بلا عينيك لن أبحر
للشاعر / عاطف الجندي

دكتور مدحت الجيار
***
الشاعر عاطف الجندي أراه شاعرا ناضجا رغم أنه فى بداية شبابه و ذلك لأنه يمتلك قدرة خاصة في كتابة القصيدة الشعرية الفصيحة و لديه قدرة واضحة على استبعاد قصائد كثيرة جدا كتبها فيما بين شذور هذه القصائد التي جمعها بين دفتي هذا الديوان و من الملاحظ انه كتب مجموعة كبيرة من القصائد و اختار منها القصائد التي رأى أنها الأجدر بالطباعة لأنني لا أتصور أن أحد الشعراء يكتب لمدة عشرين عاما و لا يصدر عدة دواوين حتى الآن و يبدو أنها مآسي الحياة اليومية و لقمة العيش التى تشغل الأدباء و الكتاب و يبدو أنه أيضا يتمهل ليس كغيره من الشباب الذين ينشرون مسودات الكتابة لأنهم لا يملكون وقتا ليكتبوا من جديد أو حتي يعيدوا صياغة ما كتبوه لأن المطابع ودور النشر تتلقف ما يكتبون وتنشره صباح الغد والشاعر ليس من هذا الفصيل من الشعراء الذين يسعون لشهرة واسعة أو يسعون إلي كثرة النشر و كثرة الكتابة و من هنا نستطيع أن نقول : بأن هذا الديوان ( بلا عينيك لن أبحر ) و هو الأول للشاعر هو أحد الدواوين الناضجة التي أخرجتها قصور الثقافة إلي جانب مجموعة أخري من الدواوين الني كنا لا نود ألا تخرجها هذه المطابع بهذه الأموال العامة لكن أعطانا هذا الديوان إشارة إلي أن بعض المال العام يعود لأصحابه و يذهب أيضاً لكتابات ناضجة يمكن أن ندفع بها للأمام وهذه القصائد الموجودة لدينا في هذا الديوان قصائد متنوعة ، تعمد الشاعر أن يكتب لنا في نهاية كل قصيدة مكان و زمان النشر لنتعرف علي تطوره الفني والشعري وقد أفادت هذه العناوين إفادة كبيرة في تتبع خطوات الشاعر وتتبع نمو هذه اللغة الشعرية و الخاصة التي احتضنتها منذ البدايات ومنذ أول قصيدة و حتى القصيدة الأخيرة والشاعر عاطف الجندي أهم ما يميزه في هذه القصائد أنه شاعر تلقائي لأنك لا تستطيع أن تشعر بأي مجهود بذله الشاعر ولا تبذل أنت مجهودا لتلقي هذه القصائد لهذا نضعه ضمن الشعراء التلقائيين بصرف النظر عن المذاهب التي تحولت إلي أبراج كبيرة و صغيرة وضع بها الكمُّون والشطة و الفلفل من الأمور الطبيعية و الروايات والشرح و ما شابه ذلك هذا الشاعر التلقائي إذا حاولنا أن نقيسه بأي مذهب من هذه المذاهب لهذا فهذه الخاصية خاصية أن أكون كاتبا للشعر أو أكون شاعرا مثلما أتنفس ومثلما أنام و مثلما أصحو يكون هذا الأمر خصيصة لائذة لكتابتي في صياغة حلم اجتماعي ضخم جداً ملئ بالغوغائية و ملئ بالصوت العالي و ملئ بكل أنواع الكتابات التي نرضي عنها والتي لا نرضي عنها لهذا أنا أحييه لأنه لم يكن يسير حسب الموضات الشعرية السائدة و أنه أبان عن نفسه إبانة شفافة حتى مع النصوص الشعرية الطويلة و أيضاً النصوص قليلة الأسطر فأكبر قصيدة لدى الشاعر لا تزيد عن ثلاث صفحات هذه أيضا ميزة من الميزات التالية التي تتلو التلقائية بمعني أن الشاعر كتب هذه القصائد ولم يتزيد أو كتبها دون أن يكون مسترخياً تماما ودون أن يعتمد علي الإسترجاع فقط و دون أن يعتمد علي توالد الأفكار فقط و إلا تحولت التلقائية من التلقائية التي تردع هذه الكتابات الي غريزة لا يتحكم فيها الشاعر وتظل الكتابة كما يقول سليمان فياض عن بعض الشعراء (( تظل كتابتهم سرسبة كسرسبات الماء بالليل حين يكون الصنبور مفتوحاً قليلا دون أن يشعر صاحب البيت هذه السرسبة إذا ما تركناها بالليل وصحونا مبكراً لوجدنا البانيو وقد امتلأ بالماء دون أن يبذل مجهوداً في هذا الشأن )) ومن هنا كان لابد أن أوضح أن ما قلته عن هذا الشاعر المتميز من مسأله التلقائية و الشفافية لا ترتبط أبداً بالعبث الذي يمكن أن يستسلم فيها الشاعر لأي ما يأتي علي أفكاره بطريقه غريزية و إلا لتحول النص إلي هذيان كما يهذي مريض النفس و كما يتوجع أي طائر من الطيور بأي إيقاع دون أن يدرك أنه يتوجع ودون أن يدرك أنه يتألم ، أشكره علي التلقائية و أشكره علي أنه لم يترك هذه التلقائية سرسبة أو غريزية يمكن أن تستدعي من القانون ثورة بل تستدعي بقانون نفسي فتتضخم القصائد و لا ندري سبباً لتضخمها ولا ندري سبباً لما فيها من صور شعرية أو إيقاعات أو موسيقي هذا الشاعر يحسب لا ليتأكد من أن يكتب الشعر 0
و الخصيصة الثالثة : و كان الواجب أن أبدأ بها ولكني أخرتها لتكون الخصيصة الثالثة ، أنه ركب التفعيلة العروضية حتى في العنوان (بلا عينيك لن أبحر ) موزونة ( مفاعلتن – مفاعلتن )
بل هي مشطور بيت وهذا البحر إذا كرر عدة مرات تحول من وقور إلي راقص دون أن يشعر لأن هذا البحر شديد الإتكاء علي الجسم ويتحول إلي هزج بل يتحول إلي مجموعة من التفعيلات السريعة ويمكن بعض التحويلات البسيطة أن يتحول إلي فاعلاتن 0
أنا أشكره لأنه حافظ علي التفعيلة ، لأن التفعيلة بالفعل واحدة من أهم القضايا الشعرية المعاصرة ونحن ننظر إلي التفعيلة العروضية الآن علي أنها وسط بيم مرحلتين الأولي : مرحلة الكتابة بالبحر ومرحلة الكتابة بالعروض 0
مرحلة الكتابة بالبحر هي تلك الكتابة التي بدأت في الجاهلية و لم تنتهي وهذه خصيصة في الشعر العربي أ لأنه سيكون هناك شعراء تقليديون حتى قيام الساعة و هناك شعراء بلا بحر أو تفعيلة حتى قيام الساعة 0
هذه أشياء موجودة كما يوجد الأحمر و الأسود و الأصفر من الوجوه توجد أيضا هذه المتنفسات الشعرية و لكن فى سياق انتشار الشعر الحر في مصر و العالم العربي أن يتمسك شاعر بالتفعيلة هذا أمر جميل جدا ، لابد أن أحيي عليه هذا الشاعر لأنه لم يكتفي بالتفعيلة ، إنما حاول أيضا ألا يجبر نفسه على إيقاعات داخلية أو إيقاعات في منتهى الصوتي وراء النص بمعنى أنه لم يهتم بأن تأتي القوافي أو حروف روي أو تأتي الجناسات من داخل النصوص أو من داخل التفعيلات أو في نهايات الأسطر أو الأشطر الشعرية الموجودة و هذا ما جعلني أقول بأنه شاعر تلقائي و شاعر شفاف ، لا يتعلم كتابة الشعر ، فإذا كتب الشعر وعى ما يكتب و هذا ما يحمي الشاعر الموهوب من الهذيان الشعري و في كثير من القصائد التى نقرأها الآن فيها هذيان كبير جدا 0
هذا الهذيان يظهر الذي يظهر في شكل غموض في الصور الشعرية لأن الشاعر لم كان يدرك ما يكتب و لو كان على وعي جمالي و فني بما يكتب فلن تتحول الصور الشعرية لديه إلى صور غامضة و لن يتحول المجاز أبدا إلى دلالة مغلقة ، يكون من الصعب حلها أو يكون من الصعب أن نعيشها أو نمتصها في الذاكرة و لكن نفس الذاكرة دائما لا تمتص من المجاز أو الصور الشعرية إلا ما يتآلف مع طبيعتها البشرية 0
نحن جميعا نستمع إلى أشعار المعاصرين و نقرأ الأشعار التى سبقت عصرنا و لا يمكن أن نقرأ شاعرا كبيرا كصلاح عبد الصبور أو البارودي أو شوقي 00 نقرأ أحد هؤلاء الشعراء ثم لا يرسو على حدود الذاكرة شيء مما قالوا لماذا ؟
لأن هذه الخاصية خاصية امتصاص المجاز من النصوص ، خاصية توهب لمن لديه استعداد لن يرى العالم برؤية شعرية و من هنا أقول مثلا ان الشخصية الشعرية التى تحتفظ بقانون كتابة ، يسمى بقانون التفعيلة ، حتى لحظة انتشار الشعر الحر ، أعتقد أنه محاولة جيدة جدا لأن يكتب الشعر الحر منذ بدايته لا يمكن أن يكتب بعد ذلك شعر التفعيلة إذا بدأت حرا لن تكتب شعرا تفعيليا و أنا هنا أتحاشى مصطلح شعر النثر 0
أنا أسميه شعرا حرا ، هذه التفعيلات تجعل الشاعر ينتمي إلى أصحاب شعر التفعيلة الذي سمي خطأ طيلة خمسين عاما من الغباء بالشعر الحر فما سمعناه من الشعر الحر خمسين عاما هذا المصطلح استهلك خمسين عاما فأسميناه قصيدة عبثا و طغيانا حتى استقرار المصطلح الخطأ جعل الناس تراجع الواقع و من هنا أحيي هذا الشاعر على انه كان يمكن أن يكتب الشعر الحر و لكنه حافظ على أن يكون شاعرا تفعيليا و هو لديه القدرة على ذلك 0
و لسنا ضد الشعر الحر فعلى العكس تماما أنا أجد في كتاب الشعر الحر ، شباب و كبار يكتبون الشعر الحر بما مثل محمد الماغوط و ربما نذوب رقة مع نثريات محمود درويش أقول هذا جميعا لأن هناك أصداء لأصوات شعراء آخرين لدى عاطف الجندي ، هناك بعض الإيقاعات و التركيبات من سماعه لشعراء كبار تحتفظ بها ذاكرة الشاعر و تظل حبيسة بينه و بين نفسه فإذا دخل إلى مجال هذه الإيقاعات تستلبه هو و في الحقيقة ، الشاعر لم يقع في ذلك سوى مرتين أو ثلاثة و أرى أن نزار قباني شديد التأثير على عاطف الجندي و بالتأكيد أنه يحب نجاة الصغيرة جدا جدا 0
هذه كانت الخصيصة الرابعة أما الخامسة فهي أن الشاعر لديه علاقة طيبة بالتراث العربي و الإسلامي لأنه عادة ما يأخذ عناصر من هذا التراث و يحولها إلى موضوعات أو يحولها إلى رموز تجعل بنية القصيدة بنية مزدوجة 0 بنية ان يقول هو ما يشاء و تتحرك من داخل القصيدة قصة أخرى من التراث تعطي دلالات قديمة و حديثة كما استدل هو بمجنون بليلى و المجنون و عبلة و النعمان بن المنذر و أشار إشارات جميلة جدا إلى موسى و هارون عليهما السلام و هى إشارات طيبة لأنها تعلن على أن الشاعر يقدر هذا التراث و يتعلق به تعلقا فنيا عاقلا بمعنى انه لا يرتمي في أحضان التراث و لا يستدعي التراث كله و لا كل القصص فمثلا لا يستدعي قصة مجنون ليلى كلها 0 إذن هذه العناصر التى يستدعيها من التراث تجعل اللحظة التى يستدعيها فيها مزدوجة ، لأنك حين تستقبل جملة بها قيس و ليلى يتداعى كل ما تعرفه عنهما فتعطي إضافات للنص و استدعاء الموز يمكن ان تثري النص بالفعل و أريد أن أشير إلى جزء مهم جدا و هو الحياة الخاصة للشاعر في قصيدة إلا ابنتي فلأول مرة أحس ماذا يعني خوف الأب على ابنته من أي شيء ففي القصيدة تحس أن الشاعر خلع رأسه و يتصرف بغريزة غريبة في الدفاع عن ابنته و نستشعر من داخل الشاعر كمية احتراق عالية جدا ، تشعر أن الشاعر يحمل سكينا و يجري خلف المرأة التي آذت ابنته و تخيلت أن أجد في نهاية القصيدة جثة ، لكنني لم أجد 0
و هذا الديوان من الميزات الموجودة فيه أنه نادر الأخطاء و هي أخطاء مطبعية 0
و أخيرا : أشكر عاطف الجندي على هذا الديوان الناضج المتميز و هو أول ديوان شعري له فمن المؤكد بأنه سيقدم فى العمل القادم شيئا أجمل من هذا الديوان الجميل و أقول انتظروا هذا الشاعر فلديه الجديد الذي سيقدمه للساحة الأدبية 0
****
د مدحت الجيار
3 / 5 / 2002