هموم الذات والواقع في"أناشيد الضباب " لابن يونس ماجن

الدكتور جميل حمداوي


ينتمي بن يونس ماجن إلى المنطقة الشرقية بالمغرب الأقصى التي بدأت تعرف حركية شعرية مزدهرة منذ فترة السبعينيات لتتصاعد مع الألفية الثالثة. ويمثل شاعرنا أيضا مدرسة المهجر أو مدرسة الاغتراب المهجري؛ لكون المبدع من الشعراء المغتربين الذين يكتبون شعرهم من خارج الوطن بكل حرقة وشوق وحنين إلى البلد الأصلي، وتحضر في دواوينه الشعرية تيمة الاغتراب والمعاناة بشكل جلي وطافح. ومن أهم دواوينه الشعرية التي يجمع فيها ماهو ذاتي وماهوموضوعي ديوان" أناشيد الضباب" الذي سنحاول مقاربته مناصيا.

1- عتبـــات الديوان:

من المعلوم أن بن يونس ماجن من أهم الشعراء المغاربة المعاصرين الذين ينحدرون من المنطقة الشرقية، ويعيش هذا المبدع المغترب الوجدي في بريطانيا ويعمل فيها مترجما وموظفا داخل الخزانة الملكية بلندن. وقد كتب دواوين شعرية عديدة باللغتين: العربية والفرنسية. واختار لها دور نشر متنوعة تمتد من لندن إلى الرباط عبر القاهرة ودمشق وباريس وبيروت.
هذا، وقد صدر ديوان" أناشيد الضباب" في لندن سنة 1988م في اثنين وثلاثين صفحة من الحجم المتوسط، وواحد وعشرين قصيدة شعرية من شعر الانكسار، ومن مقاس هندسي(14سم/ 22سم).
وإذا كان الإهداء الذي تعلقت به الصفحة الثانية من الديوان إهداء عائليا حميميا، فإن العنوان الخارجي ( أناشيد للضباب) يتخذ بصمة أيقونية دالة على التكرار الإثباتي وجدلية التجلي والخفاء، ويحيل على عالم الحزن والسوداوية والسراب والضياع والاغتراب الذاتي والموضوعي. ومن ثم، فقصائد الديوان أشعار جنائزية ومراثي مأساوية للمكان والزمان. وقد أرفقت القصائد بهوامش سياقية زمكانية تحدد زمن الكتابة ومكانها، كما تسعف القارئ على تمثل دلالات القصائد واستيعاب خلفياتها المعرفية والسياقية قصد تدبر أفضل لهذا الديوان الشعري. وتتخذ فهرسة الديوان تصنيفا تيماتيكيا مرقما، بينما قصائد المتن الشعري الداخلي تتكئ على تصنيف يتجادل فيه المكان مع الزمان في بوتقة وجدانية منصهرة ذاتيا وموضوعيا.
ويلاحظ أيضا أن الديوان خال من العتبات المحيطة الأخرى كاللوحة الأيقونية والمقدمة والمقتبسات والحواشي والهوامش وكلمات الغلاف. أي إن الديوان من الناحية الزخرفة المناصية حاف وعاد جدا. وقد كتبت قصائد الديوان مابين1984م و1988م بين لندن ووجدة ومكناس، وهذا يؤشر على ثنائية الداخل والخارج وجدلية الذات والموضوع وتداخل القلق الاغترابي مع الشوق والحنين إلى الوطن الأم.

2- دلالات الديـــــوان:

أ- الهـــــــم القومـــي:

يستهل الشاعر ديوانه بقصيدة قومية تصور شراسة العدو الصهيوني المعروف بالغدر والكيد والحقد الدفين الذي يعيث في الأرض فسادا، كما يطعن الشاعر في عقيدة هؤلاء المفسدين العتاة وشريعتهم التي تدفعهم إلى الإجرام والقتل والتنكيل بالأبرياء والشهداء:

صهيون
الوحش المحقون
بالدم الأسود
بالغدر
بالخديعة
بالطاعون
بالسم الزعاف
بالخنا الملعون
...
صهيون
خرتيت إسرائيل
نبي المفسدين
في أرض التاريخ المقدس
في فردوس النعيم(ص:3)

ويندد الشاعر بمجازر شارون اللعين الذي دشن في فلسطين ولبنان تاريخ الموت والفتك بالضحايا . كما استباح دماء أبرياء الأرض المقدسة، وجعل الصليب المسيحي ينفطر حزنا وبكاء بفواجع اليتامى والشهداء:

الجسد العميق الفارغ
وصدى العظام الهزيلة
كمنخار البومة الشوهاء
والطاعون المقزز
يختلج كالموت...
كغراب أصلع كسيح....
يتبجح في (كنيسة) الرياء
والخطيئة القديسة
والارتعاشة الفظيعة
المكبوتة في أنفاس الدموع
والشهوة الصليبية
(كالمسيح) المخنوق
على أحجار العذارى
والشيطان الجسور
والملاك المغرور.. واللعنة السرمدية
والنجاسة المتجعدة
على الأكفان
مخضبة في مذابح شارون)(ص:6-7).

ويبكي الشاعر مع اللاجئين المغتربين الذين يعانون من الاغتراب الذاتي والمكاني بعيدا عن أرض البلاد هاربين من قسوة الأعداء وشراسة القساة:

يا صغيرتي... لو تعلمين
كيف أنهم يذبحون الأفكار
ويمزقون آمال كل جنين
ويحاولون محو البحار
من أعماق الصخور
وينسفون الأطلال
على اللاجئين
ويجرحون شعور الملايين
التائهين.
بلا مأوى...أو قرار معين
أياديهم مكبلة بحديد لا يلين(ص:18)


ب- الهم الذاتي والوجداني:


ينتقل الشاعر من الهم القومي إلى ماهو ذاتي عاطفي ونفسي لينسج تجربة وجدانية ذاتية رمزية تحت عنوان" عتاب"، وتجنح هذه القصيدة إلى ماهو رومانسي ووردي لتنتهي التجربة بالفراق والوداع الأخير:

سألتني
فكان السؤال مبهم
قالت لي...
ألست الحبيب المغرم
ألست أنت الهوى والنغم
ياليت لوتعلم
قلت...على هواك يامريم
يكفيني منك العذاب والسقم
يكفيني ما أنا فيه... من نار جهنم
اتركيني لحالي ..أتنعم
لعل قلبي العليل يشفي
من ليالي النوى... والندم
فرمتني بسهم مسمم،
حتى ذقت الردي...فكان الوداع
المحتم(ص:4)

وفي قصيدتي ( الاعتذار الأخير) و( عيناك) يحضر السياق العاطفي وتجربة الحب مع الشقراء الغربية التي تنتهي بالقبل الحارة والاستسلام للحب والشعور الدفين وتقبل الاعتذار الأخير:

تتمزق أحشائي...
أتوسل إليك ياشقرائي
وفي أعماق جنون يرتعش
فتهجرني لمحاتك العذراء
حبيبتي...والاعتذار الأخير
أقدمه إليك... مستسلما...(ص:14).
ويتغزل الشاعر بعيون حبيبته واصفا أهدابها الجميلة وكنهها الأصيل وانغماسه في حبها اللاشعوري التائه في رموشها المغرقة في كؤوس اللذة والشبقية الممتعة على غرار الشعراء الرومانسيين وخاصة جماعة أپولو وعلى رأسهم الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:

عيناك شمس مشرقة
مواعيدها كأحلام الصباح
تراقص المدى البعيد
وتراقص الشعور الذاهل
وتدفن العبث برغوة الأقداح
وتمتص لغزها أهداب الخجل
عيناك قيثارة ناعمة الأوتار
تموت بين الأنامل
لتبعثني حيا من جديد
وتصبح كفجر من القبل
وتفقدني الوعي باللاشيء
والشيء يغوص في عيني(ص:15)

وتنتهي تجارب الشاعر في الحب بفواجع ذاتية تتمثل في الفراق الأخير والوداع الحزين والاعتذار الأخير والعناد اللامجدي:

ستعودين...
مهما طال خريف الرحيل
ودنا مني شتاؤك المتوهج
لازال الشوق في مهجتي
عملاق يتحدى كل الأمواج
أتوسل إلى حبك المدلل..
وليلي حائر... سئم الضياع...
لم أعد أتوق عنادك
لكني أتصور الخيبة
على وجهك العنيد(ص:17)

ولكن سرعان ما ينتقل الشاعر ليستمتع بالجمال الأنثوي كما في قصيدة( نشوة عروس) التي استسلم فيها لنجوى الفؤاد وسكر المحيا الصبوح ورونق الليل الثمل ومتعة العطر العبق:

شغف... وشجن
وعبير يفوح من الوجه الجميل
ونغم على أوتار الجيتارة الحزينة
تهز أكوان الصمت الثقيل
تسكب آهات للخلد
فالليل رائع مذهل
تمردت نجومه الطرية
والفجر ساحر عاشق الطلعة(ص:21)



ج- الهم الاغترابي:

ينشد الشاعر اغترابه الذاتي بالعزف على أوتار الشجن والأسى والضياع والحزن على غرار مواويل الحزن لدى الشاعر المصري صلاح عبد الصبور:

وهكذا
لن يمر الزمن
والعمر طنين وأنين
دولاب مرهق
استقر به الصدأ
عجلاته طعنتها المحن

المنية العشواء
لن تحن
وطريقي في سواد الليل
غموض..وخواء وشجن
أنفاسي تلاشت في الفضاء
الساجي
وعويل الذئاب الجائعة
في عميق الأفاق يرن(ص:5)

ويبلغ الاغتراب ذروته الوجودية مع إحساسه بفقدان حنان الأبوة وإعلانه لوحدته وحزنه السرمدي وغرقه في الكآبة التي تنخر عظامه الهشة وتدمي حياته التعيسة بين أمواج الدموع والضياع:

أبتاه!
أنا هنا
في دنيا الضحايا
فيقعر الوجوم
أنا هنا
بين الدموع
عملاق نخرته الهموم
تسبيحة جوفاء
عميقة الغموض
أنا هنا!
في سراب الموج
كغريق حائر...
يمتص نبض الوجود
في جحيم التراب
كقبر مهجور(ص:8).

ومن أروع قصائده الشعرية قصيدة ( أنا عائد) التي يتغنى فيها بالغربة والعودة إلى البلد ومدينته التي أرضعته لبن الحب والمودة. إنها قصيدة الشوق والحنين والتوق المتسرع إلى رؤية البلد حيث الأحباب والأصدقاء والخلان الأوفياء:

لوحة الفراق
نزحت بي على أرض الخلان
وحنين العودة
تململ في عروقي
ياله من نوى قاس ...وجان...
أنا عائد
بعد غياب متوحش
فنبرات الشوق
تراقص وجداني
وكم ليلة مؤرقة
سهرتها مسهد الأجفان
صور شاردة
تحوم بذكريات الأوطان
أنا عائد
وشوقي متلهف إلى ديار
وسماء صافية
وشموخ وأنوار
أنا عائد(ص:9)

ويتحول الشاعر المغترب إلى جريح مقتول في قصيدة ( الجريح) يندب أرض اليباب وبلاد الجفاف والقحط الأجرب:

الجريح... هو السهل... والتل...
والجبل...وصخرة الوادي...
والطير الحائر...
على غصون يابسة...
يندب رياح القحط...(ص:20)

وأفضل قصيدة تصور الغربة في الديوان الشعري أحسن تصوير هي قصيدة( ليل الأوهام) التي يتغنى فيها الشاعر بالغربة القاتلة والمغلفة بالحزن والوحدة والتفرد والكآبة المستديمة والصمت الملعون والشجا القاتل المنهوك ، لذا تعمدت أن أوردها كاملة لنسمع ترانيمها الحزينة ونغماتها المفجعة وإيقاعاتها المتألمة النادبة في حركاتها وسكناتها:

هل يمتطي الليل عويل الذئاب
والبرد موجة عشوائية
تذبحها الثلوج القاسية
ومن بعيد
أرى الخفافيش تركض
خوفا من الصقيع الأسود
وأحس بالأجواء النائية
ترتعش... فينهار الضباب
وأتسلل أمام مجمري القليل الدفء
ثم أضاجع أحلام البارحة
وحيدا...أسامر ليل الأوهام
أعانق ضوء القمر البعيد
الصمت هنا...عملاق عنيد...
حتى الظل ينتحر فوق الغمامة
وحين يخمد اللهب النحيل
في مجمري القليل الدفء
أقرأ في الرماد تحت النجوم
وأشرب نخب الأسف... بلا اكتراث
وعندما تتحطم كأس الهموم...
وتسيح منها رائحة القوارير
فالليل هنا منبوذ..
والسمر تافه..
والعيش ضئيل..
والغربة حيرة مذهلة...
لكن الحرية هنا... طعم لذيذ....(ص:28-29)

د- الهـــــم المكانــي:

وتتراءى باريس للشاعر كلوحة شعرية تشكيلية بأحلامها الرمزية وجمالها الفينوسي الخارق وفنونها السامية البهية وحياتها الثملة في كؤوسها المعتقة ونهود فتياتها الكاعبة:

باريس
غنوة سرمدية
باريس
لوحة أزلية
أرام ذات الأحلام
فانوس أشباح الظلام
......
باريس
معبد الطلاسم
يتألق في كؤوس الحيارى
باريس(ص:6)

ويصبح الوطن عند الشاعر كوخا مهترئا يتقاذف به الجوع والفقر والذل والهوان، ويموت فيه الإنسان حزنا واكتئابا وتهميشا. ويضخ هذا المكان المستلب بالأسى والاغتراب ويوحي بالتشرد والأوهام والسراب الضائع:

حتى لا تتسرب خيوط الظلام إلى
مضجعنا
ونحن نيام، سكارى بوهم أصغر
في شوق إلى ليل أسمر
نحلم بالسراب
ونناجي الدجى المتشرد
في كوخنا الحقير...
نحبك سبات عنيد متمرد
في كوخنا المائل على التل
ينضج الأسى
وتتمخض المحار(ص:11)

وقد يتجادل المكان مع الزمان ليكتبا قصيدة الفراغ والأسر والخلاء والعبث اليائس كما في قصيدة الشاعر( خنوع):

وسديم أخرس
وليل كسيح
خلاء خلاء الموج
يحكي للمحار
حكاية غرور الصخور
وكبرياء الرمل...
الذي بعثرته...
أجنحة الطيور...
وخنوع الشط المأسور
على مدى العصور
كأنه خامد مبتور...(ص:16)

ويتحول المكان في (طاحونة الدمار) إلى فضاء فانطاستيكي تسكنه الأشباح القاهرة والوجوه المقنعة التي تنشر الرعب والخوف وتترك وراءها الدمار والإرهاب القاتل وسفك دماء الضحايا الآمنة والراغبة في السلام الدافئ:

" شبح".... في بيت الغسيل
عاد ليخطف العباءة البيضاء
لقد قتلوه وهو يرتديها....
في ليلة مقمرة
ونزفوا الدماء اليتيمة
من جسده المبتور
ولطخوا الأرض بالبخور(ص:25)

هــ- الرغبة في الثورة والتمرد:

ولا يرضى الشاعر أن يبقى مكتوف الأيدي متلذذا بالإخفاق والحزن والأسى، بل ينتفض ثورة وغضبا على الواقع السائد والأوضاع المتردية المشلولة والمعطوبة بالذل والخوف والتقاعس:

أود أن أصرخ
أود أن انفجر
وفي دمي غليان
وعمري رويدا ينكسر
ومهجتي عواصف
لايهدأ لها خفقان
وينتاب رأسي الصداع
ويتسكع الغرور
وأنا جرح بليد
يشمئز منه الشعور
قريبا تنكشف البسمة
وهل تنطق العيون الواشية
إذا خذلتها أوهام الطفولة
وحين يموت الضجيج
ويختنق القلق بسهولة
ابعث من جديد
فوداعا ياكآبة الغضب
إني ألقيت بالحمولة(ص:18-19)

يستعير الشاعر في هذه القصيدة التجربة الشعرية التموزية التي آمنت بأسطورة الموت والانبعاث مع روادها البارزين أمثال: السياب وخليل حاوي والبياتي وأدونيس.
ويثور الشاعر على سماسرة السراب ووسطاء الزيف الذين ينشرون الذعر ويقتلون الخيول الثائرة والعقول الهائجة والنفوس المتمردة. ويلعن الخائنين وخونة القيم والمبادئ الأصيلة وأصحاب الجاه والغنى والثروة المكدسة الذين يحوّلون أبناء شعوبهم إلى ضحايا الحرمان والفقر ويذيقونهم النكسات تلو النكسات كما في قصيدة الشاعر(نكهة الوحل والخيول):

على جزيرة قمرها شحيح
يقتلون الخيول الشهباء
ويقدمونها للريح
في أوكار النكسة...تتربع خطايا
المرتشين
الذعر جثة بالية
تكدست عليها ضحايا الحرمان
والظمأ بحيرة كثيفة الأشواك
الماء عكر...يستنجد الضفة
لكي يختلس جرعة
من برميل لئيم اللعاب.(ص:30-31),

وفي قصيدة (كلنا أسود) يعلن الشاعر فلسفة التحدي والصمود والمقاومة والرغبة في التغيير والكفاح من أجل إثبات الوجود وتحقيق الكينونة والانعتاق من سراب الاستعباد والظلم القاهر نحو آفاق التحرر والحرية و التطلع إلى المستقبل الفاضل المشع بالتوهج والنور الإنساني الحقيقي:

ليصمد شجر الصنوبر ... في الغاب
فمعولي صلب لا يلين...
وعزمي قوة لا تنخر...
ليصمد شجر البلوط ...في الغاب
فكلنا أسود
قلاعنا من فولاذ ثابت لا يصهر...
استيقظي ياجارتي
من سباتك الطويل
وانفضي غبار الإهمال
فإن الفجر الجديد
لامحالة ...آت ...
أنا لست أحلم بالسراب
ولا أتعشق بالخرافات
أنا طيف الشهامة
يحوم في الأجواء الساطعات
لقد انتهى الظمأ القاتل(ص:23)

يتناص الشاعر عبر مستنسخات القصيدة مع ميخائيل نعيمة صاحب قصيدة( سقف بيتي حديد.... ركن بيتي حجر)، كما يتناص مع قصائد محمد الفيتوري الذي يستنهض أفريقيا الغارقة في سباتها العميق، وتتأثر بعض قصائد الشاعر بأشعار أبي القاسم الشابي وشعراء المقاومة الفلسطينية.

3- الأبعاد المرجعية:

يصور الشاعر في ديوانه الشعري ماكابده في بلده من معاناة وما قاساه من ذل وفقر واستعباد وإذلال ، حيث أحس فيه بالغربة بين أهله وأصحابه. ولم يرض الشاعر على هذا الوطن الذي جار عليه وظلمه أيما ظلم، لذلك قرر الشاعر الهجرة نحو أورپا الغربية منتقلا بين باريس ولندن والعواصم العربية يخنقه الاغتراب الذاتي والمكاني. في ترحاله السندبادي هذا، كان يقارن الشاعر بين الشمال والجنوب، يلتقط أوجه الائتلاف والاختلاف، يرصد البؤس العربي والثراء الغربي، يصور الجفاف العربي والثلج الأورپي، يقارن بين الشمس العربية الحارقة في كل شيء والضباب الإنجليزي، كما يعقد تماثلا معاكسا بين التحرر في بلاد الغرب والعبودية والقهر في بلاد التسلط والتجبر العربي.
كما ينقل لنا الشاعر تجاربه الرومانسية الذاتية التي تعبر عن التعويض السيكولوجي الشعوري واللاشعوري بسبب شدة الغربة وما تتركه في القلوب من آثار الوحدة والكآبة والحزن الشديد، ناهيك عن قسوة الطبيعة وضبابها الكثيف الذي يزيد الطين بلة ويقهر النفوس ويدمي الأرواح.

4- المقومات الفنية:

يستند الشاعر في ديوانه " أناشيد الضباب" إلى شعر الانكسار والانزياح عن النظام الخليلي ونظام التفعيلة مستخدما الأسطر والجمل الشعرية والتحرر من صرامة الوزن ووحدة القافية والروي. كما تعمد القصيدة إلى وحدة دلالية عضوية وفنية يمكن تكثيفها في الاغتراب الذاتي والمكاني والواقعي. وتتسم القصائد بالاتساق والترابط العضوي والموضوعي والانسجام الذي يخلقه فعل القراءة والتقبل.
وإذا تأملنا معجم القصيدة سنجد لغة الشاعر بعيدة عن الغموض والإغراب والتقعر اللغوي والتعقيد اللفظي، بل هي لغة واضحة موحية وشاعرية، دلالاتها قريبة في أبعادها الفنية والمرجعية. كما أنها لغة فصيحة وبليغة لم تتأثر بلكنة الاغتراب الأجنبي وعجمتها. ومن الحقول الدلالية التي تهيمن على الديوان نذكر: حقل الذات وحقل المكان وحقل الاغتراب وحقل الثورة والانتفاض. وهذا يبين لنا أن رؤية الشاعر لاتقتصر على التشاؤم فقط، بل تنحو منحى التفاؤل واستشراف الغد الأفضل، أي إن الديوان مبني على ثنائية الألم والأمل، والظلمة والنور.
وإيقاعيا يتحرر الشاعر من الوزن الخارجي ويستبدله بالإيقاع الداخلي والكلمات الموزونة إيحاء وشاعرية عن طريق التضمين الموحي والانزياح والتوازي والتكرار وتجانس الأصوات مدا ومقاربة ومماثلة وإتباعا. ومن الظواهر الإيقاعية البارزة في الديوان استخدام اللازمة الشعرية بكثرة كما في قصيدة ( صهيون) التي تتكرر فيها كلمة صهيون ثلاث مرات في بداية كل مقطع شعري. كما ينوع الشاعر من قوافيه فيستعمل القافية المرسلة المطلقة تارة والقافية الموحدة والمتراكبة بطريقة تناوبية تارة أخرى:

صهيون
الوحش المحقون
بالدم الأسود
بالغدر
بالخديعة
بالطاعون
بالسم الزعاف
بالخنا الملعون(ص:3)

وقد تغطي القافية الموحدة سرداب القصيدة بأكملها:

سألتني
فكان السؤال مبهم
قالت لي..
ألست أنت الحبيب المغرم
ألست أنت الهوى .. والنغم

ياليت لو تعلم
قلت... على هواك يامريم
يكفيني منك العذاب والسقم
يكفيني ما أنا فيه... من نار جهنم
اتركيني لحالي...أتنعم
لعل قلبي العليل يشفي
من ليالي النوى... والندم
فرمتني بسهم مسمم
حتى ذقت الردي...فكان الوداع
المحتم(ص:4)

ويكثر الشاعر من علامات الحذف على مستوى علامات الترقيم للدلالة على الإضمار و هيمنة المسكوت وعدم البوح والتصريح.
وتركيبيا، يكثر الشاعر من الجمل والمركبات الاسمية وذلك على حساب الجمل الفعلية، ومن هنا يطغى التقرير والإثبات والتأكيد على الحركية والفعل الحدثي والتوتر الدرامي. كما يقل الإنشاء بالمقارنة مع هيمنة الجمل الخبرية على الرغم من أن الشاعر يوظف النفي والأمر والتمني والنداء والاستفهام والنهي والتوقع والترجي.... لكن هذه الأساليب غير كافية لخلق الوظيفة الشعرية والإيحائية،ومن ثم يغلب التعيين على التضمين، وبتعبير آخر يطغى المرجع الموضوعي على التخييل الإنشائي. وأطلب من الشاعر أن يكثر من الجمل الإنشائية وأن يزاوج بين الجمل الفعلية والاسمية بطريقة انزياحية فنية ذات مقصدية تداولية مقبولة.
ويكثر الشاعر من الاستعارات المكنية القائمة على التشخيص والأنسة والإحياء زيادة عن صور المجاز والمشابهة والدوال الإحالية والأقنعة الرمزية والأسطورية( صهيون، فينوس،إرام، شارون، المسيح، البومة الشوهاء...). ويوظف الشاعر الرموز اللغوية بكثرة في سياقات مجازية موحية ودالة، وتندرج صور الشاعر ضمن الصورة الرؤيا. ومن المفيد للشاعر أن يطعم قصائده المستقبلية بمستنسخات تناصية ثرية وأقنعة موحية تثير الفائدة والمتعة.
هذا، ويشغل الشاعر خطاب الالتفات بتنويع ضمائر الغياب والتكلم والخطاب لتتجاوب مع سياقاتها المقصدية والتواصلية.

استنتاج تركيبي:

من خلال هذه القراءة الدلالية والفنية، يتبين لنا أن بن يونس ماجن شاعر متمكن من أدواته التعبيرية وقناته الشاعرية دلالة وتشكيلا ومقصدية. ويمكن أن نعتبره مرة أخرى رائد المدرسة المهجرية أو مدرسة الاغتراب المهجري في شعر المنطقة الشرقية بالمغرب الأقصى إلى جانب الشاعر القدير علي العلوي. وقد رأيناه يعزف على وتر الاغتراب الذاتي والمكاني، وينقر على أوتار الأناشيد الضبابية سيمفونية الأحزان والهموم التراجيدية. ولكن الشاعر لم يبق أسير السوداوية والنظرة السلبية المتشائمة، بل كان يحمل رؤية تفاؤلية قوامها الألم والأمل.

ملاحظــــــــــــــــة:

جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون الناظور المغرب
jamilhamdaoui@yahoo.fr