النتيجة الرئيسية من دراسة موضوع تطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل هى أنه لا يوجد فى مصر سواء لدى النظام أو معظم الشعب موقف مبدئي ضد التطبيع. كما أن مصر تضع فى الحسبان إمكانية إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل، فى نهاية المطاف، وأن إسرائيل سوف تندمج فى معظم وإن لم يكن فى كل المجالات فى المنطقة شريطة أن يحدث ذلك فى ظل سلام بين إسرائيل وجاراتها خاصة الفلسطنيين.
فعندما تقدمت عملية السلام وساد التفاؤل حول استمرار تقدمها أقدمت السلطات المصرية على اتخاذ خطوات من أجل دفع جزئى للعلاقات مع إسرائيل كما أقدمت على اتخاذ خطوات صحيح أنها متواضعة لتجهيز الرأى العام نحو استمرار دفع العلاقات مع إسرائيل. وظهرت فى بداية تلك الفترة براعم التعايش مع إسرائيل والتى اجتثت فى بداية عصر السلام مع الغزو الإسرائيلى للبنان عام 1982 ولعوامل أخرى. كما بدأ فى النمو الى جانب براعم التعايش الوعى بخصوص المصالح المشتركة للدولتين.
مصر لديها مخاوف من الآثار السلبية المحتملة للسلام الشامل على مكانتها ولديها مخاوف من ارتفاع مكانة إسرائيل وحجمها لذا عملت فى القضية النووية من منطلق الرغبة فى إلغاء ما يعتبر القدرة الإسرائيلية العسكرية فى المجال النووى. كما يخشى النظام المصرى من التأثيرات الداخلية جراء إقامة علاقات كاملة مع جارة يختلف نظامها السياسى والإجتماعى تماماً عن النظام فى مصر. ويُعتقد أن مصر كانت ترغب فى رؤية إسرائيل "شيئاً صغيراً" لا يشكل حجمه تهديداً لمصالح مصر لكن لا دليل على ترجمة هذه المخاوف إلى قرارات استراتيجية تضع حدوداً حول مستوى العلاقات التى ستقيمها فى نهاية المطاف.
ويبدو أن فرص إقامة علاقة كاملة ستكون أفضل فى ظل وجود سلام شامل أى تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين وبين إسرائيل وسوريا ولبنان. غير أنه فى ظل غياب السلام الشامل هناك فرصة لتقدم العلاقات بين مصر وإسرائيل فقط فى حالة حدوث تقدم نحو تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين حتى بدون إنجازات أخرى. فبعد خروج مصر من دائرة الحرب مع إسرائيل بقيت ملتزمة بالقضية الفلسطينية وإن كانت لم تحارب من أجل الفلسطينيين. فسواء النظام أو الرأى العام يعتبران القضية الفلسطينية قلب الصراع والموضوع الأكثر حساسية الذى يثير مشاعر التضامن القوية. لذا فإن التقدم نحو تسوية مع الفلسطينيين والاحساس بالتفاؤل حول استمرار هذا التقدم من شأنه أن يؤثر بشكل إيجابى على العلاقات المصرية الإسرائيلية.
فى ظل غياب تقدم فى عملية السلام وفى ظل واقع استمرار الاحتكاكات والمواجهات مع وباقى جارات إسرائيل العربيات لا توجد أية فرصة لتقدم عملية التطبيع بين مصر وإسرائيل. ليس هذا فقط بسبب سياسة النظام الذى يربط التقدم فى التطبيع مع إسرائيل بعملية السلام بل أيضاً بسبب الضغط الشعبى المصرى العام على النظام.
وقد أدى واقع جمود عملية السلام واستمرار المواجهات بين إسرائيل وجاراتها فى السنوات الأخيرة إلى تراجع استعداد الشعب المصرى للتعايش مع إسرائيل. وزاد فى المقابل العداء لدى الشعب تجاه إسرائيل والرجوع إلى رواسب الماضى. ويشكل هذا التحول فى موقف الشعب المصرى من إسرائيل ضغطاً يضعه النظام فى حسبانه عند وضعه لسياسته. غير أنه إذا استمر هذا الواقع فمن المتوقع أن تبقى مصر ملتزمة بالسلام مع إسرائيل على الرغم من أن مضمون هذا السلام سيتقلص أكثر فأكثر كلما زادت المواجهات فى المنطقة. فى مثل هذه الحالة ستحافظ مصر فقط على العناصر الأساسية جداً لهذا السلام بما فى ذلك الملحق العسكرى لمعاهدة السلام ووجود السفارات والحفاظ على عوامل الاتصال الأساسية بين الدولتين.
على الرغم من التقدم فى عملية السلام فى الفترة التى نتناولها وجو التفاؤل حول استمرار التقدم الذى ساد فى جزء من هذه الفترة إلا أن العلاقات بين مصر وإسرائيل تطورت بشكل محدود فقط وساهم فى ذلك عدة عوامل عملت أحياناً فى آنٍ واحد مثل غياب تقدم حقيقى على المسار الإسرائيلى السورى وكثرة العقبات التى ظهرت فى العلاقات المصرية الإسرائيلية على مدى الفترة والتى تسببت فى تعكير الجو وضياع الوقت وكذلك حقيقة عدم تقدم العملية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين بما يتماشى مع التطلعات والآمال التى صاحبتها فى البداية.
وأدى توقف المباحثات فى عدة مناسبات وصعوبات أخرى إلى فقدان الاحساس بالتفاؤل حول فرص استمرار التقدم السريع نحو تسوية إسرائيلية فلسطينية. كما يجب أن نضع فى الاعتبار حقيقة أن نافذة من فرص دفع العلاقات كانت مفتوحة لفترة قصيرة جداً. صحيح أن فترة حكومتى رابين وبيريز استمرت لما يقرب من أربع سنوات لكن الفترة الحقيقية لدفع العلاقات كانت أقصر بكثير من التقدم الفعلى لعملية السلام على المسار الإسرائيلى الفلسطينى مع التوقيع على اتفاقيات أوسلو فى سبتمبر 1993 وحتى بداية 1995 بعدها زادت الخلافات بين الدولتين وتبدد التفاؤل حول استمرار التقدم السريع لعملية السلام. وإن كان الأمر كذلك فنحن بصدد الحديث عن فترة عام وربع العام بل ضاعت منها عدة شهور بسبب الجو العام الذى ساد بعد المذبحة التى قام بها باروخ جولدشطاين فى الخليل. تتعتبر هذه الفترة بمفهوم تطوير العلاقات بين الدول قصيرة جداً خاصة وإن كانت هناك خلفية من الحساسيات وتاريخ من العداء. وقد اختارت مصر علاوة على ذلك التقدم بحذر وببطء من منطلق مراعاة الاعتبارات الداخلية للنظام ويعتقد أن نافذة فرص أطول كانت ستمكن من تقدم أكبر فى تطوير العلاقات بين الدولتين.
لاتعتبر مصر العلاقات مع إسرئيل مستقلة بذاتها بل مرتبطة بعوامل أخرى على رأسها تقدم عملية السلام. لكن هذا العامل لا توجد لدى إسرائيل وبالطبع لا توجد لدى مصر سيطرة كاملة عليه لأنه مرتبط بأطراف أخرى: الفلسطينيون وسوريا ولبنان. ومع ذلك فإنه يجب أن نؤكد على أن العلاقات التى وجدت فى الفترة التى تم دفع العلاقات فيها لم تخلق واقعاً جديداً لا يتبدل. فقد اتضح مع الأيام أن معظم ثمار التقدم فى التطبيع يمكن الغاؤها بقرارات سياسية إدارية. ويعتقد أنه عندما تتطور العلاقات بشكل أكبر فإنها لن تكون علاقات عادية فرواسب الماضى خبت لكنها لم تختف وتعلمنا التجربة أنه حتى الأحداث الهامشية والأقل أهمية مثل التصريحات غير الحذرة أو التصريحات التى يساء فهمها من الممكن أن تؤدى إلى ظهور راوسب الماضى من جديد على السطح ويعود وصف إسرائيل بالعدو وليس بشريك سلام. ففى الحالة المصرية الإسرائيلية فإن أحداثاً تحدث فى علاقات طبيعية بين الدول، لا تحمل مغزىً خاص، تحمل فى طياتها مقدرة على إثارة أزمات وتضر العلاقات. وكلما كانت إسرائيل على دراية أكبر بحساسية العلاقات وألا تعتبرها علاقات بديهية فإن ذلك أفضل للعلاقات بين الدولتين.
ستستمر العلاقات بين الدولتين، تحمل فى طياتها قدراً من الحساسية، دون علاقة برواسب الماضى، ذلك لإحساس مصر بالخوف والتهديد من إسرائيل. فصورة إسرائيل كدولة قوية وديناميكية تمتلك صناعة متقدمة وإنجازات علمية وتكنولوجية مبهرة أمر مخيف ورادع على حد السواء. هذا فضلاً عن مخاوف وهمية تلعب دوراً لدى المسئولين والمثقفين الذين يخشون من سيطرة إسرائيل على الاقتصاد المصرى واقتصاد الشرق الأوسط كله وسيطرتها على الثقافة المصرية والمساس بقيمها. وحتى إن كانت هذه المخاوف غير معقولة فإنها مستمرة وستستمر فى المستقبل لتصبح عوامل مؤثرة على العلاقات بين الدولتين.
هناك فرصة لتحقيق تطبيع للعلاقات بين مصر وإسرائيل بمفهوم العلاقات المتطورة فى مجالات متعددة وذلك تدريجياً كلما تقدمت إسرائيل والفلسطينيون وسوريا ولبنان نحو تسوية سلمية. ومع ذلك فإن التطبيع بمفهوم إقامة علاقات طبيعية بين الدول، بدون مشاعر ورواسب الماضى، علاقات مستقلة غير مرتبطة بعوامل أخرى أمر متروك للمستقبل الأكثر بعداً.
لقد تطرقت فى هذا العمل لما يمكن توقعه فى مجال تطبيع العلاقات مع إسرائيل فى إطار النظام الحالى فى مصر. وأى تغيير فى جوهر هذا النظام مثل صعود القوى الأصولية إلى الحكم من شأنه أن يخلق واقعاً مختلفاً فى كل ما يخص العلاقات مع إسرائيل. كما سيحمل حدوث أى تحول حقيقى فى ميزان القوى الإقليمى فى طياته تأثيراً على العلاقات بين الدولتين.

من كتاب: أسرار التطبيع بين مصر وإسرائيل
دافيد سلطان
ترجمة: عمرو زكريا