الأسد و اليونكورن : الاشتراكية والعبقرية الإنجليزية
19 فبراير 1941
( الجزء الأول : انجلترا ، انجلترتك أنت )
-1-
أكتب هذه السطور بينما يحلق فوق رأسي رجال في قمة الحضارة .. يحاولون قتلي .
لا يكنون أي عداوة لي أنا شخصيا (كفرد) ، ولا أنا لهم .. إنهم ( يقومون بواجبهم ) فقط ، كما يقال . ولا شك عندي أن أغلبهم طيب ، ممتثل بالقوانين ، ولا يمكن أن يقتل ، في أوقات السلم ، ولو في مخيلته . بيد أنه من جهة أخرى ، لن يذرف أيا منهم دمعة واحدة إذا ما نجح في تمزيقي الآن إربا بقنبلة . فهو يخدم وطنه الذي لديه القدرة على تبرئته من ( الشر ) .
لا يستطيع أي شخص رؤية العالم الحديث كما هو من دون تمييز قوة الوطنية الهائلة . قد يفسد الشعور الوطني في بعض الأوضاع ؛ وفي بعض مراحل الحضارة قد يتلاشى تماما ؛ بيد أنه إذا كانت الوطنية قوة إيجابية ، فلا شيء أبدا يستطيع أن يضاهيها . المسيحية ، والاشتراكية الدولية ، أوهى من القش عند المقارنة بها . ولقد صعد كلا من هتلر وموسوليني إلى السلطة – بشكل أساسي - لأنهما استطاعا ، من دون خصومهما ، فهم هذه الحقيقة بالذات .
يجب الاعتراف بأن الفروق التي بين الأمم أساسها اختلاف حقيقي في المنظور . حتى وقت غير بعيد كان يُعتقد أنه شيء محمود أن نتظاهر بأن كل الناس متشابهين . بيد أن كل الناس تعرف أن سلوك البشر يختلف كثيرا من بلد إلى آخر. فبعض الأحداث التي تقع في بعض البلدان ، لا يمكن أن تحدث في أي مكان آخر . حملة تطهير يونيو التي شنها هتلر على سبيل المثال ، ما كان من الممكن أن تحدث في انجلترا ..
إذا ما قارنا انجلترا بباقي الدول الغربية لوجدنا أنها مختلفة جدا . إن عدم محبة كل الأجانب ، تقريبا ، الطريقة التي نعيش بها في وطننا ، لتوحي لنا بشيء من هذا . القليل فقط من الأوروبيين من يحتمل المعيشة هنا ، وحتى الأمركان غالبا ما يرتاحون في باقي أوروبا أكثر .
عندما تعود إلى انجلترا من أي بلد آخر ، تحس مباشرة بأن الهواء أيضا مختلف هنا . في أولى الدقائق تجعلك بعض الأشياء الصغيرة تشعر بهذا الشعور . البيرة أكثر مرارة ، والقروش أثقل ، والنجيلة أكثر اخضرارا ، والإعلانات أكثر غباوة . والناس في المدن الكبيرة – بأوجههم الطيبة ، المليئة بالنتؤات ، وأسنانهم المكسرة ، ومعاملتهم السمحة – مختلفين عن غيرهم في باقي المدن الأوروبية .. ثم تبتلعك مساحة انجلترا الشاسعة ، حتى لتفقد برهة إحساس أن للبلد شخصية واحدة محددة . هل الوطن شيء موجود فعلا ؟ ألسنا 46 مليون فردا ، كل منا مختلف عن الآخر ؟ ما أكثر التنوع ! والفوضى! وقع الأحذية الخشبية في مدن لا نكستشاير ، وذهاب وإياب الشاحنات على الشارع الشمالي الكبير ، والصفوف التي أمام مكاتب التوظيف ، وأصوات الألعاب في حانات سوهو ، وذهاب العوانس إلى العشاء الرباني في الفجر ، على دراجاتهن أيام الخريف وسط الضباب – كل هذه ليست شراذم فقط ، بل مقتطفات تميز المشهد الانجليزي. كيف لنا الخروج بنظام من كل هذه الفوضى ؟
تكلم مع الأجانب ، أو اقرأ الصحف والكتب الأجنبية ، وستجد أنك ستعود إلى نفس الفكرة . نعم ، هناك شيء مميِّز ملحوظ في هذه الحضارة الانجليزية . هي حضارة فذة كما حضارة إسبانيا فذة .. الأمر يرتبط بشكل ما بوجبة إفطار جيدة ، وأيام أحد كئيبة ، ومدن ملأى بالدخان ، وشوارع متعرجة ، وصناديق بريد حمراء ... لها نكهتها الخاصة . بالإضافة إلى أنها مستمرة ، ممتدة إلى المستقبل ، وإلى والماضي ؛ ثمة شيء فيها يثابر .. كمثابرة الأحياء . في ماذا تشترك انجلترا 1840 مع انجلترا 1940 ؟ وفي ماذا تشترك أنت وابن الخامسة التي تضع أمك صورته على رف المدفئة ؟ لا شيء أبدا .. إلا أنكما الشخص نفسه .
أهم شيء هو أنها حضارتك أنت .. أنت هذه الحضارة . بغض النظر كم تكرهها أو تسخر منها ، لن تسعد بعيدا عنها أبدا ، لأي مدة كانت . لقد تغلغلت صناديق البريد الحمراء إلى روحك . هذه الحضارة ملك لك - خيرا كانت أم شرا. ولن تهرب أبدا من الآثار التي وسمتها عليك .
إن انجلترا تتغير – ومعها بقية العالم – وككل شيء في هذا العالم ، لا تستطيع التغير إلا في اتجاهات معينة . ويمكن التنبؤ بهذه الاتجاهات إلى حد ما . بيد أني لست أقول أن المستقبل ثابت ومعروف ، ولكن أقول أن خيارات معينة هي التي يمكن أن تحدث ، وأخرى يستحيل أن تحدث . فالبذرة قد تنمو أو لا تنمو ، ولكن بأي حال من الأحوال لا يمكن لبذرة لفت أن تنمو لتصبح نبتة جزر أبيض . ولهذا إن محاولة معرفة ما هي انجلترا بالضبط أمر في غاية الأهمية ، أهم من تخمين ما الدور الذي تستطيع انجلترا القيام به ، في الأحداث الهائلة التي تحصل من حولنا .
- 2-
ليس من السهل تحديد الخصائص الوطنية ؛ وعندما نحصل عليها ، نجد أنها أشياء غير مهمة – أو يبدو لنا أن لا علاقة بين بعضها البعض . الأسبان يسيئون معاملة الحيوانات ، والإيطاليون ليس بوسعهم القيام بأي عمل من دون جلبة ، والصينيون مدمني قمار . من الواضح أن هذه الأمور ليست مهمة بذاتها . إلا أن كل شيء له سبب ؛ يمكن لنا أن نفهم شيئا عن واقع الحياة الإنجليزية حتى من أسنانهم المكسرة .
هذه بضع عموميات عن انجلترا يقبلها أي مشاهد : أولا الانجليز ليسوا موهوبين فنيا . فهم ليسوا موسيقيين كالألمان أو الإيطاليين مثلا . ولم يزدهر النحت أو الرسم في انجلترا ، بينما ازدهر في فرنسا . ثانيا الإنجليز مقارنة بالأوربيين ليسوا مفكرين : الإنجليز عندهم رعب من التفكير المجرد . فلا يشعرون أنهم بحاجة إلى فلسفة أو ( نظام عالمي ). وليس السبب أنهم ( عمليون ) كما يحلو لهم دائما أن يزعموا .. لا تحتاج إلا رؤية كيف يخطط الانجليز مدنهم ، وكيف يتمسكون بعناد بكل ما هو قديم : ( نظام هجاء غير قابل للتحليل ، ونظام أوزان ومقاييس لا يفهمه إلى الرياضيون ) – لتعرف كم هم غير معنيين بما هو عملي . إن عند الانجليز القدرة على العمل دونما أي تفكير . ونفاقهم المشهور عالميا ( نفاقهم في موقفهم تجاه إمبراطوريتهم مثلا ) مرتبط بهذه القدرة . وفي أوقات الأزمات العظيمة تتكاتف الأمة الانجليزية كلها فجأة للتصرف وفق غريزة معينة : نظام مفهوم للجميع نوعا ما ، مع أنه لم يحدد مسبقا فعليا . ( الشعب الذي يمشي وهو نائم ) .. هكذا وصف هتلر الشعب الألماني ، بيد أن الإنجليز أقرب إلى هذا الوصف .. بلا فخر .
من المفيد هنا ملاحظة خاصية صغيرة في الانجليز ، لا يشار إليها كثيرا مع أنها جلية للعيان ، ألا وهي حب الانجليز للزهور . هذا أول شيء يلاحظه الوافد على انجلترا ، وخصوصا إذا كان قادما من جنوب أوروبا . ألا يتعارض هذا مع عدم مبالاة الإنجليز بالفن ؟ .. لا ، فحب الورود موجود أيضا عند من لا يملك حسا جماليا أصلا . إن حب الورود مرتبط بخاصية أخرى عندنا ، بالكاد نلاحظها ، مع أنها جزء كبير منا : وهي الإدمان على الهواية والأمور التي يشغل بها وقت الفراغ : انعزالية الحياة الانجليزية . نحن أمة من محبي الورود ، نعم ، ولكن أمة من جامعي الطوابع ، ونجارين هواة ، ومحبي الكلمات المتقاطعة أيضا . كل الثقافة الانجليزية الأصلية تدور حول أمور غير رسمية ، حتى ولو كانت اجتماعية مثل : الحانة ، ومباراة كرة القدم ، والحديقة الخلفية ، والجلسة أمام المدفأة مع كأس شاي طيب . لا يزال الإيمان بحرية الفرد موجودا كما كان تقريبا في القرن التاسع عشر . بيد أن هذه الحرية لا علاقة لها بالحرية الاقتصادية . هي حرية اقتناء بيت ، وعمل ما يحلو لك في أوقات فراغك ، وحرية أن تختار طرق تسليتك بدلا من أن تحدد لك . ( إن أمقت شخص عند الانجليز هو المتطفل ) . ولكن من الواضح طبعا أن حتى هذه الحرية الفردية فقد فيها الأمل الآن : فككل الشعوب الحديثة ، يمضي الشعب الانجليزي قدما في طريق وصوله إلى أمة محصية عددا ، مصنفة أنواعا ، مجندة إلزاميا ، منسقة الجهود . لكن غرائز الانجليز تدفعهم في الاتجاه المعاكس لهذا التيار السائد ، وبالتالي فإن درجة أو نوع الإخضاع إلى هذا النظام ستتغير حتما . فلن ترى تجمعات حزبية ، أو حركات شبابية ، ولا قمصان ملونة ، ولا مضايقة لليهود ، ولا مظاهرات ( عفوية ) . وعلى الأرجح لن تجد جستابو أيضا .
في كل المجتمعات يجب أن يعيش عامة الشعب ضد النظام الموجود إلى حد ما . إن ثقافة انجلترا الشعبية الحقيقية هي ما يحدث تحت ( السطح ) : ثقافة غير رسمية ، ولا ترتضيها السلطات في العادة . أحد الأشياء التي يراها الذي يراقب عامة الناس مباشرة - وخصوصا في المدن الكبيرة – هي أن الناس ليسوا زهادا أو متقشفين ( بيوريتانيين ) . أكثر الناس مقامرين مزمنين ، يصرفون مرتباتهم على البيرة ، ويحبون النكت البذيئة .. وفي الغالب يكون كلامهم من أفحش ما يكون . ولا بد لهم من إشباع هذه الميول ، بالرغم من قوانين ( منافقة ) : صممت للتدخل في شؤون الناس ، لكنها عمليا لا تمنع أحدا . أكثر الناس أيضا لا يدينون بأي دين معين .. منذ قرون مضت وهم كذلك . لم تستملكهم في الحقيقة الكنيسة الانجليزية أبدا ؛ لقد كانت بالنسبة لهم ببساطة من بقايا الأرستقراطية .
أما الفرق الخارجة عن الكنيسة ، فلم يكن لها ذاك التأثير ، إلا عند الأقليات . وفي نفس الوقت ما زال عند عامة الناس لون من الحس المسيحي ، مع أنهم نسوا اسم المسيح تقريبا . أما تقديس القوة – وهو الدين الجديد الذي اعتنقته أوروبا – فلقد غزا المثقفين الانجليز ، بيد أنه لم يؤثر في العامة - الذين لم يتابعوا أخبار سياسة القوة . ولو وصلت لهم
( الواقعية ) التي تبشر بها الجرائد اليابانية والإيطالية ، لكانت أرعبتهم حقا .
يمكن لنا معرفة الكثير عن روح انجلترا من البطاقات البريدية الفكاهية في المحلات الرخيصة . تلك الأشياء بمثابة مدونة يسجل فيها الانجليز من غير وعي حياتهم : منظورهم القديم للعالم ، واستعلاءهم على الآخرين ، وخلطهم ما بين الفجور والنفاق ، وتعاملهم اللطيف ، وإيمانهم الشديد بالأخلاق – كل هذا منعكس في البطاقات .
لعل أكثر خصائص الحضارة الانجليزية وضوحا هي وداعتها . تلاحظها حالما وضعت قدمك على أراضيها . فيها سائق الحافة حسن الخلق ، وفيها الشرطي لا يحمل مسدسا . دفع المشاة عن الرصيف أسهل في انجلترا ، من أي بلد أبيض آخر في العالم . هذه الخاصية مرتبطة بكره الانجليز للحروب والعسكرية – وهو الأمر الذي يعتبره المراقبون الأوروبيون نفاقا أو ( انحطاطا ) . هذا الكره للحروب متأصل ومتجذر في التاريخ الانجليزي ، وهو شديد في الدرجات الدنيا من الطبقة الوسطى ، وفي طبقة العمال أيضا . والحروب التي مرت على انجلترا أضعفت هذا الكره ، بيد أنها لم تلغيه .. مازال الناس إلى الآن يتذكرون كيف كان أصحاب المعاطف الحمراء ( الجنود ) يسمعون استهجان الناس لهم في الشوارع ، وكيف كان أصحاب النزل المحترمة يرفضون إيواؤهم . وبالرغم من وجود مليوني عاطل عن العمل في أوقات السلم ، يَصعُب ملء صفوف جيش يحتاج إلى ضباط : من الطبقة العليا ومتخصصين من الطبقة الوسطى ، وجنود : من طبقة المزارعين والفقراء. أكثر الناس لا تعرف أي شيء عن العسكرية ولم يسبق لهم الانخراط فيها ، والحرب بالنسبة لهم دائما دفاع عن النفس .. لا يستطيع أي سياسي الصعود إلى السلطة هنا إذا وعد بـفتوح أو أمجاد عسكرية . ولقد كانت الأناشيد – مثلا - التي غناها الجنود في الحرب الأخيرة ، عفويا ، فكاهية ساخرة . و ( العدو ) الوحيد بالنسبة لهم كان رقيبهم الأول .
كل هذا التفاخر بالإمبراطورية البريطانية والتلويح بالأعلام ، من عمل بعض الأقليات فقط . أما وطنية عامة الناس فهي ( صامتة ) ، أو من دون وعي . فهم على سبيل المثال لا يتذكرون – فيما يتذكرون من التاريخ – اسم أي معركة انتصرت فيها انجلترا . والأدب الانجليزي – ككل الآداب – مملوء بالقصائد الحربية ، لكنه من الجدير بالملاحظة ، أن القصائد الأكثر شعبية دائما تكون عن انسحابات ومصائب . ليس هناك أي قصائد محبوبة عن ( تـرافلجار ) أو
( واتـرلوا ) مثلا . أما المعركة التي خاضها جيش السير ( جون مور ) في كرونا : والتي قاتل فيها قتالا بائسا قبل أن يفر عبر البحار – فهذه تعجبهم أكثر من أي انتصار عظيم . إن أكثر قصيدة حربية شهرة في الانجليزية عن لواء من الخيالة هجم في الاتجاه الخاطئ . وفي الحرب الأخيرة أيضا ، كانت المعارك الأربعة التي حفرت في ذاكرة الشعب هي : مونز ، ويبري ، وجاليبوي ، وباستشندايل - وهي كلها كوارث . أما أسماء المعارك العظيمة التي دمرت في نهاية المطاف الجيش الألماني ، فمعظم الناس لا تعرفها .
إن سبب اشمئزاز المراقبين الأجانب من ( كره الانجليز للحروب ) ، هو أن هذا ( الكره ) يتجاهل وجود إمبراطورية بريطانية ... يبدو الأمر كأنه نفاق : لقد احتل الانجليز ربع الأرض ، ثم تشبثوا بربعهم هذا بأساطيلهم البحرية . كيف يجرءون بعد ذلك على القول إن الحرب شيء بشع ؟
وبالفعل ، إن الانجليز منافقون عندما يتعلق الأمر بإمبراطوريتهم . في طبقة العمال يأخذ النفاق شكل ( عدم معرفة بأن الإمبراطورية موجودة أصلا ) ، بيد أن الكره الذي يكنونه للجيوش النظامية حقيقي ، وله أسبابه . إن البحرية لا توظف تلك الأعداد الكبيرة مقارنة بالقطاعات العسكرية الأخرى ، وهي سلاح خارجي لا يستطيع التأثير في السياسات الداخلية مباشرة . نعم ، الدكتاتوريات العسكرية حقيقة من حقائق هذا العالم ، بيد أننا لم نسمع قط عن دكتاتورية بحرية . إن أكثر ما يمقته الإنجليز – من كل الطبقات تقريبا – من كل قلبهم ، هو الضابط المتغطرف المتغطرس :
( صلصلة مهامز ، ووقع أحذية عسكرية ) . ولقد كانت كلمة ( بـروسي ) - من قبل مجيء هتلر بعقود – تحمل من المعاني للانجليز ما تحمله كلمة نازي اليوم . إن هذا الكره للعسكرية متعمق جدا ، لدرجة أن الضباط الانجليز كانوا يلبسون ملابس مدنية دائما وهم خارج الخدمة – في آخر مئة سنة .
إن إحدى العلامات التي توضح لنا – بسرعة ، وبدقة نوعا ما – المناخ الاجتماعي لدولة ما : هي الاستعراض
العسكري . فهو حقيقة نوع من الطقوس الراقصة ( شيء مثل الباليه ) – يعبر عن فلسفة حياة . فـ ( مشية الإوزة ) مثلا ، إحدى أفظع المناظر في العالم ، ومخيفة أكثر من قاذفة قنابل منقضة . فهي ببساطة تأكيد على القوة الصرفة ، تتضمن – بوعي وعن قصد – صورة حذاء يضرب وجها . إن قبح هذه المشية العسكرية جزء من جوهرها : فالذي تقوله لنا هو ( نعم ، قبيح فعلا ، لكنك لا تجرؤ على الضحك علي ) .. لماذا لا تستعمل هذه المشية في انجلترا ؟ الكل يعلم أن هناك الكثير في الجيش ممن قد يسعدهم جدا إدخالها إلى الجيش البريطاني . إن هذه المشية العسكرية لا تستعمل لأن الناس سيضحكون . إلى حد ما ، لا توجد الاستعراضات العسكرية ، إلا في البلاد التي لا يستطيع عامة الناس فيها الضحك على الجيش . بدأت إيطاليا مثلا في استعمال ( مشية الإوزة ) عندما أصبحت بالفعل تحت سيطرة ألمانيا
( وكما هو متوقع ، لا يطبقونها كما يطبقها الألمان ) . وأما حكومة فيشي ( حكومة فرنسا من يوليو 1940 إلى أغسطس 1944 ) – إن قدر لها البقاء – فمصيرها هي الأخرى أن تستعمل شيئا من هذا القبيل في ما تبقى من الجيش الفرنسي . . إن التدريبات قاسية ومعقدة في الجيش البريطاني ، ملأى بذكريات من القرن التاسع عشر ، ولكنها خالية من الغطرفة والغطرسة ، والمشية العسكرية عندهم مشية رسمية فقط . هي مشية مجتمع محكوم بالسيف – بلا شك – لكنه سيف يجب أن لا يخرج من غمده أبدا .
ومع هذا ، تقترن وداعة الحضارة الإنجليزية بأشياء بربرية ، وأمور بالية . فقانوننا الجنائي مثلا قديم جدا . ( يحب أن توضع صورة جندي الصاعقة النازي إلى جانب صورة تلك الشخصية الإنجليزية المعهودة : قاضي الإعدام : وهو شخص متغطرس ، عادة مصاب بداء النقرس ، وعقله عالق في القرن التاسع عشر ...و يحكم على الناس أحكاما وحشية ) . فما زال الناس إلى اليوم يشنقون ويجلدون بالكرباج في الأراضي الانجليزية . كلا العقوبتين في غاية الشناعة والقسوة ، بيد أننا لم نسمع أي احتجاج شعبي حقيقي ضدهما . الناس يقبلون هذه العقوبات كما يقبلون المناخ تقريبا . هي جزء من
( القـانون ) الذي يعتبرونه غير قابل للتبديل .
هنا نأتي إلى خاصية انجليزية مهمة جدا : وهي احترام القانون والدستور ، والإيمان بأن ( القـانون ) شيء فوق الدولة والفرد - نعم ، قد يكون القانون قاسيا وغبيا ، بيد أنه ليس فاسدا .
وليس سبب ذلك أن الناس يظنون أن القوانين عادلة . كل الناس تعرف أن هناك قانون للأغنياء ، وآخر للفقراء . لكن في نفس الوقت لا أحد يتقبل فحوى هذا الكلام ، فالجميع يعتبر أن احترام القانون – كما هو – أمر مسلم به ، ويغضبون عندما لا يحترم . مقولات من مثل ( لا يمكنهم اعتقالي ، فأنا لم أرتكب جرما ) أو ( لا يمكنهم فعل ذلك ، هذا مخالف للقانون ) – جزء من المناخ الانجليزي . حتى عند الناس المصنفين أعداء للمجتمع يكون هذا الشعور قويا : يراه المرء في أدب السجون ، مثل كتاب ولفرد مكارتني ( الجـدران لها أفواه ) أو جم فلان ( رحلة السـجن ) ، أو فيما يرسله بروفيسارو الماركسية إلى الجرائد ، ليشيروا أن هذا الفعل أو ذاك إخفاق في تحقيق ( العـدالة البريطانية ) . كل الناس تؤمن بصدق بأن القانون يجب أن يطبق على الجميع ، وأن هذا أمر يمكن تحقيقه . إن الفكرة التوتاليرية التي تقول أنه لا يوجد أي قانون ، وإنما توجد قوة فقط ، لم تتعمق في المجتمع الانجليزي – وحتى الانتلجنسيا لم تعتنق الفكرة إلا نظريا .
قد يصبح الوهم شبه حقيقة .. قد يغير القناع تعابير الوجه : إن مناقشة ما إذا كانت الديمقراطية ( مثل ) أو ( بسوء ) التوتاليرية لا تأخذ هذا الكلام بالحسبان . فإن محور هذا النقاش المعروف ، هو القول أن لا فرق بين نصف رغيف خبز ، والموت جوعا . لا يزال الناس في انجلترا يؤمنون بمفاهيم مثل العدالة والحرية والحقيقة الموضوعية : قد تكون وهما ، بيد أنه وهم قوي . الإيمان بهذه المفاهيم يؤثر على المسلك العام ، والحياة الوطنية تختلف بسببه . وإن أنت أردت دليلا على ذلك ، فانظر من حولك . أين الهراوة المطاطية ، أين زيت الخروع ؟ لا يزال السيف في غمده ، وطالما بقي السيف مسلطا ، لن يتعدى الفساد حدا معينا . نظام الانتخاب البريطاني على سبيل المثال يكاد يكون غشا علنيا . يتم التحايل على القانون بأكثر من طريقة لرعاية مصالح الطبقات الثرية . بيد أنه لن يصبح فاسدا فسادا كاملا ، إذا لم يحدث أي تغيير جذري في العقل العام . لن تجد رجالا مسلحين ، عندما تذهب إلى مراكز الاقتراع ، ليأمروك لمن تصوت ، ولا يتم التلاعب بالأصوات ، ولا تقدم رشاوى مباشرة . إن النفاق أيضا يمكن أن يكون وقاية : قاضي الإعدام : ذاك العجوز الشرير- الذي لن يعلمه إلا الديناميت أي قرن يعيش فيه - بروبه الأحمر وباروكته ، سيفسر القانون على أية حال بحسب الدستور ، ولا يمكن بحال من الأحوال أن يقبل رشوة . هذا القاضي رمز من رموز انجلترا . هو رمز لذاك الخليط الغريب : ما بين الواقعية والوهم ، بين الديمقراطية والامتيازات ، بين الدجل والصدق : شبكة الحلول الوسطى تلك ، التي تبقي الأمة في شكلها المعهود .
- 3 -
طوال المقال وأنا أتكلم عن ( الأمة ) و ( انجلترا ) و ( بريطانيا ) ، كما لو كان يمكن التعامل مع 45 مليون شخص كوحدة واحدة . أليست بريطانيا مشهورة بأنها أمتين : أمة أغنياء ، وأمة فقراء ؟ من يجرؤ على التظاهر بـأن هناك أي شيء مشترك بين من يجني مئة ألف باوند في السنة ، ومن يقبض باوندا واحدا فقط في الأسبوع ؟ وقد أكون قد أسأت أيضا إلى القراء السكوتلنديين أو الولشيين ، لأني استخدمت ( انجلترا ) أكثر مما استعملت ( بريطانيا ) ، وكأن كل سكان بريطانيا يقطنون في لندن وما حولها من مقاطعات ، وأن ليس للشمال أو الغرب ثقافة خاصة بهم .
قد يتضح هذا السؤال أكثر ، إذا ما فكر المرء أولا بالنقطة الثانوية منه ( وهي أن بريطانيا تتكون من شعوب مختلفة ) . فمن الصحيح أن شعوب بريطانيا تعتبر نفسها مختلفة جدا عن بعضها البعض . لن يُسر الاسكتلندي مثلا إذا سميته انجليزيا . ويمكنك أن تلحظ ترددنا عند هذه النقطة ، من كثرة الأسماء التي نطلقها على جزرنا : انجلترا و بريطانيا و بريطانيا العظمى و الجزر البريطانية و المملكة المتحدة – وفي لحظات الحماس : ألبيون . حتى الفروق التي بين شمال وجنوب انجلترا تبدو لنا ضخمة . بيد أن هذه الفروق تتلاشى ، بطريقة ما ، عندما نواجه أوروبيا . من النادر أن تقابل أجنبيا – غير أمريكي – يستطيع التفرقة بين الانجليزي والاسكتلندي ، أو حتى بين الانجليزي والأيرلندي ... إن لهجة أهل مرسيليا أضحوكة في باريس ، ومع ذلك يمكننا التكلم عن ( الفرنسيين ) و ( فرنسا ) : أي أننا نعرّف فرنسا كوحدة واحدة ، كحضارة واحدة .. وهذا هو الواقع الملموس . وهكذا هو الحال في ما يخصنا نحن أيضا : إذا نظرنا من الخارج ، لوجدنا أن الكوكني يشبه الآتي من يوركشاير جدا .
والفروق التي بين الأغنياء والفقراء أيضا تتلاشى بعض الشيء ، عندما نلقي نظرة من خارج الوطن . لا جدال في مسألة عدم المساواة في توزيع الثروة في انجلترا . الوضع هنا أسوء من أي دولة في أوروبا ، وليس عليك إلا الذهاب إلى أقرب شارع لترى ذلك بنفسك . إن انجلترا مقسمة إلى أمتين – إن لم تكن ثلاثة أو أربعة – من الناحية الاقتصادية . ولكن في نفس الوقت يشعر الناس بأنهم أمة واحدة ، أنهم يشبهون بعضهم البعض أكثر مما يشبهون الأجانب . فالوطنية عادة ما تكون أقوى من الكره أو العنصرية الطبقية - ودائما تكون أقوى من أي حركة دولية . إذا استثنينا فترة وجيزة في 1920 : ( حركة لا تمسّوا روسيا ) ، يمكننا القول أن طبقة العمال في بريطانيا لم تفكر أو تتصرف دوليا أبدا . لقد جلسوا يتفرجون على إخوانهم في أسبانيا ، يشنقون ببطء ، لسنتين ونصف ، ولم يمدوا لهم يد مساعدة ، ولو بإضراب واحد . بيد أنه لما تعرض وطنهم ( وطن لورد نفيلد و السيد مونتاجو نورمن ) للخطر ، عند ذاك اختلف موقفهم
جدا . في اللحظة التي بدت فيها انجلترا معرضة للغزو ، ناشد ( آنثني إيدن ) الناس من الراديو ليتطوعوا للدفاع المحلي. فحصل على ربع مليون متطوع في اليوم الأول ، ثم حصل على مليون متطوع آخر في الشهر التالي . ليس على المرء إلا مقارنة هذه الأعداد بأعداد الرافضين للحرب ، ليرى أن الولاء التقليدي أقوى بكثير من أي ولاء جديد .
تختلف أشكال الوطنية في انجلترا من طبقة إلى أخرى ، لكنها تتخللها جميعا ، كالحبل تربطهم معا . والوحيدون الذين عندهم مناعة من الوطنية حقا ، هم الانتلجنسيا ( المتأوربة ) . ولو بحثنا عن الوطنية في انجلترا ( كشعور إيجابي ) لوجدنا أنها أقوى في الطبقة الوسطى منها في الطبقات العليا . فالمدارس الحكومية الرخيصة مثلا تميل إلى الفخر الوطني أكثر من مدارس الأثرياء - بيد أن أعداد الأثرياء الخونة فعلا قليلة جدا على الأغلب . أما طبقة العمال فإن وطنيتهم عميقة ولكنها غير واعية . فلن يجيش قلب الرجل العامل بالأحاسيس مثلا لما يرى العلم البريطاني . إن كره الأجانب والانعزالية – وهما الخاصتان اللتان اشتهر بهما الانجليز – أقوى في طبقة العمال من طبقة البرجوازيين . فعادة ما يكون الفقراء في كل الدول أكثر وطنية من الأغنياء .. بيد أن طبقة العمال في انجلترا بارزة في بغضها للعادات الأجنبية من بين جميع طبقات المجتمع . يرفضون التعود على أي أكل أجنبي أو تعلم أي لغة أجنبية ، ولو اضطروا إلى المعيشة في الخارج عدة سنوات . وكلهم تقريبا يعتبرون لفظ كلمة أجنبية بلفظها الصحيح تخنثا . لقد كانت طبقة العمال خلال الحرب العالمية الأولى على صلة بالأجانب ، وقد كانت فرصة نادرة لهم ، بيد أن الفائدة الوحيدة التي رجعوا بها ، هي كره كل الأوروبيين – ما عدا الألمان ، الذين أعجبتهم شجاعتهم . ومع أنهم ظلوا في فرنسا 4 سنوات ، لم يتطور عندهم أي تذوق للنبيذ . إن انعزالية الانجليز ، ورفضهم أخذ الأجانب على محمل الجد ، حماقة لا بد أن يدفعوا ثمنها غاليا من حين إلى آخر . لكنها تقوم بدورها في تكوين ذلك الغموض الانجليزي . هذه الصفات في حقيقة الأمر هي التي تبعد السائح ، وهي ذاتها التي تردع الغزاة .
نرجع هنا إلى الخاصيتين الانجليزيتين التي أشرت إليهما ، بشكل قد يبدو عشوائيا ، في بداية الفصل الأخير : الأولى هي عدم امتلاكهم مقدرة فنية . لعل هذه طريقة أخرى للقول إن الانجليز خارج الثقافة الأوروبية . فهم لم يبرعوا إلا في نوع واحد من الفنون : الأدب . وهو الفن الوحيد الذي لا يتخطى الحدود . الأدب ، وخصوصا الشعر – وبشكل أخص الشعر الغنائي – دعابة عائلية ، ليس لها أي قيمة – أو ربما شيئا يسيرا فقط – خارج نطاق العائلة اللغوية . لا يكاد الأوروبيون يعرفون أي شيء تقريبا عن شعراء الانجليز – ولو حتى بالأسماء فقط – إلا شكسبير طبعا . والشعراء الذين يقرءون أعمالهم هم بايرون وأوسكار وايلد - الأول يعجبهم لأسباب لا علاقة لها بالشعر ، والثاني لأنهم يشفقون على ( ضحية ) النفاق الانجليزي . وهذه الخاصية ( خاصية عدم امتلاك القدرة الفنية ) ، ترتبط بشكل قد لا يبدو واضحا في البداية بالخاصية الثانية : وهي عدم امتلاكهم قريحة فلسفية : لا يحتاج كل الانجليز تقريبا إلى أي نظام فكري ، أو حتى استعمال للمنـطق .
إلى حد ما ، يكون الإحساس بالوحدة الوطنية بديلا عن أي ( نظرة عالمية ) . فلـأن الوطنية شاملة – الأثرياء أيضا يتأثرون بها – تأتي لحظات تتكاتف فيها الأمة ، وتتصرف كلها نفس التصرف : كقطيع في مواجهة ذئب . لا شك أنه قد جاءت لحظة من هذه اللحظات عندما حلت الكارثة بفرنسا ... ثم بعد 8 شهور من التفكير المبهم : ( عم كانت الحرب ؟ ) أدرك الناس فجأة ما يجب عليهم القيام به : أولا إبعاد الجيش عن دنكرك ، وثانيا التصدي للغزو . كانت كصحوة عملاق : بسرعة ! احذر! جاءك الغزاة يا سامسون ! .. ثم جاءت الحركة الموحدة السريعة .. وبعدها للأسف خمود سريع إلى النوم . في أمة منقسمة على نفسها ، تكون هذه هي اللحظة بالضبط التي تصعد فيها حركة ضخمة للدعوة إلى السلام .
ولكن هل هذا يعني أن غريزة الانجليز سترشدهم إلى الطريق الصحيح دائما ؟ لا أبدا .. ستملي عليهم أن يفعلوا نفس ما فعلوه فقط . في الانتخابات العامة مثلا ، عام 1931 ، كلنا اخترنا اختيارا خاطئا موحدا . كنا أحاديي التفكير كخنازير ( جادارين ) . بيد أنني - وبكل صدق - أشك إذا ما كان يمكننا القول إننا ندفع في طريق بغير إرادتنا .
إذاً الديمقراطية البريطانية أقل ( احتيالا ) مما يبدو أحيانا . لا يرى المراقب الأجنبي إلا التقسيم غير العادل للثروة ، والنظام الانتخابي الجائر ، وأن الطبقة الحاكمة تتحكم بالصحافة ، والراديو والتعليم – فيستنتج أن الديمقراطية ليست إلا اسما ألطف من الدكتاتورية . بيد أن هذا الاستنتاج يتغاضى عن اتفاق ليس بقليل – للأسف – بين الحاكم والمحكوم . لقد كانت الحكومة الوطنية بين عام 1931 و 1940 ، تمثل بلا شك إرادة سواد الشعب - بالرغم أننا نكره الاعتراف بذلك الآن . كانت الحكومة راضية عن الأحياء الفقيرة ، والبطالة ، والسياسة الخارجية الجبانة ، وكذلك كان الرأي العام . كانت فترة ركود فكان قادتها الطبيعيون أقزاما .
كان من الواضح أن أكثر الشعب الانجليزي – بالرغم من حملات بضع آلاف من اليساريين – يدعم سياسات تشامبرلن الخارجية . ومن المقطوع به أن الصراع الذي كان يدور في ذهن تشامبرلن كان يفتر في عقول الناس العاديين أيضا . قال عنه معارضوه أنه مكار خبيث ، يخطط لبيع انجلترا لهتلر . لكن الاحتمال الأقرب أنه كان عجوزا غبيا فقط ، يقوم بأفضل ما في وسعه ، وبكل طاقة عقله الضعيف . وإن لم يكن الأمر كذلك ، فإنه ليصبح من الصعب تفسير التناقضات في سياسته ، وإخفاقه في اختيار إحدى الخيارات المتاحة له وقتها . لم يرد تشامبرلن ، كأكثر الناس ، أن يدفع لا ثمن الحرب ولا السلام . وكان الرأي العام يدعمه طوال الوقت ، في سياساته المتناقضة . دعمه عندما ذهب إلى ميونخ ، ودعمه عندما حاول التفاهم مع روسيا ، ولما أعطى ضمانات لبولندا ، ثم دعمه وهو يدافع بغير همة عن خيار خوض
الحرب . ولم ينقلب عليه إلا بعدما أصبحت نتائج سياساته واضحة للعيان : أي أن الرأي العام بات ضد السبات الذي غرق فيه في السبع سنوات الماضية . وهكذا اختار الشعب قائدا أقرب إلى مزاجهم : تشرشل – الذي على كل حال أدرك انه لا يمكن الانتصار في الحروب بلا قتال ! .. وعسى أن يختاروا في المستقبل قائدا يستطيع أن يفهم أن الدول الاشتراكية فقط : هي التي عندها القدرة على القتال الفعال .
هل معنى هذا أن في انجلترا ديمقراطية حقيقية ؟ .. كلا ، حتى قارئ ( الدايلي تلجراف ) لن يقبل هذا الكلام .
إن انجلترا أكثر في بلد في العالم تحكمه الطبقية . إنها أرض التعالي والامتيازات ؛ يحكمها غالبا العجائز والسفهاء . بيد أنه في أي تحليل لها ، يجب أن يأخذ بالحسبان : وحدة مشاعرها : قابلية كل السكان على الشعور بنفس المشاعر ، وقدرتهم على التصرف نفس التصرف ، في أوقات الكوارث والمصائب . إنها الدولة العظيمة الوحيدة في أوروبا ، التي لا تضطر إلى نفي مئات الآلاف من مواطنيها ، أو إلى الزج بهم في معسكرات الاعتقال . بعد مرور سنة على الحرب ، ما زالت حتى هذه اللحظة الجرائد والمجلات التي تسب الحكومة ، وتمدح العدو ، وتنادي بالاستسلام ، تباع في الشوارع ، من دون أي تدخل تقريبا . وليس السبب احترام حرية التعبير ، بقدر ما هو اعتقاد بأن هذه الأشياء غير مهمة : فلا مجازفة في ترك جريدة مثل ( أخبار السلام ) تباع في الأسواق ، لأنه من المؤكد أن 95% من الناس ليست لديهم أي رغبة في قراءتها . إن الأمة تربطها سلسلة خفية . في الأوضاع الطبيعية ، ستسرق الطبقة الحاكمة ، وستسيء الإدارة ، وستخرب ، وستقودنا إلى الهاوية . ولكن إذا جعل الرأي العام نفسه مسموعا ، وجذب جذبة من ( الأسفل ) – لا يمكن تجاهلها – فسيكون من الصعب على الطبقة الحاكمة ألا ترضخ لرغبته . إن الكتاب اليساريين الذين ينددون بالطبقة الحاكمة ويصفونها ( مناصرة للفاشية ) ، يبسطون الموضوع جدا . فحتى بين نخبة السياسيين – الذين أوصلونا إلى هذا الموقف - من غير المؤكد أن بينهم من يقصد الخيانة فعلا . فمن النادر أن يكون الفساد في انجلترا من هذا النوع . في أغلب الحالات تقريبا ، يأخذ الفساد شكل ( خداع النفس ) : فلا تعرف اليد اليمنى ما تفعله اليسرى . وبما أن هذا الفساد غير واع ، فإنه يكون محدودا . ويمكن للمرء أن يرى هذا بوضوح أكثر في المجال الصحفي . هل الصحافة الانجليزية صادقة أم لا ؟ إنها غير صادقة في الأوقات العادية . كل الجرائد المهمة تعيش على الإعلانات ، والمعلنون يمارسون رقابة غير مباشرة على الأخبار . ومع ذلك ، لا أعتقد أن ثمة جريدة واحدة في انجلترا يمكن أن ترشيها هكذا مباشرة بالمال . كانت كل الجرائد – إلا قليلا منها – في فرنسا الجمهورية الثالثة مثلا ، تُشترى كما يشترى الجبن في المحال . لم تكن الحياة العامة في انجلترا فاسدة جهارا هكذا أبدا . فهي لم تصل بعد إلى درجة الانحلال التي ينعدم فيها التمويه أيضا .
إن انجلترا ليست جزيرة شكسبير النفيسة – كما وصفها في مقطع مشهور – ولا هي بالجحيم الذي وصفه ( الدكتور جيبلز ) . هي كأنها عائلة : عائلة فكتورية ( بالية ) ، ليست أعداد أفرادها المخزين كثيرة ، بيد أن خزاناتها مليئة بالأسرار والفضائح . عائلة فيها الأغنياء يجب الركوع لهم ، والفقراء يُوطئون بالأرجل ، والكل متواطئون على التكتم على مصدر دخلهم . عائلة عادة ما يقمع فيها الشباب ، وأكثر السلطة في أيدي أعمام غير مسؤولين ، وعمات
مقعدات . ومع كل هذا ما زالت عائلة لها لغتها الخاصة ، وذكرياتها الخاصة أيضا ؛ وعندما يواجهها عدو تتكاتف تلقائيا لردعه . إن أقرب وصف لانجلترا – في جملة واحدة – هو : عائلة يتحكم بها سفهاؤها .
-4-
لعلنا قد ربحنا معركة ( واتـرلوا ) في ميدان القتال في ( إتون ) ، لكننا خسرنا هناك أيضا كل الحروب المقبلة . إن إحدى الحقائق التي هيمنت على الحياة الانجليزية في الـ 75 سنة الماضية : هي انحطاط كفاءة وقدرة الطبقة الحاكمة .
كان هذا الانحطاط يحدث بسرعة تفاعل كيميائي من 1920 إلى 1940 . بيد أنه لا زال يمكننا التحدث عن طبقة حاكمة الآن . لقد ظلت هذه الطبقة كما كانت تقريبا في منتصف القرن التاسع تشر . بعد عام 1832 خسرت الأرستقراطية التي تملك الأراضي سلطتها تدريجيا ؛ فبدلا من أن تتلاشى ، تزوجت من التجار والصناع والمصرفيين – الذين أخذوا مكانهم في السلطة – ومن ثم لم يلبثوا حتى حولوهم إلى نسخ طبق الأصل عنهم . أصحاب السفن الأغنياء وملاك طواحين القطن ، ادعوا أنهم ( جنتلمانات ) الريف ، وعلموا أولادهم ( الطرق الصحيحة ) في المدارس الحكومية التي صممت خصيصا لهذا الغرض . فحكمت انجلترا طبقة أرستقراطية تستمد أفرادها من طبقة ( حديثي النعمة ) . وباعتبار أن هؤلاء الرجال الذين كونوا أنفسهم من الصفر ، المفعومين طاقة وحيوية ، سيدخلون إلى طبقة ، الخدمة العامة من تقاليدها – على أية حال - كان من المفترض أن يصبحوا بشكل ما ، قادة قادرين على القيام بمهامهم . ومع ذلك – وبطريقة ما – تفسخت الطبقة الحاكمة ، فقدت قدرتها وشجاعتها ، وفي الأخير فقدت قسوتها أيضا ، حتى جاء وقت اعتبر فيه رجال بلداء مثل ( إيدن ) و ( هايلفاكس ) ، عباقرة . أما ( بولدون ) ، فإن إطلاق وصف بليد عليه تكريم له . فقد كان ببساطة ثقبا في الهواء . إن إساءة التصرف في مشاكل انجلترا الداخلية – خلال عشرينيات القرن العشرين – كانت مصيبة بما فيه الكفاية ؛ بيد أن السياسة الانجليزية الخارجية – من 1931 إلى 1939 – أعجوبة من أعاجيب الدنيا المدهشة . لماذا ؟ ما الذي حدث ؟ ما الذي جعل كل رجال الدولة في انجلترا ، يخطئون التصرف ، في كل لحظة حاسمة ، وبهذه الدقة العجيبة ؟
إن الحقيقة التي تقف من وراء كل هذا : هي أن وضع الطبقة الثرية لم يعد له أي مبرر في المجتمع : لقد جلسوا هناك ، في مركز إمبراطورية شاسعة ، وشبكة مالية عالمية ، يجنون الأرباح والفوائد ، ويصرفونها – ولكن على ماذا ؟ من العدل الإقرار بأن الحياة داخل الإمبراطورية البريطانية ، أفضل من خارجها ، في أكثر من ناحية . ولكن الإمبراطورية مع ذلك كانت بدائية : فالهند في سبات في العصور المظلمة ، ومناطق السيادة البريطانية مفازة خالية ؛ والأجانب يصدون عنها بغيرة شديدة ؛ وانجلترا ذاتها ملأى بالأحياء الفقيرة ، والبطالة . الوحيدون المستفيدون من النظام الحالي بالفعل هم نصف مليون شخص فقط : أصحاب المنازل الريفية . بالإضافة إلى أن نزعة الأعمال التجارية الصغيرة للانخراط في المؤسسات الكبيرة ، جردت الطبقة الثرية أكثر فأكثر من وظيفتها ، وحولت أفرادها إلى ملاك فقط – يدفعون لمدراء وخبراء للقيام بأعمالهم . إن في انجلترا - ومنذ زمن طويل - طبقة ليس لها أي وظيفة ، تعيش على أموال بالكاد تعرف أين يتم استثمارها : إنه ( الثري العاطل ) - الذي تزعجنا مجلات مثل ( التاتلر ) و ( البايستاندر ) بصوره – كأننا نرغب في رؤية هذه الأشكال . إن وجود هؤلاء الناس ليس له أي مبرر إطلاقا . إنهم بكل بساطة طفيليون ؛ الكلاب تستفيد من براغيثها أكثر مما نستفيد نحن منهم . كان كثير من الناس يعرفون كل هذا بحلول عام 1920 .. ثم في 1930 عرف الملايين الأمر أيضا . بيد أن الطبقة الحاكمة في بريطانيا لم تستطع أن تعترف لنفسها - طبعا – أن الزمن الذي كان منها فائدة ترجى فيه ، كاد أن ينقضي . ولو أدركوا ذلك لكان عليهم أن يتخلوا عن الحكم . فمن المستحيل أن يجعلوا أنفسهم لصوصا هكذا صراحة ، مثل مليونيرات أمريكا ، مستمسكين بتصميم بامتيازاتهم الظالمة ، ساحقين لمعارضيهم بالرشوة والقنابل المسيلة للدموع . فهم على كل حال ينتمون إلى طبقة ذات تقاليد معينة : هؤلاء ارتادوا مدارس حكومية دُرسوا فيها أن الموت في سبيل الوطن – إن كان من الضروري – هو أعظم وأول الوصايا . كان يجب أن يشعروا أنهم جد وطنيون ، حتى وهم يسرقون أولاد بلدهم . فأمسى من الواضح أن ليس لهم إلا مخرجا واحدا : إلى الغباء . لقد استطاعوا إبقاء المجتمع كما هو في شكله ، لأنهم ما وجدوا أنه بالإمكان تحسينه .. فعلا .. لقد حققوا ذلك – مع أنه صعب – بالتحديق في الماضي ، وبرفض ملاحظة التغيرات التي تحدث من حولهم .
هذا يفسر أشياء كثيرة في انجلترا . يفسر تلاشي الحياة الريفية ، بسبب استمرار الإقطاع الغشاش ، الذي ينفر أكثر المزارعين حماسة عن الأرض . كما يفسر سُبات المدارس الحكومية : التي بالكاد تغيرت منذ ثمانينات القرن التاسع عشر . ويفسر أيضا ذلك العجز العسكري الذي أدهش العالم مرة تلو الأخرى . لقد كانت كل حرب دخلت فيها انجلترا – منذ خمسينات القرن الماضي – تبدأ بسلسلة من المصائب ، ثم يقوم رجال ، من الطبقات الدنيا – نسبيا – بإنقاذ
الموقف . ليس بوسع القادة – الذين جُندوا من الطبقة الأرستقراطية – أن يتجهزوا لأي حرب عصرية ؛ قبل ذلك يجب عليهم أن يعترفوا – لأنفسهم – أن العالم يتغير . لطالما تشبثوا بطرق بالية وأسلحة قديمة . لقد تصوروا أن كل حرب جديدة هي حتما تكرار للتي سبقتها . تجهزوا لحرب ( الـزولو ) قبل أن يشرعوا في حرب ( البـوير ) ، ثم تجهزوا لهذه الأخيرة قبل حرب 1914 ، وأخيرا تجهزوا لحرب 1914 للحرب التي نخوضها اليوم . ما زال مئات الآلاف من جنود انجلترا – حتى هذه اللحظة – يتدربون على استعمال ( البايونت ) : ( حربة البندقية ) ، وهي سلاح لا فائدة منه ، إلا إن كنت تريد فتح علبة مثلا . من الجدير بالملاحظة أن البحرية – ثم من خلفها سلاح الطيران – كانا أكثر فعالية في الحروب من الجيش النظامي . وهذين المجالين – وخصوصا الطيران - لا يعتبران مما يقبل عليه أفراد الطبقة الحاكمة عادة .
ولكن يجب الاعتراف أيضا أن أساليب الطبقة الحاكمة كانت مفيدة لهم في أوقات السلم . فمن الواضح أن شعبهم تحملهم . كيفما كان ظلم النظام الاجتماعي في انجلترا ، لا يمكن القول – بأي مقياس – أن المجتمع كان ممزق طبقيا ، أو مرعوبا بالبوليس السري . ولقد كان الأمن مستتبا في الإمبراطورية ، كما لم يسبق له أن كان ، في أي مساحة مثلها على مر التاريخ . وعدد جنودها في كل مساحتها الشاسعة – ثلاثة أرباع الأرض تقريبا – أقل من جنود أي جيش من جيوش دول البلقان الصغيرة . لقد كانت للطبقة الحاكمة إيجابياتها أيضا - إذا ما نظرنا للأمر نظرة ليبرالية سلبية : فهم أفضل من رجال العصر الحقيقيين :النازيين والفاشيين . بيد أنه كان جليا منذ زمن ، أنه لن تكون لهم أي حيلة في مواجهة هجوم حقيقي من الخارج .
ما استطاعوا مكافحة النازية ولا الفاشية : لأنهم ما استطاعوا أن يفهموهما . وما كانوا ليستطيعون مكافحة الشيوعية أيضا - لو كانت قوة حقيقية في أوروبا الغربية ... لكي يفهموا الفاشية ، كان يجب عليهم أن يدرسوا النظرية الاشتراكية ، التي ستجبرهم على إدراك أن نظامهم الاقتصادي ظالم وعاجز وبالي . بيد أن هذه الحقيقة بالذات هي التي تدربوا على ألا يواجهوها ، ويتجنبوها . ( لقد تعاملوا مع الفاشية ، كما تعامل جنرالات المشاة مع رشاشات خصومهم في حرب 1914 ... تجاهلوها تماما ) . بعد سنوات من العدوان والمذابح ، لم يفهموا إلا شيئا واحدا : أن هتلر وموسوليني معاديان للشيوعية . ومن ثم ظنوا أنهما أصدقاء بريطانيا . ولهذا رأينا ذاك المنظر المفجع حقيقة : أعضاء من المحافظين في مجلس النواب يرحبون بحماس ورود أخبار بقصف طائرات إيطالية سفنا بريطانية ، كانت تجلب مؤنا غذائية للحكومة الجمهورية في أسبانيا .. ولما بدءوا يلمون بحقيقة أن الفاشية خطر عليهم ، لم يستطيعوا فهم أمور مثل : أن طبيعة الحركة الفاشية ثورية أساسا ، واستعصى عليهم الإلمام بالجهد العسكري الذي تستطيع القيام به ، وصنف التكتيكات التي بإمكانها استعمالها . في أيام الحرب الأهلية الأسبانية ، كان جليا لمن لديه أدنى معرفة سياسية ، أنه إذا انتصر ( فرانكو ) ستكون العواقب الإستراتيجية وخيمة على انجلترا . ومع هذا لم يفهم ذلك جنرالات وأدميرالات أفنوا حياتهم في دراسة الحروب . إن خاصية الجهل السياسي هذه ، مستشرية في كل نواحي الحياة السياسية الانجليزية : موجودة عند الوزراء في المجالس ، وعند السفراء والقضاة ، وعند رجال الشرطة أيضا . فالشرطي الذي يقبض على
( الحُمر ) : ( الشيوعيين ) ، لا يفهم النظريات التي يبشرون بها . ولو علم بها لساءه جدا موقفه كحارس للطبقة الثرية . وثمة أسباب تجعلنا نعتقد أن الاستخبار العسكري أيضا يعيقه الجهل بالنظريات الاقتصادية الجديدة ، وبتفرعات الأحزاب السرية .
ولكن من جهة أخرى ، لم تكن الطبقة الحاكمة مخطئة تماما في تصورها أن الفاشية في صفها .الحقيقة هي أنه لا يوجد أي شخص ثري – إلا إذا كان يهوديا طبعا – يخاف من الفاشية أكثر من الشيوعية ، أو الديمقراطية الاشتراكية . يجب علينا ألا ننسى ذلك أبدا : فكل البروباجاندا الايطالية والألمانية – تقريبا – مصممة لإخفاء هذه الحقيقة بالذات . إن غريزة رجال مثل ( سايمن ) و( هور ) و ( تشامبرلن ) وغيرهم الطبيعية ، تجعلهم يرغبون في الوصول إلى اتفاق ما مع هتلر . ولكن – وهنا نأتي لتلك الخاصية الانجليزية التي تكلمت عنها : الإحساس العميق بالتآزر الوطني – ما كان يمكنهم القيام بذلك إلا إذا مزقوا الإمبراطورية أشلاء ، وباعوا أولاد بلدهم كما يباع العبيد تقريبا . والطبقة الفاسدة حقا تفعل هذه الأفعال من دون أي تردد - كما حدث في فرنسا . بيد أن الأمور لم تصل إلى هذا الحد في انجلترا . لا نجد هنا سياسيين يخطبون خطبا نارية عن ( واجب ) الولاء للمستعمر . ولكنه كان من المستحيل أيضا لرجال مثل تشامبرلن – متذبذبين ما بين مداخيلهم ومبادئهم – أن يختاروا الاختيارات الصائبة .
إن إحدى الأشياء التي تبرهن على أن الطبقة الحاكمة الانجليزية ليست فاسدة بالكامل ، هي أنهم مستعدون للتضحية بأنفسهم في أوقات الحروب . فكم من دوق قد قتل وكم من إيرل في الحملات العسكرية التي شنت في فلاندرز . لو كانوا أوغادا انتهازيين – كما يوصفون دائما – لما ضحوا هذه التضحيات . من المهم ألا نسيء فهم دوافعهم ، وإلا لن نستطيع التنبؤ بأفعالهم . لا يجب أن نتوقع منهم الخيانة أو الجبن عند القتال ، وإنما يتوقع منهم الغباء ، والتخريب من غير وعي ... وغريزة مصممة على الخطأ . هم ليسوا أشرارا – أو ليسوا أشرارا بالكامل - بل أناس غير قابلين للتعليم وحسب . ولن يدرك الشبان من بينهم أي قرن يعيشون فيه ، إلا عندما يفقدون أموالهم وقوتهم .
-5-
لقد أثّر ركود الإمبراطورية – في فترة ما بين الحربين العالميتين – على الكل في انجلترا ، بيد أنه كان له أثر مباشر خاصة على قسمين مهمين من الطبقة الوسطى . القسم الأول هو الطبقة العسكرية والإمبريالية الوسطى ( يُسمون بلمبس
عادة ) ، والقسم الثاني : إنتلجنتسيا اليسار . إن هذين الصنفين المتعادين – كما قد يبدو - ( الكولونيل الذي يأخذ نصف مرتب ، بعنق كعنق الثور وعقل وضيع : شيء مثل الديناصور .. والمثقف بجبهته المدورة وعنقه النحيف ) مرتبطان ببعضهما البعض فكريا ، ويؤثر أحدهما على الآخر .. على أي حال ، هذان الصنفان ينحدران – إلى حد ما – من نفس العائلات .
بدأت الطبقة العسكرية الوسطى تفقد عزمها ونشاطها قبل ثلاثين سنة . تلك العائلات التي كتب عنها رديارد كبلنج في رواياته - ( عائلات كثيرة الإنجاب ، قليلة الثقافة ، يؤلف أبناؤها الجيش والبحرية .. منتشرين في كل مفازة في الأرض من < يوكن > إلى < إراوادي > ) - لم يعد إقبالها على هذا النوع من الأعمال كما كان في السابق ، بحلول عام 1914. والتلغراف كان هو السبب . ففي هذا العالم الذي يأخذ في الصغر – والذي تزداد فيه سيطرة وحكم ( وايتهول ) : شارع مكاتب الحكومة – ضاق الخناق على المبادرات الفردية . فلن يجد رجال مثل ( كلايف ) و ( نلسون ) و ( ونكلسن ) و ( جوردن ) ، أي مكان لهم في هذه الإمبراطورية البريطانية الحديثة . بقدوم عام 1920 كان كل شبر من الإمبراطورية في قبضة ( وايتهول ) : رجال نيتهم حسنة ، متشبعين حضارة ، يلبسون بدلات داكنة اللون ، وقبعات سوداء ، ويضعون مظلات ملفوفة بعناية على سواعدهم .. كان هؤلاء يفرضون نظرتهم الضيقة للعالم على ملاي و نيجيريا و مومباسا و مندلاي . رجال كانوا في السابق بناة إمبراطوريات ، الآن أصبحوا مجرد موظفي مكاتب ، مدفونين تحت أطنان من الورق .
في بداية العشرينات كان المرء يستطيع أن يرى من حول الإمبراطورية البريطانية ، معاناة الموظفين القدامى - الذين عرفوا أياما بمتسع أكبر من الحرية – من التغييرات التي كانت تحدث . ومنذ ذلك الوقت ، صار من الصعب إقناع الشباب الجسور ، بالقيام بأي دور في الإدارة الإمبريالية . وما حدث على المستوى الحكومي ، حدث أيضا على المستوى التجاري . فقد ابتلعت الشركات الضخمة المُحتكرة الكثير من صغار التجار . فبدلا من أن يغامر التاجر ويذهب إلى الإنديز وما جاورها ، يروح إلى مكتب حكومي في بومباي أو سنغافورة . والحياة في سنغافورة وبومباي في الواقع أكثر أمنا ورتابة من الحياة في انجلترا نفسها . ومع ذلك ، ما زالت العاطفة الإمبريالية قوية في الطبقات الوسطى – بسبب التقاليد العائلية خاصة – بيد أن وظيفة إدارة الإمبراطورية فقدت بريقها . لن يذهب الآن أي رجل إلى أبعد من شرق قناة السويس ، إذا كان بمقدوره الحيلولة دون ذلك .
ولكن تضاءل العاطفة الإمبريالية في انجلترا بشكل عام – وإلى حد ما ضعف الروح المعنوية فيها أيضا – الذي حصل خلال ثلاثينيات القرن العشرين ، كان سببه جزئيا عمل إنتلجنتسيا اليسار ... ( وهي بدورها من نتائج ركود الإمبراطورية ) .
يجب الإشارة إلى أنه ليس هناك الآن إنتلجنتسيا غير يسارية بشكل أو بآخر . لعل آخر مفكر يميني كان ( تي.إي لورنس) . فمنذ 1930 تقريبا ، كان كل من يطلق عليه لقب مفكر ، في حالة عدم رضا مزمن من الوضع الحالي . وهو الأمر الذي كان ضروري بالنسبة له ، لأن المجتمع آنذاك ، لم يكن فيه أي مكان له . ففي إمبراطورية كانت ببساطة راكدة ، لا تتطور ولا تتفكك ؛ وفي انجلترا يحكمها من لا يمكن وصفه إلا بالغبي – يصبح أي شخص ( ذكي ) موضعا للشك . إذا كنت قادرا على فهم قصائد ( تي . إس إليوت ) أو نظريات كارل ماركس ، سيحرص ذوو المناصب العليا على إبعادك عن أي منصب مهم . فصار المفكر غير قادر على العمل إلا في مجال النقد الأدبي ، أو في الأحزاب السياسية اليسارية .
يمكننا دراسة عقلية الإنتلجنتسيا اليسارية الإنجليزية من بضعة صحف أسبوعية وشهرية . أول شيء يجذبك في كل هذه الصحف هو موقفها السلبي العدائي عموما ، وعدم وجود أي مقترحات بناءة فيها دائما . ليس عندهم إلا منهج النقد غير المسؤول ، الذي ينهجه من لم يتقلد أي منصب في السلطة في حياته ، بل ولا يتوقع ذلك أيضا . والخاصية الأخرى المشاهدة : هي ضحالة أو سطحية عاطفة الناس الذين يعيشون في عالم الأفكار وليس لديهم أي صلة وثيقة بالواقع . كان أكثر المفكرين اليساريين ، من مؤيدي السلام حتى سنة 1935 .. ثم بدءوا يصرخون مطالبين بدخول حرب ضد ألمانيا من 1935 إلى 1939 ؛ ثم بعد ذلك هدءوا بسرعة لما بدأت الحرب فعلا . عادة ما يعتقد – مع أنه ليس صحيحا مئة في المائة – أن من كان مناوئا للفاشية خلال الحرب الأهلية الأسبانية ، سيصبح الآن أكثر انهزامية مما
سبق . والسبب هو تلك الحقيقة المهمة جدا بخصوص الإنتلجنتسيا الانجليزية : وهي انفصالها التام عن ثقافة بلدهم العامة .
إن هدف الإنتلجنتسيا الانجليزية هو أن تكون أوروبية . فهم يأخذون فن الطبخ من فرنسا ، وأفكارهم من موسكو . الإنتلجنتسيا جزيرة من التفكير المعارض في الجو الوطني العام . قد تكون انجلترا هي الدولة العظيمة الوحيدة في العالم التي فيها إنتلجنتسيا تخجل من جنسيتها . ويُشعر دائما في المجموعات اليسارية ، أن ثمة أمر مخز بعض الشيء في الجنسية الانجليزية ، وأنه من الواجب الضحك على أي شيء بريطاني : من سباق الخيول إلى الحلوى التي تصنع من الدقيق والشحم . حقيقة غريبة ، بيد أنها بلا شك صحيحة : قد يخجل المفكر الانجليزي من الوقوف أثناء النشيد الوطني ، أكثر مما لو سرق من صندوق الفقراء . خلال كل السنوات الحاسمة ، بقي اليساريون ينتقصون من الروح المعنوية الانجليزية ، يحاولون نشر نظرة كانت في بعض الأحيان سلمية – وفي أوقات أخرى متعصبة للروس – لكنها دائما ضد مصلحة بريطانيا . وليس حجم الأثر الذي خلفته أعمالهم معروفا بدقة ، بيد أنها بالتأكيد تركت أثرا ما . لقد قاسى الانجليز لعدة سنوات حملة إضعاف لروحهم المعنوية ، مما جعل الدول الفاشية تحكم عليها بأنها ( منحطة ) ويسهل خوض حرب ضدها – وسبب ذلك – جزئيا – هو ذاك التخريب اليساري . نعم لقد عارضت ( النيوستيتسـمن ) و ( النيوز-كرونكل ) اتفاقية ميونخ - بيد أنهما ساعدتا على تحقيقها أيضا . فبعد عشر سنوات من الاستثارة المنظمة لمشاعر الطبقة العسكرية الوسطى ، أثرت فيهم هذه البروباجاندا ، وجعلت من الصعب أكثر مما مضى ، جذب الشباب الأذكياء للانخراط في القوات المسلحة .. ( وقد كان لابد من تلاشي الطبقة العسكرية الوسطى أصلا ، بسبب ذاك الركود الذي طغى على الإمبراطورية .. بيد أن انتشار أفكار يسارية ضحلة قد سرع عملية التلاشي هذه ) .
من الواضح أن موقف الإنتلجنتسيا الانجليزية ( المميز ) خلال العشر سنوات الماضية ( كمخلوقات سلبية فقط ، معادية للطبقة العسكرية الوسطى ) ، كان نتيجة لغباء الطبقة الحاكمة . لم يستطع المجتمع استعمال الإنتلجنتسيا .. وهم لم يفهموا أن الولاء والوفاء للوطن يكون في خير الأوقات وأسوءها على حد سواء . واعتبرت الطبقة الوسطى العسكرية ، و الإنتلجنتسيا ، كليهما ، أنه من المسلمات البديهة ،أن الوطنية والذكاء لا يجتمعان بتاتا ، وكأنه قانون من قوانين الطبيعة. فإذا كنت وطنيا وتقرأ ( بلاك ودز ماجازين ) ستحمد الله أمام الملأ أنك لست ( ذكيا ) . وإذا كنت مثقفا ، ستضحك على العلم البريطاني وتسخر منه ، وستعتبر الشجاعة البدنية شيئا بربريا . وهكذا يكون جليا للكل أن هذا الأسلوب الغبي لا يمكن أن يستمر ، فالدولة الحديثة لا تستطيع أن تتحمل هكذا غباء . يجب أن نجمع ما بين الوطنية والذكاء كرة أخرى . وبما أننا نخوض حرب اليوم - وهي حرب من نوع خاص - قد يصبح هذا الاتحاد ممكنا .
-6-
إن إحدى أهم التطورات التي حدثت في انجلترا ، خلال العشرين سنة الماضية ، هي توسع الطبقة الوسطى . حدث هذا التطور بطريقة جعلت التصنيف القديم للمجتمع : إلى رأسماليين وبروليتاريا وبرجوازيين صغار ( أصحاب الأملاك الصغيرة ) ، ليس له أي معنى تقريبا .
نعم ، الأملاك والقوة الاقتصادية مُحتكرة ومُركزة في أيدي حفنة من الناس في انجلترا . والقليل من الناس من يملك حقيقة أي شيء ، إلا إذا استثنينا الملابس والأثاث – وفي بعض الأحيان بيت . ولقد اختفى الفلاحون منذ زمن بعيد ، وأصحاب الدكاكين المستقلين يسحقون أيضا ، وأعداد رجال الأعمال الصغار آخذة في الصغر – بيد أنه في نفس الوقت ، الصناعة الحديثة على درجة من التعقيد ، بحيث لا تستطيع الاستمرار من دون مدراء وباعة ، ومهندسين وكيميائيين وتقنيين ، في كل المجالات - وهؤلاء يأخذون أجورا عالية عامة . وهم بدورهم يستوجبون طبقة محترفة من الأطباء والمحامين والمدرسين والفنانين ...الخ . وبالتالي .. إن الرأسمالية تنزع نحو زيادة أعداد الطبقة الوسطى ، وليس القضاء عليها كما كان يعتقد في السابق .
ولكن الحقيقة الأهم من هذا ، هي انتشار أفكار وعادات الطبقة الوسطى في طبقة العمال . لقد أصبحت طبقة العمال تعيش واقعا أفضل – في شتى النواحي – مما كانت تعيشه قبل ثلاثين سنة . ويرجع بعض الفضل في هذا إلى جهود نقابة العمال .. ولكن بعضه يرجع إلى التقدم في العلوم الطبيعية فقط . فمما لا يُتنبه إليه عادة هو أن مستوى المعيشة قد يرتفع في بلد ما – في حدود ضيقة – من دون أي زيادة حقيقية في الأجور ، موازية لهذا التحسن . فكيفما كان النظام الاجتماعي جائرا ، تستطيع تطورات تقنية معينة أن ترتقي بالمجتمع كله .. حيث أن أنواعا معينة من السلع لا يمكن إلا أن تكون مشتركة في ما بين أفراد المجتمع : فالمليونير مثلا لا يستطيع أن ينير الشارع لنفسه ويترك باقي الناس في الظلام . في البلاد المتحضرة ينعم جميع المواطنين تقريبا بطرق جيدة ، ومياه نظيفة ، وحماية من الشرطة ، ومكتبات ومدارس مجانية – بطريقة أو بأخرى . ليست هناك رعاية اقتصادية جيدة في انجلترا للمدارس الحكومية ، نعم ، ولكنها في نفس الوقت تحسنت – وذلك بفضل المدرسين المخلصين أساسا – وأصبحت القراءة منتشرة بين أفراد المجتمع أكثر من ذي قبل . الفقراء والأغنياء – بشكل يتزايد يوما بعد يوم – صاروا يقرءون نفس الكتب ويشاهدون نفس الأفلام ويسمعون نفس البرامج الإذاعية . والاختلافات في الطريقة التي يعيشان بها تضاءلت أيضا ، من بعد ما أصبح إنتاج الملابس بالجملة ، وتطور الإسكان . فإذا ما تحدثنا على مستوى المظاهر على الأقل ، لوجدنا أن الفوارق بين ملبس الأغنياء والفقراء قد أصبحت أقل بكثير مما كانت عليه قبل 15 أو 30 سنة – وخصوصا فيما يخص النساء - . أما بالنسبة للإسكان ، فما زالت في انجلترا بعض الأحياء الفقيرة ، التي تعتبر مشينة في حق حضارتها ، بيد أنه من ناحية أخرى ، قامت أعمال بناء كثيرة خلال العشر سنين الماضية ، وبأمر من السلطات بشكل رئيس . إن المنازل الحكومية الحديثة – بحماماتها وأنوارها الكهربائية - أصغر بطبيعة الحال من (فلل) سماسرة الأسهم ، ولكنه من السهل ملاحظة أنهما من نفس النوع تقريبا – بينما كوخ الفلاح لا يمت لأي منهما بصلة . إن احتمال أن يعتنق من ترعرع في هذه المنازل الحكومية منظور الطبقة الوسطى ، أكبر من احتمال اعتناق الذي يعيش في الأحياء الفقيرة لها – وهذا هو المشاهد بالفعل . أما أثر هذا على المجتمع : فهو ( ليونة ) عامة في المسلك . وذلك لأن الأساليب الصناعية الحديثة ، تتطلب جهدا أقل ، فيجد العامل نفسه ما زال نشيطا لما يخرج من عمله .. الكثير ممن يعمل في الصناعات الخفيفة لا يمكن اعتبارهم عمالا يدويين فعلا ، إلا إذا اعتبرنا الأطباء وبائعي الخضرة عمالا يدويين أيضا . لقد بدأت الحدود بين طبقة العمال و الطبقة الوسطى في التلاشي ، من ناحية الذوق والعادات ، والمسلك والمنظور العام . بقي التقسيم الجائر للمجتمع ، بيد أن الاختلافات الحقيقية اختفت . ما زال البروليتاري القديم موجودا : ملتح ، مفتول العضلات من العمل اليدوي .. بيد أن أعداد أمثاله آخذة في التضاؤل – إذا استثنينا مناطق الصناعات الثقيلة في شمال انجلترا .
بدأ يظهر في انجلترا بعد عام 1918 شيء لم نشاهده من قبل : أناس لا ينتمون إلى أي طبقة معينة . لقد كان من الممكن في 1910 مثلا أن يُصنف أي شخص ، في لحظة ، من خلال ملبسه أو مسلكه أو لهجته . بيد أن الأمر ما عاد هكذا .. أو لم يعد الأمر هكذا في المدن الجديدة التي تطورت بسبب السيارات الرخيصة ، وانتقال الصناعة إلى الجنوب . يجب أن نبحث عن جرثومة ( انجلترا المستقبل ) في مناطق الصناعات الخفيفة ، وفيما حول الشوارع الرئيسية ... في ( سلوا ) و ( داجنهم ) و ( بارنت ) و ( لتشورث ) و ( هايز ) . بالفعل .. في كل مكان في أطراف المدن الكبيرة ، بدأ النظام القديم في التغير تدريجيا إلى شيء جديد . في غابات الزجاج والطوب الشاسعة الجديدة هذه ، لم تعد تقسيمات المدينة القديمة موجودة : (فلل) وأحياء فقيرة .. ولا تقسيمات الريف أيضا بقصوره الضخمة وأكواخه . ما زالت ثمة اختلافات شاسعة في الأجور ، لكن الناس يعيشون نفس المعيشة في مختلف الطبقات ، سواء كانت في شقق العمال ، أو في منازل الحكومة ، أو بمحاذاة شوارع الإسمنت ، أو في ديمقراطية المسابح العارية . إنها حياة قلقة ، خالية من الثقافة ، تدور حول : الطعام المعلب ، و( البكتشر بوست ) ، والراديو ، ومحركات الاحتراق الداخلي . إنها حضارة ينشأ الصغار فيها بمعرفة تامة عن المغناطيس ، وجهل تام بالإنجيل . إلى هذه الحضارة ينتمي كل من يجد نفسه في هذا العالم الحديث ويرتاح فيه : التقنيين ، والطيارين وميكانيكيهم ، و أخصاء الراديو ، ومنتجي الأفلام ، والصحفيين الشعبيين ، والكيميائيين الصناعيين .. كل أولائك يكونون تلك الكتلة الاجتماعية المبهمة ، التي بدأت تتضاءل فيها الاختلافات الطبقية القديمة .
ستقضي هذه الحرب على أكثر الامتيازات الطبقية الموجودة – هذا إن نحن لم نخسرها . فيوما بعد يوم بدأت تتضاءل أعداد من يرغبون فعلا في استمرار هذه الامتيازات . ولا يجب علينا أن نخشى فقدان الحياة الانجليزية نكهتها الخاصة ، إذا تغير النمط الذي نعيش به . ففي أيما شكل تخرج به انجلترا من هذه الحرب ، ستبقى حتما مُشرّبة بالخصائص التي تكلمت عنها . ولسوف يخيب أمل المثقفين الذين أرادوا أن تصبح انجلترا ( روسية ) أو ( ألمانية ) . سوف تبقى الوداعة ويبقى النفاق والسفه ، واحترام القانون ، وكره البدلات الرسمية ، وستظل أيضا الحلوى المصنوعة من الدقيق والشحم ، والضباب الذي يلبد السماء . لابد أن تحصل كارثة عظيمة جدا – كاحتلال أجنبي طويل – لتدمَّر ثقافة وطنية ... ستُغلق بورصة الأسهم ، وستستبدل المحاريث بالجرارات الحديثة ، وستتحول المنازل الريفية إلى مخيمات يقضي فيها الصغار عطلهم – بيد أن انجلترا ستظل انجلترا : حيوان أبدي يتمدد من الماضي إلى الحاضر .. وككل شيء حي في هذا العالم : ستكون لديها القدرة على أن تتغير حتى لا تُعرف ملامحها السابقة ، وفي نفس الوقت تبقى كما هي .
--------------
( الجزء الثاني : أصحاب دكاكين في خضم حرب )
-1-
بدأت هذا الكتاب على إيقاع غارات ألمانية ، وسأبدأ الفصل الثاني منه على نغم قصف مدفعي مرافق لها . يضيء الوميضُ الأصفرُ السماءَ ، وتتساقط الشظايا على أسقف المنازل ، وجسر لندن يهوي .. يهوي ( كما في أغنية الأطفال المشهورة ) . تكفي نظرة واحدة على خارطة العالم لمعرفة أننا في خطر عظيم . وليس قصدي أننا هزمنا . فعلى الأغلب : إرادتنا نحن هي التي ستحدد نتيجة الحرب . ولكني أعني أننا في هذه اللحظة في موقف مصيري خطير ، والسبب أننا ما زلنا – حتى الآن - نرتكب حماقات ، ستدمرنا حتما إن نحن لم نصلح أحوالنا بسرعة .
لقد وضحت لنا الحرب أن الرأسمالية : ( كنظام اقتصادي فيه الأراضي والمصانع والمناجم والمواصلات ملكيات خاصة ، هدفها الوحيد در الأرباح ) – لا تصلح .. لا تجلب النتائج المرجوة . كانت هذه الحقيقة معروفة لدى الملايين في السنوات الماضية ، بيد أن هذه المعرفة لم تترجم على أرض الواقع ، حيث أنه لم تكن هناك رغبة ، أو دافع ، من
( الأسفل ) : الطبقات الدنيا ، لتغيير النظام .. كما أن النخبة الحاكمة دربت نفسها على التحصّن بالغباء ، من هذه النقطة بالتحديد . ولم ينفع معهم لا الجدل ولا البروباجاندا . لقد جلس لوردات الأراضي على مؤخراتهم ، وأعلنوا أن كل شيء على ما يرام . بيد أن غزو هتلر لأوروبا ، كشف زيف الرأسمالية ( كشفا ماديا ) . إن الحرب – بالرغم من كل مساوئها – تعتبر مقياسا لا جدال فيه للقوة : ( كالألعاب التي تختبر قدرتك على التمسك بها ، بينما تتحرك هي بكل عنف : ومن كان عظيم القوة يتمكن من التشبث بها ، ويحصل على القروش التي أدخلها ... ولا مجال للغش هنا ) .
كان هناك جدل وخصام أول ما اخترعت المراوح للقوارب : أيهما أفضل : قارب يستعمل المراوح أم قارب بمجداف ؟ فكان للطريقة البالية من ينتصر إليها – كمثلها من الأشياء البالية – ويرى أنها الأحسن . على أية حال ، أتى أدميرال مرموق وحل الموضوع : فأجرى سباقا بين الاثنين . لقد حصل شيء شبيه بهذا في ميادين القتال في ( نورواي ) و
( فلاندرز ) . لقد ثبت ، بما لا يدع أي مجال للشك ، أن الاقتصاد المخطط ، أقوى من الاقتصاد الحر الذي يضرب في الدرب بلا هداية . وهنا يجب أن نعرّف – بطريقة أو بأخرى – تلك الكلمات التي أسيء استخدامها : أي الاشتراكية والفاشية .
تُعرّف الاشتراكية عادة على أنها : ( الملكية العامة لسبل الإنتاج ) . وبشكل مبسط هي : نظام سياسي فيه الدولة – التي تمثل الشعب طبعا – تمتلك كل شيء ، وكل الناس موظفين لديها . وهذا لا يعني أن الشعب قد جُرّد من ملكيته الخاصة ، من ملابس وأثاث ، بل أن السلع الإنتاجية مثل الأراضي والمناجم والسفن والآلات ، ملك للدولة . فتكون الدولة هي الجهة الوحيدة المعنية بالإنتاج على نطاق ضخم . وليس مما يُجزم به أن الاشتراكية أفضل من الرأسمالية في شتى النواحي ، ولكن ما نؤكد عليه هو أن باستطاعة الاشتراكية حل مشاكل لم تستطع الرأسمالية حلها : مثل الإنتاج والاستهلاك . ففي الأوقات العادية ، لا يستطيع أي اقتصاد رأسمالي أن يستهلك كل ما ينتجه ، والنتيجة الحتمية هي أن الزيادة في الإنتاج ستذهب هدرا دائما ( حرق القمح الزائد .. ورمي السمك في البحر ) .. هذا بالإضافة إلى بطالة مستمرة . ومن جهة أخرى ، يجد الاقتصاد الرأسمالي صعوبة ، في أوقات الحرب ، في إنتاج كل ما يحتاج إليه : لأن الإنتاج مرتبط بالأرباح ، فإن لم يكن هناك ربح لن يكون هناك من ينتج . هذه المشاكل غير موجودة في الاقتصاد الاشتراكي . فالدولة الاشتراكية تحسب ببساطة أي السلع تحتاج ، ثم تقوم بأفضل ما في وسعها لكي تنتجها ، ولا حدود للإنتاج إلا كمية العمل والمواد الخام . وبالتالي لا يصبح المال – في الأهداف الداخلية – ذاك الشيء الغامض الجبار ، الذي نراه في المجتمعات الرأسمالية ، وإنما يصير مثل قسائم الطعام ، أو بمثابة بطاقات توزع بكميات كافية لشراء السلع الاستهلاكية المتوفرة حاليا .
غير أنه أصبح من الواضح خلال بضع السنوات الماضية ، أن ( الملكية العامة لسبل الإنتاج ) ، ليس تعريفا وافيا للاشتراكية – كما هو - . يجب أن نضيف إلى التعريف التالي : المساواة في الأجور ، بشكل تقريبي - ولا يجب أن يكون الأمر أكثر من ذلك - والديمقراطية السياسية ، وإلغاء جميع الامتيازات الوراثية – خصوصا في التعليم . هذه ببساطة هي الشروط الضرورية لوقاية أي مجتمع من ظاهرة النظام الطبقي . فالملكية المركزية لن تعني الكثير إذا كان هناك تفاوتا شاسعا في الأجور بين الناس ، ولم يكن لدى الشعب أدنى درجة من السيطرة على الحكومة . فـقد لا يصبح لـ ( الدولة ) أي معنى إلا كونها حزبا محتلا للحكم ، فتعود النخبة الحاكمة أو ( الأولجاركية ) ، وترجع الامتيازات .. وهذه المرة على أساس القوة بدلا من المال .
فما هو معنى الفاشية إذا ؟
الفاشية – أو الفاشية الألمانية – هي نوع من أنواع الرأسمالية .. فهي أخذت أو استعارت من الاشتراكية الخصائص التي تمكنها من أن تكون فعالة في الحرب فقط . تشبه ألمانيا في الداخل أي دولة اشتراكية ، لكن الملكية الخاصة لم تلغى فيها : أي أنه ما زال فيها رأسماليون وعمال . ثم إن السبب – وهذه هي النقطة المهمة – من وراء تعاطف الأثرياء من حول العالم مع الفاشية – أو لنقل قابليتهم للتعاطف معها – عموما ، هو أن المجتمع الألماني بقي كما كان قبل الثورة النازية ، مقسما إلى رأسماليين وعمال . وفي نفس الوقت تسيطر ( الدولة ) – وهي في الواقع الحزب النازي – على كل شيء . تتحكم ( الدولة ) بالاستثمارات ، والمواد الخام ، ومعدلات الفائدة ، وساعات العمل والأجور . ما زال مالك المصنع يمتلك مصنعه ، بيد أنه – لأسباب عملية – يعتبر مجرد مدير فيه . الجميع في الدولة الفاشية موظفو دولة – لكن الأجور تتفاوت طبعا . إن فعالية نظام كهذا – يزيل التبذير ويتخلص من العقبات – جلية جدا . فلقد شيد في سبع سنين أعتى آلة حرب عرفها العالم .
ولكن فكرة الفاشية الأساسية تختلف وتتعارض مع فكرة الاشتراكية الجوهرية . فالأخيرة تهدف إلى الوصول إلى دولة عالمية ، تتكون من أحرار متساوين فيما بينهم . فالمساواة في حقوق الإنسان هي من مسلمات الاشتراكية .. والفاشية تذهب إلى عكس ذلك تماما . إن جوهر الحركة النازية هو الاعتقاد بأن البشر غير متساوين .. العرق الألماني متفوق على جميع الأعراق الأخرى : ( حق ألمانيا في أن تحكم العالم ) .. ألمانيا فوق الجميع . ولقد ( أثبت ) بروفسورات نازيون مرموقون – مرات ومرات – أن الرجل النوردي وحده هو الإنسان الكامل .. وقالوا أن غير النورديين – أمثالنا نحن - يستطيعون التزاوج مع القردة ! فيصبح من الواضح أنه بالرغم من وجود نوع من ( الاشتراكية – الحربية ) في ألمانيا ، إلا أن موقفها من الشعوب المستعمَرة هو موقف استغلالي بحت . فوظيفة التشيكيين والبولنديين والفرنسيين هي ببساطة : إنتاج السلع التي تحتاجها ألمانيا ، وفي المقابل تعطيهم حد الكفاف .. أو الحد الذي يكفّهم عن الثورة العلنية . وإذا اجتاح هتلر انجلترا : ستكون وظيفتنا إنتاج أسلحة له في حروبه المقبلة مع أمريكا وروسيا . فالنازيون فعلا يريدون قيام نوع من النظام الطبقي ، يشبه التقسيم الهندوسي للمجتمع بطبقاته الأربع : في القمة الحزب النازي طبعا ، ثم الشعب الألماني ، ثم أوروبا المستعمرة ، وفي المرتبة الرابعة والأخيرة تأتي الشعوب الملونة – أنصاف القردة كما كان يسميهم هتلر – والتي ستستعبد صراحة .
وهو نظام فعال – بغض النظر كم هو بشع بالنسبة لنا . هو نظام ناجع لأن له هدفا معينا : استعمار العالم ، وعدم السماح لأي مصلحة خاصة – للرأسماليين أو العمال على حد سواء – أن تقف في الطريق . أما الرأسمالية البريطانية فهي ليست فعالة ، والسبب هو تلك المنافسة التي في أصل نظامها : حيث الربح الخاص هو الهدف الأساسي . إنه نظام كل القوى فيه تشد وتجذب في اتجاهات متضادة ، ومصالح الفرد تتعارض في الأغلب مع مصالح الدولة تماما .
فما استطاعت الرأسمالية البريطانية ، خلال السنوات الحرجة ، أن تتحمل وطأة الاستعداد لحرب ، مع أنها تمتلك مجمعات صناعية ضخمة ، ويتوفر لديها أيدي عاملة لا مثيل لها . فللاستعداد للحروب الحديثة يجب على الدولة تحويل الجزء الأكبر من الدخل الوطني إلى التسلح ، وهو ما يعني الاقتصاد في إنتاج السلع الاستهلاكية . فقاذفة القنابل مثلا يعادل سعرها سعر خمسين سيارة صغيرة ، أو مليون رغيف خبز . فمن الجلي أنك لا تستطيع الحصول على الكثير من القاذفات ، من دون خفض مستوى المعيشة الوطنية . ( المسدسات أو الزبدة : كما قال المارشال جورنج ) . بيد أن هذا التغيير في الأوليات لم يكن ممكنا في انجلترا أيام ( تشامبرلن ) . لم يتقبل الأثرياء خفض مستوى المعيشة الضروري . وإذا كانوا هم يعيشون في رخاء ظاهر للكل ، لا يمكن فرض ضرائب عالية على الفقراء . بالإضافة إلى أنه ، لما كان الربح هو هدف المصنع الأساسي ، لم يتشجع الصناع للتحوّل من تصنيع السلع الاستهلاكية ، إلى تصنيع الأسلحة الحربية. فولاء رجال الأعمال إلى المساهمين أولا . ( قد تكون انجلترا في حاجة إلى دبابات ، ولكن صناعة السيارات تدر ربحا أكثر ) !
لا شك أنه من الواجب منع وصول المواد الخام ، التي تستخدم في صناعة الأسلحة ، إلى العدو – بيد أن ( الواجب ) في المنطق التجاري هو البيع بأعلى سعر . حتى أواخر سنة 1939 كان التجار البريطانيون يتدافعون ويتهافتون – في شغف – لبيع المطاط والنحاس ، والقصدير والصمغ ، إلى ألمانيا – هذا وهم على علم أكيد بأن الحرب ستندلع بعد أسبوع أو اثنين . وكأنهم يبيعون أمواسا لمن يريد قتلهم – ولكنها تجارة مربحة .
وانظر الآن إلى النتائج : كان معروفا بالطبع بعد 1934 أن ألمانيا قد عادت تتسلح ، وبعد عام 1936 عرف الجميع أن الحرب قادمة لا محالة – إلا من كان أعمى . ثم بعد ميونخ لم يكن هناك إلا سؤالا واحدا : متى الحرب ؟ واندلعت الحرب في سبتمبر 1939 . فـ ( اُكتشف ) بعد ثمانية شهور كاملة ، أنه فيما يتعلق بالمعدات الحربية ، كانت انجلترا بالكاد تفوق مستوى تسلحها عام 1918 . لقد شاهدنا جنودنا يشقون طريقهم – في وضع ميئوس منه – إلى الساحل : بطائرة واحدة فقط في مواجهة ثلاثة للعدو ، وببنادق ضد دبابات ، و بـ ( بايونتات ) ضد رشاشات . لم تستطع بريطانيا أن توفر حتى العدد الكافي من المسدسات لضباطهم . وبعد سنة من الحرب ، ما زال الجيش النظامي يحتاج إلى ثلاثمائة ألف قبعة حديدية للجنود . وكان هناك في الماضي نقص في البدلات العسكرية أيضا : هذا في دولة من إحدى أعظم الدول المنتجة للصوف في العالم !
إن الذي حدث هو أن الطبقة الثرية لم ترغب في تغيير طريقة معيشتها ، فتجاهلت طبيعة الفاشية والحروب الحديثة . وفي هذه الأثناء كانت الصحافة تغذي الرأي العام تفاؤلا كاذبا – فهي في نهاية المطاف تعيش على الإعلانات ، وبالتالي من مصلحتها أن تبقي الأجواء التجارية طبيعية . أكدت لنا صحافة الـ ( بيفر – بروك ) عاما تلو الآخر أن الحرب لن تندلع .. وإلى سنة 1939 كان اللورد ( روذمير ) ما زال يقول أن هتلر ( جنتلمن ) عظيم . بينا ذاك كانت انجلترا في كارثة : كان ينقصها كل شيء في المعدات العسكرية – إلا السفن .. بيد أنه لم يكن هناك أي نقص يذكر من السيارات ، أو معاطف الفرو ، أو ( الجرامافونات ) ، أو ( الروج ) ، أو الشوكولاته . هل هناك من يجرؤ بعد ذلك ، أن يزعم أن لعبة شد الحبل ما بين المصلحة الخاصة ( الربح ) ، والمصلحة العامة ، ليست مستمرة ؟ يجب على انجلترا أن تقاتل حتى تدافع عن حياتها ، والتجارة يجب أن تقاتل لتجني أرباحها . في كل مرة أفتح الجريدة أجد هاتين العمليتين المتناقضتين تحدثان جنبا إلى جنب : في نفس الصفحة تجد الحكومة تحث المواطنين على الاقتصاد ، وتجد المعلن أيضا يغريك بإحدى السلع الرفاهية غير الضرورية : ( تبرع لكي ندافع عن انجلترا .... اشرب بيرة ( جِنِس ) ) !
بيد أن أمرا واحد يبعث بعض الأمل : وهو أن ثمة تغير جلي في الرأي العام . إن نحن انتصرنا في هذه الحرب : ستكون هزيمة ( فلاندرز ) إحدى أعظم لحظات التحول في التاريخ الانجليزي . فبعد تلك الهزيمة النكراء ، استطاعت طبقة العمال ، والطبقة الوسطى – وجزء من المجتمع التجاري أيضا – مشاهدة فساد الرأسمالية المدقع بأعينهم . لم تكن قضية الرأسمالية أمرا مفروغا منه ، قبل ( فلاندرز ) ، في انجلترا . فروسيا – وهي الدولة الاشتراكية الحقيقية الوحيدة - متخلفة .. كما أنها بعيدة جدا . كل نقد للرأسمالية ، في انجلترا ، كان يقمع من قبل المصرفيين - ذوي وجوه مصائد الفئران - وسماسرة الأسهم : ( الاشتراكية ؟ .. ها ها ها ! .. ومن أين تأتي النقود ؟ .. ها ها ها ! ) كان الأسياد في موقف آمن ، وكانوا على علم بذلك أيضا . بيد أنه بعدما انهارت فرنسا ، وجدوا شيئا لا يمكن التخلص منه بالسخرية والضحك : شيئا لا ينفع معه لا دفتر الشيكات ، ولا الشرطي : ألا وهو القصف . سوووووو .... بوووووم .. ما هذا ؟ مجرد قنبلة على بورصة الأسهم . على أية حال ، سيذكر اسم هتلر في التاريخ ، على أنه من جعل الجزء الخاطئ من لندن يضحك . فلأول مرة أصبح المرتاح غير مرتاح ، واضطر المتفائل ( المحترف ) ، إلى الاعتراف بأن ثمة خطب ما . ومنذ ذلك الوقت أصبح من السهل – أكثر من السابق – إقناع من جُهّل واستُغفل ( بالبروباجاندا ) ، أن الاقتصاد الهادف المخطط له ، قد يكون أفضل من قانون الغاب هذا ، الذي يربح فيه أسوء الناس - أو لنقل أن المهمة لم تمس كريهة كما كانت.
-2-
ليس الفرق بين الاشتراكية والرأسمالية – في الأساس – فرقا في الأسلوب فقط . فليس بالإمكان استبدال نظام بآخر بهذه البساطة ، كما لو كان الأمر استبدال آلة في مصنع .. ثم يعود العمل كما كان ، ويبقى نفس الناس في مناصب السلطة. فمن الواضح أن الأمر يحتاج إلى تغيير في مراكز القوة في المجتمع أيضا . نحن نحتاج إلى دماء جديدة ، ورجال جدد ، وأفكار جديدة : ثورة بكل معنى الكلمة .
لقد تكلمت في السابق عن وحدة انجلترا وتجانسها ، وعن الوطنية التي تربط جميع طبقات المجتمع – تقريبا - بعضها ببعض . كل الناس كانت تعرف هذا بعد ( دنكرك ) . بيد أنه يكون من الغباء التظاهر ، بأن ما كنّا نؤمله من هذه المعرفة ، قد تحقق بالفعل على أرض الواقع . نعم .. يكاد يكون جميع الناس جاهزين للتغييرات الشاسعة ، التي يجب أن تحصل ، ولكن هذه التغييرات لم يُشرع بعد في تطبيقها ، حتى الآن .
إن انجلترا شبيهة بعائلة يحكمها من لا يجب أن يحكمها . فنحن نكاد نكون تحت حكم وسيطرة الأثرياء بالكامل .. تحت إمرة من يرثون المناصب وراثة . أعتقد أن القليل فقط من هؤلاء ، من يعتبر خائنا حقا عن وعي – هذا إن كان بينهم فعلا خونة - .. وأعتقد أيضا أن من بينهم من لا يمكن وصفه بالغباء .. بيد أنهم ( كطبقة ) ليس عندهم القدرة على قيادتنا إلى النصر . وما كانوا ليستطيعون قيادتنا إلى النصر أيضا ، حتى لو لم تعيقهم مصالحهم المادية . كما أسلفت آنفا ، هؤلاء قوم أغبياء ( صناعيا ) : أي أنهم جُهّلوا . بمعزل عن كل شيء ، سيسعى حكم المال إلى تقليد السلطة إلى العجائز : أي أن المجتمع سيحكمه من لا يستطيع الإلمام بحقيقة أي عصر يعيش فيه ، ولا بطبيعة الخصم الذي يحاربه . لم يكن هناك في بداية هذه الحرب ، منظرا أشد كآبة ، من مظهر الجيل القديم ، وهو يتظاهر أن الحرب التي نخوضها اليوم ، هي حرب 1914-1918 . عاد كل العجائز ، الذين لا فائدة ترجى منهم ، إلى وظائفهم – بعد أن شاخوا عشرين سنة طبعا - والعظام بارزة في وجوههم . فشجع ( إيان هاي ) الجنود ، وكتب ( بلوك ) مقالاته ، وتحدث
( مروا ) في الإذاعة ، ورسم ( بايرنفاذر ) كارتوناته – كأنها حفلة أشباح - . والوضع بالكاد تغير ، إلى الآن . جلبت فجيعة الكارثة بضع رجال أكفاء إلى الجبهة مثل ( بفن ) ، بيد أنه ما زال يقودنا – بشكل عام – رجال استطاعوا أن يعيشوا خلال سنوات 1931-1939 ، من غير اكتشاف أن هتلر رجل خطير . إن جيلا بليدا يزين أعناقنا كقلادة من الجثث .
كلما فكر المرء بأي مشكلة من مشاكل هذه الحرب – ولا فرق إن كان التفكر في الأمور الإستراتيجية ، أو في أصغر شؤون التجهيزات الداخلية – سيجد أن الذي يجب علينا القيام به حقيقة ، لا يمكن أن يتم بينما النظام أو الهيكل الاجتماعي في انجلترا باق كما هو . والطبقة الحاكمة – بحكم منصبها وتربيتها – حتما ستقاتل للحفاظ على امتيازاتها ، التي لا يمكن أن تتصالح أو تتوافق مع المصلحة العامة بتاتا . من الخطأ تصور أن الأهداف الحربية ، والاستراتيجيات ، والبروباجاندا ، والتنظيم الصناعي ، أمورا لا علاقة بين بعضها البعض ، بل على العكس تماما ، هي مترابطة و متداخلة . أي خطة إستراتيجية ، أو طريقة تكتيكية ، أو حتى أي سلاح ، في العالم ، سيكون حتما مطبوعا بطابع النظام الاجتماعي الذي خلقه .
إن الطبقة الحاكمة الانجليزية تحارب هتلر – مع أنها كانت دوما تعتقد أنه هو الذي سيحميها من البلشفية ، وبعضهم ما فتئ إلى الآن يتخيل ذلك . هذا لا يعني أن الطبقة الحاكمة سترتكب خيانة عمدا ، بل أن احتمال أن يختاروا الاختيارات الخاطئة في كل لحظة حرجة ، كبير جدا .
وقد استمرت أخطاء الطبقة الحاكمة منذ عام 1931 ، إلى أن جاءت حكومة تشرشل لتضع حدا – نوعا ما – لتلك الغريزة الخطاءة . فلقد ساعدوا في السابق الجنرال فرانكو للإطاحة بالحكومة الأسبانية ، مع أن أي عاقل كان قال لهم ، أنه إذا أصبحت أسبانيا دولة فاشية ، ستكون حتما عدوة لانجلترا . كما أنهم أمدوا إيطاليا بمواد أساسية في الحرب ، طوال شتاء 1939-1940 - بالرغم من أنه كان واضحا للعالم أجمع أن الإيطاليين سيهاجموننا في الربيع . إن هذه الطبقة ستجعل الهند تتحول من حليف إلى عدو من أجل بضع مئة ألف مساهم .
بالإضافة إلى ذلك ، لا يمكننا تطوير أي إستراتيجية هجومية ، طالما بقيت الطبقة الثرية تسيطر على البلد . فأي انتصار لنا في هذه الحرب ، سيعني حتما تغيرا في الوضع الراهن .
كيف نطرد الإيطاليين من الحبشة ، من غير استثارة وتهييج مشاعر الشعوب الملونة في إمبراطوريتنا نحن ؟ كيف ندمر هتلر ، وفي نفس الوقت نمنع وصول الاشتراكية الألمانية والشيوعية إلى سدة الحكم ؟ إن اليساريين الذين يولولون ، ويقولون أن هذه الحرب حرب رأسمالية ، وأن الإمبريالية البريطانية تحارب الآن لتحصل على غنائم جديدة لها – لا يعرفون عمّ يتحدثون . فآخر شيء تريده الطبقة الحاكمة الآن هو الحصول على مستعمرات جديدة . فـالهدف من خوضها الحرب – وهو هدف لا يذكر ، ولا سبيل إلى تحقيقه أيضا – هو التمسك ، ببساطة ، بما لديهم .
ما تزال انجلترا – داخليا – جنة للأثرياء . وكل كلام عن ( التضحية ) كلام فارغ ، لأن الفقراء فقط هم الذين يضحون . ففي نفس الوقت الذي يطالب فيه العمال بتحمل ساعات عمل أطول ، يعلن التجار عن مختلف السلع الرفاهية . يجوع ويُشرد الفقراء الذين دُمّرت منازلهم من جراء القصف ، بينما ( الضحايا ) الأثرياء يركبون سيارتهم ، وبكل بساطة يفرون إلى منازلهم الريفية . في بضع أسابيع أصبح تعداد جيش الدفاع المحلي مليون جندي ، بيد أن تنظيمه – الذي جاء من ( الأعلى ) – مخصص لكي يحتل الأثرياء فقط مراكز القيادة فيه . وتوزيع حصص الغذاء أيضا ، يجعل الفقراء فقط يقاسون من التقشف ، بينما يعيش من يأخذون 2000 باوندا في السنة – عمليا – غير متأثرين
( بالتضحية ) . في ظروف مثل هذه ، حتى البروباجاندا يصبح لا فائدة منها . نشرت حكومة ( تشامبرلن )
( بوسترات ) حمراء ، كمحاولة لإثارة الشعور الوطني ، وقد انتشرت بالفعل بين الشعب . لكنها لم تكن أكثر من
( بوسترات ) . فـكيف يمكن لـ ( تشامبرلن ) وأتباعه المجازفة بتأليب مشاعر الناس على الفاشية ؟ أي شخص معاد للفاشية بصدق ، يجب عليه أن يكون معاديا لـ ( تشامبرلن ) نفسه ، ولكل الذين ساعدوا هتلر على الوصول إلى السلطة أيضا . وهكذا الأمر فيما يخص البروباجاندا الخارجية أيضا . فليس في خطب اللورد ( هايلفاكس ) أي اقتراح عملي ملموس ، يحث أي أوروبي بالتضحية بإصبع رجله الصغير . فما هدف ( هايلفاكس ) في هذه الحرب ؟ - غير عودة الزمن إلى عام 1933 .
لن تتحرر العبقرية الانجليزية الأصلية إلا بثورة . والثورة لا تعني بالضرورة أعلاما حمراء ، وقتالا في الشوارع ، بل تعني تغيير أساسيا في مركز القوة . أما مسألة كونها دموية أو سلمية ، فهذا مرده على الأغلب إلى صدفة المكان والزمان
فقط . كما أن الثورة لا يجب أن تعني دكتاتورية طبقة معينة . فالناس الذين يعون حقا ما هي التغييرات اللازمة – وهم قادرين على القيام بها – غير محصورين في طبقة معينة .. ( ولكنه من الصحيح أن أعداد من يجنون 2000 باوندا في السنة ستكون قليلة من بينهم ) . إن المبتغى هو ثورة مفتوحة واعية ، يقوم بها ناس عاديون : ضد عدم الكفاءة والعجز ، والامتيازات الطبقية ، واستبداد العجائز بالحكم . كما أن الأمر ليس بالأساس يتعلق بمسألة تغيير الحكومة . فالحكومات البريطانية – بشكل عام – تمثل إرادة الشعب فعلا .. فإذا غيرنا نظامنا أو هيكلنا من ( الأسفل ) سنحظى بالحكومة التي نريد . السفراء والجنرالات ، والمسؤولون القائمين على المستعمرات ، إذا كانوا مخرفين أو مناصرين للفاشية ، سيكونون أكثر خطرا على البلد ، من الوزراء الذين يرتكبون أخطاءهم على الملأ ، بحكم منصبهم . يجب علينا مقاتلة الامتيازات في كل مظهر من مظاهر الحياة الوطنية .. مقاتلة المفهوم العام : أن طالب المدرسة الحكومية البليد ، أصلح لقيادة البلد من ميكانيكي لبيب . لا بد من التخلص من قبضة الطبقة الثرية – مع أن من بينهم أفرادا موهوبين وصادقين . يجب أن تأخذ انجلترا شكلها الحقيقي . على انجلترا أن تمسك بزمام الأمور : انجلترا التي تحت ( السطح ) مباشرة : التي في المصانع ، ومكاتب الصحف ، والطائرات والغواصات .
إن موضوع المساواة في التضحية أو ( الشيوعية الحربية ) – على المدى القصير – أهم بكثير من التغييرات الاقتصادية الجذرية . فتأميم الصناعة أمر ضروري طبعا ، بيد أن الضرورة الأكثر إلحاحا هي اختفاء مظاهر بشعة مثل ( البتلر ) والدخل الخاص ، فورا . إن سبب صمود الجمهورية الأسبانية الرئيس – في قتالهم لسنتين ونصف السنة في ظروف يائسة – هو غالبا أنه لم تكن هناك فروقا واسعة بين مواطنيهم في الثورة . فلقد عانى الشعب معاناة فظيعة ، ولكن الكل كان متساو في درجة المعاناة : فعندما لم يجد الجندي سيجارة يدخنها ، لم يجد الجنرال أيضا ما يدخنه . وإذا تحققت المساواة في التضحية في انجلترا ، قد تظهر فيها هي أيضا روح معنوية لا تقهر . في الوقت الحاضر ، لا ملجأ لنا إلا الوطنية التقليدية – العميقة هنا أكثر من أي مكان آخر - .. لكنها أيضا ليست بئرا لا ينضب ماؤه . ففي مرحلة ما يجب أن تتصرف مع من يقول ( لن يكون وضعنا أسوء تحت هتلر ) .. ولكن كيف تجاوبه الآن – جوابا تتوقع أن يتقبله – بينما الجنود يجازفون بحياتهم مقابل باوندين وست بنسات ، والنساء السمينات يتبخترن برولزرويساتهم ، وكلابهم الصينية ؟
من المحتمل جدا أن تستمر هذه الحرب ثلاث سنين . وهذا يعني جهد قاس في العمل ، وشتاءات باردة مملة ، وطعام بلا طعم ، وفقدان التسلية ، وقصف مستمر . لا يمكن للحرب إلا أن تخفض مستوى المعيشة العام : فجوهر العمل الحربي هو صناعة الأسلحة الحربية عوضا عن السلع الاستهلاكية . وطبقات العمال طبعا هي التي ستعاني الأمرين . ومن الممكن أن يصمدوا بغير حدود ، شرط أن يعرفوا ( لماذا ؟ ) يضحون ويقاتلون . العمال ليسوا جبناء ، وليس تفكيرهم
( دولي ) . ويستطيعون الصمود كما صمد عمال أسبانيا وأكثر . بيد أنه يجب أن يبعث فيهم أملا من نوع ما .. أمل في أن يحيوا هم وأطفالهم حياة أفضل من هذه في المستقبل . والسبيل الوحيد إلى ذلك هو أن يروا بأعينهم كيف يعاني الأثرياء من الضرائب ، والعمل القاسي أيضا ، كما هم يعانون . وكلما كان عويل الأثرياء أوضح ، كان ذلك أفضل وأحسن .
يمكننا تحقيق هذه المكاسب لو أردنا ذلك . ليس صحيحا أن الرأي العام في انجلترا لا يملك أي قوة . في كل مرة ظهر فيها صوت الرأي العام ، حقق مكاسب . فهو المسؤول عن أكثر التحسينات التي طرأت في الست شهور الماضية . ولكننا لا نتعلم إلا من المصائب . كان يجب أن تنهار فرنسا ، لكي نزيح ( تشامبرلن ) ، وكان على أحياء الفقراء والأجانب في شرق لندن أن تدمر ، حتى نتخلص – أو نتخلص جزئيا – من السر ( جون آندرسن ) . نحن نقاتل ذكاء شريرا سريعا ، والوقت يمضي ويلح و
( قد يرثي التاريخُ المهزوم َ ، بيد أنه للأسف لن يساعده أو يسامحه )
- 3-
كثر الحديث في الست شهور الماضية عن طابور خامس . وبين كل فينة والأخرى نسمع عن مجنون سكران ، يُسجن لأنه كان يخطب خطبا مناصرة لهتلر في مكان ما . وأعداد كبيرة من اللاجئين الألمان يمنعون من دخول انجلترا ، وهو أمر – من المؤكد – سيضر بمصالحنا في أوروبا . بيد أنه من الغباء أن نتوقع ظهور جيش منظم فجأة في شوارع لندن – كما حدث في هولندا وبلجيكا . ومع ذلك .. ما زال هناك خطر من طابور خامس ما . وليس يمكن إدراك حقيقة هذا الخطر ، إلا إذا سألنا أنفسنا : بأي شكل من الأشكال تُهزم انجلترا ؟
إن حسم هذه الحرب بالقصف الجوي وحده أمر مستبعد . قد تُغزا وتُستعمر انجلترا – هذا احتمال وارد – بيد أن هذا الغزو سيكون مجازفة خطرة . فإذا فشل : ستكون النتيجة أن نصبح أكثر اتحادا من ذي قبل ، ... بالإضافة إلى ذلك : إذا اجتاحتنا قوات أجنبية ، سيفهم الشعب الانجليزي أنه انهزم في الحرب ، وبالتالي يكون خياره الوحيد استئناف
النضال . فاحتمال أن يخضع الشعب الانجليزي خضوعا تاما احتمال ضعيف .. ولا أعتقد أن هتلر يريد جيشا من مليون جندي متمركز في جزرنا . صحيح أنه لا يمكن إجبار الانجليز على الاستسلام ، بيد أنهم قد يملون فيستسلمون .. أو يخدعون ، فيستسلمون دون معرفة ذلك . فاحتمال استسلام انجلترا يكون أكبر في حالة أدائها أداء مقبولا في الحرب ، مما لو كانت تخسرها ( حيث أن الخسارة ستكون حافزا للنضال ) . ونبرة التهديد والوعيد التي تنتهجها البروباجاندا الألمانية والإيطالية : خطأ سيكولوجي تكتيكي : فهي لا تؤثر إلا على المثقفين . أما رأي عامة الناس في الحرب فهو :
( أنهوا الحرب ، وخلاص تعادل ) .
وعندما يطرح ( السلام ) على أساس الاستسلام وليس السلام ، حينها ستسمع أصوات مناصري الفاشية .
ولكن من هم مناصرو الفاشية ؟ إن فكرة انتصار هتلر في الحرب تعجب : الأثرياء جدا ، والشيوعيين ، وأتباع
( موزلي ) ، وأولئك الذين يأخذون السلام عقيدة لهم لا يحيدون عنها ، وأقسام معينة من الكاثوليك . وإذا ازداد الوضع سوءا على الجبهة الوطنية سنضيف إليهم الطبقات الأكثر فقرا في طبقة العمال : الذين سيصبح موقفهم موقفا انهزاميا – بيد أنهم لن يكونوا – عمليا – مناصرين لهتلر .
يمكن رؤية جسارة أو جرأة البروباجاندا الألمانية : من اعتقادها أنه بإمكانها توفير كل شيء لكل الناس – فهي تستهدف القائمة المتنوعة التي ذكرتها آنفا . بيد أن هؤلاء لا يتصرفون كجماعة واحدة معا عن قصد و بوعي .. ثم إن كلا منهم يشتغل بطريقة مختلفة عن الآخر .
من الأكيد أن الشيوعي سيكون مناصرا لهتلر - وسيبقى موقفه هكذا إلى أن تتغير السياسة الروسية - وعلى أية حال ، ليس للشيوعيين ذاك التأثير في انجلترا . أما أتباع ( موزلي ) ، فمع أنهم يعملون خفية الآن ، إلا أنهم أخطر بكثير من الشيوعيين ، ربما لأنهم على صلة بالقوات المسلحة – بيد أن أعداد أتباعه لا تتعدى الـ 50000 في أحسن
الحالات . وأما أصحاب عقيدة السلام : فمذهبهم ظاهرة سيكولوجية غريبة ، أكثر من كونها حركة سياسية . بعض المتشددين منهم يبدءون بنبذ تام للعنف ، ثم ينتهون بتأييد تام لهتلر .. وشيء من العداء للسامية أيضا . وهي ظاهرة مثيرة للاهتمام بيد أنها غير مهمة . إن مذهب ( السلام فقط ) – وهو نتيجة من نتائج كوننا قوة بحرية - لا يجذب إلا من كان ينعم في أمن واطمئنان . بالإضافة إلى أنه مذهب سلبي ، غير مسؤول ، ولا يحفز على التضحية : أقل من 15% من أعضاء اتحاد السلام يدفعون رسوم اشتراكاتهم السنوية . لا يستطيع لا أصحاب السلام ولا الشيوعيون ولا أتباع
( موزلي ) ، توليد حركة ضخمة لإيقاف الحرب بمفردهم . بيد أنهم قد يسهلون عمل حكومة خائنة تتفاوض للاستسلام ، فيصبحون مثل شيوعي فرنسا : عملاء – نصف واعيين – للمليونيرات .
إن الخطر دائما يأتي ( من الأعلى ) . ولا يجب أن نكترث كثيرا إلى ما قاله هتلر مؤخرا : عن كونه صديقا للفقراء ، عدوا لحكم الأثرياء .. الخ . إن معرفة هتلر الحقيقي تأتي من كتابه ( كفاحي ) ، ومن أفعاله . فهو لم يضطهد ولم يضيق على الأثرياء في ألمانيا – إلا إذا كانوا يهودا ، أو عندما يحاولون معارضته عمليا . إنه يؤمن باقتصاد مركزي – أي نعم يجرد الرأسمالي من أكثر سلطاته ، بيد أنه يترك نظام المجتمع كما هو - . نعم .. تتحكم الدولة بالصناعة ، ولكنه ما زال ثمة أثرياء وفقراء : أسياد ورجال . وبالتالي كان الأثرياء دائما في صفه .. معا ضد الاشتراكية الحقيقية . كانت هذه الحقيقة جلية في الحرب الأسبانية .. وكانت واضحة أيضا عندما استسلمت فرنسا . فالحكومات العميلة لهتلر لا تتكون من عمال ، بل من عصابات مصرفيين ، وجنرالات مخرفين ، وسياسيين يمينيين فاسدين .
إن احتمال حدوث هذا النوع من الخيانة الواعية – كالتي حدثت في فرنسا – غير كبير في انجلترا .. نعم ، قد نستبعد حتى محاولة شيء من هذا القبيل هنا . ومع ذلك ، يجب الإشارة إلى أن هذه الحرب ، بالنسبة للكثير ممن يدفعون ضرائب ضخمة ، هي ببساطة خلاف عائلي مجنون . يجب إيقافه بأي طريقة ممكنة . من المؤكد أن حركة ( سلام ) قد بدأت في العمل ، في مكان ما ، في أعلى مناصب السلطة .. وربما تكون قد تشكلت حكومة ( ظل ) بالفعل . لن يجد هؤلاء فرصتهم في لحظة الهزيمة ، بل في فترة ركود ما .. عندما يضاف إلى الملل الموجود ، التململ والسخط . ولن يكون حديثهم عند ذاك عن الاستسلام .. بل عن ( السلام ) فقط . وسيقنعون أنفسهم طبعا – وربما بعض الناس أيضا - أنهم يعملون لمصلحة البلد ... جيش من العاطلين عن العمل ، يقوده مليونيرات ... هذا هو الخطر الذي يحدق بنا . بيد أن هذا لا يمكن أن يحصل ، إن نحن أدخلنا قدرا معقولا من العدالة الاجتماعية عندنا . إن سيدة تتبختر في ( رولزرويسها ) لأكثر إفسادا للروح المعنوية في المجتمع ، من قاذفة قنابل .
----------------
( الجزء الثالث : الثـورة الانجليزية )
- 1-
لقد بدأت الثورة الانجليزية منذ بضعة سنين ، ثم أخذت وتيرتها في التسارع بعدما عاد الجنود من ( دنكرك ) . وككل شيء آخر في انجلترا : تحصل الثورة هنا بطريقة نعسانة ، كأنها مجبورة نوع ما – بيد أن المهم أنها تحدث . ثم من بعد ذلك ، جاءت الحرب وسرعت الثورة - ولكنها شددت أيضا على حاجتنا الملحة إلى السرعة .
لقد بدأ التطور والمقاومة يصبحان خارج نطاق التصنيفات الحزبية القديمة . وإن أراد المرء ما يثبت هذا الاندماج ، فما عليه إلا رؤية كيف تضاءلت الفروق بين اليسار واليمين ، عندما صدرت الـ ( بكتشر بوست ) أول مرة . ما هي سياسة الـ ( بكتشر بوست ) ؟ وما هي سياسة ( كافلكاد ) أو برامج ( بريستلي ) الإذاعية ، أو المقالات الأساسية في ( الإيفنج ستاندرد )؟ لا يمكن تحديد أو حصر سياساتهم في أي من التصنيفات القديمة . وحسبُ هذه الإصدارات أنها تشير إلى وجود جموع من الناس خارج التصنيفات المعهودة : قد أدركوا خلال السنة أو السنتين الماضيتين أن هناك خطأ ما . وبما أن مجتمعا غير طبقي ، وليس فيه ملاك ، يسمى عادة مجتمعا اشتراكيا : يمكننا إذا إطلاق هذا الاسم على المجتمع الذي نتحرك نحوه الآن .. لا يمكننا الفصل بين هذه الحرب والثورة : فلا يمكننا تحقيق أي شيء – يعترف به الغرب كاشتراكية – من دون هزيمة هتلر : ومن جهة أخرى لن نتمكن من هزيمة هتلر ، إذا بقينا – اقتصاديا واجتماعيا – في القرن التاسع عشر . إن الماضي يحارب المستقبل ، ولدينا الآن سنتين أو سنة – أو ربما بضعة شهور فقط – لنصرة المستقبل .
يجب أن لا ننتظر من هذه الحكومة - أو أي حكومة مثلها - القيام بالتغييرات الضرورية ، بنفسها وبمحض إرادتها . المبادرة السبّاقة يجب أن تأتي من ( الأدنى ) . أي أنه يجب أن يظهر في انجلترا شيء لم يسبق أن كان فيها أبدا : حركة اشتراكية تدعمها – فعلا – جماهير الناس . بيد أنه لا بد قبل كل شيء ، من معرفة لماذا فشلت الاشتراكية الانجليزية
( القديمة ) .
ليس هناك في انجلترا إلا حزبا اشتراكيا واحدا مهما في الحقيقة : هو حزب العمال . بيد أن هذا الحزب لم يستطع أبدا أن يحقق أي تغيير جذري ، لأنه لا يملك سياسة مستقلة حقيقة – إلا في المسائل الداخلية الصرفة . فالحزب كان وما يزال – في الأساس – جزءا من نقابة العمال : فقضيتهم هي زيادة الرواتب ، وتحسين ظروف العمل . أي أنهم خلال السنوات الحرجة ، كانت لهم مصلحة مباشرة في ازدهار الرأسمالية البريطانية . وبشكل أخص ، كانت لهم مصلحة في الحفاظ على الإمبراطورية البريطانية : فانجلترا تستمد أغلب ثروتها من آسيا وأفريقيا ، ومستوى معيشة عمال النقابة – الذين يمثلهم حزب العمال – يعتمد بشكل غير مباشر على كد العامل الهندي . وفي نفس الوقت حزب العمال حزب
( اشتراكي ) : يستخدم مفردات اشتراكية ، ويستعمل الأفكار البالية المناهضة للإمبريالية ، ويعمل – نوعا ما – على تعويض الشعوب الملونة المستعمرة . كان على الحزب أن يناصر ( استقلال ) الهند ، كما كان عليه أيضا مناصرة نزع السلاح ، و ( التقدم ) . بيد أنه كان من المعروف أن كل هذا الكلام كلام فارغ . ففي عصر الدبابة و قاذفة القنابل ، لا تستطيع دولة زراعية متخلفة ، مثل الهند وباقي المستعمرات الإفريقية ، أن تستقل حقيقة : مثلها مثل الكلاب
والقطط . فإذا جاءت حكومة من حزب العمال – بأغلبية واضحة – ومضت قدما في منح الهند أي شيء يمكن أن يقال عنه استقلالا ، ستكون النتيجة هي احتلال اليابان للهند بكل بساطة ، أو مقاسمتها مع روسيا .
إذا وصل حزب العمال إلى السلطة ستكون أمامه ثلاثة سياسات إمبريالية ليختار من بينها : الأولى : إدارة الإمبراطورية كما كانت تدار من قبل بالضبط - أي التخلي عن الادعاء بالاشتراكية - والثانية ( تحرير ) الشعوب المستعمرة ، أي تمكين اليابان من استعمارها ، أو إيطاليا أو أي من القوى الضارية الأخرى ، كما يعني أيضا التسبب في نفس الوقت في انخفاض كارثي في مستوى المعيشة البريطانية . والخيار الثالث هو تطوير سياسة إمبريالية إيجابية ، والعمل على تحويل الإمبراطورية إلى فدرالية ، تأتلف من دول اشتراكية : شيء مثل الاتحاد السوفيتي – ولكن بهامش أكبر من الحرية . بيد أن تاريخ حزب العمال ، والظروف المؤثرة فيه ، جعلت هذا الخيار الأخير مستحيلا . إنه حزب في نقابة العمال ، ضيق الأفق بشكل يجعل لا أمل يرجى منه ، قليل الاهتمام بالشؤون الإمبريالية ، وليس لديه علاقات مع الرجال الذين يبقون هذه الإمبراطورية متماسكة . في سدة الحكم سيضطر حزب العمال ، إلى إيكال مهمة إدارة الهند وأفريقيا ، ووظيفة الدفاع عن الإمبراطورية ، إلى رجال من طبقة مختلفة عنهم .. مناهضة للاشتراكية تقليديا . كما أن الشك في مقدرة حكومة من حزب العمال ، في أن تفرض طاعتها ، يخيم بظلاله على كل الأمر أيضا . فمع أن حزب العمال له أتباع كثر ، إلا أنه ليس له موطئ قدم في البحرية ، وأعداد أتباعه قليلة في الجيش و في سلاح الطيران ، كما أنه غائب تماما في دوائر الإدارة الإمبريالية . إن وضع الحزب قوي داخل انجلترا – بيد أنه قابل للتغيير – أما في الخارج ، فمقاليد الأمور في أيدي أعدائهم . ستواجههم نفس المعضلة في كل مرة يصلون فيها إلى الحكم : إما الوفاء بالوعود ، ومن ثم المخاطرة بمواجهة ثورة ، أو الاستمرار على نفس سياسات المحافظين ، والكف عن الحديث عن الاشتراكية . وما وجد قادة الحزب حلا للمشكلة حتى الآن .. فمنذ 1935 لا نجد أنهم يسعون فعلا للوصول إلى الحكم : لقد تدنوا إلى مستوى المعارضة الدائمة .
أما الأحزاب الأخرى - غير حزب العمال - فكانت هناك عدة أحزاب متطرفة ، أقواها الحزب الشيوعي . وقد كان للشيوعيين تأثير ليس بقليل على حزب العمال – من 1920 إلى 1926 .. ومن 1935 إلى 1939 . وأهميتهم الأساسية – وأهمية كل يساريّ حركة العمال أيضا – تكمن في الدور الذي قاموا به في تنفير واستبعاد الطبقات الوسطى من الاشتراكية .
لقد وضّحت لنا السبع سنوات الماضية ، أنه ليس للشيوعيين أي أمل في أوروبا الغربية . فالإعجاب فيها بالفاشية أكبر من الإعجاب بالشيوعية . لقد أُقتلع الشيوعيون من دولة تلو أخرى : والذي قام بذلك هو عدوهم الجديد : النازي . أما البلاد الناطقة بالانجليزية ، فلم يكن للشيوعيين متمكنين فيها أبدا . إن الدين الذي يبشرون به لا يستميل إلا شخصا فريدا من نوعه : عادة ما يوجد في إنتلجنتسيا الطبقة الوسطى – شخص لم يعد يحب وطنه ، ولكنه ما يزال يشعر بحاجة إلى ( وطنية ) ما ... ومن ثم تتطور عنده وطنية نحو روسيا . بحلول عام 1940– وبعد عمل لعشرين سنة ، وصرف أموال طائلة – لم يضم الحزب الشيوعي البريطاني سوى 20000 عضوا – وهو أقل من العدد الذي بدءوا به عام 1920. وأما الأحزاب الماركسية الأخرى ، فهي أقل أهمية من الشيوعيين ، حيث أنها لم يكن يدعمها المال والهيبة الروسية، كما أنهم كانوا يعتنقون فكرة الصراع الطبقي – وهي فكرة من القرن التاسع عشر – أكثر من الشيوعيين ذاتهم . واستمروا في التبشير بعقيدتهم البالية هذه ، دون أن يستنتجوا أي شيء من حقيقة أنها لا تجلب لهم أتباعا ومناصرين .
ولم تنمو أي حركة فاشية قوية في انجلترا أيضا . لم تكن الأوضاع المادية بذاك السوء ، كما أنه لم يظهر أي قائد يمكن أن يؤخذ على محمل الجد . أما السر ( أوزولد موزلي ) .. فقد يكون من الصعب أن تجد رجلا أغبى منه . فحتى حقيقة : أنه من المهم ألا تسيء الفاشية للمشاعر الوطنية – وهي حقيقة بديهية في العمل السياسي – لم يقدرها ( موزلي ) . وجُل عمل حركته في انجلترا ، هو تقليد أعمى للحركات الفاشية في الخارج : النبرة وبرامج الحزب من إيطاليا ، والتحية العسكرية من ألمانيا .. مع عداء للسامية طبعا في الخلفية – مع أن ( موزلي ) لما بدأ حركته ، كان من بين أبرز أتباعه يهود .
لعل رجل مثل ( لويد جورج ) أو ( بوتملي ) مثلا ، كان بإمكانه إنشاء حركة فاشية حقيقية في انجلترا . بيد أن قادة مثل هؤلاء لا يمكن أن يظهروا إلا إذا كانت ثمة حاجة سيكولوجية إليهم .
بعد عشرين سنة من الركود والبطالة ، لم تستطع كل الحركة الاشتراكية الانجليزية أن تقدم نسخة من الاشتراكية ترتضيها جماهير الناس . حزب العمال كرّس نفسه في سبيل إصلاحات خجولة ، والماركسيون نظروا إلى العالم بأعين من القرن التاسع عشر . وتجاهل كلاهما المشاكل الزراعية والإمبريالية ، وجعل كلاهما أيضا الطبقات الوسطى أعداء لهما . إن غباء بروباجاندا اليسار ، وتشددها الخانق ، أخاف الكثير من الناس - وهم بأمس الحاجة إليهم : مثل مدراء المصانع ، والطيارين ، وضباط البحرية ، والمزارعين ، وموظفي المكاتب ، وأصحاب الدكاكين ، والشرطة أيضا . لقد دُرّس كل هؤلاء أن الاشتراكية شيء سينغص حياتهم ، شيء سيحرض على العصيان ، شيء غريب دخيل على الانجليز ، شيء مناوئ لبريطانيا كما يقولون . لم تجذب هذه الحركة إلا المثقفين – وهم أقل قسم من الطبقة الوسطى نفعا للمجتمع .
إذا أراد حزب اشتراكي ما أن يحقق مكاسب : فإن عليه أن يواجه بضع حقائق تعتبر حتى الآن ، مما يجب السكوت عنه في الدوائر اليسارية . يجب عليه أن يعرف أن انجلترا متحدة أكثر من معظم الدول ، وأن العمال البريطانيين سيخسرون أكثر من قيودهم ، لو أنهم أصبحوا ماركسيين .. وأن اختلاف المنظور – من طبقة إلى أخرى – قد بدأ في التضاؤل بسرعة . بشكل عام ، عليهم أن يعلموا أن مفهوم ( الثورة البروليتارية ) القديم أصبح تحقيقه مستحيلا . لم يظهر أي برنامج اشتراكي – يكون ثوريا وعمليا في نفس الوقت – في كل السنوات التي انقضت ما بين الحربين العالميتين . والسبب الرئيسي بلا شك هو عدم وجود رغبة حقيقية في حصول أي تغيير جذري . أراد قادة الحزب أن يستمروا في أخذ مرتباتهم ، وأن يتبادلوا الوظائف دوريا مع المحافظين .. وأراد الشيوعيون الاستمرار في المعاناة من ( تضحياتهم ) المريحة .. وفي تكبد الهزائم الواحدة تلو الأخرى ، وإلقاء اللوم على الآخرين . واستمرت الإنتلجنتسيا اليسارية في سخريتها وتهكمها من الطبقة العسكرية الوسطى ، وفي هتك روح الطبقة الوسطى المعنوية عامة .. وفي نفس الوقت أرادت البقاء في دورها الطفيلي في الهيكل الاستعماري . لقد أصبحت سياسات حزب العمال نوعا من أنواع السياسات المحافظة ، وصارت السياسات ( الثورية ) ألعوبة من ألاعيب الخيال فقط .
إلا أن الظروف بدأت تتغير الآن .. لقد ولّت سنوات السبات . ما عاد معنى كونك اشتراكيا : أنك تجاهد – نظريا – ضد نظام أنت تطبقه وترتضيه في حياتك العملية . معضلتنا هذه المرة حقيقية . ( جاءك الغزاة يا سامسون ) . يجب علينا أن نفعل ما نقول وإلا هلكنا جميعا . نحن نعلم جيدا أن انجلترا لن تصمد إذا ما استمرت على نظامها الاجتماعي الحالي ، إذا علينا أن نجعل الناس يرون هذه المشكلة ، ويعملون على إصلاحها . لن نتمكن من الانتصار في الحرب ، من غير إدخال الاشتراكية إلى نظامنا : وليس بإمكاننا تحقيق الاشتراكية دون الانتصار في الحرب . لقد أصبح ممكنا – في أوقات مثل هذه – أن تكون ثوريا وواقعيا في آن واحد ، وهو الأمر الذي كان مستحيلا في أوقات السلم . من الممكن – ولأول مرة – أن تنشأ حركة اشتراكية تستطيع كسب تأييد جماهير الشعب ، وطرد مناصري الفاشية من مناصب السلطة ، ورفع أسوء أنواع الظلم عن المجتمع ، وتستطيع أيضا أن تجعل طبقة العمال ترى بعينها وجود قضية تقاتل من أجلها ، وأن تكسب الطبقات المتوسطة في صفها ، بدلا من أن تستعديها ، وأن تطور سياسة إمبريالية عملية ، عوضا عن سياسة التضليل والخداع والطوباوية .. حركة اشتراكية تقدر أن تبني شراكة ما بين الوطنية والثقافة .
- 2-
إن حقيقة أننا في خضم حرب ، جعلت كلمة ( الاشتراكية ) تتحول من كلمة نقرأها في الكتب فقط ، إلى سياسة واقعية قابلة للتطبيق .
لقد ثبتت عدم فعالية النظام الرأسمالي في جميع أنحاء أوروبا . وثبت أنه نظام ظالم وجائر : من الأحياء الفقيرة الموجودة في شرق لندن مثلا . أي أن الوطنية – التي قاتل ضدها الاشتراكيون طويلا – صارت أداة ضخمة في أيديهم . الناس الذين كانوا سيتمسكون ويتشبثون بفتات امتيازاتهم - في أي وقت آخر - سيتنازلون عنها بسرعة لما يتعرض وطنهم للخطر . إن الحرب هي أعظم عوامل التغيير في التاريخ . إنها تسرع العمليات ، وتمحو الاختلافات الطبقية الطفيفة ، وتستخرج الواقع إلى متناول الرأي العام .. والأهم من ذلك أنها تجعل الفرد على يقين بأنه ليس كما تصور : منفردا تماما عن مجتمعه . أيُّ سبب غير هذا يجعل الرجال يستشهدون في ميادين القتال ؟ وليس من المطلوب الآن التضحية بالحياة : وإنما التضحية بسبل الرخاء والراحة ، والتضحية بالحرية الاقتصادية ، والجاه الاجتماعي . قليلة جدا هي أعداد من يريدون بالفعل أن تستعمر ألمانيا انجلترا . فإنْ تيقن الناس أن هزيمة هتلر تعني التخلص من الامتيازات الطبقية ، ستكون جماهير الناس في صفنا غالبا : ( الطبقة التي تأخذ 6 باوندات في الأسبوع إلى التي تأخذ 2000 باوندا في السنة ) . هؤلاء الناس لا غنى للمجتمع عنهم .. حيث أنهم يضمون أكثر الخبراء التقنيين . وستكون بالطبع عجرفة أناس مثل الملاحين ، وضباط البحرية – بجهلهم السياسي – من الصعوبات التي يجب التعامل معها . فمن غيرهم لن نصمد أسبوعا واحدا في الحرب . والطريقة الوحيدة المثلى للتعامل معهم هي من خلال وطنيتهم . الحركة الاشتراكية الحصيفة ستستعمل وطنيتهم ، بدلا من السخرية منها ، كما هو حاصل الآن .
لكن هل هذا يعني أنه لن تكون هناك معارضة ؟ بالطبع لا : فمن الصبيانية أن نتوقع شيئا مثل هذا .
سنشاهد عراكا سياسيا مريرا ، وسنشهد أعمالا تخريبية – بغير وعي أو بنصف وعي – في كل مكان . وسيصبح من الضروري – عاجلا أم آجلا – استعمال العنف . فليس احتمال قيام ثورة مناصرة للفاشية في الهند - مثلا - بعيدا
جدا . وسيكون علينا أن نحارب الرشوة والجهل والعجرفة . المصرفيون ، وكبار رجال الأعمال ، وملاك الأراضي ، والموظفون الرسميون .. كل أولئك سيعارضون التغييرات بكل ما أوتوا من قوة . والطبقة الوسطى نفسها ستَتَململُ لما تَتَنغص عليها حياتها التي اعتادتها . بيد أن حس الانجليز بوحدتهم الوطنية ، الذي لم يتزعزع أبدا – فالوطنية في نهاية المطاف أقوى من الكره الطبقي – سيجعل إرادة الأغلبية تنتصر على الأغلب . لا فائدة من الاعتقاد بأنه يمكن القيام بتغييرات جذرية في المجتمع من غير حدوث انقسامات وتكتلات فيه . بيد أن القلة الخائنة فعلا ، ستتضاءل أعدادهم كثيرا في أوقات الحرب.
إن الرأي العام يتغير أمام أعيننا . ولكن يجب علينا ألا نظن أنه سيتغير بالسرعة التي نريدها ونحتاجها هكذا بمفرده .
إن هذه الحرب هي حرب بين توحيد إمبراطورية هتلر ، وبين نمو وعي ديمقراطي . تستطيع أن ترى في كل مكان في انجلترا سجال المعركة : سجال بين البرلمان والحكومة ، وبين المصانع والقوات المسلحة ، وفي البارات وملاجئ الغارات الجوية ، وفي الصحف والراديو . وكل يوم يأتي بانتصارات صغيرة ، وهزائم صغيرة أيضا . إنه صراع بين الذين يلتمسون الحلول للمشاكل ، ومن ليس عنده ملكة التعلم أصلا : بين الشيوخ والشباب .. بين الأحياء والأموات . فيجب على المعارضة – وهي بلا ريب موجودة – أن تنحى منحى هادفا ، وألا تكون عائقا لمن يحاولون العمل .حان الوقت لأن يحدد الناس بنفسهم أهداف الحرب . إن المطلوب هو برنامج عملي وبسيط لاتخاذ إجراءات واقعية : برنامج غير سري ، يحظى بكل العرض الإعلامي الممكن ، ليستطيع الرأي العام الالتفاف من حوله ، ومؤازرته .
أقترح هنا برنامجا من ست نقاط ، أعتقد أننا نحتاج إلى مثله في هذه الحرب . أول ثلاث نقاط فيه عن سياسة انجلترا الداخلية ، والثلاثة التالية عن الإمبراطورية والعالم :
1- تأميم الأراضي والمناجم ، وسكك الحديد ، والبنوك ، والصناعات الثقيلة .
2- وضع حدود على الدّخول : بحيث لا يتجاوز أعلى دخل – لا يدفع ضرائب – أدنى دخل ، بأكثر من عشرة لواحد .
3- إصلاح نظام التعليم على أسس ديمقراطية .
4- تحويل الهند فورا إلى ( دمنيون ) : ( دولة تابعة للحكم البريطاني ولكن بحكومة محلية ) .. مع حق الاستقلال بعد الحرب .
5- إنشاء مجلس إمبريالي عام ، كل الشعوب الملونة ممثلة فيه .
6- إعلان تحالف رسمي مع الصين والحبشة ، وجميع ضحايا القوى الفاشية الآخرين .
إن الاتجاه العام لهذا البرنامج واضح جدا . فهو يهدف بصراحة إلى تحويل هذه الحرب إلى حرب ثورية ، وإلى تحويل انجلترا إلى ديمقراطية اشتراكية . ولقد حرصت ألا أضع فيه أي شيء يمكن أن لا يفهمه أبسط الناس . فيمكن أن ينشر في صفحة ( الدايلي مرر ) الأولى ، وهو بهذا الشكل . بيد أن أهداف هذا الكتاب ، تستلزم بعضا من الشرح للنقاط التي في البرنامج .
1- التأميم . من الممكن أن تؤمم الصناعة بسرعة ، بيد أنها ستؤمم على الورق فقط ، فعملية التأميم الفعلية بطيئة ومعقدة . إن الذي نحن بأمس الحاجة إليه هو أن تصبح ملكية كل الصناعات الثقيلة ، رسميا في يد الدولة : التي تمثل الشعب – طبعا - . فإن حصل هذا ، أصبح من الممكن التخلص من طبقة الملاك ، الذين معاشهم ليس يعتمد على عملهم وجهدهم ، بل على صكوك عقارية ، وأسهم تجارية . وبهذا يكون معنى ( ملكية الدولة ) : أن أحداً لن يعيش بلا عمل . ولكن بأي سرعة سينعكس هذا المفهوم على ( التصرف ) الصناعي ؟ .. هذا أمر غير معروف بالتأكيد . ففي بلد مثل انجلترا ، لا يمكننا محو كل الهيكل الصناعي والبدء من الصفر – لا سيما والوقت وقت حرب . الحل الوحيد هو أن تدار الشؤون الصناعية كما كانت تدار : فالذين كانوا ملاك أو مدراء مصانع ، سيستمرون في وظائفهم ، ولكن كموظفي دولة . وثمة ما يجعلنا نعتقد أن الكثير من صغار الرأسماليين سيرحبون فعلا بتغييرات مثل هذه . المعارضة ستأتي من كبار الرأسماليين : المصرفيين ، وأصحاب العقارات ، والأثرياء العاطلين عن العمل .. وعامة كل الطبقة التي تأخذ أكثر من 2000 باوندا في السنة - ( وحتى إذا أخذنا بعين الاعتبار الناس الذين يعتمدون على هؤلاء الأثرياء ، لن نجد أن أعدادهم تتجاوز نصف مليون شخص ) .
وتأميم الأراضي الزراعية يعني التخلص من مالك الأرض ، ولا يعني بالضرورة تدخل الدولة في شؤون المُزارع . يَصعُب تخيّل أي تعديل للنظام الزراعي في انجلترا : لا يستبقي أكثر المزارع الموجودة كوحدات – على الأقل في بداية الإصلاحات . فيصبح المزارع – إذا كان كفؤا طبعا – مديرا ويأخذ مرتبا . هو الآن مدير – ولكن نظريا فقط : حيث أن عليه أن يكسب قوته وربحه ، بينما تثقل كاهله دائما ديون البنوك . ولن تتدخل الدولة أيضا – في الأغلب – في أنواع معينة من التجارة الصغيرة ، أو حتى في ملكية الأراضي الصغيرة . فسيكون خطأ جسيما أن نجعل صغار الملاك ، مثلا ، أول ضحايا التعديلات الجديدة . فالمجتمع بأمس الحاجة إليهم .. كما أنهم عامة على درجة عالية من الكفاءة ، وكمية العمل الذي يقومون به ، تتوقف على مدى شعورهم بأنهم أسياد أنفسهم . بيد أن الدولة ستضع بالطبع سقفا لملكية الأراضي ( 60702.8 متر مربع – على الأرجح ) ولن تسمح أبدا بامتلاك الأراضي في داخل المدن .
من اللحظة التي تصبح فيها كل السلع الإنتاجية رسميا ملكا للدولة ، سيشعر العامة – كما لم يشعروا من قبل – أنهم هم ( الدولة ) . حينذاك سيكونون جاهزين لتحمّل التضحيات الآتية – في الحرب أو في السلم . وحتى لو لم يبدُ أن
( وجه ) انجلترا قد تغير ، في ذاك اليوم الذي تؤمم فيه صناعاتنا الأساسية رسميا : سنتحرر من طغيان طبقة واحدة على المجتمع . ومن هاتيك اللحظة فصاعدا ، سيتحول التركيز من الملكية إلى الإدارة : ومن الامتيازات إلى الكفاءة . نعم .. من المحتمل أن ( ملكية الدولة ) ستجلب – هكذا بمفردها - قدرا من التغيرات ، أقل مما ستضطرنا إليه المقاساة الجماعية من هول هذه الحرب . بيد أن ( ملكية الدولة ) خطوة أولية ضرورية ، يستحيل من دونها تنفيذ أي عملية إعادة تنظيم أو هيكلة حقيقية .
2- الدخل . إن وضع سقفا للدّخول ، يتضمن تحديد حد أدنى للأجور أيضا ، وهذا بدوره يعني : عملة داخلية ، يُتحكم بها بكل بساطة على أساس كمية السلع الاستهلاكية المتوفرة : أي خطة توزيع للحصص أكثر صرامة مما هو معمول به اليوم . ولا فائدة ، في هذه المرحلة من التاريخ ، من اقتراح أن كل البشر يجب أن تتساوى أجورهم تماما . فلقد ثبت أنه من دون نوع من الحوافز المالية ، لن يتحفز الناس على القيام بوظائف معينة . بيد أن الحوافز المالية لا يجب أن تكون أرقاما خيالية . وقد يكون من المستحيل – عمليا – أن تحدد الأجور هذا التحديد القاسي .. فلا مفر في الواقع من بعض التحايلات والمخالفات . ولكن ليس هناك أي سبب يجعل نسبة ( 10 إلى 1 ) نسبة غير معقولة بين أعلى دخل وأدنى دخل . فضمن هذه النسبة يمكن تحقيق شيء من المساواة : يمكن أن يشعر من يأخذ 3 باوندات في الأسبوع ، ومن يجني 1500 باوندا في السنة ، أنهما إنسانان متساويان .. بخلاف دوق ( وستمنستر ) ، والذين ينامون في الشوارع .
3- التعليم . في أوقات الحرب ، يكون إصلاح التعليم - بالضرورة – وعدا فقط من دون فعل . فنحن لسنا في موقف يسمح لنا الآن برفع السّن الذي يمكن للطالب ترك المدرسة فيه ، ولا بزيادة أعداد مدرسي الصفوف
الابتدائية . بيد أن هناك خطوات معينة يمكن تطبيقها مباشرة ، لنخطو نحو نظام تعليم ديمقراطي . يمكننا أن نبدأ بإلغاء استقلال المدارس الحكومية والجامعات القديمة ، وملأهما بطلاب تساعدهم الدولة – ببساطة – على أساس قدراتهم وكفاءاتهم . إن التعليم في المدارس الحكومية الآن جزء منه تدريب على الكره الطبقي ، والجزء الآخر نوع من الضرائب التي تدفعها الطبقات المتوسطة – للطبقات العليا - للحصول على الحق في استلام وظائف معينة . نعم إن الأوضاع تتغير في انجلترا . لقد بدأت الطبقات المتوسطة في الثورة على غلاء التعليم .. والحرب ستجعل أكثر المدارس الحكومية تفلس ، إذ استمرت – أي الحرب - سنة أو سنتين . إن الخوف كل الخوف من بعض المدارس القديمة التي ستستطيع الصمود في وجه العاصفة الاقتصادية ، وقتا أطول من غيرها ، وبالتالي ستبقى – بشكلها هذا أو بآخر – مركزا للاحتقار والتكبر . أما العشرة آلاف مدرسة خاصة التي في انجلترا ، فهي لا تستأهل إلا القمع هكذا صراحة . فهي ليست إلا مؤسسات تجارية ، وفي أكثر الحالات يكون مستواها العلمي أقل من مستوى المدارس الابتدائية . إن سبب وجود هذه المدارس الخاصة الوحيد ، هو تلك الفكرة المنتشرة بين الناس ، التي تعتبر أن الدراسة تحت إشراف الحكومة ، شيء مشين ومعيب . بإمكان الدولة أن تستأصل هذه الفكرة إذا جعلت نفسها مسؤولة عن كل قطاع التعليم ، حتى ولو كان ذلك رمزيا فقط في البداية . فنحن نحتاج إلى أعمال ( رمزية ) كما نحتاج إلى أعمال ( فعلية ) . فمن الجلي أنه لا معنى لكلامنا عن ( الدفاع عن الديمقراطية ) ، بينما المعيار الذي يحدد إمكانية دخول صبي موهوب ، للدراسة في أفضل ما يمكن للدولة أن توفره : هو صدفة الولادة لأب غني أو فقير .
4- الهند . يتحتم علينا ألا نَعرض ( الاستقلال ) على الهند ، فكما قلت سابقا ، إن أمر استقلالها وحريتها أمر مستحيل . بل يجب علينا أن نعرض عليها حلفا وشراكة .. بكلمة واحدة : المساواة . ولكن يجب علينا أيضا إضافة أن لديهم كل الحق في الانشقاق أو الاستقلال – إن هم أرادوا ذلك . فمن غير هذا الشرط الأخير ، لن تكون هناك مساواة حقيقية في الشراكة بيننا ، وأحدا لن يصدق إدعاءنا بأننا نذب عن الشعوب الملونة ، في مواجهة خطر الفاشية . ومن الخطأ توقع أن الهند ستنشق مباشرة ، بمجرد منحها ذلك الحق . إذا عرضت عليهم الحكومة البريطانية استقلالا غير مشروط .. سيرفضون الاستقلال : فحين تصبح لديهم المقدرة على الانشقاق ، ستنعدم الأسباب التي جعلتهم ينشدوه في السابق .
إن الفصل التام بين الدولتين سيكون كارثة على الهند .. وانجلترا نفسها لن تنجو من هذه الكارثة . والهنود المثقفون يعرفون ذلك جيدا . ليست الهند – في الوقت الحالي – غير قادرة على الدفاع عن نفسها وحسب ، بل بالكاد تستطيع توفير الطعام لنفسها أيضا . كل إدارة الدولة تعتمد على هيكل من المتخصصين : ( من مهندسين ، وضباط غابات ، وموظفي سكك الحديد ، وجنود ، وأطباء ) .. وأغلب هؤلاء انجليز .. ولا يمكن استبدالهم في غضون خمسة أو عشرة سنين . بالإضافة إلى أن الانجليزية هي اللغة المشتركة في الهند .. وكل الإنتلجنتسيا الهندية لها ماض عريق في
( الـتأنجلز ) . فإذا انتقلت السلطة في الهند ، إلى قوى خارجية – فخروج بريطانيا من الهند يعني حتما احتلال اليابان أو غيرها لها – ستكون العواقب وخيمة . فليس لليابان أو روسيا أو ألمانيا أو إيطاليا ، القدرة على إدارة الهند ، ولو حتى بمستوى الفعالية المتدني الذي حققه البريطانيون فيها . فليس لدى كل أولئك ، الخبراء التقنيين الضروريين للعمل في الهند ، وليس لديهم علم بلغاتها ، ولا بالظروف والأوضاع المحلية .. وعلى الأغلب ، لن يتمكنوا من ربح ثقة الوساطات التي لا بد منها لإنجاز أي شيء في الهند : ( كالأوراسيوين ) . إذا ( تحررت ) الهند : أي إذا افتقرت إلى الحماية العسكرية البريطانية ، ستكون أولى النتائج هي استعمار جديد لها ، وثانيها سلسلة من مجاعات كارثية : ستقتل الملايين في بضع سنوات .
إن ما تحتاجه الهند هو القدرة على التوصل إلى دستور خاص بها ، وبدون أي تدخل بريطاني - لكن بنوع من الشراكة بينهما ، تتضمن الحماية العسكرية ، والنصائح التقنية .
أما الآن فليس حالنا يسمح لنا حتى بالتفكير بأمر كهذا .. وسيظل الوضع هكذا إلى أن تأتي حكومة اشتراكية . لقد استمرت انجلترا في إعاقة تطور الهند ، ثمانين سنة على الأقل ، وبعض أسباب ذلك : الخوف من المنافسة التجارية ( إذا أصبحت الصناعات الهندية على درجة عالية من الجودة ) .. وأن السيطرة على الشعوب المتخلفة أسهل بكثير من السيطرة على المتحضرة . من المعروف أن الهندي العادي يقاسي من أبناء جلدته ، أكثر مما يعانيه من البريطانيين . فالرأسمالي الهندي الصغير يستغل عمال المدن بشكل متوحش جدا ، والفلاح الهندي في قبضة مقرضي الأموال من المهد إلى اللحد . بيد أن هذه كلها من النتائج غير المباشرة للاستعمار البريطاني ، والذي كان يهدف – بنصف وعي – إلى أن يجعل الهند في أدنى درجات التخلف المستطاعة . وأكثر الطبقات ولاء لبريطانيا في الهند هي طبقات الأمراء وملاك الأراضي والمجتمع التجاري .. وعامة الطبقات المرتاحة التي لا تريد أي تغيير في الوضع الحالي . في اللحظة التي يتغير فيها هذا الموقف الاستغلالي الانجليزي للهند ، ستتغير موازين القوى .. لن تكون ثمة حاجة للبريطانيين في مجاملة أمراء الهند السفهاء - هم وأفيالهم المذّهبة ، وجيوشهم التي أوهن من القش – ولن يضطروا إلى قمع نمو نقابات العمال الهندية ، ولا إلى التحريض بين المسلمين والهندوس ، ولا إلى حماية حياة مقرض الأموال ، التي لا فائدة منها ، ولا إلى تفضيل
( الجوركي ) نصف البربري على البنجالي المثقف . عندما ينقطع سيل الأرباح الذي ينتقل من عمال الهند إلى حسابات نساء عجائز في ( تشلتنم ) ، ستختفي هذه العلاقة : ( الصاحب – الهندي ) : بتكبر جاهل من جهة ( الصاحب ) ، وحسد وافتنان وخنوع من جهة الهندي . يمكن للهنود والانجليز أن يعملوا جنبا إلى جنب لتطوير الهند وتدريب الهنود في كل الفنون التي ما زالوا يمنعون منها حتى الآن . أما أعداد موظفي الإدارة البريطانية الحاليين الذين سينخرطون في نظام مثل هذا – وهو نظام يعني إلغاء وظيفة ( الصاحب ) تماما – فهذا موضوع آخر . ولكن بشكل عام نأمل من شباب الموظفين تقبل هذا النظام الجديد ، ومن المهندسين المدنيين ، وخبراء الزراعة والغابات ، والأطباء ، والمعلمين ، الذين دَرَسوا على أسس علمية . لا أمل يرجى ممن في المناصب العليا : حكام الأرياف ، والمندوبين ، والقضاة ... الخ – بيد أنه من السهل استبدالهم .
هذا بشكل مختصر هو ما يعنيه وضع ( الدومنيون ) إذا ما اقترحته حكومة اشتراكية على الهند : أي أنه عرض للشراكة على أساس المساواة ، إلى أن يصبح العالم غير محكوم بقاذفات القنابل . بيد أنه يجب أن نضيف إلى هذه الشراكة حقهم غير المشروط في الانفصال . فهذه هي الطريقة الوحيدة لنثبت أننا فعلا نعني ما نقول . والذي ينطبق على الهند ينطبق أيضا على بورما وملاي ومعظم مستعمراتنا الإفريقية .
أما النقطتان الخامسة والسادسة ، فهما لا تحتاجان إلى شرح . فهما مبدءان ضروريان لزعمنا : أننا نحارب في هذه الحرب ، لحماية الشعوب المسالمة من عدوان الفاشية .
هل من المستحيل أن تلقى سياسة مثل هذه تأييدا في انجلترا ؟ لعله كان من المستحيل قبل سنة – أو حتى قبل ستة شهور - بيد أن الأمر اختلف الآن . بالإضافة إلى ذلك – وهذه هي الفرصة التي تميز أوقاتنا هذه – يمكن أن تحظى هذه السياسة بالعرض الإعلامي اللازم . فالآن هناك صحافة أسبوعية تؤخذ بعين الاعتبار ، توزع ملايين النسخ .. فهي جاهزة لترويج البرنامج الذي رسمت خطوطه العريضة آنفا – أو أي سياسة أخرى على نفس الأسس . وثمة صحيفتين أو ثلاثة ، من الصحف اليومية : ستتعاطف فعلا مع هكذا سياسة - هذا هو الوضع الذي وصلنا إليه بعد الستة أشهر الأخيرة .
ولكن هل يمكن تحقيق هكذا سياسة ؟ الأمر يعتمد كليا علينا نحن . بعض النقاط التي ذكرت من النوع الذي يمكن تطبيقه فورا ، وبعضها قد يستغرق تطبيقه سنينا أو عقودا – وحتى عندذاك لن يكون التطبيق تطبيقا كاملا . فليس بالإمكان تطبيق برنامج سياسي بحذافيره في الواقع . بيد أن المهم هو أن يكون هذا البرنامج – أو برنامج مثله – سياستنا
المعلنة . فالاتجاه السياسي هو الِمفصل في مجريات الأمور . بالطبع لا أمل في أن تتبنى الحكومة الحالية أي سياسة تتضمن تحويل هذه الحرب إلى حرب ثورية . فهي في أحسن حالاتها ، حكومة ( حلول وسطى ) : تشرشل راكبا حصانين كالبهلوان في السيرك . قبل التفكير في أمور مثل وضع قيود على الدّخول ، يجب أن تُنتزع السلطة من أيدي الطبقة الحاكمة القديمة . إذا جاءت لحظة ركود أخرى هذا الشتاء ، يجب علينا في ظني أن نطالب بانتخابات عامة . وهو الأمر الذي سيستميت حزب المحافظين للحيلولة دون حدوثه . وحتى إذا لم نحصل على الانتخابات التي نريدها ، يمكننا الحصول على الحكومة التي نريد ، شرط أن تكون هناك رغبة جادة لدينا : دفعة واحدة حقيقية من ( الأدنى ) ستجلب لنا مُبتغانا . أما أمر من سيكون في تلك الحكومة ، فهذا ما لا أعرف جوابه . كل ما أعرفه هو أن الرجال المناسبين سيكونون فيها عندما يطلبهم الناس حقيقة .. فالحركات هي التي تصنع الرجال وليس العكس .
إن لم نُستعمر في غضون سنة – أو ربما ستة أشهر فقط – سنشهد نمو شيء لم يكن موجودا في السابق : حركة اشتراكية انجليزية . لم يكن في السابق في انجلترا إلا حزب العمال : وهو من صنيع طبقة العمال ، بيد أنه لم يكن يهدف إلى أي تغيير جذري في النظام . والماركسية – وهي نظرية ألمانية ، فسرها روس – فشل تصديرها إلى انجلترا . لم يكن هناك ما يمس قلوب الشعب الانجليزي في الحقيقة . طوال التاريخ الانجليزي لم تصدر عن الحركة الاشتراكية أي أغنية شعبية ، مثل ( لاماغسييز ) أو ( لاكوكاراتشا ) . إذا ظهرت الحركة الانجليزية المحلية الجديدة ، سيكون الماركسيون – كغيرهم من المستبسلين في سبيل الماضي – ألدّ أعدائها . وسينتهي بهم المطاف – حتما – بالتنديد بها على أنها حركة فاشية . فلقد أصبح الآن من المعتاد بين أكثر المثقفين اليساريين جُبنا : التصريح : بأننا لو حاربنا النازيين ، سنصبح نحن بالتالي نازيين أيضا . وهو منطق يشبه القول : بأننا لو قاتلنا السود لأصبحنا سودا أيضا .. يجب أن يكون التاريخ الألماني مرجعية لنا حتى نصبح نحن نازيين . لا تستطيع الأمم الهروب من ماضيها لمجرد قيام ثورة فيها . سَتُغيّر أي حكومة اشتراكية انجليزية الأمة الانجليزية من أعلاها إلى أدناها ، بيد أن علامات حضارتنا المميزة ستبقى .. تلك الحضارة الخاصة التي ناقشتها آنفا في هذا الكتاب .
لن تكون الحركة الاشتراكية الانجليزية الجديدة مؤسسة على نظريات ، ولن تكون منطقية أيضا : ستقوم بإلغاء مجلس اللوردات ، بيد أنها على الأغلب لن تلغي الملكية . ستترك كل الأمور البالية كما هي في كل مكان : سيظل القاضي هو وباروكته السخيفة ، وسيظل الأسد و اليونكورن على قبعة الجندي . ولن تؤسس الحركة الاشتراكية أي دكتاتورية طبقية صريحة - نعم .. ستتجمع الحركة حول حزب العمال القديم ، وأكثر أتباعها سيكونون من نقابات العمال ، بيد أنها ستستقطب أكثر الطبقة الوسطى ، والعديد من شباب الطبقة البرجوازية . وأغلب ( العقول التوجيهية ) فيها ستأتي من طبقة جديدة غير محددة بالتصنيفات القديمة : من حرفيين ، وخبراء تقنيين ، وملاحين ، وعلماء ، ومهندسين معماريين ، وصحافيين : كل أولئك الذين يرون أنفسهم أبناء عصر الراديو والإسمنت . ولكن – في نفس الوقت – لن تفقد الحركة الاشتراكية الجديدة صلتها بتقليد ( الحلول الوسطى ) ، ولا بالإيمان بأن القانون فوق الدولة . نعم ستطلق النار على الخونة ، بيد أنها ستوفر لهم محاكمة وقورة قبل ذلك .. وفي بعض الأحيان قد تحكم عليهم بالبراءة . وستسحق أي عصيان علني بسرعة و وحشية ، ولكن سيكون تدخلها بالكلمة المقروءة والمسموعة قليلا جدا . ستبقى الأحزاب السياسية بمختلف أسمائها . وستظل الحركات الثورية تطبع جرائدها ، وستظل عديمة التأثير – تقريبا - كما كانت في السابق . ولن تجعل الحركة الاشتراكية الكنيسة مؤسسة مدنية ، بيد أنها في المقابل لن تضطهد أو تستهدف الدين . سيبقى لديها بعضا من الإجلال المبهم لنظام الأخلاق المسيحي .. وبين كل فينة والأخرى ستتحدث عن انجلترا كـ
( دولة مسيحية ) . وستحارب الكنيسة الكاثوليكية الحركة الاشتراكية ، ولكن الفرق المنشقة عنها ، وأغلب الكنيسة الإنجليزية ، ستتمكن من الوصول إلى تفاهم معها . كما أن الحركة ستظهر قدرة على استيعاب الماضي بشكل يفجع المراقب الأجنبي ، ويجعله في بعض الأحيان يشك ما إذا كانت أي ثورة قد حصلت فعلا .
ولكن على أية حال ، ستكون الحركة الاشتراكية قد قامت – في نفس الوقت – بالعمل الجوهري المطلوب : وهو تأميم الصناعة ، ووضع قيود على الدّخول ، وإقامة نظام تعليم غير طبقي . ولسوف تضح طبيعة هذه الحركة الاشتراكية من كره الأثرياء المتبقين من حول العالم لها . لن يكون هدفها انحلال الإمبراطورية البريطانية ، بل تحويلها إلى اتحاد فيدرالي ، يأتلف من دول اشتراكية لم تتحرر من العلم البريطاني ، بقدر ما تحررت من سطوة مقرضي الأموال ، ومن استعباد الذين يحصدون إيرادات الأسهم ، وعناد الموظفين البريطانيين الرسميين . وستكون إستراتيجيتها في الحرب مختلفة كل الاختلاف عن إستراتيجية أي دولة تحكمها ( الملكية ) : حيث أنها لن تكون خائفة من الآثار الثورية التي ستتركها أي إطاحة بالنظام الموجود . كما أنها لن تتوانى في مهاجمة أي ( حيادي ) عدو لها ، ولا في إثارة ثورات محلية في مستعمرات الدول المعادية . وستقاتل الحركة بشكل يجعل حتى ذكرها خطرا على أعدائها - حتى ولو خسرت الحرب : كما كانت ذكرى الثورة الفرنسية خطرة في أوربا ( مترنيك ) . وسيخشاها الدكتاتوريون كما لم يستطيعوا خشية النظام البريطاني الحالي – حتى ولو كانت قوته العسكرية عشرة أضعاف قوته الحالية .
أما في هذه الآونة : بينا هذه الحياة الخاملة بالكاد تغيرت في انجلترا ، وبينما عدم التساوي المقيت في الثروة ما زال موجودا في كل مكان – حتى ونحن في خضم القنابل - .. كيف أجرؤ على القول بأن كل هذه الإصلاحات
ستحدث ؟
إنني لأجرؤ على هذا القول لأن الوقت الذي يمكن للمرء التنبؤ فيه بـ ( إما \ أو ) قد جاء : إما أن نحول هذه الحرب إلى حرب ثورية ( ولست أقول أن سياستنا لا بد أن تكون مثل البرنامج الذي ذكرت آنفا بالضبط ، بل أنها يجب أن تتمسك بالخطوط العريضة وحسب ) .. أو نخسر الحرب ، فنخسر بالتالي أشياء كثيرة أخرى . عمّا قريب سيصبح من الممكن لنا الجزم بأننا سبلنا هذا السبيل أو ذاك . على أية حال لن نربح الحرب إذا تمسكنا بالهيكل الاجتماعي الحالي : حيث أننا لن نستطيع الاستفادة من قوتنا : سواء كانت قوتنا المادية أو الأخلاقية أو الفكرية .
- 3 –
ليس هناك أي علاقة بين الوطنية والفكر المحافظ . فبما أن الوطنية : إخلاص لشيء يتغير دائما ، وفي نفس الوقت يبدو أنه ما زال كما هو : فإنها بالتالي تكون في الواقع مضادة للفكر المحافظ .. إنها جسر بين الماضي والمستقبل .. كما أنه لم تكن هناك أي ثورة حقيقية دولية .
خلال العشرين سنة الماضية ، لم تجلب تلك النظرة السلبية التي كانت شائعة في الأوساط اليسارية الانجليزية ، ولا سخرية المثقفين من الوطنية والشجاعة الجسدية ، ولا الجهود الحثيثة لزعزعة الروح المعنوية الانجليزية ، ولنشر فلسفة العكوف على الملذات ( ما الذي سأستفيده أنا من كل هذا ) - إلا الضرر على انجلترا . ولسوف يكون كل هذا مضرا لنا حتى ولو كان العالم عصبة من الأمم الضعيفة ، كما تخيل أصحاب هذه الأعمال . ففي عصر ( الفهرورات ) وقاذفات القنابل لن تعني هذه الأعمال إلا الكارثة الوشيكة على انجلترا . إن ثمن البقاء والصمود هو القسوة .. بعض النظر عن كرهنا لذلك . لا يمكن لأمة تمرست على التفكير بملذاتها وحسب ، أن تصمد بين شعوب تعمل عمل العبيد ، وتتكاثر تكاثر الأرانب ، وصناعتها الوطنية الأساسية صناعة حربية . لقد أراد كل الاشتراكيين الانجليز من مختلف الأطياف أن يواجهوا الفاشية ، بيد أنهم في نفس الوقت صمموا على جعل مواطنيهم ( غير حربيين ) . غير أنهم فشلوا في تحقيق ذلك : حيث أن الولاء التقليدي أقوى من أي ولاء جديد في انجلترا . مع ( بطولات ) الصحافة اليسارية ( المناهضة للفاشية ) هذه : كيف سيكون موقفنا عندما يأتي الصراع الحقيقي مع الفاشية ، إذا كان الرجل البريطاني العادي ( مخلوق ) على النحو الذي أرادته الـ ( نيوستيتسمن ) أو الـ ( دايلي وركر ) أو الـ ( نيوز كرونكل ) ؟
كان كل اليساريين الانجليز تقريبا معتنقين للسلام بشكل غامض حتى عام 1935 . بعد ذاك انخرط أصخبهم في حركة الجبهة الشعبية : والتي كانت ببساطة بمثابة هروب من كل المشاكل التي طرحتها الفاشية . فقد كانت مناهضة للفاشية بطريقة سلبية جدا : فهي مناوئة لها ولكن من دون أن تكون مناصرة لأي سياسة واضحة – وفي وعيها الباطن فكرة ركيكة بأن الروس سيحاربون بدلا منا عندما يأتي الوقت . من المدهش أن هذا الوهم ما زال موجودا . في كل أسبوع تصل رسائل قراء إلى الجرائد ، لتشير أن لو كانت حكومتنا خالية من المحافظين ، لن يستطيع الروس تجنب القتال في صفنا . إنها نفس الفكرة دائما : البحث في الخارج عن مصدر إلهام ، والإتيان بأناس آخرين ليحاربوا حربنا . ويتخلل كل ذلك عقدة النقص المخيفة لدى المثقف الانجليزي : الإيمان بأن الانجليز ما عادوا شعبا محاربا ، وما عادت عندهم القدرة على التحمل .
ليس هناك في الحقيقة أي سبب يجعلنا نعتقد بأن أحدا سيقاتل عنا – إلا الصينيون الذين يقاتلون فعلا في صالحنا منذ ثلاث سنين . قد ينجر الروس إلى القتال في صفنا من جراء هجوم مباشر على روسيا . بيد أن الروس أوضحوا بما لا يدع أي مجال للشك أنهم لن يقفوا في وجه الجيش الألماني إن كان يمكن الحيلولة دون ذلك . وعلى أية حال لن يتشجع الروس لخوض الحرب إذا رأوا حكومة يسارية في انجلترا . من المؤكد - تقريبا – أن النظام الروسي الحالي سيكون معاديا لأي ثورة تقوم في الغرب . ولن تثور الشعوب الأوروبية إلا إذا بدأت قوى هتلر في الترنح .. وليس قبل ذلك . كما أن الأوربيون ليسوا حلفاءنا المحتملين في هذه الحرب بل الأمريكان : وهم سيحتاجون إلى سنة للتعبئة الحربية ، حتى ولو كان بإمكانهم إيقاف تجارتهم الضخمة فورا . ومن جهة أخرى الشعوب الملونة ستكون في صفنا أيضا – بيد أن هذا يستحيل – حتى ولو كان تضامنا عاطفيا فقط – قبل أن نثور ثورتنا . يجب أن تكون انجلترا ، ولوقت طويل أيضا ( سنة أو سنتين أو ربما ثلاثة ) ممتص صدمات للعالم أجمع . لا بد أن نواجه القصف والجوع والاستماتة في العمل والأنفلونزا والملل ، وعروضا كاذبة من أجل ( السلام ) . إن الوقت وقت تقوية للروح المعنوية ، ما وقت إضعافها وزعزعتها .
بدلا من اعتناق المنظور المناهض لبريطانيا بشكل ميكانيكي – كما هو الحال دائما في اليسار – من الأفضل أن نمعن النظر في شكل العالم إذا ما هلكت الحضارة الناطقة بالانجليزية . فمن الصبيانية أن نحسب أن باقي الدول الناطقة بالانجليزية ستسلم من الحرب إذا استُعمرت بريطانيا .
يعتقد اللورد ( هايلفاكس ) وقبليته أنه عندما تنتهي الحرب سيبقى كل شيء كما كان في السابق . سنعود إلى جنون أرصفة ( فرساي ) ، وإلى ( الديمقراطية ) : أي الرأسمالية ، وسنرجع إلى صفوف الإعانة الاجتماعية ، وإلى الرولزرويسات ... الخ . من الواضح طبعا أن لا شيء من هذا القبيل سيحدث . قد نرى محاولة محاكاة للوضع السابق على مستوى ضعيف – في حالة مفاوضات لـ ( السلام ) – بيد أنها ستكون لفترة وجيزة فقط . لقد ماتت الرأسمالية الحرة . والخيار الآن بين مجتمع توتاليري – كما يريده هتلر – وبين المجتمع الذي ستسنح له الفرصة بالظهور إن هو هُزم .
إذا انتصر هتلر في هذه الحرب سيعزز حكمه على أوربا وأفريقيا والشرق الأوسط ، وإن لم يكن جيشه قد أعياه التعب ، سيستخلص مساحات شاسعة من روسيا السوفيتية أيضا . وسيشيد مجتمعا طبقيا يكون فيه الألمان : الشعب السيد أو الشعب الأرستقراطي ، فيحكم السلاف وكل الشعوب ( المتدنية ) : وستكون وظيفة كل أولئك إنتاج منتوجات زراعية رخيصة له .. وسيستعبد الشعوب الملونة استعبادا صريحا أيضا . إن مشكلة القوات الفاشية الحقيقية مع الإمبريالية البريطانية هي أنهم يعرفون أن الإمبراطورية تتفسخ . عشرون سنة أخرى على نفس المنوال كافية لتتحول الهند إلى جمهورية فلاحين ، متصلة بانجلترا بحلف اختياري فقط . إن ( أشباه القردة ) الذين يتحدث هتلر عنهم بكل كره سيقودون الطائرات ، وسيصنعون الأسلحة الرشاشة . وسينتهي الحلم الفاشي بامتلاك إمبراطورية من العبيد . بيد أنه من ناحية أخرى : إن نحن هزمنا ، سنسلم بكل بساطة ضحايانا لأسيادهم الجدد ، الذين سيستلمون العمل لأول مرة ، ومن غير أن تتطور عندهم بعد أي ضوابط لهذا النوع من الأعمال .
بيد أن مسألة الحرب لا تتعلق بمصير الشعوب الملونة وحسب . إن نظرتين متضادتين للحياة تقتتلان الآن . يقول موسوليني أنها حرب بين ( الديمقراطية والتوتاليرية .. ولا يمكن الوصول إلى تسوية بينهما ) . لا تستطيع هاتان العقيدتان – لأي مدة كانت – حتى أن تتعايشا جنبا إلى جنب . طالما الديمقراطية موجودة – حتى ولو كانت بالشكل الانجليزي غير الكفء – ستكون خطرا مميتا على الفاشية . إن العالم الناطق بالانجليزية مفتون بفكرة المساواة الإنسانية .. ومع أنه يكون إفك صريح إن قيل إننا نحن أو الأمريكان ، قد طبقنا ما نعتقد على أرض الواقع ، إلا أن الفكرة ما زالت موجودة ، وفي إمكانها أن تتحول في يوم من الأيام إلى حقيقة مشاهدة . سينهض في نهاية المطاف من الثقافة الناطقة بالانجليزية – إن هي لم تبد – مجتمع من أحرار متساوين . بيد أن هتلر قد جاء إلى هذا العالم ليدمر فكرة المساواة الإنسانية هذه بالذات – أو فكرة المساواة الإنسانية اليهودية أو اليهودية المسيحية . فكرة عالم فيه الرجل الأسود مثل الرجل الأبيض ، وفيه اليهود يعاملون معاملة البشر ، تخيف هتلر ، كما تخيفنا نحن فكرة العبودية الدائمة .
يجب أن نتنبه دائما إلى أن وجهتي النظر هاتين لا يمكن الجمع بينهما أبدا . قد نشهد في وقت ما في السنة القادمة ردة فعل مناصرة لهتلر في إنتلجنتسيا اليسار . وثمة مؤشرات على ذلك الآن بالفعل . إن منجزات هتلر الإيجابية تعجب هؤلاء التفهة .. أما الذين اعتنقوا السلام عقيدة لهم لا يحيدون عنها ، فإعجابهم به يرجع إلى ميولهم المازوخية . إن المرء ليعرف مسبقا ما سيتفوهون به – تقريبا - . سيبدؤون برفض الاعتراف بأن الرأسمالية البريطانية تتطور إلى مرحلة مختلفة ، أو سيرفضون الاعتراف بأن هزيمة هتلر في الحرب ، قد تعني أمرا غير انتصار مليونيرات بريطانيا وأمريكا . ومن ثم سيتحول جدالهم إلى القول في النهاية بأن الديمقراطية ( مثل ) أو ( بسوء ) التوتاليرية : ليس هناك متسع من حرية التعبير في انجلترا ، فبالتالي ليست حرية التعبير فيها أكثر مما هو موجود في ألمانيا : أي أن لا فرق بين نصف رغيف والموت جوعا . بيد أنه في الواقع ، الديمقراطية والتوتاليرية مختلفتان عن بعضهما البعض تماما . ولن يصبحا مثل بعضهما البعض حتى ولو لم تتمكن الديمقراطية البريطانية من التطور . إن مفهوم الدولة العسكرية القارية هذا كله : بشرطتها السرية ، ورقابتها على المنشورات ، وإلزامها مواطنيها على العمل – مختلف كل الاختلاف عن مفهوم الدولة الديمقراطية البحرية : بأحيائها الفقيرة ، والبطالة المستشرية فيها ، وإضراباتها وسياساتها الحزبية . إنه الفرق بين القوة البرية والقوة البحرية ، بين القسوة وعدم الكفاءة ، بين الإفك والكذب على النفس ، بين رجل الشرطة السرية وجابي الكراء . وإذا جاء الأمر إلى الاختيار بينهما ، لا يختار المرء على أساس قوتهما الحالية ، بقد ما يختار على أساس الشكل الذي يستطيع كلا منهما التحول أو التطور إليه . كما أنه ليس مهما ما إذا كانت الديمقراطية – سواء في أفضل حالتها أو أسوءها – أحسن من التوتاليرية . لكي يصل المرء إلى قراره في هذا الموضوع يجب أن تكون عنده المقاييس المطلقة . إن السؤال الوحيد المهم هو : أين ستكون عواطف الناس إذا أزفت الآزفة ؟ إن المثقفين الذين يحبون الموازنة بين الديمقراطية والتوتاليرية وإثبات أنهما على نفس الدرجة من السوء ، أشخاص تافهين ، لم يسبق لهم التعرض لعوامل الواقع . فهم يبدون لك نفس الفهم السطحي الخاطئ للفاشية - الآن وهم في غزل معها – الذي أبدوه عندما كانوا يصرخون ضدها قبل سنة أو سنتين . إن السؤال المطروح هو : هل تَقبل الخضوع إلى حكم هتلر ؟ هل تريد أن ترى انجلترا مستعمرة ألمانية أم لا ؟ يستحسن أن نتأكد من هذه النقطة قبل الانضمام إلى صفوف العدو . فليس هناك أي حياد في الحروب على أرض الواقع . يجب على المرء أن يساعد إما هذه الجهة أو هاتيك .
عندما يحين الوقت ، لن يتقبل أي شخص نشأ على التقاليد الغربية النظرة الفاشية للحياة . من المهم أن ندرك هذه الحقيقة الآن ، وأن نتنبه إلى اللوازم التي تلزمها . إن الحضارة الناطقة بالانجليزية بكل كسلها ونفاقها وجورها هي العائق الكبير الوحيد بين هتلر و أربه . وهذا هو سبب اتفاق كل الكتاب الفاشيين على وجوب تدمير قوة انجلترا . يجب (إبادة) انجلترا ، يجب ( محوها من الوجود ) . من ناحية إستراتيجية قد يكون من الممكن أن تنتهي الحرب وهتلر محكم قبضته على أوربا ، وفي نفس الوقت تبقى الإمبراطورية البريطانية كما هي ، وقوتها البحرية لم تتأثر ذاك التأثر . بيد أن هذا غير ممكن على المستوى الأيديولوجي : وإذا عرض هتلر عرضا كهذا ، لن يكون العرض إلا نفاقا ، وعينه على غزو غير مباشر لانجلترا ، أو تجديد الهجوم في وقت أفضل له . لن يسمحوا بأن تبقى انجلترا كقمع – من نوع ما – تجري منه الأفكار ( المميتة ) إلى الدول البوليسية في أوربا . وإن نحن عاينا الأمر من وجهة نظرنا ، سنرى أهمية حفاظنا على ديمقراطيتنا كما عرفناها – تقريبا - . بيد أن المحافظة تعني التطور دائما . ليس الخيار الآن أمامنا بين النصر والهزيمة ، بقدر ما هو بين الثورة والخمول . إذا تدمر ما نقاتل من أجله تماما ، سنكون نحن مسؤولون جزئيا عن تدميره .
قد تُدخل انجلترا بدايات الاشتراكية إلى المجتمع ، وتحول الحرب إلى حرب ثورية ، ومع ذلك تخسر الحرب . هذا على أية حال أمر معقول . ولكنه لن يكون بسوء الوضع لو وصلنا إلى ( تسوية السلام ) التي يتمناها القليل من الأثرياء هنا ، وكذابيهم المأجورين . لا يمكن أن تنتهي انجلترا إلا بحكومة انجليزية تعمل تحت إمرة برلين . وهذا لا يمكن أن يحصل إذا استيقظت انجلترا . فعند ذاك تصبح الهزيمة واضحة للعيان ، فيستمر النضال ، وتستمر الفكرة . إن الفرق بين الموت وأنت تقاتل والاستسلام من غير قتال ليس يتعلق بـ ( الشرف ) والبطولات الصبيانية . لقد قال هتلر مرة أن قبول الهزيمة يدمر روح الأمة تدميرا. قد يبدو أن كلامه كلام فارغ بيد أنه صحيح . فهزيمة 1870 لم تضعف النفوذ العالمي الفرنسي – فقد كان للجمهورية الثالثة نفوذا ثقافيا أشد من نفوذ فرنسا نابليون الثالث – ولكن نوع السلام الذي قبله ( بيتان ) و ( لافال ) وشركائهما ، لا يمكن شراؤه إلا بالمحو المتعمد للثقافة الوطنية . ستستمتع حكومة ( فيشي ) باستقلالها الكاذب : شرط أن تدمر العلامات المميزة للثقافة الفرنسية : الفكر الجمهوري ، والعلمانية ، واحترام الفكر والثقافة ، وخلوها من أي عنصرية عرقية . لن نهزم عن بكرة أبينا إن نحن بادرنا وثرنا ثورتنا . قد نرى جنودا ألمانيين يسيرون في ( وايتهول ) بيد أن عملية خطيرة على الحلم الألماني ستكون قد بدأت . لقد هزم الشعب الأسباني ، ولكن ما تعلمه خلال السنتين والنصف ، سيعود بالتأكيد لمواجهة الفاشية الأسبانية .
كثر اقتباس فقرة من فقرات شكسبير الطنانة في بداية الحرب . السيد تشامبرلن أيضا اقتبسها إن لم تخني الذاكرة :
فلتأت أركان العالم الأربعة شاكية السلاح ، وسنسحقها . لن نندم على أي
شيء أبدا طالما بقيت انجلترا صادقة مع نفسها .
وهو كلام صحيح إن أنت فسرته تفسيرا صحيحا . انجلترا يجب أن تكون صادقة مع نفسها . وهي ليس صادقة مع نفسها الآن : واللاجئون الذين ينشدون شطآنها يحشدون حشدا في معسكرات الاعتقال ، ومدراء الشركات يحاولون بشتى الطرق لإيجاد خطط للتملص من ضرائب الأربح الزائدة . لكي تكون انجلترا صادقة مع نفسها عليها أن تودع (التاتلر ) و ( البايستاندر ) وأن تودع السيدات ورولزرويساتهن . لن يكون ورثة ( نلسون ) و ( كرومول ) في مجلس اللوردات ، بل في المزارع والشوارع والمصانع ، وفي القوات المسلحة والبارات والحدائق الخلفية . أما الآن ، فجيل من الأشباح يمنعهم من الوصول إلى ( السطح ) . إن الانتصار في الحرب – بقدر ما هو ضروري – مقارنة بمهمة استخراج انجلترا الحقيقية إلى ( السطح ) ، ليأخذ مرتبة ثانوية . بالثورة سنكون أقرب إلى شخصيتنا الحقيقية وليس أبعد . ولا مجال للتوقف عن العمل ، ولا مجال للحلول الوسطى ، ولا للمحافظة على ( الديمقراطية ) ، ولا للثبات على ما نحن عليه . لا شيء يبقى ثابتا . يجب أن نضيف إلى تراثنا وإلا خسرناه : إما أن ننمو وإما أن نصغر ، إما المضي قدما أو التخلف إلى الخلف . أنا مؤمن بانجلترا .. ومؤمن بأننا سنمضي قدما .
-----------
1.
المفضلات