الشاعر مجذوب المشراوي... شاعرٌ جزائريٌ متمردٌ على المألوف، سائرٌ في طريق يعرف ملامحه جيدا ويقدر فيه خطواته بحذر.
أبدع في كتابة الشعر العمودي الحديث ومن ثم انتقل لكتابة التفعيلة الحرة ، والتي برع في اقتناص أروع اللقطات فيها...
أحببت اليوم أن أنقل لكم انطباعي عن إحدى أجمل قصائده العمودية التي استوقفتني كثيرا..وأن أهديه له ولكم.
عشتارُ سوقي بهاءَ الشّمس ..أنت ِ أنا =وأيقظي مدُنًا كانت ْلنا مدُنَاقصيدة عشتار التي أمامنا ، ما هي إلا دفقة شعورية ملتهبة بل هي قصيدة من نارٍ إن وصفناها...
عَشتَارُ لا تذْكرِي أسماءَ مـنْ رَحَلـوا =وألف َ قرْن ٍ مشَتْ في صُلْبِنَـا عَـلنا
إلا ّ هواك ِ فكل ّ ُ الحبِّ منطفئٌ =يا ريم ُ فاسْتَعْرِضي الأشْيَاءَ والزَّمَنا
تَصُونُنَا الجمَل ُ السّمْراءُ ما ظمِئَت ْ =وأنت ِ .. فلـْـتَدْفَعِي عنْ مَوْجِنَا السّـُـفُنَا
حُلْمُ الوليدِ هَوَى أثْناءَ أسئلتِي =فاسْتَرْجِعِي غيْرَه ُ واسْتَبْعِدِي الوَهَنَا
هَا أنت ِ طوَّعْت ِ حرّ َ الماء ِ فابْتَدَعَت ْ =أمْواجُهُ الصَّخَبَ السَّيَّال َ والسَّكَنَا
زوَّجْت ِ أ ُنْثَاك ِ بالقيثار ِ فارْتَفَعَت ْ =فوق َ البَيَان ِ ولم ْ تؤْلِم ْ لنَا أ ُذُنَا
بَشَائرُ الجَمْر ِ مَرَّت ْ في النّفُوس ِ ولمْ =تَكنْ حليلة َ منْ أهْدَى لها كَفَنَا
فرَدِّدِي لغَة َ الأميال ِ في ألم ٍ =أذاب َ من ْ لفحه ِ الأرواح َ والبَدَنَا
قِفِي فهذا محَار ُ الشِّعْر ِ يَرْقُبُنَا =وأعْيُن ُ البَحْر ِ لم ْ تَرْسُم ْ لنا وَطنَا
ومَلِّكِي الرِّيحَ جَنْبَ الماءِ مَنْطِقَة ً =حتّى يُعيداَ إلى أيَّامِنَا عَدَنَا
يستدعي الشاعر هنا عشتار ، اسم آلهة الحب التي وردت في الأساطير القديمة والذي اتخذه الشاعر هنا عنوانا للقصيدة.
عشتار الحب والشعر، لا الآلهة، تلك الأنثى/ الخيال / الإنسانة المُخبأة في نفس كل شاعر.
إسقاط عشتار هنا - كرمز خالد - لم يأت من فراغ، بل جاء متناغما مع ذلك الحب/ الجمال/ النقاء الروحي والانسجام العاطفي والحسي المفقود .. الذي يبحث عنه الجميع /الشعراء،
ولايملون انتظار مجيئه، ذلك الإحساس الذي لايعرف نوعه إلا هم، ولايفهمه سواهم، هنا يكتب الشاعر وهو يرى ذلك الرمز وقد تجلى أمامه، والذي تسبب ظهوره/ إشراقه في تفجر قريحة الشاعر في هذه القصدة غير العادية، وإيقاظ أمنيات / ذكريات تعيش في الذاكرة الشعرية / التاريخية للشاعر التي تُشكل تلك الأنثى / القصيدة/ الحب الشاعري الحالم الذي يبحث عنه، و "البحث الحثيث عن الجمال المطلق ،هو في الحقيقية حنين للجمال الحقيقي"*
تلك اللحظة غير العادية والتي فجر حضورها هذه التجليات الشعرية الشفافة نادرة الحدوث شكلت معنى الحياة والسعادة لدى الشاعر ، وذلك بعثوره على ضالته التي يبحث عنها، ونلمس هذا من فرحته التي تتجلى حينما يناديها بقوله: أنت أنا، وكأنه يقول لها : لله كم رأيتُ فيك نفسي وأحلامي وذكرياتي وأملي وأنثاي التي أبحث عنها...
ترى ما الذي جمع بين الشاعر وأنثاه هنا؟!
ذلك الرباط الذي استفز شاعرنا واستخرج هذه الدرة الشعرية الخالدة..
التي تتوق لتلك الأنثى/ الجمال/ القصيدة/ الحب الشاعري الحالم الذي يسمو عن كل ما سواه..
هَا أنت ِ طوَّعْت ِ حرّ َ الماء ِ فابْتَدَعَت ْأمْواجُهُ الصَّخَـبَ السَّيَّـال َ والسَّكَنَـا
زوَّجْت ِ أ ُنْثَاك ِ بالقيثـار ِ فارْتَفَعَـت ْفوق َ البَيَان ِ ولم ْ تؤْلِـم ْ لنَـا أ ُذُنَـا
هنا بيتُ القصيد ، وهنا التقاء الأرواح على ضفافٍ من الإبداع والجمال،
هنا احتدام الثورة النفسية التي ولدت من رحمها القصيدة...
ها أنت طوعتِ حر الماء، يقف الشاعر هنا مبهورا أمام تلك الشاعرية المفرطة التي أثارت الزوابع في نفسية الشاعر، وهيجت بحور قريحته لتستخرج منها أجمل اللآلئ،
ذلك العزف الأنثوي على وتر الشعر، وقلما ما يأتي الشعر مضمخًا بالأنوثة والسحر، ذلك التزاوجٌ/ التمازج والانسجام خرافي الملامح بين الشعر والأنوثة والنقاء يُفسر لنا ما استفز قريحة الشاعر في تلك اللحظات...
وجعله يُبحر على زورق من الجمال والأحلام والإبداع الذي حملنا معه إلى فضاء شاعري ساحر يأسرنا طويلا..
مع أرق واجمل التحايا للشاعر الرائع مجذوب المشراوي
*عماد الدين علي
المفضلات