الـمـنـحـوس / رواية من المجتمع العراقي في الخمسينيات

امتزجت فيها الحقيقة والخيال!

ح 12 / أكمل كاتب التحقيق كافة الأجراءات,.. ولم يسمح لمحيسن بالأتصال بأهله, او اي صديق, وظل لا حول له ولا قوة, .. منتظراً جلاء خيوط هذه الجريمة المبهمة !
بعد حين ,أمر مديرالشرطة التحقيق مع كافة الجيران المحيطون بالدار التي وقعت فيها الجريمة لمعرفة كل صغيرة وكبيرة عن الحاج ابوجميل وعلائقه بالآخرين !
- وما ان وصل الحاج ابو جميل مع زوجته من النجف الأشرف, حتى هرع الجيران لأستقبالهم, وشـرح الجارالذي كلم الضيوف يوم امس عن كل ما سمعه وشاهده !
- ينكر ابو جميل اعطاء المفتاح لأي انسان,..وفي تلك اللحظة التي احتدم فيها النقاش تـصل سيارة النجدة, وترجل منها الآمر,..فرحب به الجميع,.. ومن ثـمً سمع بالتفصيل اقوال الجيران , و دونت افادتهم ,ثم طلب الآمر من الحاج ابا جميل الدخول الى الدار بصحبته فقط.
- يدخل آمر الشرطة وهو شاهر مسدسه,.. ومن خلفه ابو جميل, وقد استغرب ابوجميل
من الرواية التي سمعها, فالدار كما هي لم يتغير فيها اي شيئ مطلقاً !!
- دهش الجميع لما سمعوا ولما شاهدوا ,....ولم يجد اي شخص تفسيراً لذلك !!
- يعود آمر الشرطة الى السراي, وهومهموم لعدم عثوره على اي خيط يوصله للحقيقة , وهل هي حقيقة أم خيال ؟...أم مسلسل هندي ألفه ذلك المعتوه امحيسن, ولذا لا بد من انتظارالتقريرالطبي بعد اتمام اجراءات فحصه قبل اعلان نتيجة التحقيق !
- يعود امحيسن من المستشفى,..وهو اكثر هدوءاً ,.. ويقرأ الآمر التقرير, وتزداد حيرته بعد ان قرأ تقرير الطبيب,....الذي اثنى وثمن قدرات امحيسن العقلية,... التي فاقت كل المقاييس العلمية المتعارف عليها عالمياً !!
- يستدعي آمر السراي كل مساعديه ولجنة التحقيق,... لأتخاذ القرار بشأن هذه القضية المعقدة,..والغريبة بنفس الوقت,..وبعد المناقشات الطويلة,.. يستدعى امحيسن مرة اخرى ويقف بكل شموخ ليدافع عن نفسه من التهم التي الصقت به !
- وبعد استكمال المناقشة, يأمر المحقق بأعادة امحيسن الى التوقيف لحين اتمام التحقيق وتقديمه للمحاكمة.
*****
دخل امحيسن"التوقيف", لآنتظار محاكمته عن التهمة الموجة له بقتل واحدة من بنات قريته " جميله", كانت على صلة وثيقة به منذ المرحلة الأبتدائية,.... ورفض والده شيخ القرية ان يزوجها له بسبب كون والدها فراش, وليس له صلة عائلية مع اهالي القبيلة.
اشتد الخلاف بين عائلة ابو جميله والشيخ ابو امحيسن,..ولم يسمح لأي من افراد تلك العائلة بالتملك في قريته وامر بترحيلهم من القرية, وزاد مقتل جميله الغامض الطين بلة, فقد عزى بن عم جميله ذلك الى ابنه امحيسن الذي عاهد الفتاة بالزواج ولم يفي بعهده, مما ادى الى دخول المعلم جميل في حياتها, ثم مقتلها وزوجها بظروف مبهمة.
وخلال تلك الفترة, اندلعت عدة معارك في القرية بسبب تلك الخلافات وغيرها, ..مما تسبب في مقتل ابو امحيسن, (شيخ القرية), اضافة الى بن عم جميله وابو جميله, والعديد من عائلة آل ابخيت,.... ولذا لم يستطع امحيسن ان يقوم بأي اتصال مع اي احدِ من افراد عائلته,.. واختفى عن الأنظار.
تبرأ المحكمه امحيسن من التهمة الموجهة له, وتطلب اطلاق سراحه ان لم يكن موقوفاً
لسبب آخر.
*****
ضاقت الدنيا بوجه امحيسن, وفي احد الأيام ,... وبينما كان امحيسن يتسكع بشارع الرشيد , التقى بأحد زملاء الدراسة,.. من الذين اطلعوا بما حل به من نكبة, و لذا نصحه بالسفر الى خارج العراق كطالب بعثة, حيث لديه معدل ممتاز في الثانوية, ...وطلب منه
مراجعة ادارة البعثات الواقعة في باب المعظم, وسوف يسهلون امره اذا ما قدم لهم كافة الوثائق اللازمة للحصول على منحة دراسية في احدى الدول الأوربية او امريكا.
قام امحيسن بتحضير كل ما طلب منه من وثائق,..عدا شهادة عدم المحكومية, وحسن السلوك وشهادة الجنسية,.....وان استخراج تلك الوثائق يتطلب التواجد في مسقط الرأس, المرتبط ادارياً بمدينة الشطرة. ولذا قرر السفر الى الشطرة , في اسرع وقت ممكن.
***
وصل امحيسن الى (الشطرة), المنطقة الأدارية لمسـقط رأسـه, في وقت متأخر من الليل, ..ولذا عرج الى اقرب مقهى للأسـتراحة,..ووجد احد معارفه , ورحب به لقضـاء تلك الليلة بضيافته حتى الصباح, ثم يفتش عن احد من اهله ليستطلع منه حقيقة ما جرى!
وضـع امحيسن عـفـشـه جانباً, وبدأ يتطلع بالوجوه,.. واخذ مقعداً في احدى زوايا تلك المقهى, وشـعر بفرحة,.. بالرغم من المآســي التي واجهها في المنطقة, في عهد الصـبا ! ****
بدأ امحيسن يشرب الشـاي ومـرً من امامه شـاب برفقة زميله,..وسـمع احدهم يقول للثاني,..شــســوي:
" حظي مثل حظ امحيـسـن ! "
حمد امحيسن الله الذي جعل اسـمه مضـرباً للخائبين امثاله, وفرح بقرارة نفسه لوجود
بعض الشـباب الرافض لظلم الفئة الحاكمة آنذاك, وهاجت ذكرى المآسي التي واجهته
والتي لم يصدقها اي عاقل,.... ولذا كتمها.
تشنجت اعصاب امحيسن , وكاد ان ينفجر دماغه, فقرر الأنتقام من كل فرد اسـاء له وبالخصوص, ذلك الحاكم الجائرفي كردستان العراق, والذي حكم عليه بالسجن , ولم يحسـب اي حسـاب لظروف الحادث او اسبابه عندما تشاجرمع ( كاكا حمه) في الشمال.
زاد غيض امحيسن, وراح يقرأ بعض الآيات القرآنية, والكاظمين الغيـض..., الى ان
وقعت عينه على لوحة جميلة على حائط المقهى, كتب عليها:
" ليـس من الحكمة الأنتقام,..بل الصـبر وانتظار الفرج "
و انشـــد بيتاً من قصـيدة الأمام ابي حنيفه (رض):
"ضاقت ولما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أضنها لن تفرج"
سـرح امحيسن طويلاً مع الذكريات, و تطلع بوجوه الزبائن المنتشـرين في ارجاء تلك المقهى وهم كالأصـنام,..لا يحدث بعضهم البعض الا همساَ قانعون بما هم عليه وغيرمكترثين لكل ما يدورحولهم في هذا العالم الفسـيح اوقل:
" أنهم هادؤن كهدوء المقابر!! "
*****
كانت العشـائرالمحيطة بمدينة الشـطرة مـرتبطة بشـيخ جليل,وله سـطوة وجاه على كافة ابناء المدينة, حيث كان يعتبرالأب الروحي لهم,.. واضافة الى ذلك, كان عضـوا في مجلــس الأعيان وعلى صـلة وثيقة بالقصـرالملكي
واركان الحكومة في بغداد منذ ثورة العشـرين ولغاية ثورة الرابع عشـر من تموز1958, وهكذا خطرت بباله فكرة طرق باب ذلك الشيخ, وتذكركيف كان
يذهب مع والده الى مضـيفه, الواقع في أطراف المدينة.
عًرف امحيسن نفسه لـشيخ المدينة,.. فرحب الشيخ به,.. وترحم على والده وأمـًراحـد اتباعه بكتابة رسالة التماس الى صديقه وزير الداخلية,... لكي يساعده على أسـتخـراج شهادة عدم المحكومية ( التي كانت تعتبر من اهم الوثائق عتد التعيين في دوائر الدولة او القبول في احدى الكليات اوالحصول على بعثة للخارج), والطلب من مديرنفوس القضاء ان يستخرج بدل ضائع لدفترالنفوس وشهادة الجنسية.
تم لمحيسن تحقيق غرضه, ولم تنقصه غيرشهادة عدم المحكومية من مديرية الأمن في بغداد, ولذا,.. و في صـباح اليوم التالي, توجه امحيسن الى الطريق العام الذي يربط بين الشـطرة وبغداد,للسـفربواسطة ســيارات الحمل الخشـبية (الباص),التي تتوجه فجر كل يوم لنقل المواشـي او الأسـماك من القرى المحيطة بمدينة الشطرة الى بغداد والمدن العراقية الكبرى.
انتظر امحيسن فترة قصـيرة من الزمن, ولمح من على بعد احدى السيارات القادمة, فأشـرلسـائقها, وتوقف, وبعد مسـاومة على السـعر, وافق امحيسن على الصـعود على سـقف السـيارة,..وفق مقدار الأجرة التي كان يمتلكها !!
وهكذا,ما ان اخذ امحيسن مكاناً له, حتى تحركت السـيارة, وسـرح مع احلام اليقظة, واجترارالآلام الماضيه,.. ثم ابتسـم للمسـتقبل الذي بزغ في حياته,... وعلى ما يبدو نام امحيسن فترة من الزمن, وشــعر بزخة خفيفة من المطرثم بدأ ينهمر رويداً, وكما يقال:
"اول الغـيـث قـطـر ثم يـنهمـر"
لم يجد امحيسن ما يقي به نفـســه من البًلل غيرالأســتلقاء في داخل تابوت فارغ لمحه بجانبه, يسـتخدم عادة لنقل المـوتى الى النجـف الأشـــرف, من القرى القريبة من خط سـيرالحافلات, ....من باب الأحتياط, يسـمى:
(تابوت وقـف).

رفع امحيسن غطاء التابوت, واستلقى فيه,.... واعاد الغطاء الى وضـعه السـابق,.. ونام نوماً عميقاً,.. الا انه كان يشـعر عند توقف السـيارة , وصـعود القرويين على سـطحها , وكان بعضهم يقرأ سـورة الفاتحة عند جلوسـه بقرب التابوت, ولم يكترث امحيسن,...واخذ يسـترق السـمع لأحاديثهم ويرفع الغطاء قليلاً ويمِـد يده ليتعرف على حالة الجو, وهل مازال المطر , ... أم توقـف ؟!
ولسوء حظه,.. مسـت يده كتف احد الجالسـين بقرب التابوت, فنهض مذعوراً وصـرخ بأعلى صـوته, الميت أحتيً , (اي ان الميت عادت له الحياة), وهمً
ان يقفز من السـيارة, فأزاح امحيسن غطاء التابوت, ونهض محاولاً الأمســاك به, فلاحظ رفاقه ذلك المشـهد,....ونهضـوا وشـاركوا في الصـياح:
"الميت احتيً,... الميت احتيً,..الميت احتيً!!"
توقفت السـيارة وهبط الركاب, وفروا مذعورين نحو المزارع, بما فيهم السائق,... فلعن امحيسن حظه الذي انتكـس مرة اخرى, بعدما تنفــس الصـعداء لبضعة ايام , ولم يسـتغرب من كل ذلك, .. لأنه .. أمحيـسن !!