أيام في العزلة: اليوم الثاني

أجلس على صخرة وسط النهر، عاريا أجلس، أرغب في العودة إلى بدائيتي، أريد أن يلامس جسد كل الأشياء التي تحوطني: الماء والهواء والتراب والرمل والأعشاب.. أنا الآن أعيد ترتيب حياتي، أستعيد زمن البارحة حين غادرت البيت وقد قررت العزم على الخلوة.. أشياء كثيرة تشدني إلى عالم الناس، لكن قررت أن ألغي كل الالتزامات، وكل المشاريع الصغيرة التي أحاول من خلالها أن أعطي معنى لوجودي، صعدت الطريق الجبلي الذي يخترق البلدة، أسير وأنا مشدود إلى الجدران الطينية المتهدلة من الجبل وهي تحكي لي حكاية البدايات، تهاوت البيوت وانزاح الستار، وانكشف ما كان مستورا:

لك يا منازل في القلوب منازل

هكذا قال الشاعر ذات حزن وشوق شبيه. وكلما أمعنت النظر غصت في الزمن البعيد، أشتم، أسمع وأتذوق، أشعر.. كان كل بيت من هذه المنازل يحضن إحساسا ورؤى وأحلام. الآمال انطفأت، ولم يبق منها غير أطياف وأشباح، كل شيء عاد تدريجيا إلى طبيعته الأولى: التراب والفناء والغياب..

أجل الموت، كل من يتأمل في الموت لاشك تنتابه أحاسيس وأفكار تربك كل حساباته الآنية والمستقبلية، سيشعر بالدوار خصوصا عندما لا يمتلك رؤية أو فلسفة واضحة لحياته، ولعل السؤال هو كيف أمضي إلى مصيري المحتوم؟ هو أكثر الأسئلة إثارة للقلق، وتبين لي أن القدرة على العيش بهدوء وسكون ومحبة وعطاء هو ما يمنح الحياة المسالمة..

استوقفتني الأطلال وأنا ذاهب إلى عزلتي كما فعلت بالشاعر العربي البدوي، ولكن لا لأبكي محبوبة رحلت، وإنما لأسمع همس العشاق، وحكايات الجدات، وصخب الأطفال ووجع النساء، وزغاريد الأعراس، ونواح المآتم.. لأتنسم روائح الجدران الطينية التي اختفى بُناتها، وروائح العطور البدوية، وأتذوق طعم الموت الساكن بين الطلول، كم هو مالح طعم تراب هذه الجدران تماما كالدموع!.

مشيت الطريق الخالي، وكلما تعرجت صعودا ونزولا بين الوديان تعرجت المسالك في أعماق ذاتي، أحاول أن أتبين ملامح وجهي، وملامح من قاسموني الحياة ذات زمن، أجدني عاريا من الجميع، أرتدي وحشتي وغربتي وأمضي باحثا عن تيهي.. أبدد جسدي وأوزعه على الأمكنة التي تعرفني ولا تعرفني، والأزمنة التي عشتها ولم أعشها.. وما أراه عيانا وأنا الهارب إلى علم آخر لا يعدو أن يكون مجرد أشباح تمضي دون أن تدري إلى أين.

ألقيت بجسدي في النهر،أحسست بأنامله تدغدغ جسدي.. نشأت بيني وبين النهر علاقة غامضة لا أجد له تفسيرا، منذ أن تعارفنا لم نفترق، تقاسمنا أجمل اللحظات كما تقاسمنا أصعبها، كان ولا يزال أمين أسراري، أروع ما علمني صلابة الصمود والمقاومة، علمني أن أنحني عند هبوب عاصفة هوجاء، وأشمخ عندما يصفو الجو، وتعتدل الريح.. ما يهمني أني الآن في لحظة استرخاء قصوى، يزيد من متعتها أصوات العصافير وخرير الماء وحفيف أوراق الأشجار.

ولعل أصعب ما لقيته وأنا مقبل على هذا المشروع هو كيف يمكن أن أتجاوز ذاتي التي اعتادت أن تعيش في القطيع، وهل يمكنني أن أكون بدون الآخر، وكيف أتمكن من عادة الخضوع والركون لما علموني إياه لسنين طويلة على أنه الصواب والحق؟

لاشك أني سأجدني مضطرا لأكون أنا المتهم والقاضي في نفس الآن، علي أن أكون الحاكم والمحكوم، الشر والخير، الصواب والخطأ فلا معايير سأحتكم إليها إلا ما أتعلمه من الطبيعة، إنها المعلم الأصيل، وما علي إلا أن أكون تلميذا نجيبا، ليس لأحصل على أعلى التقديرات وإنما لأحافظ على حياتي، فليس في العالم الذي أنا إليه ذاهب ضمانات.

لا شيء يوجد في هذه اللحظة خارج ذاتي، أنا الآن بلا أسرة، بلا أصدقاء، بلا أهل، تركت الناس ورائي، سأتعلم من جديد أن أحيا حياة أخرى، وأترقب ما ستأتي به الأيام المقبلة ..