"

التحرّر" في عيون "المثقفين" و فصل السّياسي عن الثـّقافي
( "جان جنيه" و "آرثر كيسلر" نموذجا )

يقف جان جنيه موقفا مغايرا للمثقفين العرب الذين جعلوا من الغرب مرآة و مرجعا في ثقافتهم و سلكوهم و يرى أن شرط قيام أي ثورة جذرية هو أن يكسر المثقف العربي المرآة الغربية على المستويين الثقافي و النفسي، و يرى كذلك أن الثورة الجذرية الحقيقية هي مواجهة الغرب و هزيمته، و من هذا المنظور يرى جان جنيه أن معوقات المقاومة الفلسطينية هو أنها لم تستطع أن تفلت من الفخ الغربي بدليل أن زعماء المقاومة و مثقفيها يهتمون بما تكتبه الصحف الأوروبية و يقابل جان جنيه الكاتب آرثر كيسلر الرجل الذي كشف الزيف الصهيوني انتهى به إلى الكفر بيهوديته

يعيش " المثقف " حالة تمزق شديدة بين طموحه و تطلعه إلى العالمية و نزعته للاهتمام بما يدور حوله من أحداث، و نجده في صراع كبير بين تكيفه مع الواقع و تمرده عليه و بين حفاظه على قيمه الفكرية و حبه للحرية ، حتى لا تضيع أفكاره في روتين الحياة اليومية المملة، و لهذا نجد معظم المثقفين غالبا ما تكون نهايتهم "مأساوية" تنتهي في غالب الأحيان بالموت، يؤمن المثقف بأن دوره غير محدود في هذه الحياة ، يتجاوز مداه الشعوب و الحكومات، و لهذا غالبا ما نجد المثقف يتطلع إلى التجديد في تغيير الأوضاع السائدة، و نجد غالبية الناس و حتى المسؤولين في الحكم يُحًَمِّلـُون المثقف مسؤولية الأزمات التي تقع و ينفضون على كتفه كل الأوزار..

في ظل الأزمات نسأل دوما أين هو المثقف؟ لأن الجميع ينظر في المثقف كـ: "ساحر" في عصر موسى يضرب بعصاه البحر فتنشق الطريق، أو يخرج يده فيجدها بيضاء أو في عصر عيسى بلمسة منه يبرئ الأكمه و يعيد البصر للأعمى، إن الإجابة على هذه الأسئلة تجعلنا نطرح أسئلة أخرى ذات صلة، أولها أن نعرف من هو المثقف؟ هل هو ذلك القابع وراء مكتبته المنزلية و يغمس رأسه بين أوراقه أو كتبه، هل هو ذلك الذي يجلس وراء مكتبه في مقر الوزارة ، أو الجامعة، أو ذلك " المحرر" بمقر الجريدة لاسيما و هذه الكلمة "المحرر" مشتقة من "التحرر" و السؤال يطرح نفسه ماذا يريد المثقف؟ و كم قضية يحملها؟ لا أحد يملك ألإجابة، لأنه لا أحد يومًا حاول أن يتوغل في نفسية المثقف، الذي دائما يبحث عن التنوع الثقافي و يريد دائما أن ينفرد بأفكاره ووعيه الخاص، يقف على شيء اسمه " التحوّل" و التحول يعني "التحرر" من شيء ما، هو القديم من دون شك، أو المشكوك فيه، أو ربما من قيوده و من معتقدات يجدها أصبحت بالية لا تتماشى و العصر، ينظر إلى المساحة البعيدة بين الواقع و بين "الرغبة" ويعطيها صبغتها الخاصة..

ثمة قيود تقف حجرة عثرة أمام المثقف، يُشترط عليه ألا يقع في الخطأ و ألا يعترف بالهزيمة أو بالفشل في تغيير واقع المجتمع لأنه أمام مشروع حضاري، و بذلك فهو مُطالبٌ بأن يقاوم "الآخر" و يقاوم حتى نفسه، يعني أن يقتل نزواته و شهواته و غرائزه كلها، مطالب بأن يتحرر من أناه، من عـُقـَدِهِ ، مطالب أن يخرج من جسده و روحه مادام في خدمة "الآخر"، و لهذا لا أحد حاول يوما أن يعرف أسرار المثقف، حياته الخاصة، عن طفولته و مساره الثقافي..

معظم المثقفين و العباقرة من كتاب و مفكرين و فلاسفة عاشوا طفولة بائسة و حرمانا عاطفيا و ضياعا أسريا، فترجموا في كتاباتهم بؤسهم وفرضوا بها أسماءهم و أفكارهم على المجتمع، في المقابل نجد معظمهم عاشوا حياة الرفاهية و مكنتهم ظروفهم من دخول عالم الشهرة و العالمية لكنهم نهايتهم كانت مأساوية لأنهم رفضوا واقعا فـُرِضَ عليهم..

نقف مع روائيين عاشا طفولة ملؤها الاكتئاب و الثورات و الغضب الانفعالي، جعلت الكـُتـَّابَ يصفانهما بالشخصية "العصابية" التي تتملكها الهواجس، و ذاقا الاثنان مرارة السجن، إنهما الروائيين (جان جنيه و آرثر كيسلر)، يتفق كل من جنيه و آرثر في مواقفهما إزاء بعض القضايا لاسيما مسالة "العرقية"، كما يتفقان في كتاباتهما الروائية، فرواية جان جنيه بعنوان ( يوميات لص) قد تشبه نوعا ما رواية آرثر التي بعنوان ( لصوص الليل) ، و قد آثرت هذه الرواية جدلا كبيرا لدى اليهود لصراحة الكتاب و جرأته في تناول الأحداث و عرضها بقوة، إذا قلنا أن الرجلان متقاربان من حيث المولد، و فارق السن بينهما غير شاسع ، فآرثر ولد عام 1905، و جنيه في عام 1910 .


(
ولدتُ في الطريق و سأموت في الطريق)
جان جنيه Jean Genetيكشف عدوان فرنسا و احتلالها الجزائر


(
ولدتُ في الطريق و سأموت في الطريق)، تلك هي العبارة المشهورة التي رددها الروائي الفيلسوف "جان جنيه"، عندما نقرأ حياة "جان جنيه" و طفولته نقف على "دراما" من نوع خاص كيف استطاع هذا الرجل أن يتحول من "لقيط" ثم "سارق" إلى كاتب مشهور، كانت حياة جان جنيه حلم يستفيق منه القارئ ، فيكتشف أسرار هذه النفس الحزينة، كانت بداية جان جنيه من دار الأيتام عندما رمته والدته، بعد 07 أشهر من ولادته كونه ابن غير شرعي، و يعتبر أهم حدث درامي في حياة هذا الرجل، عندما اتهم بالسرقة و سيق به إلى إصلاحية الأحداث، كان السجن البوابة الرئيسية التي يدخل منها جنيه عالم الكتابة و التأليف، أول كتاب ألف جنيه كان بعنوان: " يوميات لص" يصف فيه حالة السجن، كان سيان عنده دخول السجن طالما يشعر بالأسر و القيود تكبر معصميه و هو بدار الأيتام، و يؤكد هذا الشعور في كتابه عندما قال : " لقد بدا لي طبيعيا، و أنا الذي رماني أهلي منذ ولادتي ، و أنا أفاقم خطورة وصفي بالشذوذ الجنسي.. إلى أن يقول: هكذا رفضت بشكل قاطع عالما كان قد رفضني"..

كان جان جنيه يدرك أنه لم يخلق ليعيش في أسرة أو يكون له بيتا، فقد عاش حياة كلها تشرد، متنقلا من فندق لآخر، ليقضيها في سنواته الأخيرة بين الفهود السود في جحود أمريكا، و في الخيام مع الفدائيين الفلسطينيين، كان ذلك أواخر 1970، و كان جان جنيه يجمع أكبر قدر من الوثائق عن القضية الفلسطينية، و في الكتابة يجد جان جنيه متعته الشخصية و يرى في السجن هوة من الاتساع، و في القبر حقيقة الإنسان، لكم يكن العالم الخارجي يعنيه، و مع الكتابة يجد نفسه يدخل اللعبة و يصبح جزءا منها..

و رغم ما كتبه جان جنيه فكتاباته لم تنشر إلا بعد توقفه عن الكتابة و ذاك عام 1951، أي بعد تسع سنوات من بدايته الكتابة، و يعترف جنيه نفسه أن الكتابة كانت تضايقه، لأنها كانت تفرض عليه كما يقول نوعا من الاختلال في وضعيته في الحركات و حتى الكلمات، أما السرقة و العيش بين اللصوص فهما يفرضان حضور الجسد، و دخول جان جنيه عالم السرقة لم يكن دلالة على إجراميته أو ينتمي إلى عائلة تتصف بالإجرام ، بل كان فعلا تصادميا مع المجتمع القائم، و ربما هذا التصادم هو الذي جعله يعود إلى السجن عندما كتب مسرحيته " الخادمات"، و "رقابة مشددة"، ووجد نفسه بين قضبان السجن مهدد بحكم "الإعدام" و لكنه كان محظوظا بصدور العفو عنه بعدما تدخل الكتاب و منهم جان بول سارتر و توسطه لدى رئيس الجمهورية الفرنسية (فينسنت أوريول Vincent Auriol ) و هو أول رئيس لفرنسا..

يؤمن جان جنيه بـ: "العرقية" و قد دفعته عرقيته إلى مساندة القضية الفلسطينية، كان جنيه ينتابه شعور جسدي انه من المنبوذين و المضطهدين، و ينتابه شعور بالإنظمام الحسي و العقلي إلى كل من يفجرون تمردهم و ثورتهم، و كرهه للغرب كان دافعا قويا بالنسبة له أن يقف مع الحركات التحررية التي تحارب الغرب، لا فرق له بين أوروبا و إسرائيل مادامت إسرائيل تتحكم في أوروبا، وهو ما جعله يؤمن بأن الحضارة الأوروبية انتهت و هي اليوم في طور الاحتضار..

كما يقف جان جنيه موقفا مغايرا للمثقفين العرب الذين جعلوا من الغرب مرآة و مرجعا في ثقافتهم و سلكوهم و يرى أن شرط قيام أي ثورة جذرية هو أن يكسر المثقف العربي المرآة الغربية على المستويين الثقافي و النفسي، و يرى كذلك أن الثورة الجذرية الحقيقية هي مواجهة الغرب و هزيمته، و من هذا المنظور يرى جان جنيه أن معوقات المقاومة الفلسطينية هو أنها لم تستطع أن تفلت من الفخ الغربي بدليل أن زعماء المقاومة و مثقفيها يهتمون بما تكتبه الصحف الأوروبية ..

في كتاباته المسرحية يُعَرِّي جان جنيه واقع المجتمع و أساليب حكومته و هي المسرحية التي بعنوان الحواجز أو "البرافانات" و اسقط كل الأقنعة عندما تعرضت مسرحيته إلى الهجوم و راح الكتاب يباركون هذا الهجوم ، فكشفوا عن "الحرية " الزائفة في الغرب ، لاسيما و مسرحية الحواجز عرضت ملامح الاستعمار الفرنسي في الجزائر ، و هنا نقف على أن كتابات جان جنيه كانت في مجملها رفضا للأنظمة الاستعمارية في شكلها العام، و في كتاباته نقف كذلك على ذلك الباحث عن الوضوح و الحقيقة، الباحث عن "التحرر" ربما هذه الكتابات هي التي عكست نهاية جان جنيه بدايته بالعودة إلى الحياة بل بداية الحياة، عندما نقف على مثقف آخر ختم مساره الفكري بالتحرر من وجوده عن طريق "الانتحار"..



" آرثر كيسلر" الرجل الذي كفر بيهوديته

كان الانتحار الطريق الذي أفضى بالكاتب البريطاني المجري" آرثر كيسلر" على الهزيمة النهائية، قبل هذه النهاية انضم آرثر كيسلر في أواخر حياته إلى جمعية يطلق عليها اسم " خروج EXIT "، تنادي بمبدأ "الخلاص الذاتي" و تنشر أن حياة الفرد هي ملك له وحده و يستطيع بناء على ذلك أن يتخلص منها بالموت الانفرادي أو ما يسمى بـ: " اليوثانيزيا"، حيث يجد أنها تمثل له عبئا ثقيلا عليه بسبب الشيخوخة، أو العجز أو المرض، و قبل أن يقدم آرثر على الانتحار كتب مقدمة للنشرة التي تصدرها الجمعية عن تعاليمها يقول فيها: " بعد أن حاربت و جاهدت طويلا من أجل إقرار حق الحياة بالنسبة للمحكوم عليهم بالإعدام فإنني أجد الآن من المناسب و المنطقي أن أنادي بحق الموت بالنسبة للمحكوم عليهم بالحياة الطويلة المملة التي تمتهن بطولها كرامة الفرد و تسلبه منه احترامه لنفسه"..

عمل آرثر كيسلر سكرتيرا خاصا لأحد غلاة المتطرفين و هو "فلاديمير جايوتنسكي" الذي تتلمذ على يديه مناحم بيغن و لما اكتشف زيف الصهيونية تحول عنها ، رغم أنه من أصل يهودي، كانت حياته مليئة بالكبت السياسي و الثقافي، تميزت أعمال هذا الرجل بالحديث عن "الموت"، فكانت كتاباته تفضح عجز الإنسان و ذلك في رواية له بعنوان: " ظلام وقت الظهيرة" و رواية " وصول و رحيل" قدم فيها صورة للعذاب النفسي الذي يتعرض له الفرد في مجتمع استبدادي، اكتشف آرثر الزيف الصهيوني، فكان له موقفا عدائيا لهم، إذ يذكر في إحدى كتبه أن أصل اليهودي في شرق أوروبا لا ينحدرون من الأصل السامي، و إنما هم نسل من جماعات تركية قديمة كانت تعيش في شرق آسيا، ثم تحولت إلى اليهودية في العصور الوسطى، و هي الأسباب التي أدت بهذا الرجل إلى أن يكفر بيهوديته ، مما زاد من سخط اليهود عليه، وهي صورة عاشها هذا المثقف عندما عمل كمراسل حربي لجريدة نيوزكرونيكل البريطانية ووقع في قبضة جهاز المخابرات و حكم عليه بالإعدام، و ظل الكاتب في زنزانة انفرادية لأكثر من 03 أشهر..

كان آرثر كيسلر يؤمن أن "هدم الشخصية و محوها و تحطيمها و إذلالها و القضاء عليها أفضع بكثير من القتل الحقيقي البسيط، و يرى آرثر أن الموت لا يعني زوال الإنسان من الوجود تماما بقدر ما يعني ذوبان ذلك الفرد في الوجود الكوني ككل، وهو في الـ: 77 من عمره تملكه المرض، فوجد أنه من حقه أن يتخلص من تلك الحياة بالانتحار، و تبعته زوجته التي عملت عنده كسكرتيرة ثم عاشرته بغير زواج لسنوات طويلة إلى أن تزوجها ، وانتحر الزوجان عن طريق تناولهما جرعة كبيرة من الحبوب المهدئة و عثر على جثتيهما معا..



الحياة موت و الموت حياة من أجل "التحرر"

لقد كان مقدرا لهذين الرجلين أن يعيشا حياة تقوم على المتناقضات و المفارقات مع أنفسهما و المجتمع الذي عاشا فيه، و هذه المفارقة هي التي اضطرتهما إلى "التحرر" من المخاوف التي كانت تعيقهما و تقيدهما..، كان "التحرر" القاسم المشترك الذي جمع بين الروائيين جان جنيه وآرثر كيسلر و ربما هي الفكرة التي دأب عليها جل المثقفين من كتاب و فلاسفة، فالاثنان يتفقان في الدعوة إلى "التحرر" في شكلها و لكنهما يختلفان في مضمونها، و يعني جان جنيه بالتحرر الاندماج في الحياة و إثبات الوجود، أما كيسلر فالتحرر عنده يعني التخلص من الاثنين ( أي الحياة و الوجود) و التحرر عن طريق الموت موقف فلسفي ظل كيسلر متمسكا به طيلة حياته و الفرق بينهما هو أن الأول أي جان جنيه كمثقف يرى أن حياته ملك لغيره، و الثاني يرى أن حياته أمر يخصه وحده و له الحق في أن يتصرف فيها كما يشاء، و على هذا الأساس قامت فلسفة آرثر على ما يسمى بـ: " اليوثانيزيا"..

ربما كان تحرر الروائيين من الفراغ، من التفاهات أحيانا، و ربما من الروتين القاتل، و يمكن أن نقول في مسار هاذين الرجلين أن الحياة موت و الموت حياة من أجل التحرر، أليس كذلك؟؟؟؟..





علجية عيش