همّ فلسطين والعرب عند محمّد إقبال

عبد العزيز كحيل


من يقرأ كتاب الدّكتور سمير عبد الحميد إبراهيم " إقبال والعرب " يقف على مواقف حازمة نابعة من قلب ملؤه الحبّ ومن عقل ملؤه النظر الثاقب والمعرفة الدقيقة بحال العرب عامّةً وفلسطين خاصّةً وتآمر الغرب بالمسلمين وعلى رأسهم العرب باعتبارهم قلب العالم الإسلاميّ ومهوى أفئدة الأمّة كلّها.

يقول الشّاعر والفيلسوف رحمه الله : " إنّني أعتقد أنّ مستقبل الإسلام مرتبط بمستقبل العرب، ومستقبل العرب متوقّف على اتّحادهم، فيفوز المسلمون إذا اتّحد العرب، ويجب علينا جميعاً أن نصرف كلّ ما لدينا في إنجاز هذا الهدف، والله سبحانه وتعالى سوف يمنحنا الفوز والنّجاح " ، قال هذا الكلام في القدس الشّريف الّذي سافر إليه من الهند للمشاركة في المؤتمر الإسلامي العالميّ في ديسمبر 1931، وكانت معظم البلاد العربيّة تحت الاحتلال الأجنبيّ، وقد كانت نذر اغتصاب اليهود لفلسطين تلوح في الأفق بكلّ وضوح، وكان محمّد إقبال رحمه الله منتبهاً للمؤامرة الغربيّة ولسذاجة بعض القادة العرب الّذين يثقون في بريطانيا وفرنسا، لذلك حذّرهم في شعر بليغ يخاطب به العربيّ المسلم: " أيّها الغافل ! لماذا ترجو العطف والحنان من الإفرنجيّ الغاصب؟ ألا تدري أن قلب الصّقر لا يرقّ لطائر يقع بين مخلبيه؟ " .

لقد قضى محمّد إقبال – وهو السيّاسي البارز في شبه القارّة الهنديّة والمفكّر المتضلّع الخبير بأحداث العالم- السّنوات العشر الأخيرة من حياته يكشف المخطّطات الاستعماريّة الّتي تستهدف المسلمين في كلّ مكان وخاصّةً في فلسطين، فكان يرفع صوته بالتّحذير من تلك المخطّطات وينبّه العرب إلى المخاطر المحدقة بهم رغم بريق اللافتات الّتي ترفعها الدّوّل الغربيّة بدهاء ومكر لتفادي غضب المسلمين ومقاومتهم لبرامجها الفاسدة الهدّامة الّتي تتغنّى بقيّم الحريّة والرّقيّ والمدنيّة، فيقول – رحمه الله- في شعر ترجمه عبد الوهّاب عزّام:

مرحى لحانات الفرنج فقد ** ملأت بهن زجاجها حلب

إن في فلسطين اليهود رجت ** فليأخذنّ أسبانيا العرب

للانجليز مقاصد خفيت ** ما أن يراد الشهد والرطب

إنّه يحذّر من نقل الغزاة عاداتهم الفاسدة إلى الشام، ويردّ على الانجليز الّذين يزعمون أنّ لليهود حقّاً تاريخيّاً في فلسطين أن هذا المنطق يقتضي أن يأخذ العرب أسبانيا، فقد حكموها مدّة ثمانيّة قرون وأقاموا بها حضارةً راقيّةً نعم بها أصحاب الديانات المختلفة.

وكان له اهتمام خاصّ بقضيّة فلسطين وبدسائس اليهود، مع العلم أنّه توفيّ قبل تقسيم فلسطين بنحو عشر سنوات، يقول – عليه رحمة الله - : "إنّ المسلمين يستشهدون في فلسطين، وتقتل نساؤهم وأطفالهم، وتسفك دماؤهم في القدس الّتي فيها المسجد الأقصى الّذي أسري إليه بالرّسول – صلّى الله عليه وسلّم - والإسراء حقيقة دينيّة ، لقد كانت الدوّل كلّها تستذلّ اليهود وتضطهدهم، ولم يكونوا يجدون ملجاً سوى الدوّل الإسلاميّة، ولم يكتف المسلمون بإيواء اليهود بل أعطوهم مراتب عاليّةً، ووضعوهم في مناصب ممتازة، وظلّ الأتراك يعاملونهم ببالغ تسامح وإكرام، وسمحوا لهم بالبكاء بجانب جدار البراق في أوقات معيّنة ، لذلك اشتهر جدار البراق بحائط المبكى في اصطلاح اليهود، وموضع المسجد الأقصى بكامله وقف لله تعالى في الشّريعة الإسلاميّة ، ولا يجوز امتلاكه لأحد إطلاقاً، فدعوى اليهود بامتلاك جزء من المسجد الأقصى باطلة وغير شرعيّة من الناحيّة القانونيّة والتاريخيّة " .

ويقول مشيراً إلى سيطرة اليهود على أوروبا : " انظروا، فمع هذه الرّفاهيّة السائدة في الغرب والسّيطرة والتّجارة إلاّ أن القلوب قلقة في الصّدور المظلمة، فقد أمسى الغرب مظلماً بدخان الآلات والمصانع ولم يعد ذلك الوادي الأيمن يصلح ليكون مصدراً للتّجلّي ، فالحضارة الغربيّة قد أوشكت على الانهيّار وهي في عمر الشباب وبعدها قد يتولّى اليهود زمام أمور الكنيسة " .

وصدق محمّد إقبال، فها هم اليهود لم يكتفوا بالتغلغل في مفاصل الحياة الغربيّة السيّاسيّة والماليّة والفنيّة بل سيطروا حتّى على الكنيسة نفسها، فصارت تعتذر لهم وتبرّئهم من قتل السيّد المسيح، وتزايد في الدّفاع عن باطلهم .

ويقول في الموضوع نفسه شعراً ترجمه له عبد الوهّاب عزام:

لا يزال الزمان يصلى بنار ** لم تزل في حشاك دون خمود

لا دواء بلندن أو جنوا ** فوريد الفرنج بكفّ اليهود

ومن الرّق للشعوب نجاة ** قوّة الذات وازدهار الوجود .

إنّه مسلم ينظر إلى قضيّة فلسطين كمسألة عقيديّة هيّ جزء من دينه لها عليه واجب النّصرة والتضحيّة بغضّ النّظر عن كونه هنديّاً يبعد بلده عندها بمسافة شاسعة ، وهذا الرباط الدينيّ المتجاوز لحدود العرق و اللغة والقوميّة جعله يكتب: " إن لمشكلة فلسطين أثراً كبيراً في نفوس المسلمين، وإنّني أنا شخصيّاً لمستعدّ أن أذهب إلى السّجن لأمر له تأثير على الإسلام، فإنّ وجود مركز غربيّ على بوّابة الشرق خطير جدّا ً".

هكذا امتزج حبّه لفلسطين بدافع الدّين برؤية سيّاسيّة دقيقة تعرف خفايا المخطّط الغربيّ وتستشرف المستقبل المنذر بخطر كبير يتهدّد الشرق الإسلاميّ كلّه، ومن لهذه الأخطار المحدقة ؟ يقول – رحمه الله - : " إنّني لست خائفاً من أعداء الإسلام قدر ما أخاف على المسلمين من أنفسهم، من الواجب أن يتنبّه العرب بأنّهم لا يستطيعون الاعتماد على من لا يملك الكفاءة والقدرة للوصول إلى رأي حول قضيّة فلسطين بحريّة فكر واستقلال ضمير، فكلّ ما يقرّره العرب لا بد أن يقرّروه معتمدين على أنفسهم بعد دراسة كاملة للمشكلة الّتي يوّاجهونها ".

لو قام الرّجل من قبره لرأى العرب مازالوا في نقطة الصفر كأنّه لم يخاطبهم بهذا التّحليل الواعي ولم يحذّرهم من السّعي وراء الحلول الوهميّة، قال هذا – رحمه الله – قبل تقسيم فلسطين وقبل احتلال الضفة الغربيّة والقدس وغزّة وأجزاء من البلاد العربيّة المجاورة ... ثم حدث التقسيم والاحتلال لكن لم يحدث الوعي عند الأنظمة الحاكمة ولا النخب الفكرية المتغرّبة.

عندما زار فلسطين في 1931 – كما ذكرنا – تحرّكت مشاعره وكتب قصيدة كلّها حرقة وحرارة على أرض النبوات والمقدّسات، كان ممّا قال فيها:

ترك سحاب الليل في السّماء نتفاً حمراء وبنفسجيّة

فارتدى جبل " إضم " حللاً ملوّنةً

وهبّ النّسيم عليلاً بليلاً

وهفت أوراق النّخيل مصقولة مغسولة بأمطار اللّيل

وأصبحت رمال " كاظمة " في نعومتها وصفائها حريرا .

هكذا تعالى محمّد إقبال عن انتمائه القومي واللغويّ وناصر القضيّة العربيّة – وفي مقدمتها فلسطين – بحكم انتمائه الإسلامي، فخطب وكتب وأنشد الأشعار واستنهض الهمم ورفع صوته بالتحذير والتحليل، وقد دعته فرنسا لزيارة مستعمراتها في شمال أفريقيا – وكان آنذاك شخصيّة إسلاميّة عالميّة يخطب الغرب ودّه – فرفض ذلك وذكّر الفرنسيّين بجرائمهم في الشام فقال: "إنّ هذا ثمن بخس لإحراق دمشق " .

عن موقع رابطة أدباء الشام