ديوان جمال الصليعي
(أهلا وسهلا ومرحبا)

لا تزال "إن من البيان لسحرا"إذا وقعت على مصطفى أقوالنا تهوي إلى الصدق وترمي الصواب، إذ تحكي ما إذا سُمع من القول أو قُرئ اخترق منا الحشا وبلغ مغيب المشاعر وأثلج صادي الوجدان...
كان أول لقاء لي بجمال الصليعي شاعرا ملقيا في ليلة من ليالي شهر رمضان من سنة خلت... شهدنا عندها له نشيدا في أمسية شعرية بالمكتبة الجهوية بقابس المعمورة.. كان جمال وقتها الشاعر الصادح القادم إليّ.. إلينا من بعيد.. وأي بعيد.. بعيد الشوق والعشق.. بعيد "ذراني والفلاة بلا دليل"..
"إن من البيان لسحرا".. يجتذبك الصوت ويجتاحك منه صدى أصيل يزور أعماقك فتجد منه كمس لطائف التذاذ ذهبت بعيدا وغابت في حنايا ذات موجوعة بوعود لا تعود.. يجتذبك فيستوطن منك الأعماق.. يأبى النزول ولا يزول.. يأبى الرحيل ولا يحول...
"إن من البيان لسحرا".. الصوت العربي كما لم ينطقه من "عربنا الأواخر" لسان... تسمعه فتدرك مما تسمع معنى ألا يكون الشعر بغير النشيد.. تجد منه صوتا إذا انبجس تردده الآفاق ويرتدّ له من الحشا صداه.. هدوء في سكينة الليل القديم.. وقوّة في حدّ اليقين وامتداد في رحابة "صدري بها أفضى أم البيداء"...
لم نسمع المتنبي يلقي شعره ولكنّنا أصخنا إلى نشيده نشيجه يسري في أوصالنا فيصل ما انفصل ويرتق من الزمان ما يُقنعنا بقوله "أنا الطائر المحكيّ والآخر الصدى".. وقد قتل المتنبي،كما قيل، الشعراء.. ولكن رماد العنقاء خصيب ومن اعتصم بأسباب الخلود كان من المخلّدين...
لست أرى في جمال الصليعي "الآخر.. الصدى".. ولكنه ذاك المحكيّ يعود إلينا، راحلتُه القوافي.. كما لم يمض من الزمن غير ميقات الحمل... ولست أراني أبالغ إذ أصف هذا الوصف.. ولكن مواجد اللغة تحملني على البوح بما يهجس به الجنان...
القصيد النشيد: يجري صوت جمال الصليعي بالعروبة صافية في عذرية الصحراء الخصيبة وعذوبة الديمة السكوب. كمن حُلّت عقدة من لسانه فصار للقول سيدا.. وتداعت له القوافي تعطيه قيادها... لم يركب جمال الصليعي مراكب الإعلام السائد التي كثيرا ما خفضت الرفيع ورفعت الوضيع حتى صار الأدب صناعة و صار الأديب صنيعة.. صنيعة كلام ركيك على كلام لا يليق.. ولم تسوّل له نفسه الأمّارة بالإبداع أن يطأ موطئا يغيظ القابضين على جمر الوعي، في زمن اللاوعي، ممن بقي من "العرب النجب"... تخبّ به نجائب الشعر بعيدا عن الأصوات التائهة في بيداء الاحتفال وثقافة الأسمال...
صوت كما لم تكن الفصاحة على أيامنا.. وللضاد على اللسان نغم لا تنكره الأذن الأصيلة... كان البدء منه بالبدء "أ.. ب.. تلك بدايات الأشياء.." وانساب الشعر فأنشأ لصاحبه بين الناس قدرا.. ولقد أتبع سببا... ارتوى الفتى من القرآن وشبع من شعرنا القديم.. بل لقد أدمنه حتى عرف أدق مسالكه.. ذلك ما يتجلى من شواهده وتضميناته التي تحكي حوارا حميما بين جمال الصليعي وأسلافه من فرسان القوافي وأمراء الكلام كما كان يحلو للخليل بن أحمد أن يسمّي الشعراء.. قديما، فكان أن أنشأ لنا من رصيده الأصيل شعرا يمتعنا إذا سمعناه ويقنعنا إذا قرأناه..
أمتعنا الرجل بقراءاته التي تابعناها متابعة من استبدّ به صدًى نزل به فراح يبحث عمّا يزيل من غلّته... وأمِلنا طويلا أن نجد له بين دفات الكتب ما يحمل اسمه ويدوّن رسمه... وجاءت الأنباء بالأنباء.. وُلد "من أنباء القرى"... طال الحمل يا صاحبى واستطال التمنّع... ليس كالصوت عنوانا للحضور.. أي نعم... ولكن للقلم سطوته وبه جاء القسم.. وللخطّ حكمه وعليه كان المعوّل في وصلنا بأبي الطيب وأضرابه ممن علمونا أفانين البيان وعناوين البرهان وعرّفونا بسراديب العرفان... "فوجداننا بعدهم عدم"..
نورالدين الغيلوفي/ تونس