السلوك الإنساني
الحقيقة والخيال !
من منشورات الدكتور فخري الدباغ رحمة الله عليه في مجلة العربي الكويتي

الفصل الأول / بين الحس والسلوك
الحِسّ العَام وَهْم أمْ حَقيقة ؟

رأى أعرابي ثعلبا يبول على رأس صنم كان يصحبه في أسفاره لغرض التعبد ، فما كان منه إلا أن قذف به بعيدا وهو يقول :
أربِّ يبول الثعلبان برأسه
لقد ذل من بالت عليه الثعالب
وهي حكاية تحمل أكثر من مغزى .. أهمها إن عقل الأعرابي على جهالته ووثنيته أدرك أن قطعة الحجر الآلهة حقيرة وضيعة لأن حيوانا بريا استطاع أن يعلو عليها ويستهين بها كأهون ما تكون ، وهذا دليل على وجود ما يدعي بالحس العام لدى ذلك الأعرابي .
والحس العام اصطلاح غربي معاصر عرِّفه الجميع منذ غابر الأزمان بكلمات واصطلاحات أخرى مشابهة ومقاربة تدل على : استخدام العقل والفطنة في حل المشاكل وتسيير أمور الحياة ، والحس العـام يعني أيضا :
(الحكمة في أدارة الأمور) ويعني كذلك : (استخدام الفكر والخبرة لفك العقد والمعضلات الآنية ..) ويعني أيضا : (كيفية الربط وإيجاد العلاقات المختلفة لتجاوز الأزمات والمشاكل) ، وقد تعني أيضا : (الأسلوب المنطقي المعقول في استجابة الإنسان لحوافز الحياة ومؤشراتها) .


الحس العام .. غير عام :
وقد يبدو لأول وهلة أن من المفروض أو البداهة أن يمتلك كل إنسان حسا عاما يلجأ أليه ويستعمله في تسيير أموره أو الإبحار بسفينة ذاته وإتباعه في المحيط والمجتمع .. لكن الوقائع والتجارب تؤكد للمتتبع أنه لو لجأ الناس إلى حسهم العام فعلا واستعانوا به ، لهبطت حدة المشاكل والاحتكاكات والمصادمات إلى مستوى يثلج الصدور .. مما يدل على أن الحس العام قليل الاستعمال . ولا نجازف بالقول انه نادر الوجود أو هو موجود فعلا مع ندرة اللجوء أليه .
وفي هذا قال أحد الحكمـاء الساخرين : إن الحس العام ، غير عام ، ونادر الوجود .
وشاهدنا على صحة هذا الحكم ما نلمسه من مصاعب تنجم من جراء انتفاء الحس العام : كمجرد الروتين وتزمته .. والتمسك بحرفيات القوانين والتعليمات . فالإداري الممتاز والقاضي الناجح هو الذي يمتلك من المرونة وسعة العقل ورحابة الصدر ما يكفي لتكوين حس عام يطبق القوانين والأنظمة والتعليمات لا بحرفياتها بل بمدلولاتها .. لا بنصوصها بل بروحيتها دون المساس بها وبقوتها وحرمتها وتأثيرها .
الحس العام .. والذكاء :
والحس العام لا يعتمد على الذكاء الصرف ، أو بالأحرى إن وجود الذكاء ليس شرطا أساسيا لوجود الحس العام ، لأن الذكاء أحيانا يفتقر إلى الحكمة ، والفرق بينهما شاسع .
والذكاء أنواع : ذكاء عام وذكاء خاص والذكاء العام هو المجموع والمحصلة للقابليات العقلية الفطرية للإنسان (عملية ولغوية ..) أما الذكاء الخاص فيدخل معه الذكاء العام ويزيد عليه بميزة أخرى هي الاختصاص والامتياز فيه ، مثل وجود قابلية خاصة في فن الموسيقى .. أو الغناء أو الرياضيات . أو الكلام أو المهارة اليدوية الميكانيكية .. أو الذاكرة أو الحفظ .. الخ .
وما نود التأكيد عليه أننا قد نجد شخصا ذكيا جدا أو عبقريا في الفيزياء وذا ملكية عقلية وذكاء عام فوق المتوسط ، ومع ذلك فانه قد لا ينجح في حياته الأسرية أو في حل مشاكله الآنية أو أموره الاجتماعية ، أي تعوزه تلك الحكمة والخبرة الحيوية العلمية . فالحس العام إذن ليس ذكاء صرفا بل قابلية على ربط الأشياء برباط جدلي واستنباط الحلول المناسبة والأجوبة الشافية لها ..
وليس ثقافة :
كذلك فان الحس العام لا يعتمد على التعلم في المدرسة والجامعة لأن حكماء البشر المشهورين كانت مدرستهم هي الحياة .. وكانت كتبهم وأقلامهم هي دقة ملاحظاتهم ورهافة أحاسيسهم .
(والعارفة) بين عشائر البدو العربية هم خير مثال على عقلاء الناس الذين يتملكون ذلك الحس العام الذي يلمسه الآخرون فيسـتعينون بهم لحل نزاعاتهم ومشاكلهم ، وحكماء العرب في التاريخ هم الذين امتلكوا قدرا كبيرا من الحس العام جعلهم دائمي الصيت وخالدين في تاريخ أمتهم مثل أكثم بن صيفي .
إذن ، فالحس العام قد يستند إلى المعرفة والثقافة ولكنه ليس المعرفة والثقافة حصرا ، وليس شهادة البكالوريوس أو الماجستير أو الدكتوراه ، لأنها شهادات في حقل معين من علوم الحياة وليست شهادات خبرة في الحيلة أو فطنة في مجابهة الصعاب .
الحمق :
وإذا كان الشيء لا يعرف إلا بضده ، فان الحمق هو أقرب الأضداد للحس العام وأيسرها فالحمق علة طبيعية ، والأخرق مندفع وعنيد وسطحي ومكابر ، وكلها صفات تتنافى مع الحس العام .
يقول الشاعر :
لكل داء دواء يُستطبُّ به
إلا الحماقة أعيت من يداويها
أما المرض العقلي الذي هو أشد درجات الحمق الاعتيادي فهو السايكوبائية (السلوك اللااجتماعي) وهو من الأمراض العقلية المهمة التي تعتبر إلى الآن من معضلات الطب النفسي والطب الشرعي ، ومن آفات المجتمع الخطيرة . وهو مرض يصيب نسبة معينة من الناس لا يعرف له سبب معين ثابت إلى الآن ، ولم يستقر تصنيفه في أحد من الأبواب وفصول الأمراض النفسية . وله خصائص كثيرة معروفة لدى علماء النفس أهمها :
- إنهم يتمتعون بذكاء طبيعي أو فوق المتوسط .
- إنهم يفتقدون الحكمة والتجربة .
- إنهم لا يتعلمون من تجاربهم السابقة فيظلوا على ما هم عليه .
- لا يروعهم العقاب , ولا تشجعهم المكافأة والمديح ، فهم جامدون على وضعهم دون تحسن ، بل ربما يتراجعون إلى تأخر وتدهور .
وهذه الصفات تتلخص بفقدان الحس العام . السايكوبائية مرض بالطبع ولكنه يصور لنا أشد حالات انعدام الحس العام ، وهو سبب انحراف المصابين بالمرض نحو الشذوذ الجنسي والتشرد والإجرام وكذلك الإدمان على المخدرات ، فكل سايكوباث هو أحمق أخرق .. ولكن ليس كل أحمق سايكوباث . والحمقى كثيرون والسايكوباث أقلية .
هل يمكن رعايته ؟
يتبين مما تقدم أن الحس العام هو دون جدال موهبة عقلية تستند إلى استعداد وقابلية فطرية مضافا إليها ذكاء مناسب وخبرة كافية وثقافة شافية تمتزج جميعها بمقادير ونسب ومعادلات متناسقة ومتوازية لتجعل المرء إنسانا يخوض غمار الحياة ، ومأزقها بذهن جامع .. لامع .. قدير .
ولكن ، هل يمكن للتربية وعلم النفس والاجتماع أن تؤثر في هذه العوامل وتتدخل لتنمية الحس العام النادر وتعميمه ؟ . سؤال وجيه يطرحه المربون والمصلحون .
وللإجابة عنه نقول : نعم ، يمكن ذلك بإتباع أساليب التوعية المستمرة للنشء والجيل الجديد .. والحث على مكارم الأخلاق وضرب الأمثال للناس وطلبة المدارس والجامعات .. والاستعانة بالتاريخ والتراث .. بالماضي والحاضر لإدخال المثل والنماذج السليمة في السلوك وممارسة الرياضة العقلية في التعليم الثانوي والجامعي ، والتعليم الذي لا يعتمد على الإملاء والنسخ ، بل على البحث والتقصي والمناقشة والتحليل ، لأن المناقشة والحوار والتحليل تجلو الصدأ عن العقول وتكسر القيود والسدود .. وتتيح للإنسان الكشف عن العلاقات المنطقيـة بين الأشياء والمفاهيم .. وربط النتائج بالأسباب .. والظواهر بالبواطن .. والنظرة الشمولية إلى الأمور .
وبذلك يصبح الحس العام ملكة عقليـة ليست صعبة المنال بل أشبـه بعادة اجتماعيـة سائدة ، وأسلوبا في التعامل مع الحياة .. من أجل حياة أهدأ وأجمل وأعقل .