوابت الخطاب الفلسفي المعاصر.
فهذا الأخير يتنكر للمطلق وقد يكون خطرا على العقائد والقيم الدينية, ولكنه مع ذلك ربما ابتعد عن الأنموذج الإغريقي للفلسفة الحقة بسبب غياب العقل وقصوره وتمرده بسبب الإفراط في العقلانية.(18) وهذا ما يؤكد خطورة على العقائد من خلال نص معاصر لأحد فلاسفة الألمان:«إن الخسارة الكبرى أن يفقد الإيمان بالله: وأعتقد أن هذا "الفقد" كان نتيجة ضرورية لأي دراسة للفلسفة».(19)
ويرى "أرنست جلنر" E.Gellner أن مشكلة الفلسفة تظهر عند المجتمعات التي ليست مستقرة على معتقد معين كما لا تحترم مثلها العليا ومعتقداتها, كما يرى أن الحالة الوحيدة التي تمتهن فيها الفلسفة دون إثارة زوابع هي حالة المجتمعات التي تتماسك حول عقيدة ثابتة لا نزاع في مشروعيتها, وعندئذ يقتصر عمل الفلسفة على هذا النحو يذكرنا بمجهودات فلاسفة الإسلام وخاصة المشتغلين بعلم الكلام من المعتزلة والأشاعرة وكان "جلنر" يعرف الفلسفة بأنها مناقشة أشياء أساسية تتصل بمسائل جوهرية عن الكون وخصائصه, عن الحياة وعن الإنسان.
أما التأصيل عموما عند الفلاسفة "المحدثين والمعاصرين" هو ذو اتجاه مادي ونزوع واقعي إلى جانب التفكير العقلي , فكان ذا علاقة بالتاريخ الحي لهم لذا يمكن أن نقول :«أنهم أبدعوا فلسفة خاصة بهم أي عملوا بتأصيلهم فأبدعوا لنا العديد من النظريات يطلق عليها اسم "علم".(20) فالتأصيل هنا هو انفصال عن المأصول الديني إلى جانب رفض نقيضه والإتباع للمنقول إلى جانب المأصول الديني , وهذا ما يسمح له بإقرار فردية التفكير والحكم على الأشياء والتصالح بين الاتجاهين المادي والعقلي في التفكير انطلاقا من الاتجاه الطبيعي لدراستها وإيجاد مادة الاستدلال ومقدماته مما يثبت فيها عن طريق التجربة أو ملاحظة ظواهر العالم الخارجي».(21)
كان هذا عن الفلسفة الغربية في العصر المعاصر أما إذا أردنا حديثنا عن وضعية الفلسفة العربية الإسلامية المعاصرة نجد أنه قد روجت أيضا لفكرة غياب التفلسف عن الفكر العربي بشكل نسقي أو نظرة عقلية, والدعوة نفسها روج لها فلاسفة من المعاصرين أمثال:"أحمد أمين" القائل:«العربي لم ينظر إلى العالم نظرة عامة شاملة كما فعل اليونان مثلا».(22) فإدا كان هذا القول أكد عن عدم الوجود لفلسفة عربية أصيلة وهذا ما نستشفه كباحثين وما لا يختلف حوله اثنان, قول الفيلسوف العربي الوجودي"عبد الرحمن بدوي"(1917-2003م): «الفلسفة منافية لطبيعة الروح الإسلامية, ولهذا لم يقدر لهذه الروح أن تنتج فلسفة...و لم يكن عند واحد من المشتغلين بالفلسفة روح فلسفية بالمعنى الصحيح».(23) وفشل "بدوي" في إثبات وجودية إسلامية هذا لا يعني عدم إمكانية وجود فلسفة عربية إسلامية أصيلة, لكن الذي يبقى طابع للحضارة العربية إنها كانت مجرد حضارة متقبلة لا منتجة آخذة لا معطية, لا ابتداع ولا خلق, بل نقلت إليها الحضارة اليونانية أو التراث اليوناني فأخذت منه ما أخذت وشوهت ما شوهت, ولكن لا خلق جديد ولا إبداع أصيل كما قال "علي سامي النشار". والنزعة لوح لها فلاسفة مستشرقين غربيين أمثال كل من "أرنست رينان"و"كرستان لانس"Christian Lassen و "جوتيه" L.Gauther إلى تفسير ذلك على أساس عرقي قائم على تقسيم البشر إلى سامين وآريين فـ "رينان" أشار إلى ذلك في كتابه "تاريخ اللغات السامية"«Histoire de langues simitiques» و"جوتيه" في كتابه"المدخل إلى الفلسفة الإسلامية"«Introduction l’etude de philosophie Muslamane» paris ,1923 و"دوجا"Gustardugat في كتابه "تاريخ الفلاسفة والمتكلمين من المسلمين "«Histoire philosophie et Muslamane» paris1978» .(24)
وفي إطار مشروع النهضة التي عرفها الفكر العربي ومقارنة بالواقع يقول محمد عابد الجابري (1936-):«إن الواقع اليومي الذي يفرض نفسه علينا في الظروف الراهنة يجعلنا نشعر فعلا, وكل يوم بأن " شيئا ما " لم يتحقق أو لم ينجز في هذه "النهضة" العربية, وبالتالي نشعر بأننا لم ننجز بعد نهضتا كاملة».(25)والمتأمل لهذا القول الفلسفي يدرك بعمق تلك الكتابات الحديثة والتي بالأحرى كانت مع أوائل القرن(19م) المحاولة للإجابة عن مشروع النهضة العربية لكن انقسامها إلى تيارات و اتجاهات حال دون أن تحقق النهضة انبعاث فكري عربي مبدع ومتجدد وهذا معناه أن مشروع النهضة لم يتحقق بمعناه التــام.ونظرا لاختلاف الفترة الزمنية للتحقيب بين الفكر العربي والفكر الغربي فإننا سنتكلم هنا عنهما في نقطة واحدة هذا لأن الخطاب العربي لم يعرف النهوض أو الثورة بشكل منقطع كونها لم تعبر عن الواقع الحي بل عبرت عن حلم مأمول, وهذا ابتداء من
اليقظة العربية الحديثة مع منتصف القرن الماضي, فالخطاب العربي في شكليه" الحديث والمعاصر" لا يقبل التصنيف إلى ما قبل وما بعد, وهذا ما يقوله "محمد عابد الجابري":« ونحن نعتبر إن الخطاب العربي الإيديولوجي الصادر في هذه الفترة ما زال يشكل وحدة لا تقبل التصنيف بكيفية جدية وحاسمة إلى ما قبل وما بعد...فالخطاب العربي "الحديث والمعاصر"«لازال كله معاصرا لنا».(26) والجمع عنده هنا لتأكيد وحدة هذا الخطاب, ونستنتج من هذا القول الفلسفي إن عملية التأصيل التي مورست في العصر الحديث والمعاصر والذي هو واحد لدينا لأن الطابع المميز لإنتاجات هذه التأصيلات لم يخرج عن دائرة الأيديولوجية الجاهزة أو التوفيقية التي كانت تغلب على إنتاجات هذا الفكر العربي الحديث والمعاصر, مما يجعلنا نقول أن هناك فكر عربي وليست هناك فلسفة عربية إسلامية تمتاز بطابع الاستقلالية والإبداع إلى جانب الفلسفة اليونانية المتميزة بطابع الجدة والابتكار عما عرف
قبلها والشيء الذي نجده في قول "الجابري": «إنهم عندما كانوا يفكرون في النهضة لم يفكروا فيها كبديل عن الواقع الذي يعيشونه, بديل يجب صنعه انطلاقا من هذا الواقع نفسه,وعلى ضوء معطياته وإمكانياته الشيء الذي سيجعل صورة البديل في أذهانهم تغتني وتتجدد بالممارسة- ممارسة النهضة-بل إنهم يفكرون فيها خارج الواقع, أي من خلال نموذج جاهز ولكنه آخذ في الابتعاد عنهم باستمرار».(27)
لقد حاول العديد من المفكرين تأصيل الفلسفة العربية الإسلامية من خلال الخطاب النهضوي الحديث والمعاصر, تحت شعار (الأصالة والمعاصرة), لكن ما يمكن قوله عموما أن الخطاب الفلسفي في الفكر العربي الحديث والمعاصر, فرع من الخطاب النهضوي وامتداد له في نظرته إلى التراث أو إلى الفكر الأوروبي لايراعي ما هو مطلوب, الأخذ به كما نجده في الخطاب النهضوي العام, بل نجده يهتم بالبحث عن مكان في التاريخ لتراثنا الفلسفي وهذا للوصول إلى تأصيل الفلسفة العربية الإسلامية من جهة وإلى تأسيس فلسفة عربية معاصرة من جهة أخرى, وعليه إن إشكالية التأصيل في الخطاب الفلسفي الحديث والمعاصر, وعلاقته بالخطاب النهضوي كفرع تزاوج بين إشكاليتين كما يذكرهما "محمد عابد الجابري" خطاب من أجل فلسفة الماضي وخطاب من أجل فلسفة المستقبل فالأولى تطرح أمام صراع ماضوي تمثل في عدة أشكال طائفية ومذهبية, والثاني يطرحنا أمام هاجس لنجهل ما يكون بعده خصوصا أمام المستقبلية الروحية في هذا الميدان والتي تمتاز بها الأمم المستقرة على عقيدة واحدة لم تفقد قداستها.
فالخطاب الفلسفي الماضي قد أمتاز بتأكيد أطروحات الخطاب السني والسلفي المعادي للفلسفة والمعتبر" علوم الأوائل" بكيفية عامة من "الدخيل" يجب ردها لما فيها من بدع وضلال, وهذا لربما الذي خلف الأمة العربية الإسلامية لما يزيد عن 50 سنة على الأقل, وتأصيل الفلسفة العربية الإسلامية هنا يتطلب منا: الرد على مؤرخي الفلسفة في الغرب والمستشرقين منهم بصفة خاصة, الذين يدعون أن الفلسفة في الإسلام كانت عبارة عن فلسفة يونانية مشوهة أو هي الفلسفة ذاتها مكتوبة بحروف عربية لكنه يجب أيضا علينا التحقق من دعاوى مناوئ الفلسفة والفلاسفة داخل الفكر العربي نفسه إما أن نؤول أقوالهم
أو نبين بطلانها.(28) وكان أول من قام بالعمل نفسه هو "مصطفى عبد الرزاق" في كتابه" تمهيد لتاريخ الفلسفة" يشتمل على بيان لمنازع الغربيين والإسلاميين ومناهجهم في دراسة الفلسفة الإسلامية وتاريخها , والباحثون من الغربيين كأنما يقصدون إلى استخلاص عناصر أجنبية في هذه الفلسفة ليردوها إلى مصدر غير إسلامي, وليكشف عن أثرها في توجيه الفكر الإسلامي, أما الباحثون الإسلاميون نجدهم يزنون الفلسفة بميزان الدين.(29)
وعليه فكل التطورات التي عرفناها أوائل القرن (19م) إلى أوائل القرن (20م) تكشف لنا عن أصالة الفلسفة الإسلامية وهذا انطلاقا من المواقف العربية المتغيرة اتجاهها, وهكذا حاول بعض الفلاسفة الآخرين إلى جانب "مصطفى عبد الرزاق" وتلميذه"علي سامي النشار" حيث قاد هذا المنهج إلى باب المناوئين للفلسفة, كما كان الفشل أيضا من نصيب أصحاب المنهج الوجودي مع "عبد الرحمن بدوي", الذي فشل في تأسيس وجودية عربية إسلامية, وكذلك أيضا أصحاب " المنهج المادي التاريخي" الماركسي كـ"حسين مروة" الفاشل في تأصيل نزعته المادية في الفلسفة العربية الإسلامية ,والأصالة كانت عنده تستمد حقيقتها من القابلية للملاءمة مع أحد القوالب الجاهزة .(30)
وعليه يقول "محمد عابد الجابري":«لا يكون الخطاب الفلسفي جديرا بهذا الاسم إلا إذا استطاع أن يحول الإيديولوجي إلى نظري,أن يجعل من قضيته كلية ضرورية على مستوى الخطاب والمقصود أن يجعل التفاعل بين التيارات الإيديولوجية ممكنا والحركة فيها تتجه إلى الأمام ,وهذا دليل التقدم على صعيد الفكر النظري».2
ومن الذين أيضا تكلموا عن مسألة التأصيل في الفلسفة العربية الإسلامية وليس بالفشل هذه المرة بل بالقول باستحالة التأصيل, ونقصد به البحث عن الاستدلالية وأوضح الوسائل التحليلية والاستنباطية للربط بين الأحكام الشرعية والأصول التي تتفرع عنها، أو لتبرير ما يجب الإيمان به ويستقيم استنادا إلى فهم صحيح للنصوص الأولى المؤسسة
للأصول التي لا أصل قبلها ولا بعدها.(31) " فمحمد أركون" في العصر المعاصر نجده ينتقد مفهوم التأصيل في ذاته كما مارسه العقل الديني- المتمثل في سلطة التأصيل الموروث ودعوة أخرى إلى فصل الدين عن الدولة- وكما حلله العقل الحديث الآن. المتمثل في عرقلة معرفية عن طريق القطيعة التاريخية التي تتصف بغلق باب الاجتهاد.
وهذا الانتقاد لمفهوم التأصيل في ذاته الناتج عن تغير هذا الأخير أو أنه من جملة ما يجري عليه هذا التغيير هذا الاعتقاد نفسه نجده عند " طه عبد الرحمن" القائل: «نصل من هذا المعنى إلى أن " الأصول الفلسفية" بشكل عام ليست " ثوابتا " بما أنها من جملة ما يجري عليه قانون التغيير, وأن مفهوم "الثابت يشوبه الالتباس"».(32) حيث نفهم من هذا القول الفلسفي إن الطريقة التأصيلية إن نجحت في تحقيق فلسفة مبدعة ومتجددة تمتاز بطابع الاستقلالية في أصولها المتميزة عن غيرها فإن هذا ليس معناه أن تكون هذه التأصيلات ثابتة لأن الأصول الفلسفية في ذاتها مما يجري عليه التغيير.

وهذه هي الفكرة التي لازال الفكر العربي منذ النهضة إلى يومنا هذا يسعى جاهدا إلى الإجابة عنها, وهي تدور في إشكالية الأصالة والمعاصرة والتي تهدف إلى تبيان أصول الفلسفة العربية الإسلامية، في الماضي ومحاولة تأسيس فلسفة عربية معاصرة ذات أصول مستقلة ومبدعة, وهذا ما سنعمل على إيضاحه للمتلقي من خلال بحثنا هذه الإشكالية "التأصيل الإبداعي" في الفلسفة العربية الإسلامية عند "طه عبد الرحمن " في العمل المتقدم من ثمرة البحث.



الهوامش والإحالات:

- أنظر, عمر فروخ، المنهاج الجديد في الفلسفة ، دار العلم للملايين بيروت ، ط1، 1970 .
- المرجع السابق, ص21.
- المرجع نفسه, ص22.
- عمر فروخ ، المنهاج الجديد في الفلسفة ، ص70 .
- المرجع نفسه ، ص 22 .
هذا عنوان كتاب "جورج جيمس" George james التراث المسروق, الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة.

- صليبا جميل, تاريخ الفلسفة العربية, دار الكتاب العالمي , بيروت لبنان, ط3, 1995 ,ص(31،32) .
- راجع إقبال محمد, تجديد الفكر الديني في الإسلام ، تع: عباس محمود, مطبعة لجنة التأليف والترجمة للنشر، ط2 ,1968 .
- نقلا لصاحبه عبد الوهاب جعفر، خطاب الفلسفة المعاصرة، ص13 عن:
George Chistoph Lichtenber: « Schriften und brief » vol1, et2, Carel Hanser Verlag 1968 sudebrücher.J.885.
- علي سامي النشار، نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ، الرباط , ط7 ,1988, ص(48,46).
- محمد عبد الرحمان مرحيا،من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية،ديوان المطبوعات ج,الجزائر, ط3, 1983 ,ص58 ,59.
- نقلا لصاحبه, عبد الوهاب جعفر, خطاب الفلسفة المعاصرة, ص13 ، عن:
Gellner .E, words and things , penguin books,1968, p275.
- Sous la direction de Jeam dolisle et tudith woodsworth, les traducteurs dans l’histoir , le persses de la l’université d’ottawa, edition UNESCO.canda.1995 p.100( الباحث)
- كرم يوسف, تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط, دار العلم, بيروت, د(ط,س)،ص(95, 96).
- المرجع نفسه، ص(01 ،06 ).
- Sous la direction de Jeam dolisle et tudith woodsworth, les traducteurs dans l’histoir , le persses de la l’université d’ottawa, edition UNESCO.canda.1995 p.100( الباحث)
- كرم يوسف, تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط, دار العلم, بيروت, د(ط,س)،ص(95, 96).
- المرجع نفسه، ص(01 ،06 ).
- كرم يوسف, تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط, ص03 .

- نسبة إلى" يانوس" إله الأبواب والبدايات الجديدة عند الرومان.
 - عن موقع أوراق عراقية www.iraqipapers.net : .

- زقزوق محمود حمدي، دراسات في الفلسفة الحديثة، دار الفكر العربي، القاهرة، ط3، 1993، ص12 .
- المرجع نفسه, ص09.
- محمود حمدي زقزوق, دراسات في الفلسفة الحديتة, ص01.
- بيصار محمد عبد الرحمن, تأملات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة, منشورات المكتبة العصرية بيروت, ط 3 , 1980,ص23.
- المرجع نفسه,ص 24.
- عبد الحميد عرفان, الفلسفة الإسلامية دراسة ونقد, مؤسسة الرسالة, ط2, 1995, ص11.
- نقلا لصاحبه عرفان عبد الحميد, الفلسفة الإسلامية دراسة ونقد,ص11, عن الشهرستاني, الملل والنحل,2/157.
- نقلا لصاحبه محمد عابد الجابري,الخطاب العربي المعاصر,ص151, عند صاعد الأندلسي,طبقات الأمم, مطبعة دار السعادة مصر, ص700.
- أنظر في آراء الشعوبية والرد عليها عند ابن عبد ربه,العقد الفريد,2/86 والجاحظ, البيان والتبيان3-5/124.
- عبد الرحمن بن خلدون,المقدمة, مكتبة المثننى-8- بيروت, طبعة أوفست ,د(س)ص479.
- عن موقع أوراق عراقية.
- كما هو مذكور في كتاب حمدي زقزوق، دراساته في الفلسفة الحديثة, نقلا عن سارتر , الوجودية مذهب إنساني, تر: عبد المنعم حنفي القاهرة 1977, ص11.
- المرجع نفسه, الصفحة نفسها .
- بيصار محمد عبد الرحمن, تأملات في الفلسقة الحديثة والمعاصرة ,ص01 .

- عن جعفر عبد الوهاب,خطاب الفلسفة المعاصرة, دار الوفاء, للطباعة والنشر,الإسكندرية, ص12,نقلا عن:
Conche Marcel«devenir grac»in Revie philosophique,No1:Jan-Mars,1996,P.U.E.Paris.
أنظر المرجع السايق نفسه.
- المرجع نفسه,ص13,نقلا عن:
Georg Christoph Lichetenber: Sthriften and Briefé, vol1, Carl Henser verlage, 1968 sudelbücher-J-885.
- بيصار محمد عبد الرحمان , تأملات في الفلسفة الحديثة والمعاصرة, ص45.
- المرجع نفسه, ص26.
- أحمد أمين, فجر الإسلام, ط6, د(س), ص41, 42.
- عبد الرحمن بن خلدون, المفدمة, ص479 .
- عرفان عبد الحميد, الفلسفة الإسلامية, ص13 .
- الجابري محمد عابد, الخطاب العربي المعاصر, مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, ط6 ,1999, ص21.
- المرجع نفسه,ص16.
- المرجع السابق, ص24 .
- محمد عابد الجابري,الخطاب العربي المعاصر, ص150 .
- المرجع نفسه, ص(156-164) .
- أركون محمد , الفكر الأصولي واستحالة التأصيل , تروتغ, هاشم صالح,دار الساقي, لبنان , ط1, 1999 ,ص07.
- عبد الرحمن طه, فقه الفلسفة, الفلسفة والترجمة, المركز الثقافي العربي , بيروت , 1995 , ص265.
للإ تصال /

nadjemmoulay@yahoo.fr
moulaynadjem@gmail.com
n.moulay@mail.Lagh-univ.dz
moulaynadjem@hotmail.com