آخـــر الـــمـــشـــاركــــات

+ الرد على الموضوع
صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 1 2
النتائج 21 إلى 38 من 38

الموضوع: سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي

  1. #21
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم

    سلسلة رمضانيات

    اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم

    الدكتور عثمان قدري مكانسي

    لو أنّ رجلاً غنياً كلفك ببناء قصر ، وطلب منك أن يكون البناء في الطرف الجنوبي ، والحديقة وبركتها في الطرف الشمالي ، واتفقتما على مساحة البناء والحديقة وحجم البركة ونوع الأشجار ، وطريقة البناء ، فلم تنفذ ما اتفقتما عليه كما يجب ، فكانت البركة صغيرة ، والبناء في الطرف الجنوبي ، وكانت الحديقة في الطرف الآخر ، وغرست نوعاً من الأشجار لم يطلبها .....
    فهل يعطيك أجرك مثلما اتفقتما ؟
    ألا يغضب غضباً شديداً ويطالبك بالهدم وإعادة البناء كما طلب ، فهو صاحب الدار وينبغي بناؤها كما يريد هو ، لا كما تريد أنت ؟
    ألا يطالب بكل ما دفعه لك من مال ، ويأبى أن تقوم بالعمل مرة ثانية ، ولعله يشتكيك إلى أولي الأمر ويُغَرّمك مبالغ إضافية لما نتج من أضرار ، وتأخر في العمل ؟
    هذا في الحياة الدنيا بين البشر أنفسهم ، ولعل عداوات تنشأ ومشاكل تستفحل بسبب الإخلال بالاتفاق .

    فإذا قرأنا قوله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف في وعدنا إيّاه – جل في علاه - في عالم الذر أن نعبده وحده ولا نشرك به أحداً " وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172) " فقد استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو. وقد فطرهم الله على ذلك وجبلهم عليه . وقد روى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها ، فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلا قال " ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) " .
    فإذا قرأنا ذلك وجب علينا أن نفي بالوعد ونسأل الله تعالى أن يعيننا عليه .
    وكما يرضى سبحانه عن المؤمنين الذين التزموا وعدهم فعبدوه وحده لا شريك الله ووعدهم فراديسه وجناته فقد غضب على من خان العهد والأمانة ، وجعل لله شريكاً أو كفر به أصلاً .

    بعض المتجبرين يطلبون أو يفرضون بالإكراه أو الإغراء على أتباعهم أن يكونوا ضالين مثلهم ، ويتعهّدون لمن آمن بالله وخالف الكفار أن يحملوا عنهم – إن كان من يوم آخر وحساب وعقاب – أن يتحملوا عنهم أخطاءهم إن كفروا بالله وساروا على منوالهم في التيه والضلال . هكذا يزعمون . يقول الله تعالى ناقلاً عنهم قولهم " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ ۖ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
    (12)" فوصفهم الله تعالى بالكذب ، فلن يستطيعوا فعل ذلك لأمر مهم واضح جلي ، أليست تقول القاعدة : " كل نفس بما كسبت رهينة " ألم تؤكد القاعدة المعنى ذاته في قوله تعالى " ولا تزر وازرة وزر أخرى "؟ فكلٌ معلق بكرعوبه ، ويوم القيامة رهيبٌ يصفه المولى جل جلاله بذي الهول المظلم الشديد " إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً " في ذلك اليوم " .. يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " بل ترى الإنسان يتمنى أن يدخل كلُّ أحبابه ومعارفه - الذين كان في الدنيا يتمتع بهم ويركن عليهم ويدفع الغالي والرخيص في سبيل إسعادهم - في النار وأن ينجو بجلده " يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه * وصاحبته وأخيه * وفصيلته التي تُؤويه * ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه " .

    بل إن هذا المجرم الذي كان يغوي الناس ويضلهم ويعدهم أن يحمل عنهم خطاياهم – ولن يحملها لأن كل ضال لا بد أن ينال عقابه الذي يستحقه – سوف يحمل مثل أثقالهم لأنه سنّ سنّة خبيثة ، فتابعوه عليها . ألم يقل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم " .. ومن سن سنة سيئة عمل بها بعده كان عليه وزرها ، ومثل أوزارهم من غير أن ينتقص من أوزارهم شيئا " . يعضّد هذا الحديثَ الشريفَ قولـُه تعالى في الآية التالية من سورة العنكبوت " وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ۖ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) " . ويقول تعالى في المعنى نفسه في سورة النحل " ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم
    (25) " ، فمن كان إماما في الضلالة ودعا إليها واتبع عليها فإنه يحمل وزر من أضله من غير أن ينقص من وزر المضل شيء ,

    وترى الشيطان - الذي كان في الدنيا يلازم الإنسان أكثر من ملازمة الظل له ، ويوسوس له ليل نهار ، ويدعوه إلى الكفر والشرك والضلال – يتنصل من الكافر والمشرك ، ويسخر من كل أتباعه دون خجل ولا مواربة :" وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ۖ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) "(إبراهيم) فقد بذل جهده في الوصول إلى هدفه الوحيد من البشر ، وهو إفسادهم وإغواؤهم ، وقد وصل إلى ما يريد ،
    صرح الشيطان إذ ذاك – حيث لا ينفع الندم – بـ:

    1- وعد الله تعالى عباده إن آمنوا به وأخلصوا في عبادته أن يرضى عنهم ، وأن يرضيهم فهو الحق وقوله الحق وفعله الحق سبحانه وقد وفى بوعده .
    2- وعد الشيطان الناس بحياة رغيدة – وهو كاذب مخلف للوعد – فخسروا أنفسهم حين صدّقوه .
    3- وتصديق الخاسر من المشركين والكفار لإبليس وأعوانه كان بمحض إرادتهم ، فليس له عليهم سلطان ، وما استجابوا له إلا لضعف في نفوسهم وسفه في عقولهم .
    4- فلا لوم عليه ، إنما اللوم عليهم ، فقد دغدغ أهواءهم وشهواتهم ، فمالوا إليه وتابعوه .
    5- ولن يستطيع الشيطان ولا أتباعه - إنساً وجناً - أن يفلتوا من العقاب الأليم ، نسأل الله الهدى والسداد .
    6- يتنصل الشيطان من عبادة هؤلاء إياه في الدنيا ، ويحمّلهم مسؤولية الغواية والفساد .
    7- يصْدُقُهم – وهو الكذوب – أن الظالمين في عذاب أليم

    اللهم ، إنا نعوذ بك من همزات الشياطين ، ونعوذ بك ربّ أن يضلونا ، إليك الملاذ وإليك الملجأ وعليك الاتكال ، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا أكثر يا رب العالمين ... ..اللهم آمين .
    يتبع

    التعديل الأخير تم بواسطة نبيل الجلبي ; 01/09/2010 الساعة 03:14 PM

  2. #22
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/تصوير الحياة

    سلسلة رمضانيات

    تصوير الحياة

    الدكتور عثمان قدري مكانسي

    تعال نصوّر ما يجري أمامنا من فوق ناحية البحر ، من ارتفاع بخار متصاعد من مائه ، يبدو خفيفاً يكاد لا يُرى إلا إذا أمعنا في النظر . يظل مرتفعاً قليلاً قليلاً ليبلغ بعد ذلك عنان السماء ، فإذا به يتجمع خيوطاً دقيقة بيضاء يلمحها الناظر دون عناء ، ثم نرى هذه الخيوط تتشابك بلطف وهدوء فإذا بها قطن مندوف رقيق الحاشية تتخللها زرقة السماء الصافية ، وترى هنا وهناك مثيلات لها تتجمع قريباً منها أو بعيداً .. ثم تراها تتقارب بفعل الرياح المتحركة حولها ، فإذا بها غيمة بيضاء رقيقة تكبر وتنمو وتتحرك ببطء نحو الشرق ، وقد تقف قليلاً لينضم إليها رقيقات الحواشي التي كنت قبل قليل مثلهُنّ ، وتكبر الرقعة البيضاء وتتسع رويداً رويداً مساحة وسماكة ليتغير لونها إلى الرمادي الخفيف بلحوق قطع الغيوم الأخرى بها أو بأخواتها حتى تراهنّ يملأن السماء الفسيحة ويتزاحمن فيها ، ولعل بعضها يعلو بعضها حتى تصبح سوداء أو مثل ذلك ، وتمنع عنا رؤية السماء ، فإذا بالنور يضعف والهواء يشتد فيدفع هذه السحب نحو الشرق بقوة ، ولعل بعضها يصطدم بالأخرى فإذا بضوء ساطع قويّ يصدر عنها يملأ جنبات الأرض ، ثم تسمع صوت الرعد مجللاً مدوياً كمدافع الحرب الضخمة العملاقة ، ولكننا لا نرى قذائف الدمار تحطم الأبنية والمنشآت ، بل نحس بقطرات المطر تتوالي برفق فوق رؤوسنا ، وتتوقف على ثيابنا ، فإذا ما زادت قليلاً بدأت ثيابنا تتبل ، وبدأت حبات الغيث تمتزج بالقشرة الأرضية من تربة جافة ، فإذا رائحة الأرض طيبة النسائم تخترق خياشيمنا ، وما أطيبها من رائحة ، ثم تنقلب القطرات طلاً يتوالى دقائق ثم ينقلب وابلاً فيختلط بالأرض ، ثم يخترقها ، ثم يسيل عليها .
    وتشرب الأرض العطشى ماء الحياة ، وترتوي جنباتها ، فتنتشي بعد أيام أو أسابيع وتتشقق ليخرج منها الزرع والخضرة فنأكل ، ولتكتسي الأشجار حلة قشيبة ، ثم تتدلى ثماراً وأعناباً فنتذوّق ، ويمتلئ ضرع الحيوانات ألباناً وتكتنز لحماً ، وتتجمل جلوداً وفروات ، فتكون حياة للإنسان ورزقاً وسعادة .، وقد كان قبل أن ينزل الغيث ينظر إلى السماء راجياً رحمة ربه وفضله وخيره .
    ثم تسطع الشمس من جديد وترسل اشعتها ، فإذا بالأخضر يصفرّ وإذا بالماء ينحسر ، وإذا بالحياة تبدأ دورة جديدة مستمرة إلى ما شاء الله أن تستمر ...

    يقول تعالى مصوراً ماذكرتُه قبل قليل بأسلوب تصويري بديع يدل على عظمة الخالق سبحانه
    " 1- اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ
    2- فَتُثِيرُ سَحَابًا
    3- فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ
    4- وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ
    5- َفإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) " وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
    6- َفانْظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ
    7- إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) " (الروم)

    هكذا – أخي الحبيب – يخرج الله تعالى الحيّ من الميت ، وهكذا يعيدنا حين يشاء – سبحانه - إلى الحياة في اليوم الآخر الذي حدده ، ووعدَناه . فآمن به ذوو البصائر ، وغفل عنه أصحاب القلوب الميته .
    إن المولى الجليل خلقنا من عدم ، أفلا يحيينا من وجود ، والوجود أسهل من العدم ، وكل أمر سهل إذا أراده الله تعالى ، وانتبه معي إلى هذا النداء العلوي الذي يأخذ بالألباب ، فيفهمه من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد " فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ۖ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43)(الروم) "
    فهل بعد هذا من وضوح ؟؟؟

    اللهم إننا آمنا بك وبذلك اليوم وبرسلك وملائكتك وكتبك ، فاقبلنا ولا تردّنا خائبين .

    يتبع


  3. #23
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/من وصايا لقمان

    سلسلة رمضانيات

    من وصايا لقمان

    الدكتور عثمان قدري مكانسي

    قال سعيد بن المسيب رحمه الله : كان لقمان من سودان مصر، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان
    لقمان عبدا حبشيا نجارا ، قال له مولاه اذبح لنا هذه الشاة فذبحها ، قال أخرج أطيب مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب ، ثم مكث ما شاء الله ثم قال اذبح لنا هذه الشاة فذبحها ، قال أخرج أخبث مضغتين فيها فأخرج اللسان والقلب ، فقال له مولاه أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما ، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما . فقال لقمان إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا.
    وذُكِر أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال في لقمان : كان رجلا سكيتا طويل التفكر عميق النظر ، لم ينم نهارا قط ، ولم يره أحد قط يعبث ولا يضحك وكان لا يعيد منطقا نطقه إلا أن يقول حكمة يستعيدها إياه أحد ، وكان قد تزوج وولد له أولاد ، وكان يغشى السلطان ويأتي الحكام لينظر ويتفكر ويعتبر فبذلك أوتي ما أوتي .
    والمقصود في قوله تعالى في سورة لقمان :" ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه " الفقهُ في الإسلام . ولم يكن لقمانُ نبيا ولم يوح إليه – على أشهر الأقوال - ، وأوتيَ الفهم والعلم والتعبير ، ووصّاه ربه سبحانه أن يشكر الله عز وجل على ما أتاه ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به دون سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه ، وأنبأه أن نفع الشكر وثوابه يعود على الشاكرين لقوله تعالى " ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون " وقوله سبحانه " ومن كفر فإن الله غني حميد" يقرر أن الله تعالى لا يحتاج للعباد ولا يتضرر بعصيانهم إياه ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعا .
    وعلى الوالد أن يرعى أولاده ، ويعلمهم ويربيهم امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما " والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته " هكذا كان لقمان . ونجد في القرآن وصايا لقمان لابنه ترسم في الزمان أخلاقاً وأدباً وعلماً ، وجاءت هذه الوصايا تنير الطريق أمام الأبناء على مدى الأيام معالم التربية القرآنية الفريدة :

    1- يظلم الإنسان بالشرك ربه حين ينفي عنه ربوبيته وألوهيته ووحدانيته ، فيشرك معه في العبادة غيره ، ويظلم نفسه حين يغضب ربه فتكون النار مأواه وسوء المنقلب نهايته . ويظلم الآخرين حين يُضلهم ويسلك بهم سبيل الغواية والفساد . " .... يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) " (لقمان).

    2-إن الله تعالى لا تخفى عليه الأعمال مهما كانت صغيرة أو خفية ، وسيحضرها يوم القيامة ويجازي عليها إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، ولا يظلم الله تعالى أحداً " يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ " إنه سبحانه لا يعزب عنه شيء في السماوات ولا في الأرض ، في نفس الإنسان وضميره أو في الماديات والمحسوسات . إنه يسمع دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء . فإذا كان الله سبحانه لطيفاً خبيراً ، عليماً حكيماً فالحذر مطلوب ، والإصلاح في القول والعمل مرجُوّ ، فلا يجدنا الله تعالى إلا حيث يرضى .

    3- ولأن الله تعالى خلقنا لعبادته فإنه يأمرنا بإقامة الصلاة ،إنها تعبير عن حبه سبحانه والرغبة في لقائه ، والوقوف بين يديه طائعين خاشعين . فمن كان الله مبتغاه سلك الطريق المؤدي إليه فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر لأنهما السبيل إلى إقامة مجتمع نظيف طاهر أسه الفضيلة والعدل والمساواة . إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء والمصلحين ، وهو نهج يرضاه ذوو الفطرة السليمة ، ويأباه أهل الأهواء فيحاربونه ويضعون في مَسربه العقبات ، فلا بد من الصبر والجد والمثابرة " يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) " فمن اتصف بهذه الصفات الأربع كان من أولي العزم ، ومن كان من أولي العزم حاز قصب السبق ، ووصل غايته النبيلة .

    4- إن التواضع ولين الجانب يجذب القلوب ويُذهب السخيمة ، ويعين على الوصول إلى الهدف ، وهكذا كان لنبي صلى الله عليه وسلم ، فمدحه المولى الجليل " فبما رحمة من الله لنتَ لهم ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ..." وهو صلى الله عليه وسلم يوجّه إلى اللطف فيقول " ... ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط وإياك وإسبال الإزار فإنها من المخيلة والمخيلة لا يحبها الله " إن التعالي والتكبر مقتلة للدعوة والداعي ، ولن يقبل الناس دعوة – ولو كانت صحيحة – من متكبر متعجرف يرى نفسه أفضلَ الجميع ويعاملهم من فوقُ ، وكأنه الشمس في سمائها والقمر في عليائه ! والله تعالى يكره المتعالي المستكبر . فما كان اللطف في شيء إلا زانه ولا التعاظم في شيء إلا شانه . يقول لقمان في هذا " وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) "

    5- قال لقمان لابنه يعظه مرّة : يا بني إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك وقال له كذلك : يا بني إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام ( يعني السلام ) ثم اجلس في ناحيتهم فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا فإن أفاضوا في ذكر الله فأجل سهمك معهم وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم. والله تعالى يحب التوسط في الأمر فلا يحب مشية المتخاذل المتباطئ - دون عذر - ولا مشية الخيلاء والتفاخر . ويكره رفع الصوت فيما لا فائدة منه وقد نهى الحبيب عن علوّ الصوت وشبهه بصوت الحمار ونهيقه " إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا " يقول الله تعالى في ذلك على لسان لقمان الحكيم " وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) "
    إنّ غض الأصوات أدب رفيع ذكره الله تعالى في أول سورة الحجرات ، ومدح الملتزمين به .
    وقد روي بعض الحكم المتفرقة نوردها هنا للعظة والعبرة :

    - وضع لقمان جرابا من خردل إلى جانبه وجعل يعظ ابنه وعظة ، ويخرج خردلة حتى نفذ الخردل ، فقال : يا بني ؛ لقد وعظتك موعظة لو وُعظها جبل تفطر قال فتفطر ابنه .
    - قال أنس بن مالك رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " رُبّ أشعث ذي طمرين يُصفح عن أبواب الناس ( يُدفعُ) إذا أقسم على الله لأبره " .

    - وروي عن أنس رضي الله عنه " قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " طوبى للأتقياء الأثرياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا وإذا غابوا لم يُفتقدوا أولئك مصابيح مجردون من كل فتنة غبراء مشتتة " .

    - قال أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن من ملوك الجنة من هو أشعث أغبر ذو طمرين لا يؤبه له الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصت لهم حوائج أحدهم تتجلجل في صدره لو قسم نوره يوم القيامة بين الناس لوسعهم " .

    - وعن عبد الله بن عمرو قال : أحب عباد الله إلى الله الغرباء قيل ومن الغرباء ؟ قال الفرارون بدينهم يجمعون يوم القيامة إلى عيسى ابن مريم.

    - وقال الفضيل بن عياض بلغني أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ألم أنعم عليك ألم أعطك ألم أسترك ؟ ألم . .. ألم . . . ألم أجمل ذكرك ، ثم قال الفضيل إن استطعت أن لا تعرف فافعل وما عليك أن لا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموما عند الناس محبوبا عند الله .

    - وكان الخليل بن أحمد يقول اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك واجعلني في نفسي من أوضع خلقك وعند الناس من أوسط خلقك .

    - وعن علي رضي الله عنه " قال : لا تبدأ لأن تشتهر , ولا ترفع شخصك لتذكر وتُعلم , واكتم واصمت تسلم ، تسرالأبرار ، وتغيظ الفجار .

    - وقال إبراهيم بن أدهم رحمه الله : ما صدق اللهَ من أحب الشهرة ، وقال محمد بن العلاء من أحب اللهَ أحب أن لا يعرفه الناس ، وقال سماك بن سلمة إياك وكثرة الأخلاء .وقال أبان بن عثمان إن أحببت أن يَسْلم إليك دينك فأقل من المعارف

    - وعن هارون بن أبي عيسى عن سليم بن حنظلة قال : بينا نحن حول أبي إذ علاه عمرُ بن الخطاب بالدرة وقال : إنها مذلة للتابع وفتنة للمتبوع . وقال ابن عون عن الحسن خرج ابن مسعود فاتبعه أناس فقال والله لو تعلمون ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجل

    - وفي بعض الأخبار أن موسى عليه السلام " قال لبني إسرائيل ما لكم تأتونني عليكم ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب ؟! البسوا ثياب الملوك وألينوا قلوبكم بالخشية . "

    يتبع


  4. #24
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/على أنْ تَأجُرني ثماني حِجَج


    سلسلة رمضانيات

    على أنْ تَأجُرني ثماني حِجَج

    الدكتور عثمان قدري مكانسي*

    أتلو قوله تعالى في صورة القصص على لسان الرجل الصالح في ( مدين ) يخاطب أو يخطِب الشاب موسى عليه السلام لابنته:
    " قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَىٰ أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ ۖ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ ۖ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ۚ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) "

    أقف عند هذه الآية الكريمة فأرى فيها السياسة والاقتصاد والحالة الاجتماعية والحاجات الإنسانية مجتمعة بشكل متناسق ، فقد وصل هذا الشاب المتميز إلى مدين هارباً من بطش فرعون وجَوره ورأى فتاتين تنتظران أن ينتهي الرجال من سقي أنعامهم ليبدأ دورهما في ذلك ، فهما عفيفتان لا تختلطان بالرجال ، ولعل أسرتهما ليس فيها رجال يقومون بهذه المهمة (الرعي ) فاضطرتا إلى هذا العمل المرهق . فيسقي لهما ، وتأبى أخلاقه العظيمة أن يستغل عمله في الحديث معهما ، فيتولّى إلى الظل ويسأل الله أن يحفظه في غربته ويجد له من فضله الكبير مخرجاً . فيدعو بهذا الدعاء الذي سرعان ما وصل فكانت الإجابة فورية " ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ( 24)" .

    وينطلق هذا الشاب خلف الفتاة إلى أبيها – ولعلك أخي الحبيب تقرأ مقالي " تأملات تربوية في سورة القصص " فتضح الصورة أكثر – ويقص الشاب على أبيها قصته مع طاغوت مصر ، فيطمئنه أن سلطان هذا الفرعون لا يصل إلى مدين ، فهو الآن في أمان .
    وحين يتعرف الأب القصة ويجد في ملامح هذا الشاب المؤمن الجريء الخيرّ ، وهو بحاجة إلى شاب يقوم على خدمة الأسرة ، ولن يجد خيراً منه يعرض عليه عرضاً يجعله من أركان أسرته . إنه يخطبه لإحدى بنتيه ، وليس من العيب أن يتخير الأب لابنته زوجاً صالحاً كما يتخير لولده زوجة صالحة ، بل إن تخيّر بعل الزوجة أهم وأفضل من البحث عن زوجة للابن ، فللزوج القوامة ، وهو المسيطر على البيت وسيده ، فإن كان صالحاً ارتاحت الزوجة وإن لم يكن عاشت في ضنك وتعاسة ، فطلب المرأة الطلاق عزيز وصعب .

    وتعجبني كلمة " إني أريد " فقد ألقى في هذه الكلمة بكل ثقله . ومن يرغب عن زوج لإحدى ابنتيه فيه مثل صفات موسى عليه الصلاة والسلام ؟! وكأنه بهذه الكلمة يفتح الباب أمام موسى على مصراعيه ليختار إحداهما دون حرج ، فهناك بيت يسكنه وزوجة طيبة وعمل يكسب منه قـُوته وشيخ صالح يستفيد من حنكته وخبرته في الحياة . واختار الصغرى كما ذكر المفسرون ، وكان قولها لأبيها " يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين " دليل على رضاها عن صفتين رأتهما فيه ( القوة والأمانة ) وهذا ما تريده المرأة في الرجل زوجاً وأباً وأخاً وولداً .والنكاح سنة النبي صلى الله عليه وسلم " ... وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني " وما أودع الله رغبة الرجال في النساء ورغبة النساء في الرجال إلا لتستمر الحياة في الأرض ويَعَْمُر الكونُ إلى قيام الساعة .

    ولا بد من المهر ، فهو ركن في الزواج وتوثيقٌ لعراه ، والشاب فقير لا يملك مالاً ، وقانون فرعون فيمن هرب من سطوته ولم يقدر عليه ثماني سنين أن يسقط الحكم ، فإن عاد الغائب بعد هذه السنين فلن تطاله يد القانون ، هذا عند (فرعون الجائر) ، (فرعون الظالم )، (فرعون المستبد ) ، ( فرعون الطاغية ) . مثال الظلم في القرآن الكريم ، فماذ يقول المظلومون والمقهورون والمطاردون في عالم الظلم والقهر في أيامنا هذه ؟!
    ألا ترى – أخي القارئ – فراعنة العصر أشدّ لؤماً وخسة من فرعون موسى ؟!

    وأكمل موسى عليه السلام عشرة أعوام ، والأنبياء يحبون الكمال ويعملون به وهم قدوتنا بذلك صلوات الله عليه وسلامه . لقد كان عند حسن ظن عمّه به ، وكان زوجاً صالحاً في بناء أسرة مسلمة طيبة نقية . وتعجبني مقالة الشيخ " وما أريد أن أشق عليك " فهو حريص على رضاء الشاب ، ولعله إن اعترض فسيخفف عنه المهر، ولا بأس أن يأخذ زوجته ويعمل في مكان آخر إن أراد ، فلن يشق عليه والدها ، ولعل الله تعالى يرزق ابنته الأخرى زوجاً صالحاً مثل موسى فيكمل العمل . لكنّ الشاب موسى الذي وجد المأوى والزوجة الصالحة والرجل الذي احتضنه في أشد الساعات قسوة ، هذا الشابّ أهلٌ للرضا بما ناله من خير ، وأهلٌ لحسن الظنّ فيه .

    وانطبق المثل العربي (إن الطيور على أشكالها تقع ) على هذه الأسرة الجديدة ، وصدق فيهم قوله تعالى في سورة النور " .....وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ .....(26) "

    الهم ارزق شبابنا وشاباتنا نصفهم الآخر الطيب ، وأنشئ منهم بيوتاً طيبة طاهرة يُذكر فيها اسمك الكريم ، .. واكلأهم برعايتك وعنايتك وفضلك العميم .. اللهم آمين .

    *بتصرف بسيط
    يتبع


  5. #25
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/من وحي أحُد في آل عمران


    سلسلة رمضانيات

    من وحي أحُد في آل عمران

    الدكتور عثمان قدري مكانسي

    لما انهزم ما انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم نادى الشيطان : ألا إن محمدا قد قتل ، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم : قتلت محمدا ، وإنما كان قد ضرب رسولَ الله فشجه في رأسه ، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس ، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل ، والرسل والأنبياء يُقتلون كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام ، فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال ، ففي ذلك أنزل الله تعالى : " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) " : فنبه الله تعالى أن الرسول عليه الصلاة والسلام بشر ممن خلق ، وهو ورسول من الرسل السابقين عليهم الصلاة والسلام ، له بداية وله نهاية ، وله أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه . وروي أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه في غزوة أحد فقال له : يا فلان أشعرت أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل ؟ فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل فقد بلّغ فقاتلوا عن دينكم . وكأنه يقول له : إن قُتل رسول الله في سبيل دينه فعلام تقف هكذا مكتوف اليدين خوّاراً ؟! متْ على ما مات عليه رسول الله .

    - ثبت في الصحاح وغيرها أن الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل على فرس من مسكنه بالسُنح حتى نزل فدخل المسجد فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى ثم قال بعد أنْ تأكد من موته : بأبي أنت وأمي ، والله لا يجمع الله عليك موتتين ، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها . ثم خرج وعمر يكلم الناس أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يمت وأنه سيعود . فقال : اجلس يا عمر ، ثم قال أبو بكر : أما بعد ؛ فمن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ثم قرأ الآية السابقة . قال الراوي : فوالله لكأن الناس – لشدة المفاجأة التي عقدتْ ألسنتهم وطاشت لها عقولهم - لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر ، فتلاها منه الناس كلهم فما أسمعُ بشرا من الناس إلا يتلوها . وقال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرقت حتى ما تقلني رجلاي .

    - ولن يموت أحد إلا بقدر الله ، فمن خاف الموت فقد ضعف إيمانه، وظهر الخوف والجبن عليه فجاءت الآية التالية تشجع هؤلاء الذين خافوا وضعفوا في القتال " وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) " ولا يموت الإنسان حتى يستوفي أجله ويستوفي المدة التي ضربها الله له ولهذا قال تعالى " كتابا مؤجلا " كقوله " وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب " ، إن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه . قال حجر بن عدي في حرب الفرس وكان نهر دجلة بين الجيشين : ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة - يعني دجلة - ثم أقحم فرسه دجلة ، فتبعه الناس فلما رآهم العدو داخلهم الرعب الشديد ، فهربوا ، ولاحقهم المسلمون يبطشون بهم يمنة ويسرة ، ونصرهم الله تعالى نصراً مؤزّراً ، فربحوا الدنيا والآخرة

    - إن الربيين – وهم أصحاب الإيمان القوي الذي نذروا أنفسهم لله – ممن كانوا مع أنبيائهم لم يتركوا القتال في سبيل الله والجهاد لإعلاء كلمته سبحانه ، واستمروا في جهادهم لإعلاء كلمة الحق والذود عنها ، فلما صاح صائح في غزوة أحد : إن محمداً قد قُتل ترك كثير من المسلمين المعركة وضعفوا وهربوا منها ، فعاتبهم الله تعالى قائلاً :" وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) " . فإذا كان من قبلنا صبروا في القتال وثبتوا في مواقعهم ، ونفوا عن أنفسهم الخور والوهن ، وتحملوا الإرهاق والنصب ، فلم يذلوا لعدوهم ، وصبروا في الميدان صبراً عجيباً ، كان أولى بالمسلمين أن يكونوا كذلك . فإن فعلوا نالوا كسبين كبيرين : أولهما : رضا الله تعالى وحبّه وثانيهما : النصر والتمكين
    - وهذا ما نالوه فعلاً حين لجأوا إلى الله تعالى داعين متبتلين " وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) " .
    يقول الإمام الطبري في تفسيره في تفسير هذه الآية : اجعلنا ممن يثبت لحرب عدوك وقتالهم , ولا تجعلنا ممن ينهزم فيفر منهم , ولا يثبت قدمه في مكان واحد لحربهم ، وانصرنا على الذين جحدوا وحدانيتك ونبوة نبيك . وإنما هذا تأنيب من الله عز وجل لعباده الذين فروا عن العدو يوم أحد وتركوا قتالهم , وتأديب لهم , يقول الله عز وجل : هلا فعلتم إذ قيل لكم : قتل نبيكم , كما فعل هؤلاء الربيون , الذين كانوا قبلكم من أتباع الأنبياء , إذ قتلت أنبياؤهم , فصبرتم لعدوكم صبرهم , ولم تضعفوا وتستكينوا لعدوكم , فتحاولوا الارتداد على أعقابكم , كما لم يضعف هؤلاء الربيون ولم يستكينوا لعدوهم , وسألتم ربكم النصر والظفر كما سألوا , فينصركم الله عليهم كما نصروا , فإن الله يحب من صبر لأمره وعلى جهاد عدوه , فيعطيه النصر والظفر على عدوه ، واعلموا أنما ضعفتم فهربتم بذنوب منكم , واستغفروا كما استغفروا , وامضوا على دينكم كما مضوا على دينهم , ولا ترتدوا على أعقابكم راجعين , واسألوه كما سألوه أن يثبت أقدامكم , واستنصروه كما استنصروه على القوم الكافرين . فكل هذا من قولهم قد كان . وقد قتل نبيهم فلم يفعلوا كما فعلتم . فماذا كانت النتيجة ؟ إن الله أعطى الله الذين وصفهم بما وصفهم من الصبر على طاعة الله بعد مقتل أنبيائهم , وعلى جهاد عدوهم , والاستعانة بالله في أمورهم , واقتفائهم مناهج إمامهم جزاءً في الدنيا , وذلك النصر على عدوهم وعدو الله , والظفر والفتح عليهم , والتمكين لهم في البلاد ،ووهبهم خير جزاء الآخرة , على ما أسلفوا في الدنيا من أعمالهم الصالحة ، ووهبهم رضوان الله ورحمته . يقول تعالى " فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) " . وتنبه أخي الحبيب إلى قوله تعالى " حسن ثواب الآخرة " ، ولم يقل ثواب الآخرة ،مع العلم أن ثواب الآخرة الجنة ، فإنه سبحانه أعطاهم أحسن العطاء ورفعهم أعلى الدرجات وأكرمهم غاية الإكرام . فقد وصلوا درجة الإحسان ، وهي أعظم المراتب في الجنة . رزقنا الله إياها ، وأعاذنا من غضبه والنار .

    - عشت في ظلال تلكم الآيات أتنسم عبير الجنة بذكر الربيّين والصالحين ، وأشرئب إلى تلكم السويعات في غزوة أُحُد أرى صور الصحابة الكرام في جبل الرماة وفي ساح المعركة ، وألمح نور النبي صلى الله عليه وسلم ثابتاً في أرض الرباط وحوله بعض أصحابه الذين ثبتوا معه ، وأسمع الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وسلم يقول لسعد : ارمِ سعد؛ فداك أبي وأمي ، فتنتشي نفسي كأنني سعد رضي الله عنه ، وأتمنى لو كنت مكان طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وأرضاه يقف أمام الحبيب قائلاً : صدري دون صدرك يا رسول الله ونحري دون نحرك . وأسمع صوت كعب بن مالك رضي الله عنه يرى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الإرجاف بموته فينادي هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت ، يا معشر المسلمين أبشروا ، فيشير إليه النبي صلى الله عليه وسلم أنْ أنصت ، كي لا يقصده المشركون ويجهدوا في قتله صلى الله عليه وسلم .

    - وأرى أبيّ بن خلف يهاجم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول : لا نجوتُ إن نجوتَ ، فلما دنا وقام له في الشعب أحد الصحابة يدرأ عنه فيقول المصطفى دعوه ، ويتناول حربة الحارث بن الصمة وينتفض بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يستقبله فيطعنه في عنقه طعنة يكاد يسقط لها عن فرسه مراراً ، وكان هذا الشقي يهدد النبي – في مكة - بالقتل ، فيرد النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: بل أنا أقتلك إن شاء الله . ويتراجع أبي بن خلف إلى قريش وهو يقول : قتلني محمد ، وكان قد خدشه خدشاً غير كبير ، فيقولون له ما عليك من بأس ، قد ذهب والله فؤادُك ، والله ما بك من بأس . فيقول أبيٌّ : إنه قد قال لي بمكة إني قاتلك ، فوالله لو بصق عليّ لقتلني ، ويحتقن الدم في عنقه ، ويموت قافلاً إلى مكة - في نار جهنم يا عدوّ الله – أقولها متشفيا به ، إن أشقى الناس من قتل نبياً أو قتله نبي.

    - وأسمع الحوار بين أبي سفيان والمسلمين ، فيناديهم وهو أمامهم على جبل عال : أشرفتَ فَعال ؛ إن الحرب سجال . اعلُ هبل، اعلُ هُبل . فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : قم يا عمر – وكان ذا صوت جَهْوري : فقل : الله أعلى وأجل . لا سواء ، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ، ويسأل أبو سفيان : أمحمد فيكم أم قتل ؟ فيقول عمر بل هو حي بيننا وهذا أبو بكر إلى جانبه . ويُقتل حمزة أسد الله وأسد رسوله ، فيبكيه رسول الله ويبكيه المسلمون ويبكون قتلاهم ، لكنهم يتابعون المشركين إلى حمراء الأسد وهم مثخنون بالجراح يصرون على القتل والجهاد إلى آخر رمق من حياتهم .

    - هكذا المسلم أبيّ شجاع لا يخاف الموت ولا يهاب الأعداء ، صلى عليك الله يا سيد الأبطال ويا قائد الغر الميامين ورضي الله عن صحابتك الكرام وأرضاهم .

    اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . اللهم آمين ..

    يتبع


  6. #26
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/إنهم جميعاً سواء

    سلسلة رمضانيات

    إنهم جميعاً سواء

    الدكتور عثمان قدري مكانسي

    أخذ أحدهم بيدي بعد صلاة العصر وسألني : أصحيح أن للنساء في الشرع نصيباً في الميراث ؟ نظرت إليه متعجباً من سؤاله ، وكان علي أن لا أتعجب ، فالجهل والعادات الجاهلية تحكمنا بمفاهيمها . فترى الكثير يصلون خلف الإمام وفي الصف الأول ثم ترى نساءهم كاسيات عاريات ، وتجد بعض التجار يحرصون على الصلوات في المساجد ، ويسمعون العظات والعبر والأحكام الشرعية في الربا والتهديد الشديد المبطّن والظاهر في تحريمه ، وتراهم في معاملاتهم غارقين فيه ، لا يتورّعون عن أكله والعمل به . والأمثلة عن الجهل الواقع والجهل المتعمّد في مجتمعنا كثير ، منها سؤال هذا الرجل الذي بلغ الأربعين عن نصيب المرأة في الميراث .
    قلت له : إذا مات والد الإنسان فلمن يؤول ماله ؟ أتأخذه الدولة أم يُوزّع على المساكين أم يكون لقضاء دين الفقراء ؟ ، قال : لولده ومن خرج من صلبه . قلت أترى أختك بنتَ أبيك خرجت من صلبه أم جاءت من مكان آخر ؟ . قال : ولكنّها امرأة . قلت وما الفرق بين الرجل والمرأة في الحقوق ؟ قال: وهل يجوز أن يخرج المال والأرض من آل فلان إلى غيرهم من الأسر بموت الأب؟ قلت : وكيف يخرج وهو ما يزال ملكاً لأختك وحدها ، تصرفه كما تصرفه أنت ، وتنمّيه كما تنمّيه أنت ؟ . قال تصرفه على أولادها وزوجها . قلت ألا تصرف المال على زوجتك من مال أبيك وهي ليست من أسرتكم؟ قال : هي زوجتي . قلت: وهو زوجها وهم أولادها .
    قال : إن الأرض التي بذل والدي عمره في خدمتها وزرعها تذهب للغرباء إذاً . قلت : إن المرء حين يموت يترك كل شيء لأولاده ، فليس في الإسلام فرق بين الذكر والأنثى واقرأ معي هذه المساواة في سورة " الأحزاب:
    " إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) "

    تجد أن الله تعالى ساوى بين الذكر والأنثى في الحقوق والواجبات . قال : وقد يأخذن كثيراً ؟! قلتُ إن القرآن الكريم صرّح بحق المرأة في الميراث في سورة النساء ، كثيراً كان الميراث أم قليلاً ، فقال : " لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) " وما علينا - معشر المسلمين - إلا أن نقول : سمعنا وأطعنا راضية بذلك قلوبنا ، قانعة به نفوسنا . قال سعيد بن جبير وقتادة رحمهما الله : كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا فأنزل الله الآية السابقة توضح أن للرجال وللنساء كباراً وصغاراً حقوقاً ثابتة لا ينتقص منها إلا ضعيف الإيمان جاهليّ النزعة . يقدم العادات الخاطئة على الأحكام الإلهية ، ويتخذها شرعاً من دون شرع الله ، ثم يزعم أنه مسلم .

    بعضهم يأكل حق النساء بطريقة اللف والدوران . فهؤلاء ثلاثة رجال لهم ثلاث أخوات . فحين مات أبوهم قسموا الأرض ثلاثة أقسام وألحق كل منهم نصيب أخت منهنّ بنصيبه ، فأحدهم أعطى أخته بعض المال ترضية ، والحقيقة أنها لم ترضَ ، ولكنّ الحياء أو قل الخجل أو الخوف من هجران إخوتها لها جعلها تتغاضى عن حقها وترضى بالذي وصلها من أخيها . والثانية كان زوجها غنياً ، فأمرها أن تتنازل عن حقها ، تجنباً للمشاكل التي قد تنجم عن مطالبتها بحقها ، وكان فيه تقوى ، فعوّضها ذهباً وأساور . أما الثالثة فقد بنى أخوها في البداية بيتاً فوق نصيبه من الأرض ، وضم نصيبها صحناً لداره ، فلما كبر أولاده وسّع بيته وبنى فوق أرضها غرفاً وملاحق ، فلما كبر أبناء أخته وطالبوا بحق أمهم عرض عليهم ثمن نصيبها من الأرض بالسعر الذي كان قبل عشرين سنة ، ثم جاءني يستحل ذلك قائلاً : هكذا كان ثمن الأرض . فلما نبهته أنه يأكل حقها ادّعى أنها لم تطالبه بقطعة الأرض حين مات أبوهما ، وأنها لو طالبته بحقها ما قصّر . قلت له : يا هذا ؛ إن تقسيم الأرض ابتداءً ثلاث حصص أمر فاقع في رغبة الذكور أن يقضموا حق أخواتهنّ ، وأنت أحدُهم ، وقد تناسيت حق أختك ، فأيقظك من سباتك أولادُها ولولا ذلك لبقيت متناوماً . إن الأرض بمجملها بعد هذه السنوات تضاعف ثمنها ، فهل ترضى أن تنتفع بذلك وتهضم حق أختك ؟

    إنّ الجميع سواء في حكم الله تعالى يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم بما يدلي به إلى الميت من قرابة أو زوجية أو ولاء . فهذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت هي حدود الله فلا يجوز لأحد أن يتعدّاها ويتجاوزها . ولهذا قال " ومن يطع الله ورسوله " فيها فلم يزد بعض الورثة ولم ينقص بعضها بحيلة ووسيلة بل نزل على حكم الله وفريضته وقسمته نال رضوان الله وحاز جنته خالداً فيها " يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم " .

    والعجيب أننا كنا في بعض المجالس نتذاكر صلة الأرحام وكان أحدنا قليلاً ما يشارك ، فأحببت أن يخوض معنا فسألته كم مرة في الشهر تزور أخواتك ؟ ففاجأني أن له أختاً واحدة لم يزرها منذ أن مات والدهما من اثنتين وعشرين سنة . فلما صُدمت لهذا الجواب المفاجئ سألته السبب فقال : إنها طالبت بنصيبها من الميراث . والعجيب أنه لم يقاطعها بعد أن أعطاها نصيبها ، إنما قاطعها لأنها طالبت بحقها ولم يعطها شيئاً .

    إن ما ذكرته غيض من فيض ، ولا يعني هذا أن الغالبية من المسلمين على هذا المنوال من قطع الرحم وأكل حقوق المرأة . إنهم قليلون إذا قورنوا بالملتزمين حدود الله . لكنهم إذا عددتهم كثيرون ، وخاصة في القرى والبادية لتفشي الجهل في تلكما البيئتين وللذكورية الفاقعة فيهما .

    فهل من عودة إلى شرع الله وهديه؟ وهل يتذكر أمثال هؤلاء أن الدنيا فانية ؟ وأن الموت قاب قوسين من البشر أو أدنى ؟ هدانا الله إلى مرضاته والعمل بشريعته ، وأعاننا على ذلك .

    يتبع


  7. #27
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/يبدّل الله سيئاتهم حسنات

    سلسلة رمضانيات

    يبدّل الله سيئاتهم حسنات

    الدكتور عثمان قدري مكانسي

    في صحيح مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا الجنة وآخر أهل النار خروجا منها ، رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال :اعرضوا عليه صغار ذنوبه ، وارفعوا عنه كبارها . فتعرض عليه صغار ذنوبه ، فيقال : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، فيقول نعم لا يستطيع أن ينكر ، وهو مشفق في كبار ذنوبه أن تعرض عليه . فيقال له فإن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول يا رب قد عملت أشياء لا أراها هاهنا ) .. فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه .
    وقال أبو طويل : يا رسول الله , أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا , وهو في ذلك لم يترك حاجّة ولا داجّة إلا اقتطعها فهل له من توبة ؟ قال : ( هل أسلمت ) ؟ قال : أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أنك عبد الله ورسوله . قال ( نعم . تفعل الخيرات وتترك السيئات يجعلهن الله كلهن خيرات ) . قال : وغدراتي وفجراتي يا نبي الله ؟ قال : ( نعم ) . قال : الله أكبر ! فما زال يكررها حتى توارى .

    قال مبشر بن عبيد , وكان عالما بالنحو والعربية : الحاجة التي تقطع على الحاج إذا توجهوا . والداجة التي تقطع عليهم إذا قفلوا . وقالوا: إن الحاجّة والداجّة الذنوب الضخمة الكبيرة التي لا يجترحها إلا كل عتُلّ جواظ .
    فباب التوبة مفتوح لكل إنسان في كل زمان ومكان ليلاً ونهاراً ، وما على الإنسان إلا أن يلجه نادماً على ما فعله ،مستغفراً ربه ، راجياً غفرانه ورحمته ، مصمماً أن لا يعود إلى الذنب ما استطاع باذلاً جهده في طاعة ربه .وسيقبله الله تعالى ، فالله يفرح بعودة عبده إليه تائباً ، ويقبله متى عاد إليه .
    قال القرطبي رحمه الله معلقاً : فلا يبعد في كرم الله تعالى إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة ; وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ : ( أتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن ) .
    وقال ابن كثير رحمه الله : قد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحة توبة القاتل كما هو معلوم في قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب فقبل الله توبته وغير ذلك من الأحاديث ،وفي قوله تعالى في تبديل السيئات حسنات قولان : أحدهما أنهم بدلوا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية قال هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات ، فرغب الله بهم عن السيئات فحولهم إلى الحسنات ، فأبدلهم مكان السيئات الحسنات ، وروي عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان ينشد عند هذه الآية :
    بدلن بعد حرّه خريفا وبعد طول النفـَس الوجيفا
    يعني تغيرت تلك الأحوال إلى غيرها . وقال عطاء بن أبي رباح : هذا في الدنيا يكون الرجل على صفة قبيحة ثم يبدله الله بها خيرا . وقال سعيد بن جبير : أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن ، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات ، وقال الحسن البصري : أبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصا ، وأبدلهم بالفجور إحصانا ، وبالكفر إسلاما ... والقول الثاني : أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات ، وما ذاك إلا لأنه كلما تذكر ما مضى ندم واسترجع واستغفر ، فينقلب الذنب طاعة بهذا الاعتبار . فيومَ القيامة وإن وجده مكتوبا عليه فإنه لا يضره ، وينقلب حسنة في صحيفته كما ثبتت السنة بذلك .

    وفي تفسير ابن كثير أيضاً : وقال الحافظ الطبراني فيما يرويه عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا نام ابن آدم قال الملك للشيطان أعطني صحيفتك فيعطيه إياها فما وجد في صحيفة من حسنة محا بها عشر سيئات من صحيفة الشيطان ، وكتبهن حسنات فإذا أراد أحدكم أن ينام فليكبر ثلاثا وثلاثين تكبيرة ويحمد أربعا وثلاثين تحميدة ويسبح ثلاثا وثلاثين تسبيحة فتلك مائة " وفي الطبراني أيضاً عن سلمان قال : يعطى الرجل يوم القيامة صحيفته فيقرأ أعلاها فإذا سيئاته ، فإذا كاد يسوء ظنه نظر في أسفلها ، فإذا حسناته ثم ينظر في أعلاها فإذا هي قد بدلت حسنات . وحدّث أيضاً عن أبي هريرة قال : ليأتين الله عز وجل بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات قيل من هم يا أبا هريرة ؟ قال الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات .
    وقال أيضا حدثنا قال : يدخل أهل الجنة الجنة على أربعة أصناف (المتقين) ثم (الشاكرين) ثم (الخائفين) ثم (أصحاب اليمين) . قلت لم سموا أصحاب اليمين ؟ قال لأنهم قد عملوا بالسيئات والحسنات فأعطوا كتبهم بأيمانهم فقرءوا سيئاتهم حرفا حرفا وقالوا يا ربنا هذه سيئاتنا فأين حسناتنا ؟ فعند ذلك محا الله السيئات ، وجعلها حسنات فعند ذلك قالوا" هاؤم اقرءوا كتابيه " فهم أكثر أهل الجنة .

    وفي كرم الله تعالى على عباده المحسنين في سورة الزمر " لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) " يتغاضى الله عن سيئات عباده التائبين المتقين ، فيمحو سيئاتهم الكبيرة ، فكان من باب أولى أن يغفر لهم ما هو أقل من ذلك ، فهو الكريم العفوّ الغفور جل جلاله ، وعمّ نواله سبحانه . فإذا ما غفر لهم جزاهم على كل أعمالهم الخيّرة على تفاوت نسبة الخير فيها بأعلى ما فعلوه من أعمال صالحة ، فإذا صحائفهم ليس فيها إلا الحسنات الكبيرة ، وكتبهم الله من أهل الجِنان .. اللهم اجعلنا منهم .

    ومن كرمه وفضله سبحانه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه - في سورة الطور - نقرأ هذه الآية الكريمة " وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۚ ....(21) " فنجد أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم لتقرّ أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك . قال ابن عباس : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه ، وقال في رواية أخرى : هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئا . فإذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال إنهم لم يبلغوا درجتك فيقول يا رب قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول يا رب أنى لي هذه فيقول باستغفار ولدك لك " إسناده صحيح وله شاهد في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له "

    إن فضل الله وكرمه دالاّن على عظمته ورحمته بعباده سبحانه ، إنه الله ، الذي يستحق العبادة ، والخالق الذي يستحق أن نلجأ إليه شاكرين حامدين .

    اللهم عاملنا بما أنت أهل له ، إنك أهل التقوى وأهل المغفرة ..
    اللهم آمين يا رب العالمين .

    يتبع

    التعديل الأخير تم بواسطة نبيل الجلبي ; 07/09/2010 الساعة 10:46 AM

  8. #28
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/موقفان متمايزان

    سلسلة رمضانيات

    موقفان متمايزان

    الدكتور عثمان قدري مكانسي

    لما وصل موسى بقومه على أرض فلسطين وانطلق بهم إلى بيت المقدس أمرهم موسى عليه السلام أن يدخلوها فاتحين ويُجلوا من احتلها واتخذها موطناً ، فهي سكنى أبيهم يعقوب عليه السلام وسكنى أولاده قبل أن يذهبوا إلى يوسف عليه السلام في مصر ، قال تعالى: " .... يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) " (من سورة المائدة ) فوجدوا فيها قوما من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها فأمرهم رسول الله - موسى عليه السلام - بالدخول إليها وقتال أعدائهم ، وبشرَهم بالنصر والظفر عليهم . فعصوه وخالفوا أمره خوفاً من العماليق الأقوياء ، فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون إلى مقصد مدة أربعين سنة عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى .
    لقد اعتذروا بأن في هذه البلدة التي أمروا بدخولها وقتال أهلها قوماً جبارين أشداء وأنهم لا يقدرون على مقاومتهم ولا حربهم ، ولا يمكنهم الدخول إليها ما داموا فيها فإن يخرج هؤلاء العمالقة منها دخلوها ، وإلا فلا طاقة لأصحاب موسى بهم .قال سبحانه : " قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) "(المائدة) ، وهذا ردّ الجبان الذي يؤثر السلامة على استرداد حقه ، ويفرّط فيه خوفاً وهلعاً . إن هؤلاء اليهود اعتادوا أن يكونوا خدماً في مملكة فرعون ، وتصرفهم هذا تصرفُ الخدم والعبيد الذين ألِفوا حياة الذل والهوان ، فكانت عقوبتهم أن يتيهوا في الصحراء أربعين سنة ، فينقرض هؤلاء ويخرج من أصلابهم رجال عاشوا الحرية وتذوّقوا طعم الكرامة ، فعلى يد أمثال هؤلاء تُستردّ الحقوق . وقالوا مقولة الجهل بالذات العلية حين طلبوا من موسى - راغبين عن الجهاد - أن يذهب وربه ليقاتلا ، أما هم فيودّون النصر على طبق من الورد يقدم لهم سهلاً يسيراً .

    إن الفرق بين أصحاب موسى عليه السلام وأصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم في شبيه هذا الموقف كبير ، ففي غزوة بدر حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم نفسه والمسلمين الذين خرجوا لاصطياد القافلة ففوجئوا بجيش قريش المدجج بالسلاح ، وكان العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين في المدينة أن يمنعوه في مدينتهم كما يمنعون نساءهم وأبناءهم ، ولم يعدوه أن يحموه خارج المدينة . فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرى رأيهم ويتوثّق من إيمانه فقال : أشيروا عليّ أيها الناس ، فتكلم أبو بكر وعمر فأحسنا ، ثم تكلم المقداد بن عمرو فقال ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ‏‏:‏‏ ‏‏" اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا ههنا قاعدون ‏‏"‏‏ ‏‏.‏‏ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ، ودعا له به .
    ثم قال : أشيروا عليّ أيها الناس – فالمتكلمون الثلاثة من المهاجرين وهو يريد الأنصار . فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له سعد بن معاذ ‏‏:‏‏ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ أجل ؛ قال ‏‏قولة المؤمن الصادق المحب لله ورسوله :‏‏ فقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لَصُبُرٌ في الحرب ، صُدُق في اللقاء ‏‏.‏‏ لعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله .

    ألا ترى أيها الأخ القارئ البون الشاسع بين ما قاله المؤمن بالله ورسوله الذي يعتبر نفسه جندياً من جنود الله ، ويرى أن عليه أن يقول سمعنا وأطعنا ثم يمتثل للأوامر دون تلكؤ ولا تكاسل ، وبين ما قاله اليهود لنبيّهم ؟ فأمر الله ورسوله لا بد من الالتزام به – إن كنا مؤمنين – لنحوز رضاه والجنة في الآخرة ، والعز والنصر في الدنيا .

    فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشَّطه ذلك ؛ ثم قال ‏‏:‏‏ سيروا وأبشروا ، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم . هذا ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى المسلمين الطاعة والامتثال والاستعداد النفسي والقلبي ، كان الله تعالى راضياً عنهم ، ومن رضي الله عنه فقد فاز ، وكان النصر على خطاهم . وكان جزاء يهود أن قال تعالى يوبخهم ويعاقبهم ، ويسمهم بالفسق ، والفاسق منبوذ مطروح : " قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ۛ أَرْبَعِينَ سَنَةً ۛ يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) "(المائدة).

    يتبع



  9. #29
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/إنما يتقبل الله من المتقين

    سلسلة رمضانيات

    إنما يتقبل الله من المتقين

    الدكتور عثمان قدري مكانسي

    كنا نسمع قصة قابيل وهابيل ابني آدم عليه السلام مذ كنا صغاراً لا نقرأ ولا نكتب ، نسمعها من أمي ، وكانت رحمها الله ذكية أريبة وشاعرة تنظم المقطوعات الشعرية بلهجتنا العامية سريعاً ، وتعلمنا إياها ، وكانت تحفظ قصصاً كثيرة تسردها بدقائقها وكأنها تقرأ من كتاب .
    ولم أكن أحب سماع قصة هذين الأخوين ، وأتألم حين أسمعها لما فيها من قطع للرحم وصلف وتكبّر يمثله قابيل قاتلُ أخيه ، ولا أكاد أصدّق أن يقتل الأخ أخاه لامرأة ، فيدخل بسببها النار ، وأقول في نفسي : إنني أحب الجمال ، لا شك في ذلك ، أمّا أن يكون الاستئثار به سبب دخولي النار خالداً فيها - وهذه خسارة ما بعدها خسارة - فأمر لا يمكنني تصوّره .

    لكنني رأيت وقرأت وسمعت عن رجال يفعلون كل شيء في سبيل شهواتهم ، لا يرعَون عهداً ولا ذمّة ، ولا يعرفون حلالاً ولا حراماً ، فالحق ما يريدون ، والعدلُ ما يرغبون ، والصواب ما يحكمون . يضربون بكل الشرائع والقوانين عرض الحائط حين تُمس مصالحهم ، ويدورون حول ذواتهم ، ولا يرون سوى أنفسهم . ولا يرتاحون إلا عندما يجدون الناس يمالئونهم ويحسبون حسابهم ، ويعملون لإرضائهم . ، وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور لمن يمس شعرة منهم أو يخرج عن نطاقهم . أو يرى غير رأيهم .

    يتبارى الأَخَوان في ميزان العدل ، فيقدّم كل منهما قرباناً لربه سبحانه ينتظر الحكم ، وكان عليهما أن يرضيا بما يقسم الله لهما ، فلما خسر قابيل ما كان يرجو هدّد وتوعّد وأرغد وأزبد ، " قال لأقتلنك " وهل يغيّر القتل من الحقيقة شيئاً ، وما يدلّ التهديد والوعيد إلا على ضعف النفس أمام الهوى وضَعَتِها في ميزان الرجال . فماذا تقول في امرئ لا يعرف غير البلطجة والعنترية في الوصول إلى مآربه ؟! رافضاً القبول بما قسمه الله له وحَكَم ، يعتدي على الآمنين ويسلب حقوقهم ويرفع في وجوههم السلاح ، ويحاول إخافتهم والتأثير عليهم ؟
    وهل التهديد يغيّر من الواقع موقفاً ومن الحقيقة شيئاً ؟ تقبل الله من هابيل قربانه ولم يتقبله من قابيل . فهلا سأل هذا الأخير نفسه السببَ ؟ بلى إنه سمعه من أخيه حين ردّ على تهديده بطمأنينة عالية الوتيرة " إنما يتقبّل الله من المتّقين " وكان عليه أن يراجع نفسه ويغيّر من سلوكه ليتقبّل الله منه ، ولن يتقبل الله إلا ممن يلزمون شريعته ، فيعملون بأمره وينتهون عن نواهيه . وما من رجل أطاع ربه إلا رضي عنه وفتح المغاليق أمامه .
    ونبهه هابيل إلى أمور عدة منها : أن القاتل يتحمّل وزراً كبيراً حين يزهق روحاً في غير حق . وأن كثيراً من ذنوب المقتول – حين يأخذ حقه من قاتله يوم القيامة – يحملها القاتل فوق ذنوبه " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك ..." وأن جزاءَ القاتل الظالمِ النارُ " فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين " وإنها لعقوبة صارمة لا نجاة منها أبد الآبدين . والعجيب أنني قرأت للشاعر النصيري " سليمان العيسى " أن هابيل يتحمل مسؤولية مقتله لأنه صرّح باستفزازه لأخيه القاتل حين قال " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك " واستنتج الرجل هذه الفكرة الغبية من كلمة " أريد " فقد كان المقتول مصمماً أن يُقتل ! . وللقارئ أن يحكم على الشاعر من هذا الاستنتاج العبقري !.
    ولم تنفع الموعظة ولا النصيحة التي أسداها هابيل إلى قابيل ، فقد كانت نفس القاتل تسوّل له القتل وتزينه له ، فاغتنم فرصة كان أخوه غافلاً عنه ، فأرداه ميتاً فكان أشد العالمين خسارة ، لقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل " لقد سنّ سنة سيئة ، فكان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة . قال تعالى مؤكداً هذا المعنى في سورة المائدة " فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)" والنفس أمّارة بالسوء تردي صاحبها في المهالك . أفليس على الإنسان أن يفكر ألف مرة قبل أن يُقدم على ما يضره قبل أن يضرَّ غيره ؟! نعوذ بالله من ساعة الغفلة .
    قتله ، فهمدت حركتُه ، وتركه في العراء لا يدري ما يفعل بجثة أخيه . وأراد الله تعالى أن يعلمه كيف يدفن أخاه فأرسل غرابين يقتتلان ، فقتل أحدهما الآخر ، وحفر حفرة في الأرض واراه فيها ، فعلم القاتل أنه أقل حيلة وأضعف تصرفاً من هذا الغراب فأحس بالندم جرّاء فعلته ، وندم ، ولعلنا نتساءل : علامَ كانَ الندمُ ؟

    حين يخطئ المرء ويندم ويستغفر الله تعالى يغفر الله له . فهل كان ندم هذا القاتل من هذا النوع الذي يُغفر فيه لفاعله ؟ يقول العلماء : إن هذا الندم ندم فقد لا ندم ذنب ، وبصيغة أخرى : إنه ندم على فقد أخيه لا على ذنبه الذي اجترحه . وقد مر قبل قليل أنّ على ابن آدم الأول كفلاً من دمها لأنه أول من سن القتل. وقد روى أبو بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم "( سنن الترمذي ) ، ولعله ندم أن الغراب كان أذكى منه حين دفن أخاه ، ولم يهتدِ هو إلى ذلك قبل الغراب .

    قال تعالى في فداحة قتل المؤمن دون سبب " مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ .... (32) " قال ابن عباس رضي الله عنهما : من قتل نفسا واحدة حرمها الله مثل من قتل الناس جميعا وروى ابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير : من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعا ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعا ومن شد على عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا .

    وقد أعجبني قول سليمان بن علي الربعي ، قال : قلت للحسن البصري : هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل فقال : إي والذي لا إله غيره كما كانت لبني إسرائيل وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا وقال الحسن البصري " فكأنما قتل الناس جميعا " قال : وزرا ، "ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " قال : أجرا . ..

    نعم فدماء المسلمين أغلى وأكرم .


  10. #30
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د.عثمان قدري مكانسي/أمر عجيب

    سلسلة رمضانيات

    أمر عجيب

    الدكتور عثمان قدري مكانسي


    قدمت مرة من أم القيوين – وهي إمارة صغيرة من الإمارات العربية المتحدة وكنت في زيارة لأحد الأحباب عائداً إلى بيتي في الشارقة، ودخلت عجمان حتى وصلت إلى الدوّار قرب جامعة عجمان التكنولوجية، فأذّن للعصر فدخلت مسجد الجامعة، ولما انتهت الصلاة اتجهت نحو الباب، فلفت نظري أن شاباً عملاقاً ذا لحية لطيفة كان ينظر إليّ نظرات حسبتها فضولية، ولم أعرفه، فسلمت عليه قائلاً في نفسي لعله ينتظر أحد المصلين من إخوانه أو رفاقه الطلاب ، فردّ السلام، ولما خرجت من الباب رأيته يناديني باسمي: أستاذ عثمان.. أنا أنتظرك، فلِمَ تجاهلتني؟
    قلت: ومَنْ أنت يا ولدي؟ وأنّى لي أن أعرفك حتى أتجاهلك؟
    قال: أنا أحد تلاميذك في ثانوية دبي يا أستاذي.
    نظرت إليه متعجباً ثم قلت له مبتسماً: لا أتذكر أن أحد تلاميذي بطول خشبة الكهرباء.
    ضحك الشاب وقال: هذه عادتك يا أستاذي، لمْ تغيّرها، تدخل إلى القلوب بأسلوبك الفكاهي المتميز.
    قلت: أمتأكد أنك أحد تلاميذي؟ كيف كنت تدخل بين الكرسي والطاولة في الصف؟
    ضحك الشاب وقال: لن أذكر اسمي لأنك ستعرفه لو نبهتك إلى جملة كنت تقولها لي.
    قلت: هات يا ولدي.. وما أظنني أتذكر فأنا كثير النسيان.
    قال: لا.. إنك تعرفني جيداً يا أستاذ.. كنت تقول لي: إن اسمك يا ولدي لا يسمي المسلمون أولادهم به في بلاد الشام، فهو خاص بالنصارى، وكنت تقول أيضاً: إنك التلميذ الليبي الوحيد الذي تتلمذ على يديك..
    فتحت له ذراعي وقلبي بآن واحد، وقلت له: أهلاً يا (وليد إلياس).. انزل قليلاً حتى أقبّل وجنتيك، وأضمك إلى صدري.. كم أنا مشتاق إليك.. كيف غبت عني فلم أعرفك.. حجبك هذا الطول المفرط وهذه اللحية المحببة، والشباب الناهد، حفظك الله يا ولدي.
    قال والابتسامة تملأ فمه، ووجهه يشرق بالإيمان:
    ـ أتذكر يا أستاذي ما كنت تغرسه فينا من معاني الإيمان ، وأفكار التوحيد؟ أتذكر قصصك الهادفة والأفكار الإسلامية التي غذّيتنا بها؟ لقد نما غرسك يا أستاذي وجاء من يقطف ثمرته، فالفضل لله سبحانه في السير على درب الهداية ثم إليك.. لقد كان كلامك نوراً أضاء لي ولكثير من زملائي في الصف فجزاك الله خيراً عنّا.. وأجزل لك المثوبة.
    كانت الدموع تتساقط بغزارة، وأنا الذي لم تعتد عيناه الدموع إلا وحيداً كما تساقطتْ وأنا أسترجع ما قاله لي وأسطر مقاله على هذه الصفحة، وكان قلبي كما هو الآن ينبض بشدة، يا الله إن عملنا معشر المعلمين عمل الأنبياء والمرسلين، اللهم اجعله في صحائف أعمالي..

    ودّعت الشاب على لقاء قريب يشاؤه الله تعالى ونحدده نحن مع بعض رفاقه الشباب، وانطلقت إلى الشارقة عن طريق "النعيمية" كان الطريق أمام الجامعة عريضاً مزدوجاً، فما إن انعطفت يميناً في شارع واحد ذي اتجاهين حتى كنت أسير بسرعة ستين كيلو متر في الساعة، وعلى اليسار من الشارع، وسيارة تقترب مني مسرعة أكثر من سيارتي.. لم أنتبه إلا والمسافة بيننا لا تتجاوز الخمسين متراً، وسيكون الاصطدام مروّعاً بقوة مئة وخمسين كيلو متر في الساعة، يا الله يا رب.. وحاولت كبح السيارة ، وكبَحَ الرجل اندفاع سيارته، ثم توقفنا وجهاً لوجه.. اصطدم قلبي بقلبه وارتعش جسمي وارتعش جسمه، لكن السيارتين لم تصطدما، ولم تهتزا.. نزلت من السيارة لأرى المسافة المتبقية بينهما..

    أتدري أخي القارئ كم كانت؟ لن تصدق إذا قلت لك : كاد صدّاما السيارتين يلتصقان، بل إنهما ملتصقان، فلم أستطع رؤية الأرض بينهما وسجدت لله سبحانه هو الحفيظ الرؤوف، البر الرحيم.. يا رب لك الحمد، وأنت وليي في الدنيا والآخرة.. ما أعظمك وما أرحمك بعبادك..



  11. #31
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/كبّر، كبّر

    سلسلة رمضانيات

    كبّر، كبّر

    الدكتور عثمان قدري مكانسي



    قد يخطر ببالك أخي الحبيب حين تقرأ العنوان أنني أقول لك: قل (الله أكبر)، لا شك أن من شعارات المسلمين في كل آن وحين أن نكبر فنقول: الله أكبر.

    كبّر، كبّر... كلمة قالها النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سهل حين قتل أخوه عبد الله –وعبد الله أكبر منه- وكان صديقاً لمحَيّصة بن مسعود، وكان القاتل معروفاً، ذكر اسمَه القتيلُ عبد الله وهو يتشحّط بدمه قبل أن يفارق الحياة حين لقيه صاحبه مُحيّصة في اللحظات الأخيرة.
    فقد ذهب محيّصة وعبد الله إلى خيبر وقت السلم لبيعٍ أو شراء وافترقا على أن يلتقيا في ساعة محددة، فلما عاد محيّصة وجد صاحبه يفارق الحياة بضربة غدر من رجل عرفه ونطق اسمه قبل أن يودع.
    انطلق محيّصة وأخوه حُويّصة –وحويّصة أكبر الاثنين– ومعهما عبد الرحمن بن سهل أخو القتيل يشتكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطلبون الثأر والقصاص، وظنّ عبد الرحمن أنه أولى بالحديث لأنه أخو القتيل، فلما بدأه في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم والأخوان حويّصة ومحيّصة معه قال له النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه احترام الكبير وتوقيره ووجوب تقديمه: " كبّر، كبّر "..، فسكت، وتكلم حويّصة ومحيّصة.

    وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
    ( أُراني أتسوّك بسواك، فجاءني رجلان أحدُهما أكبر من الآخر، فناولتُ السواكَ الأصغرَ، فقيل لي: كبّرْ، فدفعته إلى الأكبر منهما ).

    وللإنسان أن يعطي الهدية من يشاء، لكنّ احترام الكبير وتوقيره مطلوب، فكان تقديمه أولى.

    وكان الحبيب المعلّم صلى الله عليه وسلم يقول منبهاً إلى إكرام الكبير:
    ( إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم ).
    فمن إكرامه التأدب في الحديث معه، وخفض الصوت أمامه، والنظر إليه بمحبة ولطف، وإجلاسه في مكان يستحقه، وتقديمه في حضرة الآخرين وعدم تعدّيه، ومناداته بكلمة تنبئ عن تقدير (العم، أبا فلان...).

    ألم نحفظ عنه صلى الله عليه وسلم قوله الرائع المضيء في عالم التربية والأدب : ( ليس منّا مَن لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرفَ كبيرنا ) ، ولا حظ معي كلمة ( ليس منّا ) فهي تنبيه وتحذير من جهة، وحضٌ وتحفيز من جهة أخرى.

    وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته الطاهرة الكثير من المواقف التربوية التي تعلمنا الأدب مع الكبير ومراعاة مكانته وتقديره.

    وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تؤكد على ذلك منها قوله تعالى في الآية 133 من سورة البقرة حين نسمع يعقوب عليه السلام قبل أن يلقى ربه يسأل أولاده عمّن يعبدون من بعده ليثبت إيمانهم على الملة السمحاء فيجيبون { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فأبوه إسحاق وجده إبراهيم أما إسماعيل فعمّه، لكنهم حين ذكروا الثلاثة قدموا عمه إسماعيل على أبيه إسحاق لأن إسماعيل أكبر منه. وجعلوا إسماعيل من آبائه. وهذا قمة في الأدب وحسن الأخلاق.

    وانظر معي إلى الترتيب الجميل في قوله تعالى في الآية 136من سورة البقرة: { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } ترتيب زمني جيد من لدن إبراهيم إلى عيسى صلوات الله عليهم، يعلمنا إنزال الكرام منازلهم.

    ونجد في السورة نفسها في الآية 140 الترتيب في المقام نفسه : { أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }؟!؟.

    بل إننا نتعلم من فرعون نفسه -والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها التقطها– نتعلم توجيه الحديث إلى الأكبر والأكثر وجاهة. فقد دخل موسى وهارون عليهما السلام عليه وقالا له : { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) }(طه) ،
    فوجه فرعون السؤال تحديداً إلى أكبرهما وانتظر الجواب منه فقط : {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)}(طه)؟ وكان الحوار بينهما.


  12. #32
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/الزيارة والتلاقي

    سلسلة رمضانيات

    الزيارة والتلاقي

    الدكتور عثمان قدري مكانسي



    روى عثمان بن سودة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
    ( من عاد مريضاً أو زار أخاً ناداه مناد من السماء أن طبتَ وطاب ممشاك وتبوّأت من الجنة منزلاً ) ، فهي دعوة من نبي الحب والود إلى المسلمين والبشرية جمعاء أن يتقاربوا ويتزاوروا ، فَرَبّ السماء سبحانه يجزيهم الحياة السعيدة في الدنيا والمنزلة الرفيعة في الدار الباقية .

    وكان يُقال :
    "امش ميلاً وعُد مريضاً ، وامش ميلين وأصلح بين اثنين ، وامش ثلاثة أميال وزُرْ أخاً في الله " .
    وهذه حكمة تدعو للقاء المثمر للأخوة ، الداعم للصداقة . والمسلم عنوان البر والإيجابية في الحياة ، فما أجمل أن تزور مريضاً وأن تصلح بين المتخاصمين وأن تنشئ علاقة طيبة مع أخ لك في الله؟! .

    وما أجمل قول علي بن الجهم في الصحبة والزيارة :

    أبلغْ أخاً ما تولّى اللهُ صحبَتَنا * أنّي وإن كنتُ لا ألقـاه ألقـاهُ
    وأن طرفيَ موصول برؤيته * وإنْ تباعد عن مثوايَ مثواهُ
    الله يعـلـم أنـي لســت أذكـُره * وكيف أذكرُه إذ لستُ أنسـاهُ

    فصحبته في الله باقية سواء لقيه أم غاب عن ناظره ، إنّ قلبه موصول به متعلق برؤيته ، وإنه دائماً معه في كل آن .
    وفي هذا المعنى يقول أحدهم :
    قد جمعتنا وإياك أحوالٌ لا يُزري بها بعدُ اللقاء ، ولا يُخِلّ بها تنازحُ الديار .
    ويعتبر سهل بن هارون أن من روعة الحياة أن تلتقي من يمتاز بشمائل عالية وأخلاق سامية :

    وما العيشُ إلا أنْ تطول بنائل * وإلا لقاء المرء ذي الخلق العالي

    ويروي ابن قتيبة أنه قرأ في كتب حكماء الهند أن ثلاثة أشياء تزيد في الأنس والثقة :
    1- الزيارة في الرحل ( مكان الإقامة )
    2- والمؤاكلة ،
    3- ومعرفة الأهل والحشم ( أن يتعرف أهلك على أهل المزور فتزداد الألفة وتتوثق الصداقة ) .

    وكتب رجل إلى صديقه يستحثه على الوصال : مثـَلـُنا – أعزّك الله – في قرب تجاورنا وبُعد تزاوُرنا ما قال الأوّل :

    ما أقرب الدار والجوار وما * أبعد مع قـُربـِنا تلاقينـا

    وكل غفلة منك محتملة ، وكل جفوة مغفورة ،للشغف بك والثقة بحُسْن نيّتك ، وسآخذ بقول أبي قيس :
    ويُكرمها جاراتُها ، فيزُرْنها * وتعتلّ عن إتيانهنّ فتعتذر

    وفي هذا المعنى كتب أحدهم إلى أخيه يستزيره : طال العهد بالاجتماع حتى كِدنا نتناكر عند اللقاء ، وقد جعلك الله للسرور نظاماً ، وللأنس تماماً ، وجعل المَشاهدَ موحشة إذْ خلَتْ منك .
    ولعل الرجل يهوى لقاء من يحب ومن يستفيد منه ، ألم يقل بشار بن بُرد في هذا :

    يسقط الطير حيث تلتقطُ الحَبَّ * وتُغشى منازل الكرماء

    فالإنسان يأوي إلى من يرتاح له فائدةً مادية أو معنوية ، يقول الشاعر في هذا :

    تثاقلْتُ إلا عن يد أستفيدُها * وزَورةِ ذي وُدّ أشدّ به أزري
    وقال رجل لصديقه : قد تصدّيت لقائك غيرَ مرّة ، فلم يُقضَ ذلك . فقال له الآخر : كل بر تأتيه فأنت تأتي عليه ( تصله وتنال خيره ) .

    ولعل والودّ والتفاهم يزيد في الآصرة ويُقوّي العلاقة خاصة إذا كان الرجلان متماثلين ، وقد أنشد الشاعر في هذا المعنى بيتين لطيفين فقال :

    أزور محمّداً ، وإذا التقينا * تكلـّمَتِ الضمـائـر في الصـدور
    فأرجع لم أَلُمْه ولم يَلُمني * وقد رضي الضمير عن الضمير

    لكنّ كثرة الزيارات وطول الزيارة يبعث الملل والقـِلى في النفوس وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( زُرْ غِبـّاً تزدَدْ حبـّاً ) . وقد وصف الأصمعي صاحباً له فقال : كان يكره الزيارةَ المُمِلّة ، والقعدة المُنسِيَة . وقد أنشد شاعر :

    إذا شئتَ أن تـُقلى فَزُر متتابعاً * وإن شئتَ أن تزداد حباَ فزُرْغِبـاً
    وأنشد آخر بيتين ممتلئين حكمة وأدباً ، فقال :

    أَقلِلْ زيارتـَك الصديقَ * يراك كالثوب استَجَدّه
    إنّ الصـديـق يُمِلـّــه * ألاّ يـزال يــراك عنــده

    وقد أخطأ الشاعر فلم يجزم جواب الشرط ، ولو وضع ( يجدْك ) بدل يراك لاستقام الوزن والمعنى .
    إلا أن زيارة الكريم ولقاءه شفاء وراحة ، ولقاء اللئيم مرض وسقام ، وهذا ما أحسَن وصفَه شاعر متمكن ذو علم بهذين النوعين المتناقضين من الناس :

    وماليَ وجهٌ في اللئام ولا يدٌ * ولكنّ وجهي في الكرام عريضٌ
    أصِحّ إذا لاقـَيتـُهُـم ، وكأنني * إذا أنـا لاقـَيـْتُ الـّلئـامَ مريـضٌ


  13. #33
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/حُسن الخلُق ومداراة الناس

    سلسلة رمضانيات

    حُسن الخلُق ومداراة الناس

    الدكتور عثمان قدري مكانسي




    - رُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : أربعُ خلال إنْ أُعطيتَهنّ فلا يضرك ما عُدِل به عنك من الدنيا :
    1- حُسْن خليقة ،
    2- وعفافُ طُعمةٍ ،
    3- وصدقُ حديث،
    4- وحفظ أمانة .
    ولعمري مَن حاز هذا فقد حاز الدنيا والآخرة كلْتيهما .

    - وجاء رجل إلى وهْب بن منبّه ، فقال : إن الناس قد وقعوا فيما وقعوا فيه ( كثرت أخطاؤهم وحادوا عن الحق ) وقد حدّثتُ نفسي أن لا أخالطهم .
    فقال له وهب : لا تفعل ؛ فإنه لا بدّ للناس منك ، ولا بدّ لك منهم ، لهم إليك حوائجُ ، ولك إليهم حوائجُ ، ولكنْ كن فيهم أصمَ سميعاً ( تسمع وتتناسى ما سمعتَ) وأعمى بصيراً ( ترى أخطاءهم وتتغافل عنها ) وسَكوتاً نَطوقاً ( تتكلم في الوقت المناسب ما ينفع ) .

    - وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : خالطوا الناس وزايِلوهم .. ( وهذا دأب الدعاة المصلحين ، فلا بدّ من مخالطة الناس لتدعوَهم إلى سبيل الحق وتدلهم على طريق السلامة ، وتذكّرهم بالله ، مع الترفع عن الخوض فيما يسيء ويؤذي )

    - وهذا يؤيده قول أبي الدرداء رضي الله عنه : إنا لنَكشِر في وجوه أقوام ( نضحك ) وقلوبنا تَقليهم ( تـُبغضهم ) . وقال رجل لأبيه وقد رآه يتلطّف لرجل غليظ : لِمَ تجلس إلى فلان وقد عرَفتَ عداوتَه؟ قال : : أُخبي ناراً ، وأقدَحُ عن ودّ . وقال الشاعر المهاجر بن عبد الله الكِلابي في هذا المعنى :

    وإنّي لأُقصي المرءَ من غير بِغضة * وأُدني أخا البغضاء مني على عمْدٍ
    ليُـحدِث وُدّاً بعد بغضـاءَ ، أو أرى * له مصرَعاً يُردي به اللهُ من يُردي

    وقال عِقال بن شَبّة : كنت رديف أبي فلقيه جرير ، فحياه أبي وألطَفه ، فلما مضى قلتُ لأبي : أبَعد ما قال لنا ما قال ؟! . قال : يا بنيّ : أَفأُوَسـّع جُرحي ؟ ( يتحاشى سلاطة لسانه )
    وقال ابن الحنفيّة : قد يُدفعُ باحتمال المكروه ما هو أعظم منه .
    وقال الحسن البصري : مُداراة الناس نصفُ العقل .

    - وفي المأثور " أوّل ما يوضع في الميزان الخُلُق الحَسَن . " وقال " حُسنُ الخلُق وحُسنُ الجوار يَعمُران الديار ، ويزيدان في الأعمار " وقال " منْ حَسّن اللهُ خَلْقَهُ وخُلُقَه كان من أهل الجنّة " .

    - وقال ابن قتيبة الدينَوري : قرأتُ في كتب العجم : حُسن الخُلُق خيرُ قرين ، والأدب خيرُ ميراث ، والتوفيق خيرُ قائد .
    وقال : قرأت في كتاب للهند : مَنْ تزَوّد خمساً بَلـّغـَتـْه وآنَسَتـْه :
    1- كفّ الأذى ،
    2- وحُسْنُ الخُلُق ،
    3- ومجانبَةُ الرِّيَبِ ،
    4- والنبل في العمل ،
    5- وحُسْنُ الأدب .

    - وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه : ثلاثة من قريش أحسنها أخلاقاً وأصْبحُها وجوهاً وأشدّها حياءً ، إنْ حدّثوك لم يَكْذِبوك ، وإن حدّثْتَهم بحق أو باطل لم يُكَذّبوك : أبو بكرٍ الصدّيقُ ، وأبو عبيدة بنُ الجرّاح ، وعثمانُ بن عفـّانَ رضي الله عنهم وأرضاهم .
    قال الشاعر :

    فتىً إذا نبّهْتـَه لم يغضبِ * أبيضُ بسّامٌ وإن لم يعجَبِ
    موكّلُ النفس بحفظ الغُيّبِ * أقصى رفيقيه له كالأقربِ

    وقال يزيد بن الطّثَرية :

    وأبيضَ مثلِ السيف خادمِ رِفقةٍ * أشمّ ترى سِرباً له قد تقدّدا
    كريمٍ على عِلاّتِـه ، لو تسـُبـُّه * لفدّك رِسلاً ،لا تراه مُرَبّدا
    يجيـب بـِلَبّـيـه إذا ما دعَـوْتـَه * ويحسب ما يُدعى له الدهرَ أرشدا

    فمن سماتُه التلبيةُ ونسيانُ أذى الآخرين مع كرم النفس وسماحة القلب جدير أن يكون الصديق الذي نعضّ عليه بالنواجذ .

    - ومدحَ ابنَ شهابٍ شاعرٌ ، فأعطاه ، وقال : من ابتغى الخيرَ اتّقى الشرّ ، فمن أكرمتـَه اتقاء شرّه وتخلّصاً من أذاه شيطان رجيمٌ ، ومارد خبيثٌ


  14. #34
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/قول في المحبة

    سلسلة رمضانيات

    قول في المحبة*

    اختارها الدكتور عثمان قدري مكانسي

    لعلنا في أغلب أيام رمضان الكريم – أيها الأحباب نعيش مع كنز من كنوز العربية التي غفل عنها كثير من الأدباء بلـْهَ العامّة ، إنه كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة الدينـَوري ، من أمهات الكتب ، فيه من الأدب والعلم والفكر ما يصلح أن يكون مدرسة وحده ، ها نحن اليوم في روضة من رياض هذا الكتاب ، نجول بين أزهار ( المحبة ) فنقتطف منها ما يُزّين مجالسنا ، ويضيء حياتنا .

    - كتب رجل إلى صاحبه : أحِنّ إلى عهد أيامك التي حَسُنَتْ بك كأنها أعياد ، وقَصُرَتْ بك كأنها ساعات ، إن الشوق إليك يفوق الصفات ، ومما جدد الشوق إليك تصاقب الدار، ( قربها ) وقرب الجوار ، تمم الله لنا النعمة المتجددة فيك بالنظر إلى الغُرّة المباركة التي لا وحشة معها ولا أُنْسَ بعدها .

    - وقال حكيم : ثلاث يُصْفين لك وُدّ أخيك :
    فالأولى : أن تبدأه بالسلام إذا لقِيتَه ،
    والثانية : أن توسع له في المجلس ،
    والثالثة : أن تدعوه بأحبّ أسمائه إليه .

    - وقال الحكيم نفسُه : ثلاث يكرهك الناس لها :
    فالأولى : أن تعيب على الناس صفات هي فيك ،
    والثانية : أن ترى في الناس عيوباً هي فيك أكبر، لا تراها ،
    والثالثة : أن تؤذي جليسك فيما لا يَعنيك .

    - وعن المقدام بن معدي كرِب – وكان أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ارتدّ وقومُه عن الإسلام ، فقاتلهم المسلمون بقيادة خالد رضي الله عنه وأعادهم إلى الإسلام ، ومن كان مثله انتفـَتْ الصحبة عنه – قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم:
    ( إذا أحب أحدُكم أخاه فليُعـْلِمْه أنه يحبه ) كي لا يكون الحب من طرف واحد ، ولتتآلف قلوب المسلمين .

    - وكان يُقال : لا يكن حبُّك كَـَلَفاً ولا بغضُك تـَلَفاً (لا تسرف في حبك وبغضك ) .

    ونحوه قول الحسن البصري رحمه الله تعالى : أحِبّوا هَوْناً ، فإن أقواماً أفرطوا في حب قوم فهلكوا .

    ومثل ذلك أُثِر عن الشافعي رحمه الله تعالى : أحْبِبْ حبيبَك هَوناً ما عسى أن يكون بغيضَك يوماً ما ، وأبْغِضْ بغيضَك هَوناً ما عسى أن يكون حبيبَك يوماً ما .

    - أما الصحابي الجليل " عُكّاشة بن محصن" الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر قضيباً يحارب به حين انكسر سيفه ، فلما هزّ القضيب انقلب بإذن الله سيفاً أبيضَ طويلاً حارب به في كل غزواته إلى أن قُتل في معركة الردّة في بني أسد ، قتله طليحة الأسدي المتنبئ ، ثم عاد طليحةُ إلى الأسلام وحَسُن إسلامُه - هذا الصحابي الجليل بشره النبي صلى صلى الله عليه وسلم بأنه ممن يدخل الجنة دون حساب ولا عقاب – كان عمر رضي الله عنه يحب عُكّاشة كثيراً ، فلما التقى عمر الفاروق بقاتله قال له : قتَلْتَ عكّاشة بن محصن؟! لا يُحبك قلبي .
    فقال طليحة : فمعاشرة جميلة - يا أمير المؤمنين – فإن الناس يتعاشرون على البغضاء.

    وقال بعضهم لرجل : إني أُبغضك .
    فقال : إنما يجزع مِن فقد الحبّ المرأةُ ، ولكنْ عدلٌ وإنصافٌ .

    - وقال عمر رضي الله عنه لرجل يريد طلاق زوجته : لِمَ تطلّقها ؟
    قال : لا أحبها .
    قال : أَوَ كلُّ البيوت بنيت على الحب ؟! فأين الرعاية والتذمم (أن لا يقوم بعمل يذمه الناس عليه ) .

    - وكتب أحدهُم إلى صاحبه يبثّه شوقَه : لساني رطب بذكرك ، ومكانُك في قلبي معمور بمحبتك .
    ومثل قوله أنشد الشاعر معقِل :

    لَعَمري لَئِن قرّتْ بقربك أعيُنٌ * لقد سَخِنَت بالبين منك عيونٌ
    فسِرْ وأقِمْ ، وقْفٌ عليك موّتي * مكانُك في قلبي عليك مصونٌ

    وذكر أعرابيّ رجلاً ، فقال : والله لكأن القلوب والألسن رِيضَتْ له ، فما تُعقَد إلا على وُدّه ولا تنطق إلا بحمده .

    - وقال رجل لابن حوشب : إني أحبّك .
    فقال : ولِمَ لا تحبّني ؛ وأنا أخوك في كتاب الله ووزيرك على دين الله ، ومُؤنتي على غيرك ! ولعل الإنسان – لشحّه – يمل من سؤال الناس ويستثقل صحبتهم . فنبه ابن حوشب صاحبه أن الحب قد يضعف ، بل يضمحلّ إذا كان فيه طلب المال والمؤنة .

    - وينسب إلى رابعة العدوية – وهو بعيد - قولُها في الحب الإلهي :

    أحبـّك حبـّيـْن ، لي واحدٌ * وحـُب ، لأنـّك أهـْل لـذاكَــا
    فأمـا الذي أنت أهـْل لـه * فَحُسنٌ فَضَلْتَ به مَن سواكـا
    وأما الذي في ضمير الحشا * فلستُ ارى الحُسنَ حتى أراكا
    وليس ليَ المنّ في واحد * ولكنْ لك المنّ في ذا وذاكا

    - ومن أحبّ ، فأمعن في الحب لم يرَ من حبيبه إلا المحاسن ، ألم يقل المسيب بن عَلَس :

    وعين السُخط تُبصر كل عيب * وعين أخي الرضا عن ذاك تُعمي
    ومثله لعبد الله بن معاوية :

    فلـستُ بـِراءٍ عيبَ ذي الودّ كلـَّه * ولا بعضَ ما فيه إذا كنتُ راضياً
    وعين الرضا عن كل عيب كَلِيلَةٌ * ولكنّ عين السخط تُبدي المساويا

    ومن هذا الباب قال اليزيديّ : رأيت الخليل بن أحمد قاعداً على طنفُسة ، فأوسع لي ،
    فكرهت التضييق عليه ، فقال : إنه لا يَضيق سَمّ الخياط على متحابّيْن ، ولا تسع
    الدنيا متباغضَين

    - وقال شريح القاضي لزوجته يوضح لها ما ينبغي أن تفعله لتحافظ على حبّه :

    خُذي العفوَ مني تستديمي مودّتي * ولا تنطقي في سَورتي حين أغضبُ
    فإني رأيتُ الحب في الصدر والأذى * إذا اجتمعـا لم يلبـَثِ الحـُبُّ يـذهـبُ
    - وقال أعرابيّ : إذا ثبتت الأصول في القلوب نطقتِ الألسُن بالفروع ، ولا يظهر الودّ السليم إلا من القلب السليم . وعلى هذا قال أبو زبيد للوليد بن عُقبة :

    مَن يَخُنْك الصفاءَ أو يتبَدّلْ * أو يَزُل مثلما تزول الظلالُ
    فاعْلَمَنْ أني أخوك أخو العهــــــد حياتي حتى تزولَ الجبالُ
    ليس بخلٌ عليك منّي بمالٍ * أبداً ما استقـَلّ سـيفاً حِمالٌ
    فلك النصرُ باللسـان وبالــــــــــــكفّ إذا كان لليدين مصالٌ
    كل شيء يحتال في الرجال * غيرَ أنْ ليس للمنايا احتيالٌ

    - وقال عبد الله بن الزبير ذات يوم : والله لودِدْتُ أنّ لي بكل عشَرَة من أهل العراق رجلاً من أهل الشام ( صَرْفَ الدينار بالدرهم ) . فقال أحد العراقيين : مَثَلُنا ومَثَلُك كما قال الأعشى :

    عُلّقتُها عَرَضاً وعُلّقَتْ رجلاً * غيري وعُلّق أخرى غيرَها الرجلُ
    أحبّك أهلُ العراق ، وأحبَبْتَ أهل الشام ، وأحب أهلُ الشام عبدَ الملك بن مروان .

    - وكتب رجل إلى صديق له : الله يعلم أني أحبك لنفسك فوق محبتي إياك لنفسي ، ولو أني خُيّرْتُ بين أمرين ؛ أحدُهما لي عليك والآخرلك عليّ لآثرتُ المروءة وحُسْنِ الأُحدوثة بإيثار حظك على حظّي ، وإني أحب وأُبغض لك ، وأوالي وأعادي فيك .

    * – بتصرف - من عيون الأخبار


  15. #35
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/ في بيت الله

    سلسلة رمضانيات

    في بيت الله

    الكتور عثمان قدري مكانسي



    - انتقلت إلى سكن جديد في حيّ آخر غربي المدينة ، بعد أن شعرت أنني في الحي السابق تجذّرت علاقاتي بالناس في اجتماعياً وأنساً ، فما كنت أشعر بالغربة – وأنا الغريب بينهم المهاجر إليهم ، فقد كنت أتخولهم بما فضَل الله علي من حديث في أمور الدين في المساجد بعد الصلوات وفي المناسبات الدينية والاجتماعية وفي شهر الصوم الفضيل .....وأستمع إلى دروس بعضهم ومحاضراتهم فأُفيد علماً وأدباً . والإنسان بين متعلم ومعلم ومستمع ، وهكذا يزداد المسلم خيراً في هذه الدنيا إلى أن يلقى ربه .

    - انتقلت إلى الحي الجديد ، فكان أول ما بحثت عنه المساجد القريبة والبعيدة في هذا الحي ، فهي الرئة التي أتنفس فيها ، والرياض التي آنس إليها ، ، وفيها أتعرف إلى إخوة جدد أرتبط بهم برباط الإيمان وعرى الدين القويم . فلم ألبث أسابيع قليلة حتى تعرفت إلى إخوة ذوي فضل وأدب وعلم . والإنسان اجتماعي بطبعه يميل إلى لقاء من يشعر أنهم أهل خير وتقوى ، ولا نزكي على الله أحداً . إلا أن ذوي الكرامات على وجهها علامات ، هكذا تعلمنا من أساتذتنا ومربينا ...

    - في فجر هذا اليوم أسرعت إلى المسجد القريب ، فصليت السنة ، وتحية المسجد ، ولم أبدأ بقراءة المأثورات حتى سمعت دعاء خافتاً من رجل على يميني ، فنظرت إليه من طرف خفيّ ، فإذا هو رجل في الأربعين من عمره أو يزيد قليلاً يسأل الله تعالى بلهجته العامية المحببة أن يغفر له ويرزقه ، ويحفظه في دينه وصحته وأسرته والممسلمين . وسررت أن دعاءه لم يكن كله خاصاً به ، إنما كان عاماً في أكثره . فأصخت السمع إليه وهو يردد كل دعاء مرتين أو ثلاث مرات ، فيدعو لجاره ولأخيه ولأخته ، وللمسلمين في أصقاع الأرض .

    - نظرت إليه مبتسماً ، فرد بابتسامة أكثر لطفاً وأوسع بشاشة ، ومد يده مصافحاً فسلم عليّ ودعا لي فأثلج صدري وجذبني إليه بأناة سلامه وحلو نبرته . ثم عاد إلى ما كان عليه من التبتل والدعاء ....

    - قلت في نفسي : يا ألله ؛ ما الذي دعا هذا الرجل إلى أن يدعو للمسلمين في بقاع الأرض ويسترسل في الرجاء أن يحفظ المسلمين من كل سوء ، وأن يزيدهم من خيره وبركاته ؟! إنه الشعور بالأخوّة الإيمانية والصلة الوشيجة التي تربطه بمن يراهم إخوته في العقيدة ورابطة الروح والمصير .. إنه منهم وهم منه ، بل هو غصن رطيب في شجرة الإسلام الباسقة ، وارفة الظلال ، التي تظلل الجميع بفيئها ، وتحنو عليهم بدَوحها ، وتغذوهم بثمارها .

    ما أجمل الصلة الإيمانية التي تأرز إليها قلوب المؤمنين ، فتقوى لحمتها ، وتتشابك جذورها وأغصانها ، فإذا هي هدف واحد واتجاه واحد يصعد بقلوب المؤمنين إلى بارئها ، فتلتقي في رحابه سبحانه . ورأيت نفسي أردد قصيدة قلتها قبل سنوات في أخي وحبيبي المسلم في الهند والسند وأندونيسيا واليابان وأوربا وأمريكا وأفريقا .. إن أخي المسلم جزء من نفسي وشريك في هدفي ، وعضدي في أملي وغايتي .

    أحـن إلـيـك أخي المسـلمـا * وأســأل ربيَ أن تسـلـمـا
    وأرجـو مـن الله فـي كل آنٍ * ومـن كـل قـلبيَ أن تنعمـا
    فأنت حبيبي وأنت صديقي * وأنـت نـصـيريَ أن ُأظلمـا
    وفـيـك الأُخـُوّةُ تثمر نـوراً * وفـيـك الـودادُ كغـيثٍ همى

    مـصيري مصيُرك حلواً ومرّاً * كـلانـا إلـى المَكرُمات انتمى
    قـضـى الله أنّ الرباطَ العظيمَ * ربـاطَ الـعـقيدة ، ما أكـرما
    يـشـد الأواصـر بين العبـادِ * ويحيي القلوب بشرع السما
    ويـنـشـئ جـيلاً قوياً عزيزاً * يـطـاول فـي العـزة الأنجما
    ويـقـتلع الكفـر من جُحـره * وفـي الله يـبـذل غالي الدِّما
    أراك عـلـى البعد مهما نأيتَ * بـهـذي الـحـيـاة ليَ التوأما
    وأشـقـى إذا شمتُ فيك هواناً * حـمـاك الإلـه ومـا أرغمـا
    وتـرتاح نفسيْ إذا عشتَ حراً * وتـسعـدُ روحيَ أن تغـنمـا
    وأنـت الـشفاء لجرحي السقيم * وكـنتَ لـه دائمـا بلسـمــا



    أخوك عثمان


  16. #36
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/تخترق الحُجُب

    سلسلة رمضانيات

    تخترق الحُجُب

    الدكتور عثمان قدري مكانسي



    - اعتمر علي رضي الله عنه يوماً فرأى رجلاً متعلـّقاً بأستار الكعبة وهو يقول :
    يا من لا يَشغَلـُه سمْعٌ عن سمع ، ولا تُغلطُه المسائل ، ولا يُبرمه إلحاح المُلِحّين ؛ أذِقني بردَ عفوك ، وحلاوة مغفرتك .
    فقال علي : والذي نفسي بيده ، لو قلتَها وعليك ملءُ السموات والأرَضين ذنوباً لَغُفِر لك .

    - دعا أعرابيّ عند الملتزَم فقال :
    اللهمّ إن لك عليّ حقوقاً ، فتصدّقْ بها عليّ ، وللناس قِبَلي تَبِعات ، فتحمّلْها عنّي ، وقد أوْجَبْتَ لكل ضيف قِرى ، وأنا ضيفك . فاجعل قرايَ الجنّة .

    - وقال آخر:
    اللهمّ إليك خرجْتُ ، وما عندك طلبْتُ ، فلا تَحرمني خيرَ ما عندك لشرِّ ما عندي . اللهمّ وإن كنتَ لم ترحمْ نَصَبي وتعبي فلا تَحرمني أجرَ المصاب على مصيبته.

    - وقال آخر :
    اللهمّ ؛ إنه مَن تهيّأ أو تعبّأ وأعدّ واستعدّ لوفادة مخلوق رجاء رِفده وطَلَبَ نَيلِه ، فإن تهيـُّئي وتعبـّئي وإعدادي واستعدادي لك رجاء رِفدك وطَلَبَ نَيلك الذي لا شبيه له ولا مثيل . ..
    اللهمّ إنّي لم آتِك بعملٍ صالح قدّمْتـُه ، ولا شفاعةِ مخلوق رجَوتـُه ، أتيتُك مُقِرّاً بالظلم والإساءة على نفسي ، أتيتُك بأني لا حُجّة لي .
    أرجو عظيمَ عفوك الذي عُدْتَ به على الخطـّائين ، ثمّ لم يمنَعكَ عُكوفُهم على عظيم الجُرم أنْ جُدْتَ لهم بالمغفرة . فيامن رحمتُه واسعةُ ، وفضلُه عظيم ، اغفرِ الذنبَ العظيم .

    - وقال آخر :
    اللهمّ لا تُدخلنا النار بعد أن أسكنْتَ قلوبنا توحيدَك ، إنّي لأرجو أن لا تفعل ، ولئنْ فعلتَ لتجمعَنّ بيننا وبين قوم عادَيناهم فيك .

    - وقال آخر :

    وإني لأدعـو الـلـهَ والأمـرُ ضيّقٌ * عـَلـَيّ فـمـا يـنـْفـَكّ أن يـتـَفـرّجا
    ورُبّ فـَتىً سُـدّتْ عليـه وجـوهُـهُ * أصابَ له في دعوة الله مخرَجا


    - قال إبراهيم بن أدهم لأصحابه حين عرض لهم سَبُعٌ : قولوا :
    اللهم احرُسنا بعينك التي لا تنام ، واجعلنا في كَنَفِك الذي لا يُرام ، وارحمنا بقدرتك علينا ، لا نَهلك وأنت رجاؤنا .
    قال خلف : فما زلت أكرّرُها مذ سمعتها ، فما عرض لي قَـَطّ لص ولا غيرُه.

    - قال أعرابيّ :
    مَنْ أقام بارضنا فليُكثِر من الاستغفار ، فإنّ مع الاستغفار القـُطار ( السحاب العظيم القطر ) .

    - وكان أعرابي يدعو :
    اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا فنعجِز ، ولا إلى الناس فنضيع ، اللهم اجعل خير عملي ما قاربَ أجلي .

    - ومسك الختام دعوة سيّد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم :
    اللهم اجعلني لك شَكـّاراً ، لك ذكّاراً ، لك رهّاباً ، لك مطيعاً ، إليك مُخبتاً ، لك أوّاهاً منيباً ، ربّ تقبّل توبتي ، وغسل حَوبتي ، وأجب دعوتي ، وثبّتْ حُجّتي ، واهدِ قلبي ، وسدّدْ لساني
    .


  17. #37
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/ليلة القدر

    سلسلة رمضانيات

    ليلة القدر

    الدكتور عثمان قدري مكانسي




    - القَدَر والقَدْر - بالفتح والسكون - : القضاء والحُكم ، وهو ما يقدّره الله تعالى من القضاء ، ويحكم به من الأمور . قال الله عز وجلّ : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } أي الحُكم ، وقد قال الله تعالى في سورة الدخان: { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) }

    - وليلة القدر ليلة عظيمة فيها نزل القرآن الكريم { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } فهي فخر الليالي حين اختارها المولى الجليل زمناً لنزول خير كتبه – القرآن الكريم – فما أكرمها من ليلة .

    - وهذه الليلة المباركة خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، فهي على هذا تعدل في الفضل ما ينوف على ثلاثة وثمانين عاماً ، ولأن أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم قصيرة بالمقارنة بأعمار الأمم قبلها ، فإن ليلة القدر نبع ثرّ لمن وافاها بعبادة وصلاة وقيام ، وكأن عمره زاد زمناً وعملاً ، فسد النقص ، وفاض خيراً وبركة . هذا في سنة واحدة ، فما بالك إن وافاها المسلم كل عام يجد فيها ويجتهد؟! إنه لعُمُر طويل مبارك خيّر للمسلم إن شاء الله تعالى .

    - قال تعالى في فضلها : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)}(الدخان) ففيها تُقسّم الأرزاق ، وتُقدّر الأعمار . فلنسأل الله تعالى أن يرزقنا الرزق الحلال الطيب المبارك ، وأن يكتب لنا نعيم الدنيا ونعيم الآخرة .

    - وكم من أنسان واكبها هذه السنة وهو ممن قدّر عليه الموت بعدها ، فتجيء السنة القادمة وهو بين أطباق الثرى . فلندْع دعاء سيدنا يوسف عليه السلام : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)}.

    - وليلة القدر ترفع بإذن الله تعالى - قدر صاحبها المتوجه إلى الله يسأله فضله ، ويدعوه أن يحييه مسلماً ، وأن يفيض عليه من خيراته سبحانه . وكيف لا يرتفع قدر من أعتقه الله في هذه الليلة من النار ، وجعله من أهل الجنان التي عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين ؟ نرجو أن نكون أهلاً لذلك ، فإن لم نكن فإننا نتضرع إلى الله أن يعاملنا بما هو أهل له ، فهو أهل التقوى واهل المغفرة .

    يـا لـيلة القدر الجميل بهاؤها * فـيك الرضا الموسوم الخيرات
    خير من الألف الشهور،تنزّل * الروح الـملاكُ بـأعذب الكلمات
    فيها البشائر والسلام يخصنا * المـلك الـكريم إلى الصباح الآتي
    فـي عشره الأولى مكارم رحمة * يـتلوه غـفران مـع الحسنات
    ثـم الـمتاب ، به انعتاق iiرقابنا * مـن لـفح نـار لاهب الجمَرات
    بـرضا الإلـه إلى الجنان مآلنا * يـا سعدَ من يسعى إلى الجنات
    يـا رب فـاقبل من عبادك حبهم * وارفـق بـهم بالعفو والرحَمات
    واجـعل قبورهم إذا أتوك منازلاً * فـتحت نـوافذها إلى الروضات
    في الحشر أبعِدْ عنهمُ لفح اللظى * فـي ظـل عرشك بارد iلنسمات
    وعلى الصراط أجزهمُ في لمحة * البرق المضيء وواسع الخطوات
    أنـت الـمؤمل ياعظيم فهب لنا * دار الـنعيم ومـوئل الـسادات

    - اللهم هذه ليلتك المباركة أهلّتْ علينا ، فاقبلنا فيها ، واعتق رقابنا من النار ، واجعلنا في عبادك الصالحين ..... يا رب العالمين .


  18. #38
    عـضــو الصورة الرمزية نبيل الجلبي
    تاريخ التسجيل
    28/01/2009
    المشاركات
    5,272
    معدل تقييم المستوى
    0

    افتراضي سلسلة رمضانيات/د. عثمان قدري مكانسي/المعاتبة الإخوانية

    سلسلة رمضانيات

    المعاتبة الإخوانية

    الدكتور عثمان قدري مكانسي



    - قد يخطئ الصديق مع صديقه ، فهل يصرمه وينساه أو يعفو عنه ويصفح ويوجد له الاعذار أو يستعتبه فيعذر إليه تصرفه معه بعد ذلك ؟

    - يقول أبو الدرداء رضي الله عنه : " معاتبة الأخ خير من فقده ، ومَنْ لك بأخيك كله؟ "
    ولن تجد أخاً كامل السمات وافي الأوصاف ، والصبر على الصديق مدعاة للاحتفاظ به .

    - وقال أوس بن حارثة لولده ينصحه : العتاب قبل العقاب ( لا بد من التثبت من حقيقة الصديق وتصرّفاته قبل اتخاذ الموقف المناسب )

    - وكتب رجل إلى صديقه : الحال بيننا تحتمل الدالّة ، وتوجب الأنس والثقة ، وتبسط اللسان بالاستزادة . (ولم يكن هذا القول من فراغ إنما من شعور بالودّ يكتنف الرجلين) .

    - وقال إياس بن معاوية : خرجت في سفر ومعي رجل من الأعراب ، فلما كان ببعض المناهل لقيه ابن عم له ، فتعانقا وتعاتبا ، وإلى جانبهما شيخ كبير من الحي . فقال لهما الشيخ : - يحذّرهما من العتاب ويأمرهما بنسيانه – أنعِما عيشاً ، إن المعاتبة تبعث التجنّي ، والتجنّي يبعث المخاصمة ، والمخاصمة تبعث العداوة ، ولا خير في شيئ ثمرتُه العداوة .
    فقلت للشيخ : من أنت؟ قال : أنا بن تجربة الدهر ومَن بَلا تـَلـَوُّنـَه .
    قلت للشيخ : ما أفادك الدهر ؟ قال : العلمُ به .
    قلتُ له : فماذا رأيتَ أحمدَ ؟ قال : أن يُبقيَ المرءُ أُحدوثـَةً بعده .
    قلت: فلم أبرح ذلك الماء ( المكانَ) حتى هلك الشيخ وصلّيتُ عليه .

    - وكتب رجل إلى صديقه يعاتبه : ما أشكوك إلا إليك ، ولا أستبطئك إلا لك ، ولا أستزيدك إلا بك ، فأنا منتظر واحدة من اثنتين : عُتبى تكون منك ، أو عُقبى الغِنى عنك . . (وبهذا لم يظلمه إنما وضع نقاط صحبتهما على المحك ، فإما دوامها وإما الاستغناء عنها ).

    - وفي هذا المعنى قال ابن أبي فنن :
    إذا كنتَ تغضب من غير ذنْبٍ * وتعتِب من غير جُرم عليــّا
    طلبت رضاك ، فإن عزّني * عَدَدْتُك ميْتـاً وإن كنتَ حيـّاً
    قنِعـْتُ وإن كنـْتُ ذا حـاجـة * فأصبحتُ من أكثر الناس شيـّاً
    فـلا تَعْجَـبَـنّ بمـا في يديـْك * فـأكثـر منـه الـذي في يديـّا
    ( إن استعلى عليك من ظننتَه صاحباً ، فأهمله وكأنه لم يكن موجوداً أصلاً) .
    وهذا آخر يبسط المعنى نفسه بأسلوب أشدّ مضاء من السابق :
    " قد حميتُ جانب الأمل فيك ، وقطعتُ الرجاء لك ، وقد أسلمني اليأس منك إلى العزاء عنك ن فإن نَزَعْتَ من الآن ، فصفحٌ لا تثريب فيه ، وإن تماديتَ فهجرٌ لا وصل بعده .
    (ولعلّي لست من هذين الرجلين فلقد رأيتُني أنسى أعزّ من ظننتُه صديقاً حين تناساني ، ولم أعاتبه ، فلا يستحق ذلك العتاب ).

    - وعاتب رجل صديقاً له عامله بغير ما يجب من الحب والودّ فقال:
    عَدَلْتَ من الرحاب إلى المضيقِ * وزرتَ البيتَ من غير الطريقِ
    تجـود بفضـل عدلـِك للأقـاصي * وتمنعُـه من الخِـلّ الشـــفـيــقِ
    لقـد أطـْلَقـْتَ لـي تُهَمـاً أراهـا * ستحملني على مضض العقوقِ

    - ويؤكد هذا قول الشاعر في المعنى ذاته :
    ولا خير في قُربى لغيرك نفعُها * ولا في صديق لا تزال تعاتبه
    (ولماذا يُسمّى صديقاً من يبيعك ويتناساك وربما يفضل غيرك عليك أو يتعمد بعد الصداقة
    تفاديك ؟.)
    - وتقول العرب لمن عوتب فلم يُعتِب ْ ( استُرضي فلم يرضَ ) .. تقول : " لك العُتبى بأن لا رضيتَ ( وهذا على وجه الدعاء بان لا رضيت أبداً ) .

    - وعاتب رجلٌ أخاً له تبيّن له بعد التجربة أنه لا يستحق الصداقة وأنه أخطأ في اختياره صديقاً له :
    تأنـّينا إفاقتَك من سُكر غفلتِك ، وترقّبنا انتباهك من وَسَن رقدتك ، وصبرنا على تجَرّع الغلظ
    فيك حتى بان لنا اليأس من خيرك ، وكشف لنا الصبر عن وجه الغَلَط فيك ، فها نحن قد
    عرفناك حقّ معرفتك ، في تعدّيك لطويل حقّ مَن غَلِط في اختيارك .



+ الرد على الموضوع
صفحة 2 من 2 الأولىالأولى 1 2

الأعضاء الذين شاهدوا هذا الموضوع : 0

You do not have permission to view the list of names.

لا يوجد أعضاء لوضعهم في القائمة في هذا الوقت.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •