الجزء الثاني التابع لموضوع : أرقى وأسمى وأجل درجات الوعي السياسي العربي ..
المنشور في "واتا " على الرابط :


حتى منتصف القرن الخامس عشر , كان العالم ثلث العالم فقط , و كانت خرائطه لا تزال ناقصة , بمقدار أربع قارات , هي أمريكا الشمالية و أمريكا الجنوبية , و أستراليا , و القارة القطبية بالأضافة إلى آلاف الجزر الواقعة داخل المحيط .

لكن المحيط نفسه . كان اسمه (( بحر الظلمات )) , وكان اجتيازه للوصول إلى أراضي العالم الجديد , مشكلة تقنية معقدة , تتوقف على تطوير السفينة , من وسيلة نقل في بحار مغلقة مثل البحر الأبيض المتوسط , إلى وسيلة نقل في المحيط , عبر مساحات مفتوحة من المياه , دون مرافيء , و دون محطات تموين . و هي مشكلة , لم تكن ظروف التقنية البحرية قادرة على حلها , حتى نهاية القرن العاشر على الأقل .

فالأبحار عبر المحيط , يتطلب سفينة عميقة القاع لنقل حمولات تغطي تكاليف هذه الرحلة الطويلة . بالأضافة إلى سطوح خاصة بالمدافع , لحماية السفينة من غارات القراصنة , و غرف لجنود المدفعية , و مخازن للتموين و خزانات للمياه , و أطعمة يمكن حفظها لعدة أشهر , و دراية بأمراض البحر الناجمة عن الأبحار الطويل , وخرائط مفصلة لحركة التيارات و الرياح . و هي شروط تتطلب بدورها مستويات تقنية خاصة , في تصميم السفن و آلات القياس معا . مما جعل ظهور السفينة المحيطية على أيدي العرب , عند مطلع القرن الحادي عشر , إنجازا تقنيا حاسما , لا يقل ضخامة , أو إثارة للمشاعر , عن ظهور سفن الفضاء في العصر الحالي . لقد فتح العرب للحضارة طريقا عبر المحيط .

و عندما ظهر السندباد في حكايات ألف ليلة و ليلة , كانت سفن العرب المحيطية , قد وصلت إلى اليابان , و ارتادت جزر تيمور , و كان المحيط - لأول مرة في تاريخه - يتحول من حاجز بين القارات إلى جسر يربط بينها . و عند مطلع القرن الخامس عشر , كان ( البحر الشرقي الكبير ) الذي يدعى الآن باسم المحيط الهندي , قد أصبح ممرا للتجارة الدولية , ترتاده سفن العرب من مواني مصر و الشام , عبر البحر الأحمر . و من موانيء اليمن و حضرموت و عمان و البحرين و البصرة , قاصدة أسواق الشرق الأقصى , تحت قيادة ربابنة متخصصين في الأبحار عبر المحيط , منهم أحمد بن ماجد الذي قاد سفينة فاسكو داجاما من مدغشقر إلى الهند سنة 1497.

في ذلك الوقت , لم يكن ثمة ما يمنع العرب , من أن يستديروا بسفنهم غربا , و يقصدوا شواطيء العالم الجديد , في رحلة كان من شأنها أن تغير مجرى التاريخ , و تفتح للأسلام و اللغة العربية ثلاث قارات مرة واحدة , و هو إنجاز , كان العرب مؤهلين تقنيا لتحقيقه , منذ مطلع القرن الحادي عشر , قبل مولد كولومبس بثلاث قرون على الأقل . و لو كان السباق على المحيط سباقا مفتوحا أمام جميع الأمم , لأختلف شكل العالم الذي نعرفه الآن , بقدر ما يختلف العرب عن الأمريكيين , لكن السباق , كان مغلقا بالسلاسل في وجه العرب بالذات .

فالحرب الصليبية , التي اعتقد صلاح الدين , أنه أنهاها في الشرق , كانت مندلعة في أقصى الغرب , على جبهة أخرى , داخل إسبانيا , عند الطرف الهش للهلال الأسلامي , في منطقة قليلة السكان , تصعب نجدتها من مراكز القوة الأسلامية الكثيفة في مصر و الشام .

و على هذه الجبهة البعيدة , كان الرمح الصليبي يطعن صدرا عربيا عاريا .

سنة 1085 سقطت طليطلة , و تقدم الأسبان جنوبا , قاصدين مضيق جبل طارق , فاجتاحوا بقايا الأمارات الأموية , و وقفوا قبل نهاية القرن الرابع عشر , على ساحل البحر الأبيض المتوسط , عند رأس المضيق , تاركين أمراء بني الأحمر في غرناطة , و راء ظهورهم , لمدة مائة سنة أخرى .

فلم يكن الأسبان , يشغلون بالهم بغرناطة الواقعة شرقا داخل البحر المتوسط , بل بمدينتي سبته و مليله المغربيتين , اللتين أتاحتا للمدفعية الأسبانية , أن تتمركز على جانبي جبل طارق , و تسد هذا المضيق , في وجه الأسطول الأسلامي إلى الأبد , و هي كارثة مميتة جدا , لأنها تمت في عصر شهد تطوير السفينة المحيطية , و أخرج العرب من معركة حضارية كبرى , لا تقل أهمية عن معركة الفضاء في العصر الحالي .

إن العرب , لم يخسروا إسبانيا , كما يقال في كتب التاريخ , بل خسروا المحيط كله , و معه الأمريكتين , و استراليا و نيوزيلندا , و آلاف الجزر , و جميع ممرات التجارة الدولية (1) و قد حشرتهم مدافع السبان , وراء مضيق جبل طارق , لكي يتفرجوا على التاريخ من بعيد , و يروا الفلاحين الأوربيين , يبحرون بسفن عربية , و خرائط عربية إلى عصر آخر في (( علم جديد )) . و عندما نزلت فرقة الخيالة الأسبانية في المكسيك , و تقدم المدعو (( هيرنان كورتيز )) لأبادة هنود الأزتك و الأنكا , كان الحصان العربي , هو السلاح الذي أربك الهنود أكثر من سواه . و كان على التاريخ أن يسجل بهدؤ , أن الحصان العربي قد وصل إلى أمريكا , لكن فارسه العربي لم يصل .

خلال الثلاثمئة السنة التالية , كان العرب , يقضون عقوبة الحبس , وراء مضيق جبل طارق , مثل مارد مسحور في قمقم . و كان البحر المتوسط قد أصبح زنزانة للأسلام , و لفظ المحيط موجة رأسمالية عاتية , ما لبثت أن اجتاحت العالم بقاراته الخمس , و وضعتها جميعا تحت إدارة رأسمالية واحدة , لأول مرة في تاريخ العالم و الأدارة معا .

في ظروف هذا الواقع الجديد , كان من الواضح , أن الأسلام , لم يحقق هويته العالمية , و لم يسيطر على مسيرة الحضارة , بل حجز داخل العالم القديم , في مناطق موبؤة بالفقر و الجهل , تحت حراسة فقهاء غائبين عن التاريخ , حبسهم الرأسماليون وراء مضيق جبل طارق منذ خمسمائة سنة على الأقل .

لم يحقق الأسلام رسالته العالمية على يد الفقه , بل خسر معركته , قبل أن يعبر المحيط , و ظهرت الرأسمالية , بمثابة دين عالمي بديل , و فتح التاريخ صفحة جديدة أخرى , و طوى صفحة الأديان , بموجب نظريات رأسمالية و اشتراكية مستحدثة . لكن المؤرخ المسلم لم يكن بوسعه أن يسجل ما حدث للأسلام , إلا في الصفحة القديمة نفسها .

إنه لا يلاحظ غياب الأدارة الجماعية , و لا يفسر ما حدث للمسلمين , باعتباره نتيجة حتمية لغيابها . بل يبدأ من حيث يبدأ الفقهاء , و ينحي باللوم على المسلمين الذين ( فرطوا في دينهم ) دون أن يحدد لهم أين فرطوا فيه . و يعيرهم بحاضرهم , على أساس أنهم لا يستحقون ماضيهم المجيد , دون أن يفسر لهم , لماذا ذهب الماضي المجيد نفسه . إن تاريخنا يكتبه فقيه غاضب , لا يعرف ما حدث في التاريخ .

رجل يريد أن يقول , إن المسلمين خسروا ثلاث قارات , و خسروا أرضهم نفسها , لأنهم لم يتمسكوا بدينهم , و لم يؤدوا الشعائر , و لم يكونوا مسلمين حقا كما كانوا ذات مرة في عصر هارون الرشيد . و هو تشخيص حكومي , يتعمد أساسا , أن ينسى ما حدث في عصر هارون الرشيد نفسه .

فالواقع أن المسلمين , لم يفرطوا في دينهم , بل إنتزعه منهم رجل مسلح على رأس جيش من القتلة المأجورين . و إذا كان الأسلام هو آداء شعائره , فإن عدد المسلمين الذين يؤدون هذه الشعائر الآن , يزيد عن عدد المسلمين في عصر هارون الرشيد , بعشرة أضعاف على الأقل . أما إذا كان الأسلام , هو الأدارة الجملاعية , فإن ذلك مسؤول عنه رجل مسلح , على رأس جيش من القتلة المأجورين , و مسؤول عنه فقيه يزعم أن مصادر الشرع أربعة , ليس بينها صوت الناس .

إن المنهج التاريخي المستخدم في كتابة تاريخنا الأسلامي , لا يرى حجم الكارثة التي حلت بالأدارة الأسلامية , منذ إبطال الشرع الجماعي في عصر معاوية , بل ينطلق من هذا العصر , لكي يسجل (( أمجاد )) الأدارة الأسلامية , في إعلان مدفوع , يتجاهل - أولا - أن الأدارة التي يتحدث عنها , نسخة منقولة عن تراث بيزنطة . و يتجاهل - ثانيا- أنها إدارة قامت على انقاض الشرع الأسلامي بالذات . و إذا كانت مهمة التاريخ , أن يشرح للناس أخطاءهم , فإن المنهج المستخدم في تاريخنا الأسلامي , موجه عمدا لأخفاء هذه الأخطاء .

إنه منهج لا يشغل نفسه , بما حدث للناس , و لا يرى مدى خسائرهم التي نجمت عن إبطال الشرع الجماعي . و لا يهمه الفارق الصارخ , بين حضارة إقطاعية , قامت على حاجة الأقوياء للترف , وحضارة اشتراكية , تقوم على حق كل مواطن في السلام و العدل .

منهج لا يهمه أن العالم الذي خاطبه القرآن , يضم خمس قارات , و أن الأدارة الأسلامية قد فشلت في حمله إلى خمس منها , و أن ذلك , ليس سببه , عدم تمسك الناس بآداء شعائر الدين , بل سببه , عدم تمسك الخليفة بالأدارة الجماعية . إن تاريخنا لا يعلمنا الدرس المفيد , الذي سوف نتعلمه من تاريخ أمة أخرى , على أي حال .

فقد أثبت سير الأحداث في غرب أوربا , أن الشرع الجماعي , ليس فكرة قابلة للموت , بل قانون طبيعي , لا بد منه في نهاية المطاف . و رغم أن الثورات الأوربية , لم تنجح أبدا , في إقرار صيغة إدارية شاملة مثل صيغة الشرع الجماعي في الأسلام , فإنها - على الأقل - قد نجحت في إنهاء نظرية الحق الألهي المقدس في الحكم , و كسرت بذلك سلسلة الأقطاع الحديدية التي طوقت عنق الأدارة منذ عصر الملوك المتألهين في دول الشرق القديم . و في اليوم الثلاثين من يناير ( كانون الثاني ) سنة 1649, سقط السيف في مدينة لندن , على عنق أول ملك في التاريخ , يتم إعدامه بموجب قرار من محكمة شعبية , و تدحرج رأس شارل الأول , ملك انجلترا , مفتتحا عصرا طويلا من رؤوس الملوك المتدحرجة .

لم تكن الثورة الأنكليزية , موجهة لاحتواء طبقات الناس , و لم تنجح في إقرار شرع جماعي قادر على ضمان المساواة بينهم , بل إن (( كرومويل )) قائد قوات الثورة , كان يبدي إزدراءه لفكرة المساواة نفسها , و كان يسمي الدعاة إليها ( المسوّين ) . و قد اختار أن يصفيهم , قبل أن يصفي الملك , لكن الثورة الأنجليزية , لها فضل إحياء حقيقتين , كاد العالم أن ينساهما , منذ أن سمعهما لأول مرة في لغة الأسلام .

الأولى : إن الأقطاع فكرة محكوم عليها بالموت , حتى دون الأسلام .

و الثانية : إن الجيش المأجور , الذي تقوم عليه نظرية الأقطاع جيش من ورق , يمكن هزيمته بجيش من الناس .

و لأن الأسلام نفسه , لم يصل إلى بريطانيا , فقد وصلت إليها صيغة مختلفة من صيغ الشرع الجماعي , و التأم شمل كبار الملاك و التجار البريطانيين تحت سقف واحد , مفتتحين عصر الرأسمالية الحديثة , بمعركة مضمونة النتائج سلفا , بين سلطان تركي وحيد جاهل , و جزيرة مغطاة بالضباب , يديرها جيش من الخبراء الحاذقين , تحت سقف برلمان واحد .

و خلال المائة سنة الأولى , كانت السفينة المحيطية , قد تحولت من وسيلة نقل , إلى سلاح للسيطرة على ممرات التجارة الدولية . و كان القرصان البريطاني ذو الرجل الخشبية , قد صار ضابطا وسيما , في بدلة رسمية , يذرع المحيط على رأس أساطيل مسلحة بالمدافع , و يرفع علم بريطانيا على كل أرض تطأها قدماه . و عندما كان السلطان التركي أحمد الثالث , منغمسا في حرب مدمرة ضد الفرس , من أجل بضعة أميال من أراضي العراق , كان قبطان بريطاني اسمه جيمس كوك , قد رفع علم بريطانيا على استراليا و نيوزيلندا , و جزر البحر الكاريبي , و سواحل كندا , و سواحل القارة القطبية , و هي مساحة تزيد خمسين مرة عن مساحة أراضي الأتراك و الفرس معا .

و فيما يخيم الشلل القتصادي على الوطن الأسلامي , و تقفر اسواقه , و تخرب مزارعه و يتناقص عدد سكانه في الشام من ستة ملايين إلى مليونين , فقط , و يتناقص في مصر , من أربعة ملايين إلى أقل من النصف , و فيما يتوقف النشاط التجاري داخل البحر المتوسط , و يفقد البن اليمني السوق , أمام البن الجديد القادم من البرازيل , و يضرب الكساد سوق البهارات و الحبوب , يكون مواطننا الذي بدأت الحضارة على يديه , في مدن غنية مزدهرة , قبل أن يتعلم الأوربيون بناء البيوت , بثلاثة آلاف سنة , قد أصبح مواطنا جائعا , و عاريا , و حافي القدمين , يطارد السياح الأوربيين بين الآثار . و تكون الحضارة التي عرفها الشرق دون شرع الجماعة , قد انهارت علنا , و دفنت الشرق حيا , تحت الركام . إن المنتصرين الجدد , لا يرحمون أحدا .

فالرأسمالية التي كسبت السباق هذه المرة , لم تكن رسالة إنسانية لجميع الناس في نظام محرر , من سلطة المؤسسات , بل كانت رسالة المؤسسات نفسها , محررة من كل مبدأ إنساني , و موجهة دستوريا , لخدمة رأس المال , على حساب كل رأس سواه , و قد أباح الأوربيون لأنفسهم إنتهاك جميع الحقوق الأنسانية لغير الأوربيين , من إبادة الهنود الحمر , إلى قصف اليابانيين بقنابل ذرية .
و عندما ظهر نابليون تحت أسوار عكا , سنة 1799 , كانت قد مرت ستمائة سنة على عصر ريتشارد قلب الأسد . و كان الأسد الجديد , قد تضاعف حجمه إلى ما لا نهاية , من دون أن يتغير شيء في قلبه الصليبي . و في لحظة هائلة لها طعم الكابوس , كان من الواضح , أن المسلمين , لم يخسروا معركتهم ضد أمة جديدة لا تعرفهم , بل ضد أمة تعرفهم جيدا , و تعتقد أن لها ثأرا قديما عندهم , و تملك تراثا يعاديهم عداء سافرا , و تواجه سلطانا تركيا , خالي اليدين من كل سلاح , ما عدا سلاح الصبر و المروحة .

إن الفرنسيين , يضعون يدهم على الجزائر سنة 1830 , و يحط البريطانيون رحالهم في مصر , و بعد ذلك يجتمع ضباط أوربيون صغار السن , لكي يرسموا وطننا الذي نعرف الآن , يقتسموه بينهم , كما يقتسم القراصنة سفينة ركاب . فتذهب ليبيا و الصومال إلى إيطاليا . و جنوب المغرب إلى اسبانيا , و تذهب البقية بالتساوي , بين بريطانيا و فرنسا , و تدخل الدبابات الفرنسية دمشق في يونيو ( حزيران ) سنة 1941, و تمر بالقرب من الجامع الأموي حيث يرقد معاوية منذ 1182 سنة , و إذا كان الخليفة قد فتح عينيه ذلك النهار , فلا بد أنه لن يغلقهما قبل مرور زمن طويل .

إن عصر المحيط , الذي افتتحه العرب , لا يدخله العرب , بل يقعون في الأسر داخل البحر المتوسط , تحت سيطرة حضارية رأسمالية , تناصبهم عداء قديما مزمنا في تراثها و تاريخها معا .

و في ظل هذه الحضارة المعادية , ولدت في ثقافتنا العربية التي نعرفها , ثقافة عربية أخرى , لا تعادي تراثنا فقط , بل تشترط أن نلغيه من ذاكرتنا , بحجة أنه سبب الكارثة من أولها . و هي نصيحة تشبه ما يروى عن جحا - عليه رحمة الله - الذي قال للطبيب ناصحا , (( إن المريض , إذا غير اسمه لا يصبح شخصيا هو المريض )) .

الهوامـــــــــــــش
)--- تضم قارة أوربا , ثلاث ثقافات رئيسية , هي اللاتينية و الجرمانية و السلافية . و قد نجم عن موقع السلاف في شرق القارة - بعيدا عن شواطيء المحيط الأطلسي - أن غابت ثقافتهم عن المستوطنات الأوربية الجديدة في الأمريكتين و استراليا , مما أخرج لغاتهم من مسيرة الثقافة العالمية حتى الآن , في قائمة تضم اللغات المجرية و التشيكية و الرومانية و اليوغسلافية و التركية و الروسية .

بقيت في ميدان المعركة , ثقافتان . أحدهما تمثلها إسبانيا و البرتغال و إيطاليا و فرنسا . و هي ثقافة لاتينية , ارتبطت بالمذهب الكاثوليكي , و فشلت في تطوير نظام ديموقراطي , و خسرت السباق العالمي مبكرا , ما عدا فرنسا , حيث نجحت الثورة في تلافي هذا النقص منذ سنة 1789,و و ضعت نهاية لعصر الأقطاع , على يد الطبقة البرجوازية الجديدة , التي فرضت وصاية الرأسمالية على الدولة , و عملت على بناء جيش فرنسي مخصص , لتأمين حصة فرنسا من المستعمرات . و بفضل هذا الجيش , امتدت املاك فرنسا من كندا إلى شمال نيوزيلندا إلى إفريقيا إلى شرق آسيا في فيتنام و لاوس و كمبوديا , و أصبحت اللغة الفرنسية لغة عالمية , تخاطب أجناسا مختلفة , في قارات مختلفة .

الثقافة الأوربية الثانية , كانت تمثلها - في عصر الغارة على المحيط - بريطانيا و هولندا . و هي ثقافة جرمانية , ارتبطت بالمذهب البروتستانتي , و نجحت مبكرا في تطوير نظام برلماني قائم على سلطة التجار , و حرية الكسب . و في مستوطنات هذه الثقافة الجرمانية , ولدت دولة ((بيضاء)) تدار من مكان اسمه (( البيت الأبيض )) , سوف تشتهر في التاريخ , باسم ((الولايات المتحدة )) , و هي النسخة الأصلية لدول المستوطنين البيض , كما نعرفها الآن في كندا و استراليا و نيوزيلندا و اسرائيل .

فاسم (( البيت الأبيض )) ليس إسما جاء بالمصادفة , بل جاء رمزا لقيام دولة جرمانية , مفتوحة للجنس الجرماني وحده , فقط , لا غير . و مغلقة في وجه كل جنس آخر سواه , من اجناس الهنود الحمر , إلى أجناس الأوربيين اللاتين و السلاف . و المعروف أن اسم (( البيت الأبيض )) اختاره جورج واشنطن شخصيا , تخليدا لأسم بيت زوجته الثرية في فرجينيا . لكن الأدارة الأمريكية خجلت من اعتماد هذا الأسم العنصري , و ظلت تدعو ((البيت الأبيض )) في مراسلاتها الرسمية باسم executive mansion و هي تسمية منتقاة بعناية , تعني تقريبا (( دار الموظف المكلف بالأدارة )) . أما المواطنون الأمريكيون أنفسهم , فقد شاع بينهم اسم (( البيت الأبيض ))لأنه كان تعبيرا صحيحا عن واقع دولتهم , كما اختارها الرجل الذي بناها بيديه , و قد أصروا على استخدامه دون سواه , حتى اضطرت الأدارة الأمريكية إلى الأذعان بقبوله في نهاية المطاف , وأصدر تيودور روزفلت سنة 1902 , مرسوما يقضي بإعلان تسمية (( البيت الأبيض )) رسميا , في لحظة شهدت ميلاد أكبر دولة في التاريخ , على فراش نخاس أبيض .

إن جورج واشنطن , لم يعرف أبدا , ما إذا كانت لغة الولايات المتحدة , سوف تكون الأنجليزية أو الألمانية . و الواقع أن ترشيحه للرئاسة , بدأ بصدور كتاب ألماني يسميه أبو الوطن vater der heimat لكن واشنطن , كان يعرف أن المستوطنات الأمريكية , سوف تكون مستوطنات جرمانية , و ليست لاتينية , ولهذا السبب , كانت فكرة الأستقلال عن بريطانيا بالنسبة لجورج واشنطن شخصيا , فكرة لا تخطر لغير المجانين . فقد كتب ذات مرة إلى صديقه روبرت مكنزي رسالة , قال فيها : ( ... أما حكاية الأستقلال , و ما إليه , فإني على يقين أنها فكرة لا تخطر ببال رجل عاقل واحد , في أمريكا الشمالية بأسرها ) .

إن جورج واشنطن , المستوطن الأبيض , الذي تمتد مزارعه على مساحة 200 ألف هكتار , و يعمل في إسطبلاته 300 من الزنوج الأرقاء , كان يعيش مع زوجته في (( البيت الأبيض )) قبل أن تولد الولايات المتحدة . و قد حمل ميراثه معه , و تولى صياغة الدولة الجديدة , بمثابة مستوطنة بيضاء مسلحة , لا تعترف بحقوق أصحاب الأرض من الهنود الحمر , و لا تعترف بحقوق العاملين فيها من الزنوج ,و لا يرأسها سوى رجل أبيض , و لا يكون هذا الرجل الأبيض سوى مستوطن جرماني الأصل . و هي الصيغة التي ظهرت بها الولايات المتحدة , و تم نقلها حرفيا , إلى جميع المستوطنات البيضاء في كندا و استراليا و نيوزيلندا .

أما في اسرائيل , فإن تأخر قيام هذه المستوطنة , لم يغر الأجناس الجرمانية البيضاء الغنية بالهجرة , مما دعا إلى تعويض هذا النقص , باختيار أجناس أخرى . بيضاء أيضا , لكنها ليست غنية , لأنها لم تشارك في الغارة من أولها . و هم أجناس السلاف من شرق أوربا , الذين يتولون حاليا , إنشاء المستوطنة الجديدة لحساب الرجل الأبيض في فلسطين .

إن تاريخ المستوطنات الرأسمالية البيضاء - و ليس التوراة - هو الكتاب المقدس الحقيقي في اسرائيل . لأنه مصدر الخطة التي تفسر نظامها الأداري في أرض الواقع .

فالتوراة لا تعترف أصلا بنظام الأحزاب , بل تقسم السلطة في دولة إسرائيل (( بين جميع قبائل الشعب )) لأنها دستور للحكم الجماعي . لكن اسرائيل تدار حاليا بسلطة أحزاب رأسمالية و عمالية , لا تعترف بنظام التوراة .

و التوراة تقول إن اليهودي , لا يقرض اليهودي بالربا . لكن بنوك إسرائيل , ترفع فوائد قروضها , إلى المواطنين اليهود , بقدر ما ترتفع الفوائد في بنوك واشنطن , بغض النظر عما تقوله التوراة .

و التوراة لها شرع إداري يقول حرفيا إن دستور الدولة هو دستور الجماعة . لكن الصيغة الأسرائيلية الحالية , صيغة حزبية مترجمة حرفيا , عن شرائع المستوطنات الرأسمالية في الغرب , في شهادة علنية على أن المستوطنة البيضاء لا تستطيع أن تخفي جلدها الأبيض , حتى إذا قامت على أساس الدين .

و التوراة تقول إن الرب أعطى فلسطين لنسل إبراهيم , و هي قائمة تضم على الأقل المسيحيين و المسلمين . لكن اسرائيل قامت طبقا لنموذج جورج واشنطن بمثابة مستوطنة بيضاء , لا تعترف بحق أصحاب الأرض من الفلسطينيين , و لاتعترف بحق اليهود الشرقيين أنفسهم , و لا يرأسها سوى رجل أبيض , و لا يكون هذا الرئيس , سوى مستوطن أوربي ألأصل . إن تسمية اسرائيل باسم الدولة اليهودية مجرد تسمية إعلامية بحتة , لها سوابق معروفة في تاريخ المستوطنات .

فالولايات المتحدة الأمريكية نفسها , ليست أمريكية حقا , و لم تقم بمشيئة سكان أمريكا , بل بمشيئة المستوطنين الأوربيين الذين تولوا إبادة أصحاب الأرض , لحساب البنوك الأوربية . و كذلك حدث في أستراليا و نيوزيلندا و كندا و جنوب أفريقيا و اسرائيل . فكل دولة من هذه الدول , أقامها المستوطنون الأوربيون لحساب البنوك الأوربية , طبقا لخطة واحدة لم تتغير , منذ استيطان أمريكا خلال القرن السادس عشر .

في المرحلة الأولى تقوم البنوك بتمويل هجرة الأوربيين إلى أي مكان يختارونه , بشرط أن يقع هذا المكان في أراضي شعوب غير مسلحة .

و في المرحلة الثانية , تتولى البنوك تسليح المواطنين الأوربيين , خلال موجة من أعمال التخريب لافتعال معركة مع أصحاب الأرض الأصليين .

و في المرحلة الثالثة توعز البنوك إلى المستوطنين البيض , بإعلان قيام دولة أوربية في أراضيهم تحت شعار واحد , محدد سلفا , هو حرية رأس المال .

و قد أقيمت الولايات المتحدة طبقا لهذه الخطة حرفيا و اقيمت بعد ذلك المستوطنات الأوربية البيضاء , في عصور مختلفة و قارات مختلفة . لكنها التقت جميعا على حرية رأس المال . في معسكر يدعو نفسه رسميا , باسم المعسكر الرأسمالي , و يجمع هذه المستوطنات البيضاء في جبهة نووية , تطوق أراضي المستوطنات في المحيط الأطلسي , تحت قيادة حلف , اسمه - طبعا- حلف الأطلسي . إن اسرائيل مستوطنة رأسمالية مسلحة , في عالم الرأسماليين المسلحين , لكنها ليست دولة يهودية و لا يعني تمريرها تحت هذا الأسم في وطننا الأسلامي , سوى أن الرأسماليين أيضا , يخطئون أحيانا في الحساب .

فالرمال الناعمة في الوطن الأسلامي بالذات , مجهزة خاصة لأحتواء الخلاف بين الأديان . لأن شرع الأسلام الأداري , هو نفسه شرع التوراة الحقيقية . و قد احتوى اليهود ذات مرة , و سوف يحتويهم مرة أخرى , بمجرد أن يستعيد نظامه الأداري . فالفرق الحاسم - و الغائب عن حسابات الرأسماليين - بين العرب و الهنود الحمر , أن شرائع الهنود الحمر , كانت أكثر قدما , و بدائية , من شرائع الأوربيين . أما العرب , فإنهم أصحاب شرع جماعي متطور , يعيش حيا في لغتهم , و يضمن لهم وطنا محررا من سلطة المؤسسات . و هو فرق يعني , أن الأوربيين البيض , يستطيعون إقامة مستوطنة مسلحة في فلسطين , بمعونة من مراكز رأس المال . لكنهم لا يستطيعون أن يقيموا دولة يهودية في فلسطين , دون أن يحتويها شرع الأسلام الجماعي , الذي احتوى اليهود منذ ظهور الأسلام . و لعل الرؤية لا تزال الآن غائمة بعض الشيء . لكن الرأسماليين البيض المعروفين ببعد النظر , عليهم أن ينظروا بإمعان أكثر , لكي يروا بأنفسهم , أن الذي يبحث عن وطن في الشرق الأوسط , ليس هو اليهود , بل هو الشرع الجماعي , و أن هذا الشرع قد أعطى اليهود وطنا دون أسلحة أمريكية , قبل أربعة عشر قرنا , و إن إقرار السلام في المنطقة , رهن باستعادة الشرع الجماعي , و ليس بإقامة المستوطنات في أراضي أمة , ملزمة بموجب شريعتها نفسها , أن تقاتل حتى الموت ضد شريعة المستوطنات .

أن الدول الرأسمالية الغربية , تستطيع أن توفر على نفسها - و على العرب و اليهود - أحقابا من الخراب و الدمار . إذا شاءت ذات مرة , أن تراجع مفهومها الصليبي للأسلام , و تتعرف بنظامه الأداري المتطور , و تتكلم لغته في البحث عن حلول , بدل لغة المستوطنات القائمة على ( الحدود الآمنة , و الحزام الأمني , و التوازن العسكري ) . فالأسلام بالذات شريعة لا تفهم لغة المستوطنات , و لا تقر قيام دولة على أساس اللون أو الدين , و لا تعترف بمثل هذه الشرائع البدائية , و لا يعني الأصرار على إقامة مستوطنة في أرض الأسلام , سوى تحديه لأثبات قدرته الخارقة على ضرب هذه المستوطنة , بموجة بعد موجة من الشهداء , في معركة قد تستمر , طوال ألف سنة من الآن .