ما إن وقعت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) في الولايات المتحدة الأميركية حتى انطلقت وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة في أميركا ومختلف أنحاء العالم الغربي تنسب ذلك الهجوم على مركز التجارة العالمية إلى العرب والمسلمين الذين يقفون في رأيها موقف الرفض والعداء للحضارة الغربية وينقمون عليها تقدمها وتحررها وإنجازاتها العلمية والتكنولوجية وتفوقها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وحرصت تلك الوسائل على أن تقارن بين ذلك الهجوم الذي أدى إلى تدمير أكبر صرحين يمثلان القوة الاقتصادية الأميركية الجبارة وبين الهجوم الياباني على بيرل هاربور الذي أصاب الهيبة العسكرية الأميركية إصابة بالغة (أجبرتها) على دخول الحرب العالمية الثانية ضد اليابان وقوات المحور. والواقع أنه على رغم انقضاء كل الفترة الزمنية الطويلة التي تفصل بين الهجومين والتي تصل إلى ستين سنة كاملة (ما بين كانون الأول - ديسمبر 1941 حين وقع الهجوم على بيرل هاربور و11 أيلول 2001 تاريخ الهجوم على مركز التجارة العالمية), فإن هناك بعض أوجه الشبه بين الحدثين سواء من حيث أسلوب التنفيذ وتوقيته أو حجم الخسائر أو الآثار التي ترتبت عليه. فقد وقع الهجومان في شكل مباغت ومفاجئ على أكبر رمزين يمثلان القوة والمكانة والهيبة والهيمنة الأميركية وهما التفوق العسكري والتفوق الاقتصادي اللذان يضمنان لها التحكم في أقدار العالم كله. وعلى رغم أن الولايات المتحدة كانت تتوقع الغدر من اليابان في الحالة الأولى ومن بعض التنظيمات الإسلامية المتطرفة في الحال الثانية, فإن أجهزة الاستخبارات الأميركية التي تعتز أميركا بتفوقها وإمكاناتها العالية وقدرتها على رصد كل ما يحدث في العالم والتنبؤ مسبقاً بما قد يحاول الآخرون القيام به ضد المجتمع الأميركي. فقد أخفقت هذه الأجهزة في اكتشاف الهجومين قبل وقوعهما فعلاً, ما أدى إلى ارتفاع عدد الضحايا في الحالين (أكثر من ألفين وخمسمئة من العسكريين في أحداث بيرل هاربور وأكثر من أربعة آلاف من المدنيين في أحداث 11 أيلول) وذلك فضلاً عن الخسائر المادية وضياع هيبة أميركا وشعور الأميركيين بالذلة والمهانة. وجاء رد الفعل على الهجومين عنيفاً ومدمراً حتى تستعيد أميركا هيبتها وكرامتها المهددة ويسترد الشعب الأميركي توازنه النفسي. ولكن إذا كان من السهل على الولايات المتحدة أن تنتقم لنفسها من اليابان انتقاماً يتناسب مع عمق الجرح والإهانة اللذين ألحقهما بها ذلك الهجوم, فإن الأمر ليس على مثل هذه السهولة بالنسبة إلى منفذي الهجوم على مركز التجارة العالمية, لأن أميركا تواجه في هذه الحال عدواً غير محدد المعالم لأنه لا يؤلف دولة أو كياناً ملموساً محسوساً يمكن محاربته وإيقاع الهزيمة به بل وتدميره تماماً مثلما حدث لهيروشيما وناغازاكي وإنما هو تنظيم مراوغ ومتشعب ومنتشر في كثير من دول العالم بحيث اضطرت أميركا إلى شن حربين حتى الآن على دولتين في العالم العربي/ الإسلامي بحجة محاربة الإرهاب والقضاء على ما تسميه (قوى الشر) ونشر الديموقراطية والسلام, وكلها دعاوى ظهر زيفها بعد أن كشف بعض الأمور عن بعض الحقائق التي ظهر منها أن السياسة الأميركية تلجأ وقت اللزوم إلى الكذب والغش والخداع وتطبيق أساليب لا تختلف كثيراً عن المبادئ التي أدرجها نيقولو مكيافيللي في كتابه "الأمير" الذي يتمتع بسمعة سيئة نظراً للتعاليم والوصايا الفاسدة اللاأخلاقية التي يوصي بها كأساس لتوطيد السلطة السياسية والتعامل مع الآخرين من موقف القوة والشعور بالنفوذ.
كان من رأي مكيافيللي أن ينتهج الأمير (الدولة) سياسة تقوم على العنف والخداع والغش والكذب والتمويه كلما تطلب الأمر ذلك وأن التراخي عن التسلح والاستعداد للحرب يجلبان الاستهانة والاحتقا, لذا ينبغي على الأمير أن يكرس كل جهوده لإتقان (فن) الحرب لأنه هو (الفن) الوحيد الذي يضمن ترسيخ القوة السياسية, بل هو الفن الوحيد أيضاً الذي يمكن بواسطته حتى الشخص العادي أن يرتقي إلى أعلى مناصب الدولة, وأن الأمير الذي يهمل انتهاج هذه السياسة سرعان ما يفقد مكانته واحترامه ونفوذه بين الناس, وأنه إذا كان على الأمير أن يختار بين أن يوصف بأنه حاكم طيب وصالح أو أنه إنسان سيئ وشرير, فإن من الأفضل له أن تكون طباعه وخصاله أقرب إلى الشر والسوء منها إلى الطيبة والخير لأن الشر يعلي من مكانته ويزيد من هيبته ويساعد على المحافظة على الدولة وعلى استتباب الأمن وتحقيق الرفاهية بعكس الخير الذي كثيراً ما يؤدي إلى فقدان القوة وإلى الضياع والدمار. كذلك إذا كان على الأمير أن يختار بين أن يكون محبوباً أو مرهوب الجانب فالأفضل له أن يكون مرهوباً يخشاه الناس من دون أن يكون مكروهاً إذا أمكنه التوفيق في ذلك.
وكثير من القواعد التي وضعها مكيافيللي في الكتاب وبخاصة في الفصل الثامن عشر, تجد لها صدى قوياً في سلوك الإدارة الأميركية في الوقت الحالي خصوصاً على رغم كل ما تدعيه من التمسك بمبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان والعمل على نشر العدالة, وتحدد هذه القواعد (أصول اللعبة) السياسية للتمسك بالحكم والسيطرة على الآخرين وبث الرعب في نفوس المعارضين والقضاء على الأعداء والمناوئين, وقد ذهب في ذلك إلى حد التوصية بالالتجاء إلى القتل والاغتيال بمختلف الطرق الوسائل لضمان إقرار السلطة. فالتعاليم والقيم والمبادئ الدينية والأخلاقية ليس لها مكان في حلبة الصراع السياسي, ويقول في ذلك: "لا يمكن الأمير... أن يراعي هذه الفضائل الدينية والأخلاقية التي تضفي الخير على الناس, لأنه كثيراً ما يضطر إلى التصرف من دون رحمة وضد ما يؤمن به وضد الإنسانية وضد الصدق والصراحة وضد الدين لكي يحافظ على الدولة". وأن على الأمير أن يتعلم كيف يكون مخادعاً إذا كان ذلك يخدم أغراضه ولكن شرط ألا يجعل الآخرين يكتشفون كذبه وخداعه بل إن عليه أن يعلن ودائماً إيمانه وتمسكه بخمس فضائل مهمة هي الرحمة والصدق والإنسانية والاستقامة والتدين من دون أن يكون حريصاً في حقيقة الأمر على أي منها, ولكن عليه في كل الأحوال أن يراعي أمرين مهمين: الأول هو أن يحسن معاملة جنوده وأن يسبغ عليهم المنح والعطايا والهبات لأنهم هم سنده في الحكم والثاني أن يتجنب إثارة كراهية الناس بمصادرة أملاكهم لأن الإنسان قد يغفر وينسى قتل أبيه ولكنه لا ينسى ولا يغفر بسهولة ضياع ممتلكاته. ثم يقول مخاطباً الأمير في الفصل الثامن عشر نفسه وهو فصل غريب لما يحتويه من أقوال ووصايا منافية لكل القيم الإنسانية: "يجب أن تعرف أن هناك وسيلتين للمواجهة: الأولى من طريق القانون والثانية من طريق القوة. فأما الأولى فإنها تناسب البشر بينما تصلح الثانية لمقاتلة الوحوش. ولكن نظراً لأن الأولى لا تجدي كثيراً, فإنه لا بد من اللجوء إلى الثانية لتحقيق الهدف, ولذا يتعين على الأمير أن يعرف كيف يتعامل مع الإنسان ومع الحيوان على السواء وليس عليه أن يجد المبرر الشرعي لأفعاله".
وهذه كلها (نصائح) تنعكس في السلوك الأميركي في شكل واضح وصريح. وقد لا يعمد رؤساء أميركا إلى القتل بالمعنى الحرفي للكلمة, أي القتل الفيزيقي, وذلك إذا تغاضينا عن بعض أساليب أجهزة الاستخبارات الأميركية المريبة ولكن هناك القتل المعنوي والسياسي والاقتصادي من خلال فرض العقوبات الاقتصادية والمطاردة في المحافل الدولية ونشر الأكاذيب والادعاءات الزائفة غير الصحيحة وتسخير وسائل الإعلام المختلفة للتشهير وإثارة الرأي العام العالمي حول قضايا ملفقة كما حدث في مسألة أسلحة الدمار الشامل التي اتخذت مبرراً لغزو العراق واحتلاله. وقد كشف عدد من المعلقين السياسيين في أميركا ذاتها عن أن أحداث 11 أيلول وامتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل وتهديده السلام العالمي خضعت - وشأنها في ذلك شأن الهجوم على بيرل هاربور - للكثير من التشويه والكذب والتمويه على الرأي العام بطريقة مدروسة ومتعمدة لتعبئة الشعور القومي وتهيئة الرأي العام العالمي تمهيداً لشن حروب تهدف في ظاهرها إلى الانتقام واسترداد الكرامة المفقودة وتخليص العالم من القوى الشريرة التي تهدده ولكنها ترمي في حقيقة الأمر إلى تحقيق مصالح سياسية خاصة برجال الحكم أنفسهم ورغبة في توطيد القوة السياسية لأميركا ومد نفوذها إلى مناطق واسعة خارج حدود القارة الأميركية. وقد دللت التطورات الأخيرة على صحة وصدق ما ذهب إليه هؤلاء المحللون السياسيون في ما يتعلق بالعراق وإلى حد ما في ما يتعلق بالحرب في أفغانستان وكيف كانت أميركا تشجع صدام حسين بطريق غير مباشر على غزو الكويت لكي تجد لها مبرراً لدخول حرب ظاهرها تحرير الكويت وباطنها وحقيقتها توطيد الوجود الأميركي في منطقة الخليج, وبالمثل تكشفت الحقائق عن مسؤولية الرئيس روزفلت نفسه ولو جزئياً عن الهجوم الياباني على بيرل هاربور من طريق اتباع سياسة استفزاز اليابان حتى تتخذ خطوات عدائية تسمح لأميركا بالدخول في الحرب ضد المحور وإلحاق الهزيمة بألمانيا لئلا يتسع نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري. ولم يكن الرئيس روزفلت يتوقع أن يجيء الرد الياباني على ذلك الاستفزاز بهذه الصورة التي ألحقت كل هذه الخسائر البشرية وكل هذا الضرر بالهيبة الأميركية العسكرية, ولكن لم يكن لديه أي مانع على الإطلاق من أن يضحي ببعض قطع الأسطول وببعض الخسائر في الجنود لكي يحقق أهدافه. فهذه كلها أساليب مخادعة تقوم على الكذب والتظاهر بالبراءة لإخفاء النيات الشريرة وكلها تطبيق عملي معاصر لمبادئ نيقولو مكيافيللي وتعاليمه وتوجيهاته ووصاياه في كتاب "الأمير" الذي صدر في القرن السادس عشر. وقد يساعد الرجوع إلى كتاب "الأمير" على فهم واستيعاب أهداف السياسة الأميركية واستيعابها إزاء العالم العربي الإسلامي وتحديد مواقفنا إزاء هذه الأهداف.

هذه دعوة لجميع اعضاء واتا الحبيبة الى الاطلاع على الكتاب الذي أضحى جليس كل حاكم يضعه تحت وسادته ضنا منه أنه (اي الكتاب) الاداة المثلى التي يتعامل بها مع شعبه المقهور ...