انقلاب 17 - 30 تموز.. صناعة الدولة الفاشية


يوسف محسن



ان طرح سؤال انقلاب 17 - 30 تموز في الحقل السياسي العراقي يقع في مجال المكر التاريخي، حيث يجرنا الى منطقة شاسعة، متشابكة ومعقدة فيتداخل الحقل السياسي بالحقل الاقتصادي والحقل الاجتماعي بالحقل الثقافي والفكري بالحقل الاقليمي والدولي ليشكل مجالا بنيويا كليا مترابطا في حركة تجاذب وتداخل، وهنا تتوالد الاسئلة بلا انقطاع عن الدولة/ المجتمع/ الطبقات الاجتماعية الملل والنحل والاثنيات والقوميات والبنى الريعية والجماهيريات الصاخبة وازمات الحركات العلمانية والاصول الايديولوجية للحركات السياسية، والمؤسسة العسكرية العراقية والصراعات الطائفية، حيث ان كل هذه التكوينات تترك ملامحها التاريخية على ولادة الانقلاب كظاهرة سياسية تركيبية ومن الصعب قراءة الانقلاب بدون دراسة تاريخية الدولة الوطنية العراقية وهويتها السياسية للوصول الى الدولة الصدامية الشمولية التي هي خلاصات التأسيس الاولى.

احتكار الدولة

اعادة التفكير جذرياً بمسألة الدولة الوطنية العراقية منذ التأسيس الاول العام 1921 وطرح المسألة العراقية بشكل مختلف كلياً بعد كل ما حصل خلال حقبة تاريخية طويلة نسبياً. وطبيعة التوسعات والاستقطابات والتراجعات والانهيارات حتى ظهور الدولة البعثية بعد الانقلاب الدموي العام 1968 الذي تعد الوريث الشرعي للدولة المركزية الاولى التي تم تأسيس تأطيراتها وتصميمها وفق عصر الحداثة الاوروبية (الغاء الهويات الفرعية لصالح تمركز هوياتي عروبي، عدم الاعتراف بالمشتركات القومية والاثنية، الدمج القسري للجماعات البشرية ).

حيث تم تشكيل الدولة العراقية الاولى بوصفها انتاجا مشوهاً لنمط الهيمنة الكولونيالية البريطانية واستجابة لنظام ثقافي اجتماعي سياسي سائد في المجتمع العراقي انذاك. وقد تكونت الجماعات التي ساهمت في تأسيس الدولة العراقية من شيوخ القبائل العربية والاغوات الاكراد وكبار التجار والضباط الاشراف فتمكن هذا التحالف التقليدي من البقاء في السلطة حتى 1958 ومع مجيء العسكر الى السلطة ولعدم تمكن او امتلاك هذه المؤسسة العسكرية نسقاً ايديولوجياً واضحاً تحولت هذه المجموعات من الضباط العسكريين الى بؤرة ازمات مزمنة ادت الى تعطيل الدستور وانهيار جبهة الاتحاد الوطني واندلاع الصراعات السياسية حتى مجيء انقلابي 1963 - 1968 لكي يتم تبلور تاريخ الدولة الشمولية القومية حيث تسلم حزب البعث العراقي السلطة السياسية في تشكيلة اجتماعية اقتصادية مفككة ونظام الدولة يقوم على احتكار السلطة للزعامات الفردية وهيمنة العنف السياسي امام هذا النسق التاريخي المجتمعي بدأت الدولة القومية بتخطي الشكل التقليدي وصياغة تشكيلة جديدة تتطامن مع التأطيرات القانونية والوظائفية للدولة البعثية، حيث تم دمج مؤسسة الحزب وجهاز الدولة بكيان واحد يرمز للهيمنة السياسية والمالية متزامناً مع تفكك وانهيار الزعامة القومية الناصرية وارتفاع اسعار البترول 1973 (نتيجة ازمة الطاقة) وقد شكلت الدولة البعثية نظاماً مركزياً صارماً يستند الى شبكة معقدة من الروابط القبلية والجيش ومؤسسات الشرطة والامن الوطني.ان هذا المسار التاريخي ادى الى ازمة تكوين الطبقة البرجوازية الوطنية العراقية وصعود الفئات الريفية بايديولوجيتها القومية الرثة التي تتسم بالنزعات الشوفينية ما انتج بناء دولة قومية شمولية تلغي الاختلاف والتعددية وتمارس العنف والاقصاء والتهميش للجماعات الدينية والقومية.


النسق الثقافي – السياسي


الدولة الوطنية منذ التأسيس قامت على ترميم الطبقات القديمة والقوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية متطامنة مع التركيبة السوسيولوجية للمجتمع العراقي، وقد ادت دوراً وظائفياً في الحقل التاريخي والثقافي والسياسي مبلورة شبكة من التصنيفات في حقل السلطة السياسية وصوراً تركيبية للجماعات المكونة للمجتمع العراقي ورسم خطاب احادي طائفي متخيل يمتلك الحقيقة المطلقة واقصاء الجماعات الاخرى من حقلي (السلطة/ الثروة) وقد كانت الدولة الصدامية (بالمعنى البلاغي وليس بالمعنى التاريخي العلمي ) خلاصة هذه التركيبة حيث تميزت كظاهرة تاريخية بالفردانية واستطاعت ان تدمج بين آليات الدولة الحديثة والموروثات الكلاسيكية للسلطة العربية الاستبدادية، وذلك لكون صدام حسين /الظاهرة انتاجاً موضوعيا للمجتمعات العربية والاسلامية بشكل عام والمجتمع العراقي بشكل خاص وتقوقعهما وانغلاقهما البنيوي واشتراطات وانحطاط المجال الثقافي والمعرفي لتلك المجتمعات، نتيجة التداخلات المعقدة بين المجالين السياسي والاقتصادي في تلك المجتمعات، حيث ادت الاشتراطات الاقتصادية والسياسية والمجتمعية وظيفة الحاضن الاولي لصناعة الظاهرة السياسية الصدامية عبر اختراقها للبنى والتشكيلات العراقية في حقل السلطة وضمن شروط سياسية جديدة في دولة الاستثناء التاريخي وازمات التكوين للدولة الوطنية المزمنة ومكامن الوعي الجماهيري والتي بحاجة الى مستبد جماهيري، فضلا عن الاشكال الايديولوجية والاصول الفكرية لحزب البعث العراقي وآليات الهيمنة على المجتمع وارتباط ذلك بتصميم الدولة من خلال مجموعة من الروابط السوسيولوجية والفكرية والتأريخية وكذلك لعب العامل الدولي وفضاءات الحرب الباردة حيث سعت منظومة الدولة الاشتراكية وبالذات الاتحاد السوفييتي الى دعم قيام دولة البعث في العراق اضافة الى الدعم اللوجستي والصناعي والامني. اما في المجال الاقليمي فقد استطاع صدام حسين ان يقدم نفسه بوصفه المدافع عن القومية العربية المتمثلة بالطائفة المتخيلة. وهو لم يكن طائفياً بالمعنى الديني الدقيق.

ان ظهور الدولة البعثية الشمولية جاء متزامنا مع نمو الدولة الاستبدادية في العالم العربي ككل وصعود البعث العراقي في عراق 1968 وهو يمثل صعود الحركات القومية فضلاً عن ذلك من الصعب ان نتصور ان حزب البعث العراقي كان يشكل كتلة تاريخية واحدة، وانما كان متغيراً مع طبيعة المرحلة التاريخية حيث ان بعث الخمسينيات كان حزباً قومياً تحررياً وبعث الستينيات حزباً قومياً عدوانياً، شوفينياً وبعث السبعينيات هو حزب السلطة وفي تسعينيات القرن الماضي تحول حزب البعث العراقي الى منظمة بوليسية قامعة، واداة ايديولوجية للشرعنة السياسية وحماية العائلة/ العشيرة الحاكمة، وقد لعبت البنى الاجتماعية العراقية والتخلف الاقتصادي والسياسي والفكري وضعف الحراك للجماعات العلمانية والليبرالية في استتباب الفضاء السياسي الراكد والذي منح البعث العراقي قدرة على بلورة (المجتمع المستبد) وخاصة في حقبة السبعينيات فضلاً عن ضعف القدرة الفكرية للاحزاب السياسية العراقية في تلك المرحلة التاريخية في كشف البنى التسلطية في تكوين الدولة البعثية، سواء كان ذلك من خلال قراءة التشكيلات الدستورية (الدستور المؤقت 21/ ايلول/ 1968 ودستور الجمهورية العراقية المؤقت في 16/ تموز/ 1970 او مشروع دستور العراق تموز 1990 او قراءة المجال الثقافي – السياسي بما في ذلك التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر القطري الثامن/ كانون الثاني 1974 او المؤتمر القطري التاسع/ حزيران 1982 واستكشاف العلاقة المعقدة بين الدولة الريعية العراقية ونمو الدولة المركزية. الذي ادى الى تكون تراتبية طبقية هرمية داخل تكوينات الحزب/ الدولة فقد تحولت القيادات العليا الى مجموعات (قرابية طائفية/ عصبوية) تستحوذ على الامتيازات والهبات الريعية، ما جعلها تتحكم بالسيطرة الاقتصادية والضبط السياسي والامني، مندمجة بالطبقة الاجتماعية الوسطى التي شكلت القاعدة المسلحة لحزب البعث العراقي ولعبت ادوارا تضليلية وتخريبية في صناعة واقامة الدولة الاستبدادية العراقية.


ولادة الدولة الفاشية


ظهور الدولة الشمولية القومية في احد اطوار التاريخ السياسي للمجتمع العراقي كان نتيجة لازمة تشكل نظام البنى الاجتماعية التاريخية ومحيط جغرافي – سياسي ضاغط اضافة الى طبيعة النظام الدولي المهيمن انذاك حيث ولدت هذه الدولة من رحم الوسط القومي العلماني تقوم بنيتها الايديولوجية على حاكمية الحزب الواحد ونزعة الاستبداد والتفرد والاحتكار لاليات العنف والعدوان والشوفينية القومية واستنصار (مؤسسة العشيرة والجماعات الطائفية) ان هذا الشكل من الدولة يعود تاريخياً الى حقبة الاستقلال السياسي عن الهيمنة الكولونيالية التي رفعت فيها الحركات القومية ايديولوجية ضخمة استطاعت ان تدمج سائر الطبقات الاجتماعية والسياسية في وحدة كفاحية.. تمكن النموذج البعثي للدولة في صورها الاولى ان يهيمن ويحقق السيطرة الشاملة على المجالين الاقتصادي والسياسي وينفذ سلسلة من الاجراءات حسبت من قبل اليسار العراقي بوصفها المسار الحقيقي للاشتراكية... الاصلاح الزراعي.. تأميم الثروات.. وبسبب ازمة التكوين للدولة الوطنية العراقية خلال عشرينيات القرن الماضي لم يستطع المجتمع العراقي ان يبلور تنظيماً مؤسساتياً/ سياسياً قادراً على تحجيم بواكير الدولة التوتاليتارية يضاف الى ذلك ضعف القطاع الخاص وهشاشة الطبقة البرجوازية الوطنية العراقية وعدم وضوح مشروعها الفكري والطبقي والتي كان من الممكن ان تحول دون تضخم الدولة البعثية اقتصادياً وسياسياً.استطاع البعث العراقي ان يصنع دولة (كرأسمالي ضخم) حيث تم الاستيلاء على ثروات المجتمع واتسعت السيطرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والفكرية بعد عسكرة المجتمع ودمج الاجهزة السياسية والامنية في جهاز الدولة خلال حقبة الثمانينيات من القرن الماضي وهي خطوات لهندسة تاريخية الدولة الكليانية القومية رافقها ظهور النزعات العدوانية العسكرية بعد اطلاق اول مغامرة عسكرية ضد ايران نتيجة صعود تيار راديكالي الى السلطة السياسية هذه المغامرة العسكرية ادت الى تحجيم خطط التنمية الوطنية والثقافية وتكريس هيمنة الدولة على الفضاءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

صناعة البطل

كشف الفكرالقومي البعثي منذ ستينيات القرن الماضي عن بنية ذهنية استبدادية، سلطوية، تميزت بالراديكالية السياسية، بلغت ذروتها في الصدامية، والتي هي نسق تركيبي معقد، ترافق مع صعودها، ايديولوجية قومية، عصبوية شوفينية الى السلطة السياسية العام 1968 واحتكارها مصادر (القوة/ السلطة) استطاعت افقار المجتمع العراقي وافراغه من قدراته الحية على المقاومة، بعد ان اخضعته الى سلسلة من التحولات القسرية والتوظيفات غير العقلانية واعادة تشكيله وفق نسق شمولي غير سياسات الخوف والرعب والقمع والارهاب، فضلاً عن العجز التاريخي في انتهاج برامج تنموية في القطاعات المجتمعية، وانما قامت على نهب المجتمع وتدمير مرتكزاته التحتية وصناعة الاساطير والاوهام القومية ومسخ الذاكرة التاريخية للمجتمع العراقي عبر العنف السياسي المنظم. ففي حقبة الثمانينيات متزامناً مع صعود صدام حسين الى السلطة السياسية وبعد عمليات تطهير جماعية داخل تنظيمات حزب البعث العراقي ومجلس قيادة الثورة، صدرت تحت اشراف المؤسسة الثقافية السياسية ثلاثة مؤلفات حول صدام حسين هي (صدام حسين مناضلا ومفكراً وانساناُ) لـ امير اسكندر 1980 باريس/ هاشت وصدام حسين او المستقبل العراقي لـ فؤاد مطر 1981، لندن/ مركز العالم الثالث وسيرة ذاتية للحياة المبكرة لصدام حسين لـ عبدالامير معلة (الايام الطويلة) وهي سرديات روائية تحولت بعدئذ الى فيلم سينمائي.هذه الكتابات قدمت صوراً اسطورية لصدام حسين تجمع في شخصيته الحكمة، البطولة، العدل، الشجاعة، وسير العظماء الفاتحين في التاريخ، اتسمت هذه الكتابات الدعائية بطمس الابعاد الانطولوجية للواقعة التاريخية لصالح ايديولوجيا قومية شخصانية وتم حذف التاريخ الواقعي تحت وطأة الاغراءات السياسية. حيث تحول هؤلاء الكتاب الى فاعلين سياسيين وجزء من البنيات السلطوية الثقافية لاعطاء الظاهرة الصدامية معنى/ قوة مع انتاج استيهامات ضخمة ومفاهيم بدائية واستخدام التاريخية العراقية كوسيلة ايديولوجية تقوم على تصميم الشخصية التاريخية بلغة خرافية رومانسية وتحويلها الى شخصية ميتاميثولوجية مندمجة بالطقوسية السياسية القومية والطائفية وقد استطاعت المؤسسة الاعلامية العراقية انشاء اسطورة صدام حسين الخاصة التي كانت تتغذى باستمرار وبدون انقطاع من تجسيدات الدولة، التي شيدها.


عن الرافدين