الجزء الثالث لموضوع:
" أرقى وأسمى وأجل درجات الوعي السياسي العربي .
المنشور في "واتا "على الرابط:


البعض يحلم بالمنقذ المخلص المرسل من العناية الإلهية ليقود المسلمين إلى النصر المبين!!
ليس هذا فحسب , بل و يحل مشاكل التدهور الإقتصادي و المجاري الطافحة و المدارس المزدحمة و أزمة المواصلات و الطوابير على أفران الخبز و ارتفاع ثمن الأدوية و تأخر سن الزواج ... إلخ .
نهايته ... إليك هذا المقال الرائع :
ذا وقف رجلان فوق التلة , واشارأحدهما إلى القمر بإصبعه , و أشار إليه الآخر بعكازه . فإن ذلك لايعني أن القمر إصبع أو عكاز , بل يعني أن الناس يشيرون أحيانا إلى شيء واحد , بأدوات مختلفة . هذه الحقيقة المألوفة , تظل مألوفة - و غير مزعجة - حتى نتذكر ما يحدث في اللغة .
فاللغة أيضا أداة إشارة . إن كل كلمة فيها مجرد إصبع أو عكاز , يشير إلى شيء آخر , و ليس إلى الكلمة في حد ذاتها , و إذا شاءت ظروف ثقافة ما , أن تغيب هذه الحقيقة عن أعين الناس , و تخلط في قاموسها بين الكلمة و معناها , فإن ذلك خطأ عقابه دائما , أن يكسب القاموس كلمة , و يخسر الناس ضوء القمر . فمثلا :
كلمة السلام أداة إشارة إلى واقع ملموس في أرض الواقع .. إنها ليست ستة حروف , بل إنها عمال و أطفال و نساء و مراهقون ينعمون بالسلام في مجتمع محرر من الفقر و الخوف و المرض . و إذا اختار الناس , أن يستبدلوا الحروف بمعناها , و يكتفوا بترديد كلمة السلام عليكم للتحية في ما بينهم , فإن ذلك عقابه طبعا أن تزداد التحيات كلمة , و يخسر الناس نعمة السلام . و مثلا :
كلمة مسلم أداة إشارة إلى مواطن مسلم في أرض الواقع , صفته الأولى أنه لا يعيش في غابة , بل في جنة , لأنه مواطن في مجتمع محرر من سلطة الأقوياء . و إذا اكتشف أحد ما تعريفا آخر للأسلام , و تعلم المواطن أن يعيش مسلما خاشعا في غابة , فإن اللغة تكسب تعريفا فقهيا , لكن الناس يخسرون الجنة .و مثلا :
كلمة الرحمة أداة إشارة إلى أن قوانين رحيمة في واقع الناس , لا تهضم حق العامل أو الطفل أو المراهق أو المرأة و العجوز . و إذا اختار الناس , أن يقبلوا الكلمة بديلا عن معناها , تذهب الرحمة إلى الموتى و لا أحد يرحم الأحياء . و مثلا :
كلمة القرآن أداة إشارة إلى شرع جماعي , مسؤولة أمامه كل الجماعة . إنه ليس كتابا للمطالعة , بل دستور للتطبيق العملي في جهاز الأدارة . و إذا اختار الناس , أن يصبح القرآن , هو كلمات القرآن , و ليس شرعه الجماعي , يزداد عدد الكتب المقدسة واحدا و يتاجر المشعوذون بآيات الله في التعاويذ لشفاء المرضى , من دون أن يشفى - بعون الله - مريض واحد . و مثلا :
كلمة الديموقراطية أداة إشارة إلى نظام رأسمالي , يحفظ توازنه , بتوزيع السلطة بين العمال , و أصحاب رأس المال . إنها ليست كلمة أوربية , بل شركات أوربية , و رؤوس أموال عاملة في الخارج , و إتحادات عمالية منظمة , و إذا اكتشفت السياسة في وطن فقير مثل الوطن العربي , ديموقراطية أخرى , دون عمال و لا رأس مال , و ذهب العرب طائعين وراء هذه الخدعة , فإن الديموقراطية لا تتحقق في أرض الواقع , لكن العرب يتورطون في كلمة أجنبية صعبة النطق . و مثلا :
كلمة وطن أداة إشارة إلى أرض آمنة , محررة من الخوف و الحاجة , إنها ليست تراب الوطن , بل دستوره الشرعي , و إذا شاءت وسائل الأعلام , أن تغيب هذه الحقيقة عن واقع الناس , فإن ذلك يخلق إعلاما وطنيا عالي الصوت , لكنه لا يخلق الوطن نفسه .
إن الكلمة التي تصبح بديلا عن معناها , تصبح مجرد فكرة تائهة في الفراغ , و تدخل تلقائيا في باب التيه المدعو باسم الأيديولوجية . فهذا المصطلح المغترب في لغتنا , جاء للتعبير عن واقع غريب حقا (1) .
إنه لايعني العقيدة , لأنه لا يشترط التطبيق العملي , بل يشترط أداء الطقوس , ويقوم على افتراض مؤداه , أن الكلمة هي الفعل نفسه , و أن الأفكار تعيش في اللغة , و ليس في واقع الناس . فاليهود هم شعب الله النختار , لأن لغتهم العبرية تقول إنهم كذلك , و ليس لأن سلوكهم اليومي , له علاقة بحب الله . و بهذه المغالطة المميتة , تستطيع الأيديولوجية أن تعيش في لغة الجماعة , من دون أن تلمس واقعها , و أن تكون أفكارا مضيئة , في وطن مظلم , و بديلا عن الأمان في وطن خائف , و بديلا عن العدل في وطن مقهور , إن الأيديولوجية تستطيع أن تتكلم , بينما جميع الناس ساكتون , و ذلك للأسف , ما حدث للأسلام في غياب شرعه الجماعي .
لم يسكت صوت القرآن , و لم يكف الناس عن الصلاة و الصوم و الحج و إيتاء الزكاة .
لم تغب شعائر الأسلام , لكن الأسلام نفسه , أصبح أيديولوجية , تعيش في لغة الناس , و ليس في واقعهم , و هي محنة ثقافية قاسية , علامتها أن يتورط المواطن في لغة بديلة عن لغة الواقع , كما يبدو العكاز بديلا عن القمر . إن مصطلحات الشرع الأسلامي , تعايش هذه المحنة منذ عصر معاوية .
فقد تسبب غياب الأدارة الجماعية , في عزل الدين عن الدنيا و أطلق يد السياسيين في تبرير هذه المخالفة تبريرا فقهيا مؤداه , أن الدنيا نفسها ليست نهاية المطاف , و أن المسلم الذي يخسر حقه في هذه الدنيا ((يعوضه)) الله منه في حياة أخرى , و هو تفسير يريد أن يبدو إسلاميا , لكنه في الواقع ليس إسلاميا جدا .
فالأسلام لا (( يعوض )) الناس عن خسائرهم , بل يضمن لهم أن يحصدوا ما زرعوه , و هو طرح جديد , و طاريء على تاريخ الأديان , مثل دستور الحكم الجماعي نفسه .
فحتى القرن السابع , كانت فكرة الحياة بعد الموت سلاحا في يد المؤسسات الدينية , تسخره للدفاع عن نصيبها في الأدارة , باعتبارها سلطة ((غير دنيوية )) . و قد عمد اليهود الفريسيون إلى استغلال هذا السلاح في تكفير خصومهم السديوسيين , و حرمانهم من البعث في حياة أخرى , فيما طوره قداسة البابا في وقت لاحق , و انشغل ببيع صكوك الغفران لمن يشتري مكانا في الجنة .
كانت الحياة الأخرى , تضمن للمؤسسات الدينية , سلطة دستورية في هذه الحياة الدنيا , و كانت كل الطرق إليها , تمر رسميا من خلال المؤسسة . و طوال الفترة الواقعة بين عصر سومر , في الألف الثالثة قبل الميلاد , و ظهور الأسلام , كان رجال الدين قد طوروا فكرة الحياة بعد الموت , إلى صناعة كهنوتية على درجة عالية من التخصص و التعقيد , و كانت لغة السحرة , قد ألغت لغة الدين , و نجحت في إقرار حلول سحرية بحتة , للمشاكل المميتة في واقع الناس , من علاج المرضى بالتعاويذ , إلى استغلال شقاء المواطنين , بحضهم على ضمان تعويضهم بعد الموت , عن طريق القرابين , و أداء الطقوس , و الأعتراف للكاهن .
لم يكن المواطن مسؤولا عن مصيره , في هذه الحياة , أو في الحياة الأخرى , بل كان مصيره , يتقرر تلقائيا في يوم مولده , فالأقطاعيون يولدون في الأسر الأقطاعية , و الفقراء يولدون في الأسر الفقيرة , و المختارون يولدون في شعب الله المختار , و الموعودون بالجنة , يولدون في كنيسة مخصصة لغفران الذنوب . و إذا كان البروتستانت , قد عادوا فأصلحوا هذا الأنحراف في وقت متأخر حقا , بعد أحقاب طويلة قضاها الأوربيون في تلقي المغفرة من القسس , أملا في الصعود إلى مملكة في السماء , تعوضهم عن ضياع مملكتهم في الأرض . و هي أحقاب امتدت في ظلام العصور الوسطى , منذ إنشاء الكنيسة خلال القرن السادس إلى عصر مارتن لوثر في القرن السادس عشر . إن الأسلام , أصلح هذا الأنحراف , قبل أن يولد مارتن لوثر بزمن قدره 793سنة فقط .
لم يقبل الأسلام نظرية الشفاعة . لم يخول المؤسسة الدينية سلطة غفران الذنوب. لم يعترف أساسا - بما يدعى رجال الدين - . لقد جعل الحياة الأخرى , مثل الحياة الدنيا , مسؤلية في أيدى الناس أنفسهم [ فمن يعمل مثقال ذرة خير يره . و من يعمل مثقال ذرة شر يره ] سواء في حياته أو بعد مماته . بغض النظر عن لونه وعقيدته , و بغض النظر عما يقوله رجال الدين . إن الأسلام يطرح قضية الحياة بعد الموت, من منظور يختلف عن منظور المؤسسة الدينية في ثلاث قواعد جديدة على تاريخ الدين :
الأولى : إن الحياة بعد الموت , ليست تعويضا عما خسره الناس في هذه الحياة . لأن الجنة ليست للفقراء , بل للصالحين .
و الثانية : إن عمل الأنسان - و ليس ما يقوله أو يقرأه - هو الذي يقرر , أين يريد الأنسان أن يذهب , سواء في هذه الحياة , أو في الحياة الأخرى .
و الثالثة : إن علم ما بعد الموت , اسمه في الأسلام عالم الغيب, الذي لا يعرفه أحد , و لا يجوز أن يدعي معرفته , سواء باسم العلم , أو باسم الدين .
فماذا حدث في عصر معاوية ؟؟
لقد سقط نظام الأدارة الجماعية , و سقطت معه , مسؤولية الناس عن مصيرهم في هذه الخياة الدنيا , و تقدم الفقهاء لحل معضلة لا يملكون لها حلا . و خلال وقت قصير , كان الفقه الأسلامي , يفسر الأسلام بأسره , تفسيرا قائما على التبشير بجنة سماوية في حياة أخرى , و كانت فكرة الجنة في ههذه الحياة - أو على الأقل نصف الجنة - قد خرجت من حسابات الفقه الأسلامي إلى الأبد . إن الأسلام الذى لا يعترف بسلطة رجال الدين , يعيد رجال الدين تفسيره , باعتباره إسلاما لا علاقة له بالسلطة . (2)
لم تعد الحياة الأخرى هي عالم الغيب الذي لايعلمه إلا الله , بل صار لرجال الدين علم بها , و صار بوسع بعضهم أن يصفها للناس , بالشبر و الذراع.
لم تعد كلمة مسلم أداة إشارة إلى مواطن محرر من شرع الأقوياء , يعمل لدنياه كما يعمل لآخرته , بل أصبخت لقبا , يحمله مواطن , غير مسؤول عن مصيره في الحياة الدنيا , أو ممصيره في الآخرة .
لم تعد كلمة السلام أداة إشارة إلى سلام ملموس في حياة الناس , بل أصبحت تحية يتبادلها المسلمون في واقع لا يعرف السلام .
لم تعد كلمة الرحمة أداة إشارة ألى قوانين إسلامية رحيمة بالطفل و المراهق و المرأة و العجوز و الغريب , بل أصبحت دعاء للميت - قبل الحي - لكي يرحمه الله في حياة أخرى .
لم يعد عدل الله يشمل الدنيا و الآخرة , بل أصبحت الدنيا , رهنا بالحظ و الأنساب , و اقتصر عدل الله بين الناس , على الناس الميتين .
إن لغة الأسلام, تتحول على يد الفقه , إلى لغة تتحدث عن (عالم الغيب) . و تصبح بذلك لغة غائبة , لا تقول شيئا له علاقة بواقع الناس , و في ثقافة خرساء إلى هذا الحد , يفقد المواطن قدرته على النطق , و يتراجع شرع الجماعة , و يغيب عدل الله عن عالم الناس , من دون أن يغيب اسم الله , عن لغتهم , و هو ما حدث في تاريخ الأدارة الأسلامية , منذ عصر معاوية , و لا يزال يحدث علنا حتى الآن . فمثلا :
لا يزال القاضي المسلم , يتعمد أن يصدر حكمه باسم الله . و هو إجراء يعني ضمنا أن القاضي قد ضمن نزاهة التحقيق, للأنه يعيش في مجتمع محرر من أهواء السلطة . و رغم أن هذا الشرط , لم يتوافر لقاضي مسلم واحد , منذ عصر معاوية , فإن كل حكم يصدر في محاكم المسلمين , يصدر باسم الله. و مثلا :
كل دولة إسلامية , تعلن في دستورها , إن الأسلام دينها الرسمي , مما يعني ترجمته حرفيا , إن الأدارة نفسها , إدارة جماعية . و هو نظام لم تعرفه الدولة الأسلامية , منذ عصر معاوية أيضا , لكن أحدا لا يتنازل عن حصته من الأسلام . و مثلا :
لا يزال المواطن المسلم , يتلقى في المسجد دروسا في الدين الأسلامي , و لا يزال يسمع في الحديث أنه (( راع )) و أنه مسؤول عن رعيته , لكن أحدا من المواطنين المسلمين , الذين ولدوا منذ عصر معاوية حتى الآن , لم يرع أبدا سوى بعض الخرفان. و مثلا :
لا تزال جمعيات الدعوة الأسلامية , تنفق أموالا طائلة لنشر الأسلام بين الأمم , رغم أن الأسلام لم ينتشر بين أمة المسلمين أنفسهم , الذين خسروا شرعه الجماعي منذ عصر معاوية. و مثلا :
لا تزال الأذاعات الأسلامية , تفتتح برامجها بآيات بينات من كتاب الله الحكيم . لكن برامج هذه الأذاعات نفسها , لا تزال أشهر نماذج الدجل الأعلامي الخالي من روح البيان و الحكمة .
إن ((ترجمة)) الأسلام , من شرع جماعي قائم على حق كل مواطن في تقرير مصيره حيا و ميتا , إلى وصفة فقهية لدخول الجنة في حياة أخرى , ترجمة بعيدة عن أصل النص . أملتها حاجة الأمويين إلى إدارة تتكلم بلغة الأسلام , دون أن تتكلم عن شرعه الجماعي , وهي حاجة , لم يكن بوسع الفقه أن يلبيها إلا بإنهاء العلاقة بين لغة الدين و لغة الدنيا , و العودة إلى قاموس السحرة القديم في الأسرائيليات التي ظهرت فجأة على يد علم فقه جديد , اسمه علم الحديث و السنة .
1) --- تستطيع الأيديولوجية أن تعيش في لغة الناس دون أن تلمس واقعهم . فعندما كان الخليفة المنصور يضرب قرى الفلاحين بجيوشه النظامية في شرقي العراق , و ثورة الزنج تجتاح البصرة , و الناس تعاني المجاعة بسبب إرتفاع أسعار الدقيق , كان الفقه الأسلامي في أوج مجده و ازدهاره , و كانت مملكة الفقهاء قد اتسعت لكي تضم طوائف لا حصر لها , منها , في جبهة السنة : القدرية و الدهرية و الجهمية و المجسمة و الحشوية و المرجئة . و منها , في جبهة الشيعة : الأمامية السبعية , و الأمامية الأثنى عشرية و الأسماعيلية و السبئية و العليائية و الكيسانية و السليمانية و الخطابية و الراوندية و النعمانية و الشرمقية . و كان الحماس يبلغ أشده بين هؤلاء الفقهاء المتجادلين إلى حد استعمال العصي و التشابك بالأيدي . قال ابن الأثير : [ تجادل رجل من الخوارج اسمه عبيدة مع مساور , و كان الخلاف بينهما على توبة الخاطيء . فقال مساور (( تقبل توبته )) و قال عبيدة ((لا تقبل )) فجمع عبيدة جمعا كبيرا , و سار إلى مساور , فتقدم إليه مساور بجيش من أتباعه . فالتحموا بنواحي جهينة بالقرب من الموصل في جمادي الأول سنة 275هجرى و اقتتلوا اشد القتال ] .
الصفة الظاهرة في هذه الأيديولوجية , إنها تستعمل لغة القرآن , لكي تتحصن بكتاب الله , و ليس بشرعه الجماعي , مما يجعلها تنطق في الظاهر بلسان الأسلام , و تعمل في أرض الواقع بمثابة بديل منه , في مسرحية متقنة , لا يكشفها سوى أن مفهومات لغة الأيديولوجية لا تتحدث أبدا بلسان الجماعة .
فالعفة , مثلا , تعني في الأيديولوجية التي خسرت شرع الأسلام الجماعي , عفة المرأة , و عفة اللسان , لكنها لا تعني عفة المجتمع الأسلامي نفسه الذي تزدحم فيه الجواري و الخصيان و المتسولون .
و الأمانة مثلا , تعني في الأيديولوجية , إعادة الحق إلى أصحابه , لكنها لا تعني إعادة حق الطفل و المراهق و المرأة و العجوز , في بنود الميزانية العامة .
و الصدق مثلا , ليس هو أن يكون المجتمع صادقا ويكف عن الكذب العلني في صحفه و إذاعاته , بل هو أن يلتزم المواطن الوحيد بعدم الكذب .
و التقوى مثلا , ليست هي أن يكون المجتمع تقيا , و يحرر نفسه من مصالح المرابين و المرتشين و أصحاب الوساطات , بل هي أن يكون المواطن تقيا في مجتمع يزدحم بالمرابين و المرتشين و أصحاب الوساطات .
كل فضيلة سنها شرع الأسلام الجماعي بمثابة مسؤولية جماعية , أصبحت في ايديولوجيا الأسلام , مسؤولية مواطن واحد , قد يقوم بها , أو لا يقوم بها دون أن يغير ذلك من الواقع شيئا . فالأيديولوجيا في حد ذاتها هي الواقع , وهي كل ما يملكه الناس بين أيديهم , في غياب الشرع الجماعي .
ردا على هذا الأنحراف , شهد تاريخ الأسلام صياغتين لمعنى الثورة , إحداهما تدعو إلى تدمير الأدارة الأسلامية بالقوة , مثل ثورة القرامطة , و الأخرى تدعو إلى تحرير الأدارة من سيطرة الأيديولوجية , و هي الصياغة التي اشتهرت على يد الحسين بن منصورالحلاج باسم نظرية الحلول, في محاولة اكاديمية لألغاء مسؤولية الفقهاء عن الدين .
فقد جرب الحلاج أن يستعيد مبدأ الأدارة الجماعية في الأسلام , اعتمادا على لغة الأسلام , و أنكر مسؤولية الفقهاء , و كان يردد (( اتقوا فراسة المؤمن , إنه ينظر بنور الله )) . و عندما أطبق الفقهاء على الحلاج , و قدموه للمحاكمة التي خلدت اسمه في التاريخ , لم يكن الفقهاء يحاكمون رجلا , بل كانت الأيديولوجية الأسلامية , تحاكم شرع الأسلام نفسه , و كانت الكارثة قد تصاعدت فجأة إلى هذا الحد .
إن قاضي الحلاج , و هو فقيه مشبوه أسمه أبو الحسين بن الأشناني , يفتتح الجلسة بقول الله تعالى : [ إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم ] . و باختيار هذه الآية , يكون القاضي قد أدان الحلاج سلفا , و علق في عنقه الجرائم التي ارتكبتها الأيديولوجية الأسلامية ضد شرع الأسلام الجماعي , بموجب نص من القرآن نفسه :
فالحلاج الأعزل الذي ينادي بحق الناس ضد الدولة والمؤسسة الدينية , أصبح هوعدوالله ورسوله .
و الدعوة إلى رفع الظلم عن أهل الأرض الجياع , اصبحت هي الفساد في الأرض .