"نقش في الحرف" كتاب الجماعة ولغة الفرد

د.عبد الدايم السلامي.

نشرت جريدة 'العرب العالمية' التي تصدر بلندن قراءة نقدية قام بها الناقد الدكتور التونسي عبد الدايم السلامي للمجموعة القصصية "نقش في الحرف" لكتاب مدينة برشيد ( صراض عبد الغني / كمال دليل الصقلي / مصطفى طالبي / محمد أكراد وابراهيم ابويه ) وإليكم ما جاء في الدراسة :
نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
نقش في الحرف :
كتاب الجماعة ولغة الفرد.

قراءة في المجموعة للدكتور الناقد عبد الدايم السلامي (تونس).

الذي في رأينا أنّ القصة القصيرة جدا تطرح اليوم على المشهد السرديّ العربيّ مجموعةً من الألغاز الكتابيّة نظنّها تحتاج من الفعل النقديّ يقظة فكرية ليسبر أغوار بنياتِها الفنية والدلالية ويقف منها موقفًا واضحا إما بوسمِها ميسمَ الجنسِ النثريِّ أو بإلحاقِها بأجناس كتابية أخرى.
وما نذهب إليه في هذا الشأن هو أنّ القصة القصيرة جدا جسدُ كتابيٌّ بما يزال بَضًّا يعيش صراعًا، دون غلبةٍ،بين تاريخيْن: تاريخِ الشعر وتاريخا لنثر، وهو صراعٌ يجد له مسوِّغاتِه الأسلوبيةَ والحضاريّةَ في واقع إبداعيّ عربي حديث تماهت فيه مشاغل الكُتّاب وتقاربت فيه ملامح المكتوب بفعل التناصِّ الحضاريّ الراهن فصار لزامًا على المبدع فيه البحثُ له عن تمايز يمنع نتاجاته الذوبانَ في مهرجان نصوصٍ عالمية غزيرة. وفي هذا الإطار، ننزّل ظهورَ القصة القصيرة جدا وتوقَ كتّابها إلى تأصيلِها جنسًا في الكتابة جديدًا خاصّة بعد كلّ ما كان من أمر الشعر والرواية العربيين في علاقتهما بالتجريب.
حيث شهدنا طغيانَ موجة التجريب في الشعر الحديث وما أفرزت من نتاجاتٍ تحتكم مرّة إلى مقاييس الخليل وتتمرّد عنها مرّات أخرى صانعة لنفسها موسيقاها وإيقاعاتها، كما وقفنا على أنّ الرواية العربية الحداثية فتحت أزرارَ إهاباتِها التقليدية لرياح المفاهيم السردية الغربية وخاصة مقولات نظِّري الرواية الفرنسيّة الجديدة، فأبدع أصحابُها نصوصًا متميّزة تأخذ من الخبر العربيّ حبكته ومن الفنون المسرحيّة والسينمائيّة والتشكيليّة أنماط تجلّيها. وعليه، يجوز القول بأنّ الكتابة الراهنة تنهض على سعيِ المبدع إلى التنويع في أدواته الكتابيّة بما يتساوق وروح العصر ونقل تجربته فيها إلى الآخر ضمن محامل فنيّة جديدة تزيد من وهج المحمول القضويِّ وترغِّبُ فيه متلقّيه عبر تقنيتَيْ الاختزال والتكثيف اللَّتيْن ينهض علهما بناء القصة القصيرة جدا. ولكنّ الخشيةَ، كلَّ الخشية، أن يبالغ كتّاب هذه القصة القصيرة جدّا في مسألتَيْ التكثيف والاختزال حتى تصير القصة عندهم عبارة عن جملةٍ تامّةٍ أو بعضِ جملةٍ يُترَكُ أمرُ إتمامِها إلى القارئِ. لأنّنا نرى السردَ عامّة، وخاصة منه سرد القصة القصيرة جدا، مطالبٌ بتقديم مادّة لغويّةٍ للقارئ فيها بعض لحمِ الحكيِ وبعضُ شحم المحكيّاتِ وإلاّ تحوّلت القصة القصيرة جدا إلى رياضة كتابيّة بسيطة ولاهية يستطيعُ أيٌّ كان ممارستها دون خوفٍ ولا محاذيرَ.
« نقش في الحرف » مجموعةُ نصوص في القصة القصيرة جدا صادرة عن دار التنوخي للنشر في طبعة أولى للعامِ 2010 ، وهي نصوص كتبها خمسةُ من كتّاب قصّة قصيرة جدا وضمّوها في باكورة نثريّة في شكل مُعَشّراتٍ سرديّةٍ( عشر قصص لكل واحد منهم) وهم على التوالي عبد الغني صراض، محمد أكراد الورايني، مصطفى طالبي، كمال دليل الصقلي وإبراهيم أبويهَ. والذي نراه في هذا النشر الجمعيِّ هو رَغبةٌ من هؤلاء الكُتّابِ في تواجُدٍ مشروطٍ بوحدةِ المتِن من جهةٍ وحُرٍّ في الصوتِ بتنوّع النصوصِ من جهة ثانية. ورغم ما تثير هذه المسألة من إشكالاتٍ مناصيّةٍ، فإنّنا سنتركُ الخوضَ فيها إلى مناسباتٍ كتابيّةٍ أخرى لننظر في رحلةِ معنى هذه المجموعة القصصيّة من عنوانها إلى فضاءِ الحكيِ فيها. ولن ندّعي في هذا الشأن قدرةً منّا على فكِّ كلّ شيفرات النصوص، بل سنكتفي بتقديم فرضية قد تكون هادية في بناء دَلالاتِها تقول إن للعنوان في القصة القصيرة جدا دورًا في بناء دَلالات المسرود بحكمِ ما ينهض عليه من اختزال في اللفظ وترميز في العبارة. وسننطلق في ذلك بالقول إنّ للعنوان ثلاثةَ أحوالٍ يكون عليها: الأولى حالٌ يكون فيها تلخيصًا شاملاً وبريئًا لما يوجد داخل النصِّ، والثانية يكون فيها رامِزًا من جهة كونه يطرح لُغْزًا ويدفع المتلقّي إلى البحث له عن إجابة داخل المتن، وفي ثالث حالاتِه يردُ نصًّا له بنيتُه الإخبارية والفنية التي ينمازُ بها عن نصوص المتنِ حتى لكأنّه نصٌّ مكتوبٌ على الغلافِ. وفي جميع حالاته، يظلّ العنوان قناةَ عبورِ المتلقّي إلى أرضِ النصِّ، بل هو هُويّةُ النصِّ بامتيازٍ. وَرَدَ عنوانُ هذه المجموعة القصصيّة جملةً اسمية تامّة لها مبتدأ (نقشٌ) اكتفى بخبرِه (في« في » الحَرْفِ). ويبدو أنّ لحَرْفِ الجرّ في هذا الخبرِ وظيفةً تمييزيّةً: إذْ فيه لا يطالُ باقي « النقش » تنبيه على أنّ« الحَرْف » الأشياء بل ينصبُّ فقط على مُعرَّفًا في شيءٍ من التمييزِ الدَّلالي، لا بل ويصيب منه القلبَ. ولعلّ إصرارًا منّا على معرفةِ طبيعةِ هذا الانصبابِ يُوقفنا على الملاحظتَيْن التاليتَيْن:
1- النقشُ، في اللغة، يعني الحدثَ الذي به تتحوّل حالُ الشيءِ من وضعٍ أوّلَ مألوف إلى آخرَ ثانٍ جديدٍ تحوُّلاً يبدأ من اللاَّتعيين والسلبية إلى الوَسْمِ والإيجابية. فقد جاء في لسان العرب والنقشُ: الأثرُ في الأرض. » قال أبو الهيثم: كتبتُ عن أعرابيٍّ يذهبُ الرمادُ حتى ما نرى له نقشًا، أي أثرًا في الأرض. والمنقوش من البُسْرِ الذي يُطْعنُ فيه بالشوك ليَنْضجَ ويَرْطُبَ. أبو عمرو: إذا ضرب العذق بشوكة فأرطب فذلك المنقوش والفعل منه النقشُ ويقال نقشَ العذقَ على ما لم يُسمَّ فاعله. « إذا ظهر منه نَكْتٌ من الإرطاب فالنقش من هذه الجهة، فعلٌ في شيءٍ مّا يدفع به إلى النضوج والاكتمال في هيئتِه. وبناءً على هذا، نسأل: أليست الكتابةُ فعلاً في أشياء الكون وساكناتِه يرتقي بها من حضيض الوجود العاديّ إلى معانيها الكبرى؟ ألا تُعدُّ الكتابةُ، عبر فعلها الترميزيِّ، إعادةَ تشكيلٍ لعناصر الكون وإخراجَ دَلالاتها من المسكوت عنه إلى الوعي التخييلي على حدّ ما تنهض عليه قصّة حيث نقرأ:
(على يافطةٍ عريضةٍ ضمَّنَها رقمَ هاتفه كتبَ: « مواطنة للبيع » مرَّ يوم... شهرٌ ... دهرٌ...
عاد إلى اليافطة فوجد أرقامَ هواتف أخرى) .
ثمّ ما جدوى الكتابة إذا لم تُسائل سكينةَ المتلقّي أسئلةً مُحيِّرة تُحفّزهاعلى النظر في ما في خزينها منتصوّرات هادئة عن الواقع وإعادة النظرفيها بُغية تشكيلها وفق إهابات جديدةمن منظورات فنية جمالية واجتماعية؟أليس الواقع كتلة مبهمةً من المألوفاتتحتاج إلى إعادة تصنيع لتكشف َلالاتِها الخبيئةَ على غرار ما تشي به حيث نقرأ فيها: « إعجاب » قصّة(سرقت لُبَّه منذ ولوجه المكانَ، وقف يرمقُها بنظراتِ الولهان، ثمّ تمتم قائلاً: - مكانُك الأمثلُ غرفةُ نومي... دنامنها أكثر وهو يتحسّس ما بجيْبِه من مال... بعد حينٍ... كان يُثَبِّتها بمسمارٍعلى الجدار) .ولئن كان من النقشِ ما هو إنشاءٌ لموتيفٍ وإعادة نسجه على المنقوشِ في فعلٍ تكراريّ حِرَفيٍّ ماهرٍ وهو ما نُسمّيه فإن القصّة القصيرة ،« تكرار المُتماثل » جدا ،إذْ تنقش فضاءاتِ واقعها، لا تُحاكي الموتيفَ في تكراراته إلاّ من جهة الشكلِ، وتفارقه من جهة المضمون أو ذلك أنّنا نرى في كلّ .« تكرار المختلِفِ » قصة قصيرة جدا مشهديّةً فيها اشتغالٌ على حدثٍ مفرَدٍ تتناوله من زاوية نظر مخصوصةٍ، بحث تنزعُ عنه أقتعتَه وتُعرّي فيه لُبَّه في شكل استعاراتٍ متبصِّرةٍ بدَلالاتِها مثلما نُلفي في قصّة :« الإبريق »
(في الصينيّة... جلس شامخا...متعاليا... قويّ البنية... منتفخ البطن...أصلع الرأس... غليظ القلب... مُقعدافي جلسته... ينتظر اليدَ الخادمةَ، التي تُعينه كيْ يصبَّ جام غضبه... على الكؤوس الملتفّة من حوله) .
2- وإذا كنّا وجدنا في النقشِ فعلاً سرديًّا ينصبّ على فضاءٍ مَّا فيترك فيه أثرًا فنيًّا تخييليًّا، فإنّ الحَرفَ، على ما جاء في عنوان هذه المجموعة القصصيّة، يُفيدُ في بُعده اللغويِّ الأداةَ التي تتوسّط الاسم والفعل ويُفيدُ في بُعْدٍ له اصطلاحيٍّ القراءةَ في منحى من مناحي وظائفِها. حيث جاءَ في لسان وكلُّ كلمة تقرأُ على الوجوه من » العرب القرآن تسمى حَرْفاً، تقول: هذا في حَرْف ابن مسعود أَي في قراءة ابن مسعود. ابن سيده: والحَرْفُ القِراءة التي تقرأُ على أَوجُه، وما جاء في الحديث من قوله، عليه السلام: نزل القرآن على
سبعة أَحْرُف كلُّها شافٍ كافٍ، أَراد وعليه، تكون كلّ قصّة . « بالحرْفِ اللُّغَةَ قصيرة بهذه المجموعة قراءةً لمفردةٍ من مفردات الواقع الذي تعامل معه هؤلاء الكُتّابُ الخمسةُ. بل إنّ كلّ قصّة من هذه القصص القصيرة جدا تطرحُ على المتلقّي مشروع قراءةٍ لما في محيطِه المعيش. فتتخيّر موضوعَها وتقدِّمُ بشأنه تشكيلاً دَلاليًّا جديدًا عبر تكثيف توصيفِه على حدِّ ما نجد في قصّة التي نرى فيها اشتغالاً جميلاً « تدبير » على حركةِ الحكيِ وتوصيفِ المحكيِّينَ وغمزًا من قناةِ العلائقِ الزوجيّةِ وما تستبطن من غباءِ الأزواج أو تغابي بعضِهم حين يكتفون بالأكل وبإعادة الأكل ثمّ بالشكر دون التساؤلِ عن مأتى المأكولِ: (يقصد عملَه باكرا، تاركًا دريهماتٍ لزوجته. حين يعود مساءً، يجدها في آخر شياكتها... وقد حضّرت أصنافًا من الأطباق الشهيّة، والفواكه المتنوّعة... يأكل ويأكل... شاكرا إيّاها على حسن تدبيرها للدُّرَيْهمات) . ويبدو أنّ للقصّة القصيرة جدّا رَغبةً ملحاحةٍ في استغلال طاقات اللغة الإيحائيّة للتغلغل في نسيج الواقع وتوصيف علائقِ الاشياء فيه توصيفًا لا يقف عند الملامح الخارجيّة للموصوف بل ينفذُ إلى أعماقه حيث معناه الأصيلُ وحيثُ تتخفّى كيمياءُ عناصرِه بمُعادلاتِ تكوُّنِها وروائحِها الهامسةِ. فيبدأُ فعلُ النقشِ في اللغة لِتلينَ شكيمةُ بناءاتِها وتتكثّف بُناها التركيبيّةُ، ثمّ يشحنُ اللغةَ بطاقاتِ جَمّةٍ على تفكيكِ الموجوداتِ وإعادةِ صياغةِ لحمِها لتنسج منها فضاءً سرديًّا تحكمُه قراءةٌ مّا يتخيّرُها النَاصُّ مثلما هي للقاص إبراهيم « شتاء آخر » حالُ قصّةِ أبويهَ التي يقول فيها: (الثانية صباحا بتوقيت الشتاء. كرسيٌّ وثيرٌ يستقبلُ جسدًا. موتُ » كتب الحرفَ الأخيرَ من روايته .« كرامة امتصّ سيجارتَه الأخيرةَ. وقف أمام النافذة المطلّةِ على الشارع الكبير يتأمّل قطرات المطر التي تداعب زجاجَ النافذة المغلقة. رأى أربعَ أعيٍن تحت المطر: أمّ وصغيرها ومطر الشتاء... ربّما قد تأثّر... انسلَّ تحتَ الغطاء ودسَّ يديْه في شَعر زوجته التي كانت تحلم بالحياة.). ولا يخفى هنا احتفاءُ الناصِّ بانفتاح نهايات الأشياءِ وعدم اكتمالها، بل قطع صلته معها قبل أن يَيْنع فيها المعنى، لكأنّه يرغبُ في إنهاءِ تسريدِ المشهدِ بجعل عباراته مقتضبةً شبيهةً بالعناوين. لا بل هي عناوين توحي بتفاصيل مشهديّة أخرى أبى الكاتب إلاّ أن يسكتَ عندها ويكتفي في علاقته بها بالإيماء ليتفرّغ لمداعبة شعر زوجتِه في دعةٍ. ولا يمكن للقارئ قبول هذا البَتْرِ إلاّ من جهةِ أنّ الناصَّ يتعمّد توريطه في مغامرة بناء المعنى حيث يُعلن عن انطفاء شعلة القصِّ وخروجه من فاعليّة التسريد إلى مفعولية التأويل. من ذلك مثلاً أنّ الكرسيَّ هو الذي استقبلَ الراوي، وهو الذي كتب الحرف الأخير من روايتِه التي لم يخبر عنها شيئًا عدا ذِكْرِ عنوانها، وهو يرى الشارع الطويل من نافذة مغلقةٍ، ثمّ لم يخبرنا عمّا كان من أمر الأمّ ورضيعها في فجرٍ شتويٍّ باردٍ، ولم يكشف لنا هل تحت « ينسلّ » تأثّر بالمنظر أم لا، ثم نراه الذي « انسلّ » الغطاء لينام. ولعلّ في فعل يُفيدُ الخروجَ وليس الدخول الذي يعنيه الناصُّ في هذه المشهديّةِ، دَلالةً على تنحّيه من فضاء النصِّ ودخوله فضاء العتمةِ تاركًا للمتلقّي إمكاناتٍ كبيرةً في إنارة المشهد بزيتِ قراءته الخاصّة. إنّ ما ذكرنا من أمر تعالقِ عنوان هذه المجموعة القصصيّة الجماعيّة بمتنها القصصيِّ إنّما هو محاولةٌ منّا لفكّ مستغلقاتِها التناصيّة والوقوف فيها على بعضِ معاني نصوصِها وهي تتشكّل جماعيًّا تشكيلاً لا يقتل فيها أصواتَ كتّابِها الخاصّةَ.



الهوامش:
1 - ابن منظور: لسان العرب، تحقيق عبد الله علي الكبير ومحمد أحمد حسب الله وهاشم محمد الشاذلي، دار المعارف، .4523- القاهرة 1981 ، ص ص 4522
2 - عبد الغني صراض، ص 15 .
3 - محمد أكراد الورايني، ص 27
4 - مصطفى طالبي: المجموعة، ص 38
5 - ابن منظور: لسان العرب، م. ن، ص.838 ص - 837
6 - كمال دليل الصقلي، ص 51
7 - نقترح لفظة للإحالة على « الناصّ »السارد وصاحب النص في آنٍ.
8 - إبراهيم أبويه، المجموعة، ص 70« نقش في الحرف »