Warning: preg_replace(): The /e modifier is deprecated, use preg_replace_callback instead in ..../includes/class_bbcode.php on line 2968
طفلان في المرآة

آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: طفلان في المرآة

  1. #1
    أستاذ بارز الصورة الرمزية مصطفى ملح
    تاريخ التسجيل
    19/01/2008
    المشاركات
    744
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي طفلان في المرآة

    طِفْلانِ في
    المِرْآةِ

    إِذا كُنْتَ تَعْبُرُ الشَّارِعَ الرَّئيسِيَّ تَسْتَطيعُ أَنْ تُبْصِرَ صَفّاً طَويلاً مِنَ المَقاهي ذاتِ الواجِهاتِ الزُّجاجِيَّةِ. الكَراسي والطَّاوِلاتُ مُصْطَفَّةٌ بِنِظامٍ، ومِنَ الدّاخِلِ تَنْبَعِثُ الرَّوائِحُ الشَّهِيَّةُ. إِنَّهُ وَقْتُ الغَداءِ. حَرارَةُ يُونْيُو تَلْسَعُ الوُجوهَ لَسْعاً.. حَتّى الرّيحُ الّتي تَهُبُّ بَيْنَ الفَيْنَةِ والأُخْرى تَكُونُ جافَّةً تَجْرَحُ الحَلْقَ.
    جَلَسَ سَميرُ مَعَ أُسْرَتِهِ على طاوِلَةٍ نَظيفَةٍ. كانَ عُمْرُهُ اثْني عَشَرَ عاماً.. وَسيمٌ وذَكِيٌّ ولَكِنَّهُ مَيَّالٌ إِلى الشَّغَبِ أَحْياناً.. كانَتِ الأُسْرَةُ تَنْعَمُ بِسَعادَةٍ عارِمَةٍ.
    في الجِهَةِ الأُخْرى طِفْلٌ عَيْناهُ مُغْرَوْرِقَتانِ، رُبَّما بِسَبَبِ الخَوْفِ، أَوْ بِسَبَبِ المَرَضِ، أَوْ بِسَبَبِ حَرارَةِ يُونْيُو، أَوْ بِسَبَبِ الجوعِ، أَوْ بِسَبَبِ هَذِهِ الأَشْياءِ كُلِّها.
    كانَ يَحْمِلُ صُنْدوقاً صَغيراً وعُلْبَةَ سَجائِرَ: إِنَّهُ يَمْتَهِنُ عَمَلَيْنِ في الوَقْتِ نَفْسِهِ: يَبْدو أَنَّهُ مَحْظوظٌ؛ يَبيعُ السَّجائِرَ بِالتَّقْسيطِ، ويُلَمِّعُ الأَحْذيَةَ!
    كانَ كُلَّما رَأى سَيّارَةً جَديدَةً لامِعاً لَوْنُها قالَ يُخاطِبُها:
    - مَلْعونٌ أَبُوكِ إِلى يَوْمِ الدّينِ!
    الأُسْرَةُ السَّعيدَةُ تَتَناوَلُ غَداءَها. الماءُ المَعْدِنِيُّ ذُو الطَّعْمِ الحُلْوِ اللَّذيذِ في قِنّيناتٍ ذاتِ أَشْكالٍ مُثيرَةٍ. الأَطْباقُ البَيْضاءُ النَّقِيَّةُ توضَعُ فَوْقَها السَّلَطَةُ. ثُمَّ أَطْباقٌ أُخْرى أَكْبَرُ قَليلاً وقَدْ مُلِئَتْ بِاللَّحمِ المَفْرومِ الَّذي أَوْشَكَ لُعابُ الطِّفْلِ الآخَرِ أَنْ يَسيلَ شَوْقاً إِلَيْهِ!
    ثُمَّ نَزَلَتِ الأَيْدي الرَّشيقَةُ المُدَرَّبَةُ على اللّحْمِ والسَّلَطَةِ بِواسِطَةِ المَلاعِقِ والسَّكاكينِ نُزولاً لا رَحْمَةَ فيهِ ولا شَفَقَةَ!
    الفَتى، في الجِهَةِ الأُخْرى، لا اسمَ لَهُ؛ النّاسُ يُنادونَهُ طَوْراً بماسِحِ الأَحْذِيَةِ، وتارَةً بِبائِعِ الدُّخانِ، وتارَةً أُخْرى بِاليَتيمِ. قيلَ أَنَّهُ وُجِدَ مُكَوَّماً داخِلَ خِرْقَةٍ مِنَ الثَّوْبِ البالي داخِلَ بِرْميلِ قُمامَةٍ. اِلْتَقَطَتْهُ امْرَأَةٌ ورَبَّتْهُ ثُمَّ ماتَتْ، فَخَرَجَ إِلى الشَّارِعِ يَلْتَقِطُ كِسْرَةَ الخُبْزِ السَّوْداءَ المُبَلَّلَةَ بِالعَرَقِ والذُّلِّ والخَوْفِ.
    حُرِمَ مِنْ تَعَلِّمِ الحُروفِ ومِنْ تَعَلُّمِ الحَنانِ ومِنْ تَعَلُّمِ الأَمَلِ. كانَ يَعْتَقِدُ دائِماً أَنَّ الأَمَلَ شَمْعَةٌ سَوْداءُ قَدْ أَطْفَأَتْها الرّيحُ.. لا يَحْلُمُ بِشَيْءٍ، ولَكِنْ لا شَكَّ أَنَّهُ يَتَأَلَّمُ لِشَيْءٍ واحِدٍ: ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لامْرَأَةٍ ماما، أَوْ لِرَجُلٍ بابا..إِنَّهُ مِثْلَ شُجيَْرَةِ عِنَبٍ صَغيرَةٍ، جاءَتْ جَرّافَةٌ غاضِبَةٌ واقْتَلَعَتْها اقْتِلاعا!
    سَميرُ يَنْظُرُ إِلى اليَتيمِ نَظْرَةَ كَراهِيَّة: لَقَدْ أَزْعَجَهُ اليَتيمُ بِنَظْرَتِهِ المُخيفَةِ ولُعابِهِ الّذي يَسيلُ كَالحِقْدِ.. قامَتِ الأُسْرَةُ وهْيَ تَتَثاءَبُ.. دُفِعَ ثَمَنُ الأَطْباقِ وغُسِلَتِ الأَيْدي بِالصّابونِ ثُمَّ رَكِبَ الجَميعُ السَّيّارَةَ الفَخْمَةَ اللّامِعَ لَوْنُها..
    نَظَرَ اليَتيمُ صَوْبَ السَّيّارَةِ وقالَ:
    - مَلْعونٌ أَبُوكِ إِلى يَوْمِ الدّينِ!
    في المَساءِ جَلَسَ سَميرُ أَمامَ الحاسوبِ، انفَتَحَتْ أَمامَهُ عَوالِمُ غَريبَةٌ. مَرَّتْ ساعَةٌ فَشَعَرَ بِالتَّعَبِ، قامَ وتَناوَلَ عَصيراً مُنْعِشاً، ثُمَّ جَلَسَ أَمامَ التِّلِفِزْيونِ: كانَ البَحْرُ أَزْرَقَ أَزْرَقَ، مِنْ بَعيدٍ تَراءَتْ سَفينَةُ القَراصِنَةِ مُزَيَّنَةً بِأَعْلامٍ سَوْداءَ، لا شَكَّ أَنَّ مَعْرَكَةً شَديدَةً سَتَنْدَلِعُ بَيْنَ البَطَلِ وبَيْنَ القَراصِنَةِ.. شَعَرَ سَميرُ بِالنَّوْمِ يُداعِبُ جُفونَهُ، السَفينَةُ اقْتَرَبَتْ، مِنَ الجِهَةِ الأُخْرى يَقْفِزُ البَطَلُ باِرْتِماءَةٍ شُجاعَةٍ فَوْقَ سَفينَةِ القَراصِنَةِ لِيُواصِلَ صِراعَهُ الأَبَدِيَّ الجَميلَ ضِدَّ الشَّرِّ..
    كانَ سَميرُ قَدْ نامَ نوما هادِئاً دونَ مَعْرِفَةِ نِهايَةِ الفِلْمِ المُشَوِّقِ.
    في الوَقْتِ نَفْسِهِ كان اليَتيمُ يَتَوَسَّدُ قِطْعَةً مِنَ الكارْتونِ المُتَّسِخِ فَوْقَ تُرابِ المَسْجِدِ. رَفَعَ رَأْسَهُ إِلى السَّماءِ فَرَأى نُجومَ يونْيُو وهْيَ تَلْمَعُ بِحَنَقٍ.. تَخَيَّلَ لَوِ اصْطادَ واحِدَةً مِنْها!هَلْ تُشْبِهُ المِصْباحَ؟ هَلْ يُمْكِنُ بَيْعُها؟ وهَلْ يُمْكِنُ أَنْ تُلَمِّعَ الأَحْذِيَّةَ؟!
    شَيْءٌ واحِدٌ حَرَمَهُ النَّوْمَ: البَعوضُ والحَشَراتُ الأخْرى اللاّسِعَةُ.
    بَدَأَ يَتَقَلَّبُ يُمْنَةً ويُسْرَةً، حَتّى وَجَدَ نَفْسَهُ لا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ. نامَ وغَطَّ في النَّوْمِ.
    حَمَلَتِ الأُمُّ ابْنَها سَميرَ ووَضَعَتْهُ في فِراشِهِ بِرٍفْقٍ. أَطْفَأَتِ النّورَ فَسادَ ظَلامٌ كَثيفٌ.. وكانَ البَيْتُ خالِياً، ساعَتَها، إِلاّ مِنْ بَعْضِ الأَحْلامِ الّتي تَتَجَوَّلُ جَذْلانَةً بَيْنَ الغُرَفِ!
    أَمّا اليَتيمُ فَلَمْ يُغَطِّهِ أَحَدٌ.. النُّورُ لَمْ يَنْطَفِئْ طَوالَ اللَّيْلِ.. لأَنَّ النُّجومَ الّتي كانَتْ مُشِعَّةً في الأَعْلى، هِيَ مَصابيحُ اللَّهِ الّتي زَيَّنَ بِها السَّماءَ!


  2. #2
    شـــــاعر / نائب المدير العام
    (رئيس تجمع شعراء بلا حدود)
    الصورة الرمزية لطفي منصور
    تاريخ التسجيل
    29/05/2007
    العمر
    74
    المشاركات
    5,266
    معدل تقييم المستوى
    22

    افتراضي رد: طفلان في المرآة

    جميل هذا السرد المشوق
    وهذه المفارقة بين حياة الولدين
    شكرا لك على هذا التصوير الرائع لحياة كل منهما
    دمت بود


  3. #3
    عـضــو الصورة الرمزية أريج عبد الله
    تاريخ التسجيل
    21/06/2010
    المشاركات
    3,662
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: طفلان في المرآة

    نص ممتع,مقارنه من الواقع..
    لكن.. كلٌ أنسان يأخذ نصيبهُ الذي أقسمهُ الله
    سبحانه وتعالى لهُ سواءاً في العيش بسعاده
    أو العيش بمعاناة وتبقى عناية الله تفوق
    كل أنواع العنايه.
    أستاذنا مصطفى ملح
    أحتراماتي لقلمك


  4. #4
    أستاذ بارز الصورة الرمزية مصطفى ملح
    تاريخ التسجيل
    19/01/2008
    المشاركات
    744
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: طفلان في المرآة

    أخي لطفي منصور

    سعيد بمرورك حاملا عبقا مُلىء به المكان،

    هو ذا الواقع: مفارقات حادة كلسان السيف موجعة كيد الزمن..


  5. #5
    شاعر
    نائب المدير العام
    الصورة الرمزية عبدالله بن بريك
    تاريخ التسجيل
    18/07/2010
    العمر
    62
    المشاركات
    3,040
    معدل تقييم المستوى
    17

    افتراضي رد: طفلان في المرآة

    الأخ العزيز مصطفى مَلَح:

    خيالٌ واسعٌ على قدمين من واقع..

    للمحرومين عزاءٌ آخرُ..

    مشيناها خُطىً كُتبت علينا ******** و مَن كُتبت عليه خُطىً مشاها

    و مَن كانت منيَتُه بأرض ********* فَليس يموتُ في أرض سواها

    تحياتي الأخوية.

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  6. #6
    عـضــو
    تاريخ التسجيل
    25/06/2009
    المشاركات
    814
    معدل تقييم المستوى
    15

    افتراضي رد: طفلان في المرآة

    في كثير من تدخلاتي التربوية
    كنت أصر على إغناء برامجنا المدرسية
    وخاصة في الأقسام الإبتدائية
    بما يسمى بأدب الطفل
    لأنه لصيق بعالم الصغار وكفيل
    بتذليل الصعبات ذلك والحال أن النصوص القرائية
    على سبيل المثال في المراحل الأولى من الأقسام الإبتدائية
    غاصة بأدب لا يقوى على فهمه حتى الكبار/ أذكر نصا شعريا
    للقسم الرابع تحت عنوان "القلم" يقول فيه:
    ومستشرف بين الأنامل عرشه****يخط ويملي والحياة تردد
    إذا اهتز فوق الطرس وافتر ثغره***أضاء دياجي الليل منه توقد
    ....
    .....
    خلاصة القول
    ما أحوجنا إلى نصوص من مثل "طفلان في المرآة" للشاعر مصطفة ملح
    تراعي الخصوصيات التربوية والنفسية واللغوية والمنهجية
    وتسد الفراغ الحاصل في برامجنا ومناهجنا التربوية حتى نرقى إلى ما تطمح إليه
    أمتنا العربية
    إن الطفل لا يكاد يفهم أدب الكبار إلا بشق الأنفس فلم لا نغير وجهتنا نحو أدب هو لصيق بعيون صغارنا الأبراء؟؟؟
    أستاذي الكريم مصطفى أشكرك على هذه التجربة الرائدة في أدب الأطفال
    وأتمنى لك النجاح
    مودتي


+ الرد على الموضوع

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •