«السلام الشامل الدائم» عكس «السلام الجزئي» الذي يمكن وصفه بأنه سلام غير دائم مبني على الظلم لا يحاول تحقيق العدل من خلال إعادة صياغة بنية العـلاقات، وإنما هـو مجرد ترجمـة لموازين القـوى القائمة في أرض المعركة. ولذا فإن أحد الطرفين يقبله إذعاناً وليس اقتناعاً ويظل يتحين الفرص لإعادة تعديل موازين القوى لصالحه (الأستاذ هيكل) كما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى ومعاهدة فرساي. والسلام الجزئي هو سلام مبني على الحرب ولذا فهو في واقع الأمر حالة من اللاحرب واللاسلم قد يختلف عن "وقف إطلاق النار" الذي عادةً ما يستند إلى اتفاقية مؤقتة تتيح للأطراف المتحاربة فرصة لالتقاط الأنفاس وإنجاز أمور إنسانية أساسية مثل قضاء عيد أو السماح بمرور معدات طبية أو مرور بعض الأطفال، ولكنها لا تختلف كثيراً عن "الهدنة" التي تستند إلى اتفاقية لا ترقى إلى مستوى حالة السلام، ولكنها فترة يرى فيها كلا الطرفين (أو أحدهما) أن بإمكانهما الإبقاء على حالة الحرب إلى أن تسنح لهما فرصة لتحقيق انتصار عسكري. أما السلام الشامل الدائم فهو سلام دائم لأنه شامل، يتوجه لجميع القضايا ويهدف إلى تغيير حقيقي في بنية العلاقات بين طرفين لإزالة أسباب التوتر بينهما فيسود العدل ويرى الطرفان أن لهما مصلحة فيه. والسلام الشامل الدائم في الشرق الأوسط لابد أن يتسم بنفس السمات، ولذا فلابد أن يتوجه لكل من المسألة الإسرائيلية والمسألة الفلسطينية ولابد أن يجد حلولاً لهما.

ونحن نذهب إلى أن مثل هذه الحلول غير ممكنة داخل الإطار الصهيوني، الاستيطاني/الإحلالي، فهو إطار يُولِّد الصراع بطبيعته لأنه من ناحية، ينكر حقوق الفلسطينيين الذين طردوا من بلادهم، ومن ناحية أخرى يؤكد حق "يهود العالم" في الأرض الفلسطينية. والحل الوحيد الممكن يقع خارج هذا الإطار، حين يقوم أعضاء التجمُّع الاستيطاني الصهيوني بنزع الصبغة الصهيونية الاستيطانية/الإحلالية عن الدولة الصهيونية.

وحل المسألة الإسرائيلية يمكن أن يأخذ شكلين متناقضين، ففى حالة ممالك الفرنجة (الممالك الصليبية فى المصطلح الغربى) فى فلسطين وحولها، تم تصفية هذه الممالك بالقوة العسكرية ورحل أهلها إلى بلادهم (بعد أن مكثوا حوالى قرنين من الزمان). ولكن هناك أيضا الحل السلمى، ففى الجزائر، بعد ثورة الميلون شهيد، ظهرت حكومة قومية من سكان البلد الأصيلين وأعطت المستوطنين الفرنسين حق البقاء والمواطنة والإسهام فى بناء الوطن الجديد (ولكنهم آثروا العودة إلى بلدهم الأصلى، أى فرنسا). وهناك كذلك الحل الذى تطرحه جنوب أفريقيا، إذ تم تصفية الجيب الاستيطانى العنصرى دون تصفية جسدية للعناصر البيضاء ذات الأصول الغربية التى كانت تهيمن على النظام القديم وتحافظ على بنية الاستغلال العنصرية وتستفيد منها. ثم عُرض على أعضاء هذه الكتلة البشرية البيضاء أن يندمجوا فى النظام العادل الجديد، المبنى على المساواة بين الأجناس، وأن يتعاونوا معه حتى يمكن الاستفادة منهم ومن خبراتهم. وهذا ما فعله معظمهم. وليس هناك ما يمنع من تطبيق نموذج جنوب أفريقيا فى الانتقال السلمى من حالة الحرب والظلم إلى حاله السلم والعدل فى فلسطين المحتلة، فهو حل لا يستبعد أحدًا ويعطى كل ذى حق حقه. وقرارات هيئة الأمم المتحدة المختلفة ( الخاصة بحق الفلسطينين فى العودة إلى وطنهم ورفض ضـم الأراضى بالقوة) تصلح كإطار دولى قانونى أخـلاقى لحـل المشكلة، وهو إطار تقبل به الجماعة الدولية والمعايير الأخلاقية الإنسانية.