تتعد مظاهر التوسط والاعتدال فى الإسلام إلى هذه المظاهر ويمكن إبرازها فيما يلى :
1 - الوسطية والاعتدال فى الاعتقاد :
· الإسلام وسط فى الاعتقاد بين الخرافيين الذين يسرفون فى الاعتقاد فيصدقون بكل شئ ويؤمنون بغير برهان , وبين الماديين الذين ينكرون كل ما وراء الحس ولا يستمعون لصوت الفطرة ولا لنداء العقل ولا لوضوح المعجزة , فالإسلام يدعو إلى الاعتقاد والأيمان ولكن بما قام عليه الدليل القطعي والبرهان اليقيني .
· وما عدا ذلك يرفضه ويعده من الأوهام وشعاره دائماً ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) "1 " .
· والإسلام وسط بين الملاحدة الذين لا يؤمنون بوجود اله قط , وبين أولئك الذين يعددون الآلهة حتى عبدوا الأغنام و الأبقار وألهوا الأوثان والحجار .فالإسلام يدعو إلى ضرورة الأيمان باله واحد لا شريك له لم يلد ولم يولد يستحق العبادة وحده الإسلام وسط بين اللذين يقدسون الأنبياء حتى ورفعوهم إلى مرتبة الألوهية أو البنوة للإله وبين اللذين كذبوهم واتهموهم وصبوا عليهم صنوف العذاب .
2- الوسطية والاعتدال فى العبادة :
الإسلام وسط فى عباداته وشعائره بين الأديان والنحل التى ألغت جانب العبادة كالبوذية التى اقتصرت فروضها على الجانب الأخلاقي الإنساني وحده وبين الأديان والنحل التى طلبت من اتباعها التفرغ للعبادة و الانقطاع عن الحياة والإنتاج كالرهبانية المسيحية .
فالإسلام يكلف المسلم أداء شعائر محدودة فى اليوم والليلة أو فى السنة كالصوم أو فى العمر مرة كالحج ويطلب منه أن يستشعر أن تكون حياته متوهجة كلها لله ثم يطلقه بعد ذلك ساعياً منتجاً يمشى فى مناكب الأرض ويأكل من رزق الله , ولعل أوضح دليل على ذلك هنا : الآيات الأمرة بصلاة الجمعة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فى الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون " 2 ".
بل إن الإسلام ليؤكد على الاعتدال فى العبادة فلا ينبغى أن يرهق المسلم أو يؤذى جسده عن انس – رضى الله عنه – قال : جاء ثلاث رهط الى بيوت أزواج النبي – صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي – صلى الله عنه – فلما اخبروا كأنهم تقالوها . وقالوا أين نحن من النبى – صلى الله عليه وسلم – قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ , قال أحدهم : أما أنا فأصلى الليل أبدا , وقال الأخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر , وقال الأخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً . فجاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال : ( أأنتم الذين قلتم كذا وكذا , أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكنى أصوم وأفطر , وأصلى وأرقد , وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منى ) " 3 " .
وتعذيب الجسد وتحميله مالا يطيق ليس من مناهج الإسلام ووسائله لبلوغ الكمال المنشود , إذ ليس من لوازم هذا الكمال أو مقتضياته فعل ذلك . عن ابن عباس – رضى الله عنهما – قال : بينما النبى – صلى الله عليه وسلم – يخطب إذا هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم فى الشمس ولا يقعد , ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم ، فقال النبى – صلى الله عليه وسلم – :( مُروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه) " 4" ، وعن انس – رضى الله عنه – قال دخل النبي – صلى الله عليه وسلم – المسجد فإذا حبل ممدود بين السارتين فقال : ما هذا الحبل ؟ قالوا هذا لزينب فإذا فترت تعلقت به , فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : ( حلوه ليصل أحدكم نشاطه , فإذا فتر فليرقد )" 5 " .
3 - التوسط والاعتدال فى الأخلاق : الإسلام وسط فى الأخلاق بين غلاة المثالين الذين تخيلوا الإنسان ملاكا أو شبه ملاك , فوضعوا له من القيم والآداب ما لايطيقه, وبين غلاة الواقعيين الذين حسبوه حيوانا أو كالحيوان فأرادوا له من السلوك ما لا يليق به , فأولئك أحسنوا الظن بالفطرة الإنسانية فاعتبروها خيراً محضاً , وهؤلاء أساءوا الظن فعدوها شراً خالصاً , وكانت نظرة الإسلام بين هؤلاء وأولئك , فالإنسان فى نظر الإسلام مخلوق مركب فيه العقل وفيه الشهوة قد هُدى الى النجدين وتهيأ بفطرته لسلوك السبيلين , إما شاكراً وإما كفورا , فيه استعداد لجهادها وسلوك طريق التقوى ( ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها* قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها) " 6 " .
** الكاتب: باحث متخصص فى الدعوة والثقافة الإسلامية ويمكن التواصل معه عبر الاسكاى بى على الحساب التالى : dr.mokhairi
الهوامش :
1 – سورة البقرة /الآية 111 .
2 – سورة الجمعة / الآيتان 9 ، 10.
3 – أخرجه البخارى كتاب : النكاح ، باب : الترغيب فى النكاح ، حديث رقم / 5063،وأخرجه مسلم فى كتاب : النكاح ، باب :
استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ، حديث رقم / 3469 .
4 – أخرجه البخارى , كتاب : الأيمان , باب : النذر فيما لا يملك وفى معصية حديث رقم / 6704 , وأخرجه أبو داود كتاب :
الأيمان والنذر , باب : ما جاء فى النذر فى المعصية , حديث رقم / 3302 , عن ابن عباس – رضى الله عنهما –
5 – أخرجه البخارى كتاب : التهجد , باب : ما يكره من التشديد فى العبادة حديث رقم / 1150 ، وأخرجه النسائي فى السنن كتاب قييام الليل وتطوع النهار , باب : الاختلاف على عائشة فى قيام الليل , حديث رقم / 1654 , وغيرهما .
6 – سورة الشمس / الآيات 7 : 10 .