الدلالة الشعرية بين الانشغالين الحسي والوجداني
في تجربة نزار قباني

( غـرنـاطة نمـوذجاً )
عبدالجواد خفاجي
أولا القصيدة:
غـرنــاطـة
شعر : نزار قباني
في مدخل "الحمراء" كان لقـاؤنا
مــا أطـيب اللقـيـــا بــلا مـيــعـاد
عينان سوداوان .. في محجريهما
تتــوالـد الأبـــعـاد مـن أبـــعـاد ..
هـل أنتِ أسبــانية ؟ .. ســـاءلتـها
قـالـت ومـن غرنـاطـة مـيـــــلادي.
غرناطة؟ .. وصحت قـرون سبـعة
في تيـنـك العـينيـن .. بـعـد رقــــاد
وأميَّـة .. رايـــاتـها مـرفـــــــوعـة
وجيــادها موصــــولة بجـيـــــاد ..
ما أغـرب التـاريـخ كيـف أعــادني
لحفيــدة ســـمراء، مـن أحفــادي؟
وجـه دمشـــــقي .. رأيـت خـــلاله
أجفــان بلقيــس، وجـيــــد ســعـاد
ورأيـت مـنزلنـا القــديم ، وحجــرة
كانت بهــا أمي تـمـــد وســـــــادي
والياســمينة، رُصِّــعت بنجـومهــا
والبـركــة الـذهبـيــة الإنشــــــــــاد
*******
ودمشق .. أين تكون؟ قلتُ ترينها
في شــعـركِ المنسـاب نهر سواد..
في وجهك العربي، في الثـغر الذي
ما زال مخْتَـِزناً شـــمـوس بــلادي
في طيبة " جنة العريف" ومـائها
في الفل، في الريحان، في العَـبَّاد.
سارت معي.. والشَّعر يلهث خلفنا
كســـنابل تُرِكـت بغــير حصــــادِ..
يتـألق القـــرط الطــويل بجـيـــدها
مثل الشـــمـوع بليــلة الميـــــلادِ..
ومشيتُ مثل الطـفـل خـلف دليلتي
وورائي الـتــــاريخ كـوم رمـــــادِ..
الزخـرفات أكــاد أســـــمع نبضـها
والزركشات على الســقوف تنادي
قالت: هنا الحمــراء زهـو جـدودنا
فاقرأ عـلى جــــدرانــها أمـجـــادي
أمجادها ؟!! ومســحت جرحا نازفا
ومســـحتُ جرحــًا ثانيــًا بفـــؤادي
يـــالـيت وارثــتي الجــميلة أدركت
أن الذيـــن عـنتهـمــــو أجــــدادي
*********
عانقت فيهـــــا عـنـدما ودعتـهـــا
رجلاً يُسمَّى "طــــارق بن زيـــاد"
مدخل وتمهيد:
نزار قباني شاعر أصيل .. التزم في بداياته الشعرية الإطار العمودي للقصيدة العربية .. تميزت أشعاره بالجرأة والصراحة والمجاهرة بموضوعاتها الشعرية، وثوريتها الشديدة على الواقع العربي المتردي، وإن كانت تيارات التحديث على الساحة الشعرية قد جرفت نزار معها نحو الخروج من الإطار الكلاسيكي الملتزم شكلياً بمحددات القصيدة التقليدية إلى كتابة الشعر المرسل، أو قصيدة التفعيلة، أو قصيدة السطر الشعري، ثم إلى الانجراف كلية إلى الشكل الحديث للقصيدة العربية على النحو الذي يطالعنا به شعراء الجيل.
غير أن الطابع الغنائي لقصائده ظلّ القاسم المشترك لكل ما أبدعه نزار، وظلّ نَفَسُه الشعري الكلاسيكي يطغى على أشعاره رغم ما حاول أن يلبسه من ثوب حديث.
تمثل المرأة والدين والسياسة والتاريخ زوايا الإطار الموضوعي لقصائده، وإن كانت المرأة هي عالمه الأثير .. نجدها في كل زاوية من زوايا هذا الإطار .. ينطلق منها كمفَجِّر لموضوعه الشعري.
فهي تارة المحبوبة اليوتوبية التي يضعها كمقابل أو كمرجع مثالي في مقابل واقع فوضوي قبيح؛ ليصب جام غضبه وثوريته عليه، وهي تارة أخرى منطلَقه نحو حلم مخمليٍّ يرى فيه ما لا يراه في واقعه الكابوسي .. وتارة هي المدى الذي يستعذب السفر فيه هاجراً هذا الواقع المؤلم.
وهي في كلٍّ زاده الشعري وملهمته التي تؤجج عاطفته، وتهيج مشاعره، وإن بدا أن مدخله إليها يفيض بالحسية أحيانا.
ونزار قباني في هذا ليس وحيداً؛ فكثير من الشعراء القدامى والمعاصرين دخلوا إلى المرأة من تلك الناحية الحسية، واستفاضوا في حسية مقذعة أحياناً، إلا أن الجديد عند نزار قباني أن المرأة في قصائده تظل ماسكة بخيوط موضوعه الشعري دونما أن تنزلق لتصبح هي نفسها الموضوعة الشعرية.
والجديد عند نزار قباني أيضاً أن انشغالاته الحسية بالمرأة هي التي تحرك ـ بالضرورة ـ انشغالاته الشعورية والعاطفية والفكرية نحوها ونحو عالمها وواقعها، ومن ثم ـ ومن تلك المنطقة تحديداً ـ يحلق نزار قباني إلى موضوعات شعرية أخرى، اجتماعية كانت أو سياسية أو تاريخية.. وبالجملة نستطيع القول إن نزار استطاع من خلال تلك الحسية أن يقيم علاقة جدلية بينه وبين التاريخ العربي واضعاً المرأة كوسيط لازم الوجود.
المرأة إذن عند نزار ليست ذلك الكيان الجميل الذي يتعامل معه تعاملاً حسيّاً مفرَّغاً، فهي لاشك ـ رغم نافذته الحسية إليها ـ تظل كياناً يوتوبياً رائعاً يحتشد للدخول إليه بالفلسفة والتاريخ واللغة والملّكة الشعرية والوعي المتسع؛ ليقيم معه أو من خلاله الحوار الشعري؛ لهذا ـ وكثراً ما ـ تتضخم المرأة في تجربة نزار لتصبح الوطن الأثير ، أو الحلم الجميل الذي يتلقفه في لحظة الهروب من واقعه المؤلم، أو لتصبح هي الهادي أو الدليل نحو زوايا جمالية في هذه الحياة، وفي كثير تصبح هي الحياة نفسها بكل ما فيها من متناقضات.
ولعل المدخل الحسي إلى عالم المرأة في تجربة نزار ـ رغم اتساعها وثرائها وعمقها الفني والمعنوي ـ هو ما أعطى تجربة نزار تواجدها الجماهيري الواسع ، وربما بسبب ذلك ظُلِمت تجربته أيضاً، إذ تعاملت معها الجماهير تعاملاً حسيًّا مسطحاً، وتقبلتها على أنها محض غزل، أو وصف للأنثى وأشيائها، أو بث لعاطفة ما باتجاهها ، وللسبب نفسه أُتهِم نزار بالحسية وأكثر من ذلك بالفحش، ولم يظل الاتهام محصوراً عند نزار بل تخطاه إلى كل شاعر يتناول المرأة من منظور حسي في أشعاره بأنه شاعر "نزاري" أو خارج من عباءة نزار.
من ناحية أخرى ساهم قاموس نزار الشعري المليء بالفلفلات والمشهيات الحسية ـ ساهم إلى حد كبير في إذكاء الألفة بين أشعار نزار والجماهير ، وهو قاموس إضافة إلى ما سبق يبعد عن اللغة المقعرة، والمفردات الوحشية والغريبة أو غير المأنوسة و الميتة في مقبرة اللغة، بل على العكس من ذلك استخدم نزار المفردات المألوفة والمتداولة والبسيطة وتلك التي تمت إلى اليومي و المعيش التي يعف عنه القاموس الشعري، وظهرت براعته في الجمع والتوليف والتشكيل و التركيب الشعري والصُوَري؛ ليعطي في النهاية استخداماً جميلاً مبهراً، وتصويراً جديداً رائعاً مستساغاً.
ولكن إلى أي مدي ستظل تجربة نزار مألوفة ومتسعة جماهيرياً ومتهَمة في الوقت ذاته من ذات الجماهير؟
إن تجربة كهذه جديرة بأن يتناولها النقد الأدبي تناولاً منصفاً، وبقدر اتساعها.. صحيح أن ثمة من اقترب من هذه التجربة، ولكن هل يكفي الاقتراب شذراً من تجربة متسعة كهذه؟.
ومن الغريب القول إن كثيرين ممن تناولوا تجربة نزار أو اقتربوا منها كانوا في تناولهم للتجربة متأثرين إلى حدٍ ما بالجماهير، أو لنقل: سيطرت عليهم جماهيرية الرأي ولم يكونوا منصفين أو موضوعيين.
لقد تجاوز البعض اعتبار تجربة نزار ذات ملامح فنية خاصة ، إلى اعتبارها مدرسة شعرية قائمة بذاتها في مسيرة الشعرية العربية، في ذات الوقت الذي يُتَّهم فيه نزار بأنه شاعر حسي يدغدغ الحواس من خلال تركيزه على المرأة كموضوعة شعرية افتتن بجسدها وجمالها وأشيائها وأعضائها ، وثمة من اعتبر نزار شاعراً مسطحاً بلا عمق، وثمة من رآه شاعراً يكرر نفسه، وثمة من تطرف من أساتذة النقد بكلية دار العلوم بالقاهرة إلى اعتبار نزار مجرد ناثرٍ كبير ، و صنف قصائده باعتبارها قصصاً قصيرة .
حقيقة إن شهرة تجربة نزار جماهيرياً نصَّبَت من كل متلقٍ لشعره ناقداً له ، وأعطت الألفة التي بين الجماهير وشعره فرصة للانطباعية أن تنطلق ضده أو معه، وأعطت كذلك الفرصة لمن أرادوا أن يحاكموه باسم الأخلاق والأعراف واصطلاحات أخرى سخيفة.
إن النقد الأدبي الموضوعي وحده القادر على تناول تجربة نزار قباني تناولا شاملاً علمياً واعياً لكل ملامحها الفنية والرؤيوية ، دون إحجام أو تقصير؛ ليقيِّم هذه التجربة، ويحدد مدى أصالتها و محكاتها مع التراث وموضعها من المعاصرة، ومدى تقاطعها أو اختلافها مع التجارب الشعرية المعاصرة.. تناولاً واعياً يفترع الطريق بمتلقي الشعر إلى مسار مُعبَّدٍ ، ينتهي به إلى رحابة التجربة وعمقها.
القراءة والتحليل:
سنتناول بشيء من النقد والتحليل قصيدة نزار قباني المعنونة "غرناطة" بغية أن نضع يدنا على الملامح الجمالية للتجربة الشعرية فيها، باحثين في الوقت ذاته عن الدلالة الشعرية العميقة تحت الدلالة الظاهرة أو السطحية للغة، واضعين في الاعتبار أن القصيدة ضمن المرحلة المبكرة في تجربة نزار؛ فهي قصيدة تقليدية من حيث البناء، وتختلف كثيراً عن تجاربه في مراحلها التالية حيث أطلت علينا في ثوبها الأحدث.
وقد أتت القصيدة في عشرين بيتاً، نُظِمتْ على بحر الكامل وتفعيلته "متَفَاعلن" ثلاث مرات في كل شطرة، والتزم فيها قافية "الدال" المخفوضة مما يشي بداية بأن القصيدة التزمت إيقاعاً أسيفاً بطيئاً.
غير أن العنوان( غرناطة) يمثل مدخلاً درامياً إلى عالم القصيدة .. تلك المفردة المؤنثة المثيرة للشجن بما تحمله من دلالات الجمال والسحر.. الجنة التي تمازجت فيها الدماء والفنون والعلوم مؤلفة روعة الوجود الإنساني في أبهى كمالاته، غير ما تحمله المفردة من دلالات الفتوحات والبطولات والانتصارات العربية السالفة.. التاريخ العربي العريق، الإرث السليب الضائع .. روعة الماضي وحسرة الحاضر إذا ما وقف أمام شواهد الماضي.
إذن المفردة تحمل بالنسبة لنا المعنى والمعنى النقيض، وتولد فينا شعوراً مزدوجاً من الزهو والحسرة معاً، والتفاخر والانكسار معاً ، ومن ثم فهي ـ بما تولده فينا من صراع النقيضين ـ تعتبر مدخلاً درامياً إلى عالم القصيدة.
تبرز في القصيدة ثلاثة ملامح فنية أساسية :
أولها: اختلاط الأبعاد الزمانية والمكانية، وتمدد اللحظة الشعريه الآنية لتشمل مجمل التاريخ العربي الإسلامي، أو بالمعنى: تداخل الصلات ـ أو الوصلات إن شئنا ـ التاريخية بين الماضي والحاضر وانصهارها معاً في بوتقة اللحظة الشعرية.
ثانيهما: الاتكاء علىالمرأة والتاريخ كإطار للتجربة الشعرية.
ثالثهما: تضافر الدلالات الظاهرة والمباشرة للألفاظ لإبراز دلالاتها المعنوية العميقة.
هذه الملامح الأساسية الثلاثة التي تحد طبيعة التجربة وتغلفها وتحصرها بداخلها هي نفسها التي تشف عن وعي الشاعر واستبصاره لحقيقتين اثنتين هما:
1 ـ اللحظة الشعرية التي يقف فيها أمام امرأة أسبانية الموطن عربية المحتد والأرومة.
2 ـ التاريخ العربي بمجمله بما يشتمل عليه من انتصارات و انكسارات.
و لعل قراءتنا للقصيدة لن تتخطى النظر في الملامح الثلاثة تلك .
المرأة/ الفتاة في هذه القصيدة شخصية أندلسية التقى بها الشاعر صدفة، دون تهيؤ أو احتشاد لهذا اللقاء، عند مدخل الحمراء ( مدينة أندلسية بغرناطة ) وهو الذي لم يلتقِ بها من قبل .. واضعنا في حيرة عندما قال: "ما أطيب اللقيا بلا ميعاد" هذه الجملة التي تقال ـ غالبا ـ عندما يلتقي شخصان متعارفان من قبل، بغير موعد سابق، لأن "موعد" أو "ميعاد" يفترض معهما أن ثمة تعارف سابق يمكن أن يقام معه التواعد أو عدمه، حتى إذا ما التقيا بغير موعد يقول أحدهما للآخر: "ما أطيب اللقيا بلا ميعاد" أما ما حدث من لقاء بين الشاعر والفتاة الأندلسية يراها لأول مرة فهو لقاء صنعته الصدفة، يقال معه: " التقاها صدفة".. لنقل إذن أن ثمة مجازفة تعبيرية من أجل الوصول على تقفية "الدال" المخفوضة"، ولعل هذا ما يؤكد أن الشاعر لم يلتقِ بتلك الأندلسية من قبل هو سؤاله لها: "هل أنت أسبانية؟".
على أية حالة انهمك الشاعر لحظة التقائه بهذه الفتاة في تأمل مظهرها وملامحها الأنثوية، وجمالها الأخاذ، ولعل أول ما جذب انتباهه فيها "عينان سوداوان" كانتا مفجراً شعرياً أول، إذ رأى فيهما أن ثمة عالماً يتسع أمامه، وأن دائرة الرؤيا عنده بدأت تشف عن أبعاد جديدة أعمق، وأبعد بكثير من اللحظة الزمانية والمكانية التي يقف فيها أمام هذه الفتاة؛ لذلك عندما قال: "في محجريها تتوالد الأبعاد والأزمان" كان بالفعل متجاوزاً أي اهتمام شكليّ أو حسي أو حتى جمالي يربطه باللحظة الحقيقية، داخلاً عالماً شعرياً آخر فسيح متسع باتساع التاريخ العربي كله، بأبعاده الماضية والحاضرة. وربما لذلك كان سؤاله: "هل أنتِ أسبانية؟" بهذه الصيغة، ولم يكن بصيغ أخرى مفترضة مثل: "أين ولدتِ؟" أو "من أين أنتِ" أو "ما بلدك؟" وكأن الشاعر قد لمس أو استوثق أو اطمئن في عالمه الجديد إلى مؤكدات أو ثوابت ما تبرهن على أنها أسبانية؛ فانطلق سؤاله ليستوثق أو ليطمئن إلى معطيات عالمه الجديد.
وبمجرد أن أجابت: "وفي غرناطة ميلادي" أصبح كل شيء في عالم الشاعر الجديد حيًّا، ومن ثم ودع اللحظة الحاضرة، وودعته عينه الباصرة فيما استبدت به عين أخرى شاعرة، ليعيش في عالمه الجديد المغاير .. عالم عمره سبعة قرون من التاريخ العربي، بكل ما فيها من صراع ومكاسب وانحدار .. عالم (بني أمية) براياتها وجيادها وأجنادها كدلالات على الانتصارات المتوالية لبني أمية، في إفريقيا والتي كللت بفتح الأندلس، ثم الاحتفاظ بها حتى بعد سقوط دولتهم في المشرق .. حقب زاهية متوالية الانتصارات، يتحسر عليها الشاعر وقد تبدل الحال بالأندلس وبالعرب .. ألهذا يلمس الشاعر الغرابة في ذلك التاريخ الذي هوى بالعرب من قمة إلى قاع؟ .. ألهذا كانت اللحظة الشعرية مفعمة بالاستغراب حين صرح: "ما أغرب التاريخ حين أعادني لحفيدة سمراء!" مؤكداً بداية من سمار لونها أنها ذات ملامح ودماء عربية، ثم صرح أكثر بقوله: "حفيدتي" تلك المفردة التي أتى بها في الشطرة ذاتها مرتين، وإمعاناً في إثبات النسب راح يقدم لنا أوصافاً حسيَّة ظاهرة تؤكد لنا وله أنها عربية، وأكثر من ذلك أنها حفيدته، وإمعاناً في ذلك أيضا راح يوغل التأمل في وجهها، وربما قاده الأيغال إلى التحليق في عالم صنعته له ذاكرته هذه المرة .. ذاكرته المضمخة بالتاريخ العربي والشخصية العربية، بل وأكثر من ذلك بالملامح والمقاييس الجسدية للمرأة العربية، فراح يربط بين هذا الوجه الذي أمامه وما في ذاكرته، ونقل لنا نتائج ذلك، فأجفانها تشبه أجفان "بلقيس"، وجيدها كجيد "سعاد" وتصل به المبالغات قمتها حين يؤكد أنه رأى في وجهها منزله القديم والحجرة التي كان أبواه يوسدانه بها، وكذا بعض معالم هذا البيت مثل البركة والياسمينة.
وبالمعنى لقد تداخلت الجغرافيا بالتاريخ مشَكِّلان معاً قناعة ما، مفادهاً أن هذه الفتاة الأسبانية تتمتع بالملامح والأوصاف الجسدية للفتاة العربية، وكأنه يؤكد ـ وإن كان تأكيده شكليًّا خارجياً ؛ فلم يتوغل بنا بعيداً عن الأوصاف الحسية الظاهرة للفتاة، ولم يقدم لمحة عن طباعها، وملامحها النفسية ـ على عروبة الأندلس، ويصرُّ على أنها رغم القرون العديدة والحقب المتوالية لا تزال ذات ملامح عربية، ولكن الإشكالية التي واجهت الشاعر في تلك اللحظة أن الفتاة لم تكن تدرك كل ذلك، ولم تكن لتدرك شيئاً مما يقوله الشاعر أو تعي بعضاً منه، وربما هي منفصلة تماماً بذاكرتها أو بثقافتها عن مجمل هذا التاريخ العربي المكتنز فيها، أو بالمعنى هي منفصلة عن تاريخها؛ لذلك هي سألت: "ودمشق أين تكون؟"؛ فأجابها الشاعر على الفور: "في شَعْرك المنساب نهر سواد" ولعل الربط بين الانسياب والسواد من جهة ودمشق من جهة أخرى يؤكد تحسر الشاعر على حاضره المنساب كمعنى مضاد للترابط والتماسك والانضباط، ثم السواد كرمز للحزن والتشاؤم ، ثم هذه المفردة( نهر) التي كثيراً ما أعطت دلالتها في الجمال والخضرة والارتواء والصفاء.. تأتي هذه المفردة مضافة إلى طرف قبيح ؛ لتعطي دلالتها الجديدة المغايرة .. إنه نهر سواد يفيض على وجه دمشق.. وهكذا يوظف الشاعر مفردات المرأة والطبيعة ليعكس ما بداخله من حسرة وألم، مركزاً على الإفادة من البعد الرمزي للغة.
يعود الشاعر ليؤكد للفتاة الأسبانية أن دمشق بادية في وجهها العربي، أو بالمعني وجهك مثل وجه أجدادك الدمشقيين تماماً، عربي الملامح فابحثي عن الإجابات فيك، وعن رائحة التاريخ العربي فيكِ.. ابحثي عن جذورك فأنت هناك مثلما أنت هنا عربية الملامح والأرومة والمحتد.
ثم يضيف" في الثغر الذي مازال مختزناً شموس بلادي" وهنا تطفر على الذهن الدلالة المباشرة الحسية للثغر الجميل المضيء في وجه الفتاة، لكن ـ عمقياً ـ الدلالة تتجه إلى أبعد من ذلك بكثير، فالشموس رمز للعلم والحضارة، وكونها مختزنة هنا في "أسبانيا" فهذا معناه انحسارها هناك، نحن هنا أمام حضارة عربية لا تزال مختزنة في أسبانيا، وهذا معناه انحسارها هنا في دمشق / بلاده.
وهكذا تتضافر الدلالات اللفظية في القصيدة لإبراز رؤية الشاعر المُسَيَّجة بالحسرة على الماضي الجميل الآفل.
ويبدو أن الأندلسية شعرت بالألفة مع الشاعر فاصطحبته في جولة إلى الداخل حيث توقفت معه في وسط مدينة الحمراء، حيث قصر الحمراء الشهير ، و عند تلك اللحظة يعود الشاعر من التحليق الشعري في عيني الأندلسية ، أو بالمعنى هو يعود إلى لحظته الحاضرة ويعود إليه وعيه بحقيقة اللحظة، تلك التي يسير فيها بصحبة الأندلسية .. يعود ليتعامل مع اللحظة برؤية مختلفة جديدة.
ولسنا بحاجة للتأكيد على إعجاب الشاعر بهذه الفتاة وألفته بها، فقد قدم لنا مجموعة من الأوصاف الحسية التي تؤكد هذا الإعجاب، الأمر الذي يؤكد مقولة أن نزار عندما يكف عن التحليق الشعري من خلال المرأة يعود للتلهي الحسي بها.
لقد توقف الشاعر بنا أمام صورة القرط الطويل الذي يتألق بجيدها، مؤكداً طول الجيد نفسه وروعته للدرجة التي جعلت الشاعر يصور المشهد وكأنه ليلة عيد ميلاد مليئة بالشموع وما إلى ذلك من بهرجة.
ولا يخفي الشاعر غرامه بشعر الفتاة المنساب فيعود إليه مرة أخرى ليرصده هذه المرة من منظور مغاير عن سابقه، فيراه سنابل قمح هائشة، تُركت بغير حصاد، ونراه لاهثاً خلفهما، وهما السائران في تجاور وحميمية، وإن كان الشاعر قد صور نفسه بالطفل الذي ينقاد لرغبة دليلته، ولا أراه مصوراً لها في تلك اللحظة بغير صورة الأم، تلك التي يمتثل الطفل لقيادتها بحب و اطمئنان.
وعلى الرغم من التناقض البيِّن بين الطفولة بعالمها الفطري البريء، وبين ما قدمه الشاعر من تصويرات حسية وأوصاف جمالية للفتاة الأسبانية، وكلها أوصاف وتصويرات تؤكد وعيه اليافع وحسيته التي تتنافى مع كونه طفلاً. وكان بالإمكان أن يكون الشاعر صادقاً لو لمس في شخصيتة النسائية تلك ما يؤكد أو يقيم جوانب روحية وعاطفية أخرى غير تلك الحسية.
ألهذا يمكننا القول إن التجارب الذهنية تفرض على الشعر التناقضات والمبالغات، أو السقوط فيهما ؟ ولهذا أيضاً يمكننا القول إن تجربة نزار في هذه القصيدة ليست وليدة تجربة حقيقية، وليس لها حظ من المصداقية، وإنما هي سياحة شعرية مفتعلة في غالبها، سياحة شعرية في التاريخ اعتمدت على تجربة قائمة في ذهن الشاعر فقط رغم ما قدمه من أوصاف حسية تغري على التصديق بحقيقية التجربة ومصداقيتها، بّيْدَ أننا لن نستسلم أو نسلِّم بذلك، فها هو شَّعر الفتاة الذي كان قد وصفه سابقا بأنه" نهر سواد" عاد الآن ليقول إنه ذهبي اللون بلون السنابل، ولا يدفع التناقض هذا أو يشفع له القول بأن زاوية الرصد اختلفت وتبدلت معها رؤية الشاعر من موقف إلى موقف، أو انه كان في الحالة الأولى منفصلاُ عن لحظته الحاضرة أو الآنية هائماً في عالم متخيَّل فسيح تختلط فيه أبعاد الجغرافيا والتاريخ، وأنه هنا في موقف جديد مغاير يلتزم فيه بالآني والواقعي والحقيقي ، وأن رؤيته هنا ذات بعد واحد هو فقط ما يراه أمامه.
مثل هذا الدفع لن يصبح مقبولاً؛ لأن الشاعر في الحالتين يظل واعيا بحقيقة الألوان، وإنما الذي يختلف فقط هو الأثر الذي يتركه هذا اللون أو ذاك في نفسه، ومن ثم تصطبغ رؤيته بصبغة مميزة تختلف عن الأخرى.
وهكذا تسقط الدلالة الشعرية أو تنحدر عندما ينصرف الشاعر عن استبطان تجربته لينشغل باهتمامات حسية رخيصة، أو عندما تظل تجربته متأرجحة بين انشغال حسي يتجاذبه نحو الوصف المجاني واللاشعري، وآخر وجداني قد يولِّد الشعرية حقيقة ، ويحلق بها إلى آفاق تخييلية ورؤيوية صادقة. فما الذي أفاده ـ في إطار الرؤية المطروحة ـ كون الفتاة شعرها ذهبي كالقمح الهائش، أو أن جيدها طويل، وقرطها كذلك فيما بدا تلألؤه كشموع الميلاد؟ .. كلها أوصاف لم نكن نحن ولا الرؤية المطروحة بحاجة إليها، وإن توافقت مع تجربة نزار قباني الشعرية التي لا تخلو من مثل هذا التأرجح بين الحسي والوجداني.
على أية حالة شاعرنا لا يزال واقفاً وسط قصر الحمراء، وقد أخذت بتلابيب روحه روعة المكان، ولم يعطِ نفسه فرصة التحليق بعيداً عن اللحظة الآنية الرائعة، تاركاً التاريخ بكل ما يحمله من رماد الماضي، واندمج في لحظته الحاضرة ، فراح يسهب في وصف الجمال الظاهري الذي يراه ماثلاً أمامه في الجدران والنقوش والزركشات والزخارف، بل وأكثر من ذلك استطاع أن يستعيد مشاعره الطفولية؛ ليعيش لحظة نقية خالية تماما من نكد التاريخ.. ولم يفق الشاعر ‘لا على صوت دليلته حين قالت: "هنا الحمراء ؛ فاقرأ على جدرانها أمجادي" وليتها قالت: "أمجادنا" لتشمل الشاعر معها في لغة الخطاب، بّيْدَ أن المؤسف أنها قالت: "أمجادي" ولم تقل: "أمجادنا" وشتان بين الاعترافين .. ألهذا نزفتْ جراح الشاعر؟!.
إن الاعتراف الغربي بفضل حضارتنا العربية وأثرها في العالم أمر مفتقد في واقع الحال .. سُرَّاق الحضارة ينكرونها .. والتاريخ العصي أشاح بوجهه عن العرب .. استدارت مزولة الوقت إلى الغرب .. هم ينسبون لأنفسهم كل شيء .. هيهات .. هيهات للشاعر أن يثبت على وجه اليقين أنه صاحب هذا التراث الحضاري البعيد .. لقد حاول ذلك كثيراً مع هذه الأندلسية لكنه ما عاد إلا بشرف المحاولة وبعض الجراح .. عاد ولم يستمع منها غير "أمجادي" .. أهو الواقع العربي المتردي الذي يرفض الآخرون الانتساب إليه ؟ .. ألهذا نزفت جراح الشاعر ؟! وعاد متحسراً وهو يردد " يا ليت وارثتي الجميلة أدركت أن الذين عنتهمو أجدادي" أ لهذه النهاية المتوقعة أعلن الشاعر قبلاً أن تاريخنا العربي كومة من رماد يلهث خلفه وهو السائر خلف دليلته الأندلسية؟.
ولم لا .. إن تاريخاً يعجز عن القيام لوحده في وجه الحضارات لا يعدو عن كونه رماد تذروه الرياح .. إن دلالة الرماد حقيقة مفزعة .. لكأن الشاعر يريد أن يضعنا أمام حقائقنا المفزعة، أو لكأنه يشدنا عنوة إلى مكاشفة ما، نستبصر بعدها واقع أمرنا وصورتنا الماثلة.
لقد كنتم أيها العرب في الماضي نيراناً مشتعلة استدفأت الدنيا بها واستضاءت، والدليل ما خلفتموه أمامي ها هنا في غرناطة، وها هو غيركم يصنع من تراثكم حضارته، دون اعتراف بفضلكم .. فماذا أنتم أيها العرب الآن غير رماد لا يعترف به أحد ؟! إنها الصورة الحاصلة، المحصلة الكسيحة، تلك التي ولدت جراحا نازفة في صدر الشاعر لم يجد إزاءها غير أن يُنهي الموقف برمته .. ويودع دليلته الأندلسية وقد اتسعت الهوة بينهما.
لقد أنهي الشاعر قصيدته بالعناق في لحظة الوداع وكان لابد أن يبرر هذا العناق ليبدو كما لو كان نهاية طبيعية لموقف حميم .. أما والمحصلة التي وصل إليها الشاعر مع هذه الأندلسية تتنافي مع الحميمية، فكان لابد أن يقول: " عانقت فيها رجلا يسمي "طارق بن زياد " ، وكأن العناق موجه في الأساس لطارق بن زياد الذي هو فيها لا إلى شخصها.
لكن ــ وعلى المستوي الفني ــ تبدو النهاية معتسفة وغير مبررة.. لكأن الشاعر وصل إلى نقطة لم يعد يجد ما يقوله لينهي الموقف الشعري ،تماماً كما كان يأتي بأبيات غير خادمة فنياً مثل تلك التي وصف فيها دليلته وقرطها وجيدها وشعرها .. والمقام ليس مقام وصف والرؤية الشعرية تنجه نحو بؤرة ذات محكات تاريخية لا مجال فيها لدغدغة الحواس ووصف أعضاء النساء وأشيائهن النساء.
واعتساف النهاية واضح تماماً هنا .. فكل ما قدمه الشاعر من مواصفات للمرأة هذه جميعها تتنافي مع احتمالية أن تظهر فيها ثمة علامة واحدة لرجولة ما، خاصة إذا كانت في خشونة ملامح طارق بن زياد.
حقيقة لقد شدنا الشاعر إلى روائح وألوان ومفاتن نسائية جميلة أخَّاذة؛ فسلمنا بهذه الروعة وهذا الجمال، ثم يفاجئنا بأن داخل هذه النعومة الرائعة طارق بن زياد بشحمه ولحمه .. لست أدري هل أهان الأسبانية الجميلة أم أهان بن زياد بهذا الربط المتناقض؟! هذا من ناحية .. أما من ناحية أخري فقد سبق للشاعر أن استرجع تاريخه العربي بكل ملامحه، بل لمس لون ورائحة دمشق، وأكثرُ من ذلك رأي أخص خصوصياته: منزله القديم وحجرة نومه و.... أشياء أخري كثيرة لمسها واصطدم بها وأدركها في سبحته الشعرية في عيني الفتاة تلك الأسبانية .. ومن عجب أن الشاعر رأي وسمع واشتم كل الأشياء والتواريخ ولم يصطدم بطارق بن زياد إلا في نهاية القصيدة، وفي لحظة الوداع ! .
الموقف الشعري مختلف في بداية القصيدة عن أخرها كذلك .. لقد سبق القول إن اللحظة الشعرية الأولى كانت متجاوزة لحدود الزمان والمكان بمعني أن الشاعر كان منفصلاً فيها عن ذاته الباصرة ، مرتحلا إلى ذاته الشاعرة، محطماً بذلك الأبعاد التاريخية للواقع المدرك، أما في نهاية القصيدة فالموقف الشعري فيها مرتهن بحدود اللحظة الحاضرة ومقيد برؤية فوتوغرافية شغوفة بنقل واقعات ما يجري في الواقع .. فكيف اخترق طارق بن زياد ــ فجأة ــ الكاميرا ليطفو فوق سطح المشهد .. أما كان التمهيد الفني يستوجب أن يُـبـْتعث طارق بن زياد حياً بوسيلة فنية ما .. ثم يوظف شعرياً فيما بعد .. على أية حال النهاية معتسفة وغير مبررة فنياً، وتشي بضجر الشاعر من التجربة المفتعلة أصلاً ، ومن ثم نهاها على هذه الشاكلة المفتعلة أيضاً، متكئاً على الماضي الجميل في لحظة الوداع الأخيرة .. وهل أمامه غير شخصية محورية في تاريخ العرب الأندلسي ليتكئ عليها كطارق بن زياد؟.
على أية حالة هي نهاية ــ رغم ما بها ــ ناقلة لمشاعر الحسرة والإحساس بالتنكر التام والتجاهل الرهيب، ولنا أن نتأمل دلالة بناء الفعل "يسمى" للمجهول، لندرك المفارقة بين عظمة طارق بن زياد وأثره وخلوده في التاريخ العربي ومن ثم الأندلس، وبين أن يكون من سماه مجهولاً .. أو ليس طارق بن زياد جزءاً من التاريخ العربي؟! .. ثمة استجهال إذن، إن لم يكن مقصودا فهو جهل من الآخرين بنا، يدعو إلى التحسر والانزواء.
إن روعة القصيدة في كونها أثارت فينا مثل هذه المشاعر وجعلتنا نشارك شاعرها التأسي على الماضي الجميل وجعلتنا نلمس ماضينا الآفل الرائع بكل بطولاته وفتوحاته وحضارته الزاهية .
استطاع الشاعر أن يكسر حَدَّ المألوف، محلقا في عالم ورائي متسع جميل، مستغلاً لحظة شعرية مناسبة، وهو الواقف المتأمل لعينين سوداويين في محجريهما تتوالد الأبعاد والأزمان.
كما استطاع أن ينقل بأمانة الكاميرا الألوان والأوصاف بالقدر الذي لمسنا معه جمال وروعة قصر الحمراء و غرناطة المدينة الفردوسية.
إلا أنه يبقي :
الافتعال البيِّن في التجربة، والمبالغات غير المقبولة التي تخللتها والفلفلات الحسِّـيَّة غير الضرورية التي استغرقت الشاعر في ما لا يلزم من تفاصيل جسدية وجمالية نسائية، إضافة إلى الختام المفتعل وغير المبرر فنياً.
عبدالجواد خفاجى
18 فبراير 1998 م
Khfajy58@yahoo.com