نور جيهان: نور الدنيا



تولى (أكبر) عرش الهند بعد موت أبيه (همايون)، وكان يومها شاباً صهرته التجارب القاسية التي مرت بأبيه، فكرِه في صميم نفسه أن يتعرض لها أو أن يعرّض بلاده العزيزة لهزة من هزات الشقاق والإنقسام، وأسرع يعمل جاداً مخلصاً من اليوم الأول لتوليه العرش معتمداً على المخلصين الأمناء من رجال أبيه الذين كانوا عونه في توطيد دعائم الأمن والقضاء على الفتن والدسائس وإتمام توحيد الهند تحت راية إمبراطورها الجديد.

كان الإمبراطور (أكبر) شاباً جريئاً ووطنياً مخلصا وراعياً أميناً ، أحسّ بثقل التبعات التي ألقيت عليه، فحملها بقوة شاب مغامر، وقلب حكيم مدبّر وروح مصلح يقدّر ماهية التبعات، ويتعرض لمعالجتها في صبر وأناة وحكمة وبعد نظر، دون تحيّز أو تحزب.

الأمبراطور (أكبر) وسماحته الدينية
لم يهتم الإمبراطور الشاب بانتصاراته العسكرية على معارضيه والخارجين على سلطانه، قدر اهتمامه بتحقيق انتصارات معنوية كان يرجوها ويعمد إلى إقرارها، بإزالة الفوارق الطبقية، والقضاء على الدعوة المذهبية بدعم التسامح واتباع ما أمر به الإسلام من توحيد.

كان (أكبر) مسلماً سمحاً، فهم روح دينه الذي اعتبر أصحاب الديانات الأخرى "أهل ذمة" توجب دواعي الرغبة في الاستقرار والأمن التسوية بينهم وبين المسلمين في كل الحقوق – ليشترك الجميع دون تفرقة في بناء صرح أمة هم أبناؤها وهم المسؤولون عن مستقبلها الذي يعدّونه للأجيال القادمة الواجب أن تسير على نفس الطريق.

وعلى دعامة التسوية الدينية، وإزالة الفوارق المذهبية، وإشراك الهندوس مع المسلمين في الحكم وإدارة دفة السياسة في الهند، قام حكم (أكبر) فاستقر وعظم، وتسامعت به الدنيا، ونقل عنه الرواة عبر المحيطات، أجمل الأنباء.

وهكذا أصبحت الهند مجالا للعمل النافع، وصار بلاط الإمبراطور (أكبر) نفسه ميداناً يتبارى فيه المخلصون والأمناء، ويجد فيه كل عامل راغب في الإصلاح فرصته، سواء كان من المسلمين أو من غيرهم، أو من الهند ذاتها أو من غيرها من البلاد المتاخمة مثل فارس وبلاد الأفغان.

أهل فارس تجذبهم الآمال إلى الهند
ولما كانت الفارسية هي لغة البلاط الإمبراطوري الرسمية، فلم يكن من المستغرب أن يجد كثير من أهل فارس فرصتهم في بلاد الهند، وفي بلاط إمبراطورها أكبر بالذات، فشغلوا مناصب خطيرة، وكان منهم وزراء وقادة وحكام مقاطعات.

وكانت الهند بارة كريمة بأبناء فارس فحققت للكثيرين منهم آمالهم، وأعطتهم في سخاء، أكثر مما كانوا ينتظرون مما فتح مجاليّ الآمال والأحلام البراقة أمام كثيرين وكثيرين ممن كانت تقعد بهم آمالهم وهم في بلادهم الأصلية عن الوصول إلى ما كانوا يتوقون إلى تحقيقه من أمنيات غالية وشهرة وثراء.

(ميرزا غياث) وزوجته في قافلة
و ميرزا غياث الذي تصور أن عجلة الأحداث ستقف ذات يوم ببابه، وأن يدق بابه الحظ أكثر من مرة، دقات ترغم التاريخ أن يتحرك من سباته الطويل ليذكر إسم الشاب وأسرته المتواضعة بالإجلال والإكبار، لم يكن أكثر من شاب فارسي طموح ضاقت به وبزوجته الفاتنة (بيبي عزيزان) بلادهما فهاجرا منها سعياً وراء عيش أفضل وحياة مستقرة كانا يحلمان بها ليضعا أساس بيت سعيد مستقر، يتحقق لهما بوجوده الكثير من أحلام الشباب.

استقر الترحال بالزوجين الشابين في بلاد الأفغان، حيث وجد ميرزا غياث فرصته الأولى، فاشتغل بالجندية، وبدا يسير هانئاً راضياً مع ركب الحياة التي لم يلبث أن ضاق بها وتبرّم وقد امتد به البصر إلى آفاق مستقبلٍ رأى أنه لن يصل إليه، وهو في مركزه هذا، فكان أن استمع إلى هاتف المغامرة من جديد، فترك بلاد الأفغان وراءه وسار مع زوجته الشابة إلى الهند بلاد الأحلام الذهبية ذات البريق الخلاب.

عند ممر خيبر: باب الهند
وسارت القافلة التي كانت تضم بين أفرادها ميرزا غياث وزوجته، عبر الطرق الجبلية الوعرة حتى وصلت إلى ممر خيبر فأخذت في اجتيازه وميزان النهار يميل إلى الغروب. كان ذلك في عام 1575م، وكانت ليلة ما عرف النوم خلالها من سبيل إلى عيون من كانوا في القافلة، فالتف الرجال حول مجالس النار يتسامرون، في حين تجمعت النساء في خيام مؤقتة، يحتمين بها من شر الظلام والرياح والعواصف.

وعند خيبر تولد (مهر النساء)
جاء (بيبي عزيزان) المخاض، وأسرعت النساء يساعدنها. وتم الوضع في سلام وهدوء، وخيّمت السكينة من جديد على محلة النساء وقد التففن حول الأم الشابة، ومولودها الجديد. وأنصت ميرزا غياث في دهشة إلى من حمل إليه نبأ مولد طفلته الأولى، وأسرع بترك مجلس النار إلى زوجته الفاتنة، ومال في شغف على الصغيرة البريئة ثم حملها بين يديه في شغف وحنان وراح يتطلع في وجهها وهاتف يدوّي في أعماقه أن بين حظه وبين ميلاد طفلته ما يبشر بأن الدنيا سوف تبتسم له.
اختار ميرزا غياث اسم ابنته وهو يحملها، وناداها باسم (مهر النساء) أي ملكة النساء.

ورنـّت في جوانب الصحراء في تلك اللحظات أصداء ضحكة أرسلها القدر الذي كان يرعى الطفلة الصغيرة، إذ استطاع الأب الطيب، دون قصد منه، أن يقرأ الصفحة الأولى في كتاب حياة الطفلة، فألصق بها صفة الملكات! وقبّل الأب طفلته في جبينها، ثم أعادها إلى الفراش المتواضع الذي أعدّ لها إلى جانب أمها، وعاد ثانية إلى حيث كان ليسمع تهاني القوم ودعواتهم الطيبة له ولأسرته التي زادت شخصاً عزيزاً، وقد تمنوا للمغامر الشاب مَقدم الخير مع مَقدمه السعيد. ومرّت ساعات الليل ورفـّت فراشة الليل بجناحيها تبعد الظلمة وتطاردها، ودبت الحياة في القافلة، ونادى حدّاؤها في القوم ليسرعوا في استئناف المسير.

ودخلت القافلة إلى أرض الهند
بدأ القوم يخرجون من ممر خيبر، وطالعت العيون أرض الهند الخصبة، الهند الغامضة ذات السحر والأسرار، وتجددت في الصدور آمال وآمال، وراحت المرئيات الحلوة تداعب الأخيلة ببريق ولألاء، في الوقت الذي أسلم فيه ميرزا غياث نفسه إلى خاطر غريب!

كان من قبل وحيدا لا يفكر في غير نفسه وزوجته، وكانت الدنيا ملكهما الخاص يتنقلان فيه كيف شاءت إرادتهما. أما اليوم فقد تغير الوضع وصار لهما شريكة، مَقدمها نفسه يجبر على الإستقرار ويدعو إلى نسيان الماضي وانطلاقاته البعيدة عن القيود.

وأحسّ ميرزا غياث لأول مرة في حياته بوقر المسؤوليات الجديدة التي تخيلها ملقاة على عاتقه، وأشفق مقدماً لا على نفسه أو زوجته الحبيبة، بل على الصغيرة البريئة (مهر النساء) ووجد نفسه يرفع رأسه إلى السماء يسأل الله الرعاية للطفلة وهو يردد قول الحق سبحانه: "نحن نرزقهم وإياكم".

استسلم الأب إلى نوبة صفاء ذهني، ووقر في نفسه أن القدر قد مهد له طريق رزقه المرتبط بمقدم الصغيرة الغالية، التي كتب الله على نفسه توفير رزقها ورزق آلها معها، وعاد بذاته في سرعة إلى القافلة ومن فيها وقد علا ضجيجهم إذ وصلوا إلى نقطة كان عليهم أن يتفرقوا عندها كل إلى وجهته.

ميرزا غياث في القصر الإمبراطوري
وطرق ميرزا غياث أبواب العمل، وضحك الحظ وهو يقوده من يده إلى أبواب القصر المغولي الإمبراطوري ليعمل في خدمة عاهل الهند (أكبر) العظيم.

ويرزق بابنه عُساف
وازدادت ثقة الرجل بحظ صغيرته (مهر النساء) ووجد في القبول وسرعة الترقي، اللذين نالهما في وظائف القصر الإمبراطوري، نفحة من نفحات حظها المرموق، فازداد تعلقه بها وحدبه عليها، ولم يغير من مكانتها الأثيرة عنده يوم رزق بابنه (عُساف) بل زاد بـ (مهر النساء) تعلقاً واعتبرها تميمة نجاحه المبشّرة دائما بوصوله إلى ما كان يتوق إليه من رفعة وثراء.

المغامر الفارسي يصبح مدير القصر
ومرت السنون، وتحققت الأماني التي جاشت ذات يوم بعيد في صدر المغامر الفارسي الشاب، وأصبح اليوم في بلاد الهند، شيئاً مرموقاً، وأسندت إليه وظيفة مدير شؤون قصر الإمبراطور (أكبر)، وأصبحت زوجته (بيبي عزيزان) من أبرز وأظهر سيدات البلاط.

(مهر النساء) في نفحات الربيع
أما الفاتنة (مهر النساء) فكانت تخطو نحو ربيع عمرها، وهبّت عليها نفحات الشباب المبكر، فانتشت بها، وأحست في غمرة غرورها الصبياني أنها أصبحت صبوة الأفئدة وقِبلة الأنظار وملتقى القلوب الحانية التي التفـّت حواليها خفاقة، متبتلة، وكأنها حشود أرواح تطوف بكعبة الأماني الحلوة تستلهمهما الرضا وتسألها العطف والحنان.

وطالع الربيع الفاتنة الصغيرة ذات صباح، فارتدّ في شهقة إعجاب تندت عنه، ثم عاد في شغف المأخوذ يرقبها، وقد فاقته نضارة وحسناً أزرى بجمال وروده وروعة خضرته وجلال أغاريده، فسبّح للحسن في زهو على حصباء حدائق الإمبراطور أكبر.

الإمبراطور (أكبر) يقيم حفلا لولي عهده سليم
وكما أشرق الربيع للفاتنة الشابة، كذلك أشرقت لها شمس الحظ، وتوسطت برج سعادتها السامق، وألقت عليها من ذهبي خيوطها نضارة وجدّة، وتوفيقاً وقبولاً، فقد أقام الإمبراطور أكبر لولي عهده الأمير سليم حفلا عظيما في الحدائق الإمبراطورية الفخمة بمناسبة عيد الربيع، اجتمع فيه وجوه البلاد وساداتها وأجمل الحسان ممن كن يطمعن في التعرف على الأمير. كن كثيرات، وفاتنات عديدات في عمر الزهور، ويحلمن به، ويتمنين أن يبادلهن كلمة، بل كان بعضهن اعتدن التعرض له في طريقه، حتى لقد صار الحسن في عينيه عادياً، وأصبحت الجميلات من كثرة مطاردتهن له أمراً مملا. لكنه، وفي هذا المساء بالذات، وبينما كان يتسلل من بين الجموع العديدة إلى داخل القصر... مرّ في طريقه بنافورة وقفت عندها فتاة كانت آية في الحسن والجمال، فوقف مكانه كالمصعوق، لم تأبه له، ولم تهتم به، وبدت كأنها تعمدت أن تتجاهله، فتملكه الغضب وأراد أن يشعرها بعظم مكانته، فتقدم منها وترك في حراستها حمامتين جميلتين كان يحملهما على يديه، وأمرها أن تحفظهما له وتنتظره حتى يعود بعد ثوان.

قصة الحمامتين
وترك الأمير سليم (مهر النساء) بعد أن أسلمها الحمامتين... وأفلتت من يد (مهر النساء) إحدى الحمامتين وحلقت طائرة سعيدة بحريتها. وفي الوقت الذي راحت فيه الشابة الصغيرة ترقبها في فرح وسعادة أثارا ولي العهد الذي عاد لتوه فوجدها، وفي يدها حمامة واحدة، فثار وغضب وراح يعنفها لأنها أهملت حراسة حمامتيه. ثم سألها في كبرياء: "كيف أفلتت منك الحمامة الأولى؟"
ونظرت (مهر النساء) إلى محدّثها الشاب نظرة هادئة أربكته وهزته من أعماقه، وفي نبرة هادئة لا كلفة فيها، قالت وهي تطلق الحماية الثانية في الفضاء لتلحق بأختها: "إنها طارت مثل هذه!"
ثم أرسلت ضحكة هانئة كانت الجواب الصامت الساخر على ولي العهد!

وجد الأمير سليم أن مراجل غضبه قد تلاشت مع أصداء الضحكة الهانئة، وراح في شغف ذاهل يرقب الفتاة، وهو يسائل نفسه: من تكون هذه الفتاة الجريئة التي لا تعرفه، ولماذا لا تحاول التقرب منه أو التودد إليه؟!

وخلال لحظة خاطفة، والأمير يشبع عينيه من نبع الفتنة المشبوب، أفلتت الظبية وسارت سريعة في أبهاء الحدائق دون أن يدور بخلدها أن صورتها الساحرة قد انطبعت في فؤاد الأمير وتملكت مشاعره، حتى لقد نسي وجهة مسيره وما انتواه حيال أعياد الربيع، وأسرع إلى بعض خاصته ليعرف من تكون هذه الجميلة التي ما رأت عيناه مثلها قبل اليوم!

همسات في القصر الإمبراطوري
وتردّد في القصر الإمبراطوري همسات عن مشاعر الأمير وشغفه بابنة (ميرزا غياث) مدير شؤون قصر أبيه الإمبراطور، وقيل أن الأمير الشغوف بالفاتنة الشابة يتمنى من كل قلبه لو يخطبها لنفسه.

ولقد سعد (ميرزا غياث) بما سمع، وكادت زوجته بيبي عزيزان تطير من شدة الفرح، ووجدت في غرام ولي العهد بابنتها ما يحقق لها ولزوجها مطامع أبعد مدىً مما كانا يتصوران. لكن الإمبراطور كان قد أعد لولي عهده زيجة أخرى وجد فيها صالح عرشه وتحقيق سياسته التي كانت تهدف إلى الجمع بشتى الروابط بين المسلمين والهندوس، وأصر على أن يسير ولده على غراره ويتزوج من هندوسية، كما تزوج هو من قبل.

الأمير سليم يغرم بمهر النساء وهي تغرم بغيره
أما الساحرة الشرود (مهر النساء) فقد كانت لاهية عن حب سيدها الأمير بحب آخر... حب عنيف شغلها عن دنيا الناس وزخرفها وأمرائها وملأ كل قلبها الذي تحول بشتى عواطفه إلى فارس أحلامها.. وهو ضابط أفغاني شاب كان يعمل في الجيش الهندي إسمه (علي كولي بج)، وكان لقب شهرته (أسد الأفغان)، تعاهدت وإياه على الزواج وأصرّت على سرعة إتمامه بالرغم من نصائح أمها – بمناسبة انتقال خطيبها الشاب مع إحدى فرق الجيش إلى إقليم البنغال.

زُفـّت (مهر النساء) إلى رجلها، وتركت العاصمة وانتقلت معه إلى البنغال ولم يدر بخلدها أن هذا الحادث الشخصي قد ترك ندبة عميقة في قلب ولي العهد الذي أحس بأن الفاتنة الشابة هزمته مرتين وصفعته صفعتين قاسيتين.

وكان أن خطب الإمبراطور المغولي أكبر لولي عهده شابة لا يجمعه بها حب، ولا تربطه إليها عاطفة، ولكنها زيجة تدعم صلات الود التي كان الإمبراطور أكبر يربط بها بين طوائف الشعب الهندي.

سليم يتولى الملك باسم جيهانكير بعد موت أبيه
ودار الفلك دورته، ولم يكد يحل عام 1605 حتى مات الإمبراطور أكبر وتولى ولي عهده عرش الإمبراطورية المغولية بعد أبيه (أكبر) العظيم باسم (جيهانكير) أي (سيد الدنيا)، فكان على عهد الناس به مرحاً عطوفاً، فيه رقة وفيه صرامة كان مبعثها مركزه الخطير.

ودانت الدنيا للسيد الجديد، وأتته البلاد طائعة، وانحنت له الرقاب والرؤوس، وأنجبت له زوجته الهندوسية ثلاثة بنين هم: خسرو وخـُرَّم وشهريار.

جيهانكير يذكر حبه الأول
وإذا به في غمرة الأحداث يذكر ساحرة شابة قد اعترضت طريقه ذات مساء فلم تأبه له ولم تهتم به كغيرها من الجميلات، وسخرت منه وعصته جهاراً... ثم لما أحبّها لم تقم لحبه وزناً وانصرفت عنه إلى ضابط يعمل في خدمته.

وازداد رنين الماضي في خيال جيهانكير حتى سد مسامعه، ولم يعد يرى غير (مهر النساء)، وما عاد يرجو من بين نساء العالم غيرها.

كان الإمبراطور الشاب قد تزوج وأنجب وعشق وغامر وأحب وكره، وكانت حياته كلها محظيات وصديقات وجواريَ لا يحصرهن عد، لكن كانت (مهر النساء) تملأ عليه كل تفكيره حتى لقد أصبح أمر تملكها شاغله، وكأنه موقعة رهيبة يتوقف عليها مستقبل امبراطوريته.

الإمبراطور الجديد يدبّر مقتل زوج (مهر النساء)
وجاءت الرسل إلى علي كولي بج ففاوضته في أمر طلاق زوجته الأثيرة التي أنجب منها ثلاث بنات – لقاء مبلغ عظيم من المال، فثار الزوج ووجد في عرضهم مهانة بالغة له ولكرامته، ولم يأبه لمقام من كانوا يفاوضونه وفيهم حاكم البنغال ذاته، فتهجم عليه وتماسك وإياه، وأقدم على شهر سيفه في وجهه، حتى لقد أصاب به الحاكم إصابة خطرة علم بها جيهانكير، فزاد تعلقه بـ (مهر النساء) وتضاعفت كراهيته لزوجها العنيد، ولم يجد رجاله في البنغال إلا العمل على اغتياله؛ فالقتل هو الوسيلة الفعالة للوصول إلى (مهر النساء) شاغلة فؤاد الإمبراطور وحاكمة قلبه. وسرعان ما دبرت لاغتياله مؤامرة سريعة!

تمت المؤامرة الرخيصة واغتيل (علي كولي بج) الضابط الشجاع... وعلى طريق خضبته دماؤه البريئة حُملت (مهر النساء) إلى قصر جيهانكير لتبقى ضمن حريم الإمبراطور ستة أعوام طوال، عاشتها بين الشك والخوف والرهبة.

(مهر النساء) تزف إلى الإمبراطور
أخيراً شاء لها القدر أن ترقى في ركاب الحظ السعيد إلى أبعد ما كانت تأمل يوم أرسل إليها الإمبراطور يستدعيها من الحريم ليرفع مكانتها إلى درجة الزوجة الأمبراطورة الأثيرة.

وأقبلت (مهر النساء) في فتنتها الرائعة وجمالها الساحر فسلبت لب الأمبراطور.

وشهد البلاط المغولي الإمبراطوري – في تلك المناسبة – أروع حفل زُفـّت فيه ذات الحسن الساحر إلى رجلها، وكانت أولى هداياه لها الماسة النادرة (كوهي نور) أي جبل النور!

ملاحظة: كنت قد نشرت موضوعاً عن هذه الجوهرة، هنا في واتا، تحت عنوان (أشهر جوهرة في التاريخ) على الرابط التالي لمن يود معرفة المزيد عنها: http://www.wata.cc/forums/showthread.php?t=61663

(مهر النساء) تصبح (نور جيهان) أي نور الدنيا
أسرف جيهانكير في حب عروسه الجميلة، ونسى إلى جانبها ملكه ودنياه، ورفعها إلى مكانة ما تطاولت إليها أحلامها، وقد استبدل باسمها إسماً يتفق ومركزها الجديد، فأطلق عليها إسم (نور جيهان) أي نور الدنيا، وكأنها لم تكن نوراً في عينيه فحسب، فأرادها نوراً للعالم أجمع ومن فيه.
عاد الحظ يضحك من جديد لميرزا غياث، وإذا بالإمبراطور يجعل منه كبيراً لوزرائه ويطلق عليه إسم (اعتماد الدولة).
ولم يشأ الحظ أن يترك (عُساف) شقيق الإمبراطورة نور جيهان حيث هو، وسرعان ما دفعه إلى المقدمة وإذا بالرضاء الإمبراطوري يشمله، فعين رئيساً للتشريفات في قصر زوج أخته، ونال أيضاً لقباً رفيعاً هو (اعتماد خان).

ألإمبراطور يضعف وتقوى الإمبراطورة
ودارت عجلة الحوادث.... ومرت الأيام ودبت في بلاط جيهانكير حياة جديدة من لون غريب، ففشت الرشوة، وتدخل والد الإمبراطورة وأخوها في شؤون الحكم، والإمبراطور متصامم لا يسمع، أعمى لا يرى غير زوجته ولا يسعى إلى إرضاء أحد سواها.

واستبدت بالعاشق المفتون عاطفة حبه الجارف، وأبى عليه هيامه بزوجته الفاتنة إلا أن يرى فيها آية حبه الكبير، ويدلل لها عملياً على مدى افتتانه بها، والإقرار بسلطان هواها عليه، فأعلن أنها شريكته في إمبراطوريته، ليس إسماً بحكم الزواج، بل فعلاً بحكم ما تنازل لها عنه من سلطات خطيرة، وما كادت تتسلم مقاليد الحكم في البلاد حتى أطلقت يدها في كل شيء.

وراحت نور جيهان تتصرف وحدها، وإمبراطورها العاشق يبارك ويوافق، فقرّبت من قرّبت وأبعدت من أبعدت، وصار لها يوم معيّن تجلس فيه للحكم وتلقـّي الشكايات والمطالب، ويوم آخر تجلس فيه في الشرفة ليمر بها وجوه البلاد في عرض كامل يقدمون لها خلاله فروض الطاعة والولاء.

واعتادت نور جيهان في يومي تجليها على الشعب والأعيان والأشراف وقادة الجيش ألا تكتفي بالرد على التحيات بالإبتسامة التقليدية، وقبول الهدايا على النمط الإمبراطوري، بل كانت تعتبر هاتين المناسبتين امتداداً للحكم بصفة عملية، فكانت توجّه وتحدد وتعيّن المهام وتأمر وتنهى وتطالب بتنفيذ ما كانت تراه هي من الأمور الخطيرة.

وبلغ من تغلغل سلطان الإمبراطورة الجريئة في شؤون الحكم أن ضربت العملة بإسمها، ونقشت عليها ألقابها السامية، وأصبح حقا لها بعد هذا كله أن تشارك زوجها سلطاته التشريعية والتنفيذية بصورة عملية، فكانت الفرمانات والأوامر الإمبراطورية لا تصدر ولا تكون لها القوة التنفيذية إلا إذا وقعتها نور جيهان باسمها إلى جانب اسم جيهانكير.

وتفتحت مواهب الإمبراطورة الذكية، واستطاعت أن تلم بشتى شؤون الدولة، وكان لها رأي في كل عمل نافع، وكل مشروع جليل. وكان لا يعترضها صعب إلا تولت تذليله بشتى الطرق، ولا مشكلة إلا حلّتها كما تشتهي وتريد!

واتجهت الأنظار في بلاد الهند جمعاء إلى نور جيهان.. نور الدنيا التي انتشر سناء ضوئها، فعم البقاع وتغلغل في القلوب وصارت لها شعبية فذة ومكان لو ثاب الإمبراطور إلى نفسه لحسدها عليها.

وصارت الإمبراطورة مع الزمن، وأمام مكانتها العظمى ملجأ القاصدين ومجيرة المستجيرين ومطلب أصحاب الحاجات، فلم ترد طالباً ولم تخيب قاصدا، وكانت من الكرم وطول اليد بأن أسهمت بنفوذها ومالها في مشروعات الخير، ومن أخلد أعمالها مسارعتها إلى مساعدة البنات اليتامى والإنفاق على تربيتهن تربية كريمة بعيدة عن ذل الحاجة، ثم تهيئة مستقبلهن تهيئة حسنة ومساعدتهن مادياً بالمال، إذا ما تقدم لإحداهن طالب زواج!

خسرو، ابن الإمبراطور، يثور ويفشل
وبالرغم من أن الإمبراطور قد بارك بكل قلبه هذا التدخل الظاهر من زوجته في شؤون الحكم، إلا أن ابنه الكبير وولي عهده (خسرو) لم يرتح إلى ذلك، ووجد أن صالحه ليس في غير الثورة على امرأة أبيه. وسخِرت الإمبراطورة نور جيهان من الإبن الطائش ولم تأبه بحركته الجريئه، وسارعت في هدوء بالقضاء عليها، وأمرت بإلقاء القبض على خسرو التعس، وأنزلت به أبشع عقاب، إذ أمرت بأن يخاط جفناه فحكمت عليه بالعمى وهو بصير!

ولقد كانت ثورة (خسرو) سبباً جعل نور جيهان تلتفت إلى سد ثغرات تركتها حولها، وكان في سدها التدعيم لمركزها، فأسرعت بالمصاهرة بينها وبين أبناء الإمبراطور من زوجته السابقة، فزوّجت (تاج) ابنة أخيها عُساف من (خـُرَّم) الإبن الثاني لزوجها. كما زوجت ابنتها من زوجها الأول من (شهريار) الإبن الثالث لزوجها، والذي كانت ترشحه هي لولاية العهد بعد أبيه.

خـُرَّم، الإبن الثاني للإمبراطور، يثور ويفشل
لم تكد الإمبراطورة تنفض يديها من ثورة ابن زوجها الأول – وقد ظنت أنها تملكت زمام الأمور – حتى قام أخوه الأصغر (خـُرَّم) الذي عرف فيما بعد باسم (شاه جيهان) بثورة أخرى عليها وعلى أبيه لأنها أرادت أن تفوّت عليه فرصة الحكم، ليكون الحكم لـ (شهريار) زوج ابنتها هي! ولم تأبه نور جيهان لثورته، إذ سرعان ما قضت عليها بجيش قوي أسندت قيادته إلى أخلص قواد زوجها المغامر الشاب (محبات خان) الذي حمل إليها أبناء الأمير الثائر رهينة، واستطاع أن يأخذ الأمير نفسه أسيراً فأمرت بنفيه بعيداً عن دلهي العاصمة بدلا من قتله، وجعلته حاكماً على أقاليم (الديكان) البعيدة.

ثم جاء دور الجيش فثار على الإمبراطورة
ولم يكد الأمر بعد هذه الإنتصارات يستتب للإمبراطورة حتى أحسّت بأنها بدأت تواجه متاعب جديدة إذ تعالت أصوات الغيورين من رجال الجيش مطالبة بالحد من سلطانها وسلطان أفراد أسرتها الذين كان بيدهم كل شيء في البلاد، لكن نور جيهان سخرت من الأصوات المعارضة وهددت... الأمر الذي جعل (محبات خان) يخرج على طاعتها بإيحاء من زوجة ولي العهد المنفي الأميرة (بارفيس) الهندوسية التي لم تخطئها يد الإمبراطورة فقبضت عليها وحُكم بإعدامها فوراً!

الإمبراطورة تستدعي قائد الجيش فيأتي ومعه 5000 مقاتل
وأصرّت (نور جيهان) على التخلص من الثائر (محبات خان) وأسرّت في نفسها أمراً يقضي بالتخلص منه لتضمن لنفسها راحة واستقراراً. وسرعان ما أرسلت في طلبه لتستجوبه في أمور نسبَتها إليه، وأمرته أن يحضر لتوه ليجيب عنها ويحاول تبرئة نفسه.

وعرف المغامر الشاب أن الإمبراطورة الباطشة قد قلبت ظهر المجن، وثارت حفيظتها عليه، وكبر لديه أن تنتهي حياته على هذه الصورة البسيطة، وكره أن يسلّم نفسه للموت طوعاً، وأحب أن يموت مغامراً كما عاش مغامراً، وأغرته نفسه بمغامرة خطيرة قد ترفعه أعلى عليين، أو تهوي به إلى قاع الجحيم الذي أعدته له نور جيهان.

الإمبراطور والإمبراطورة في قبضة الجيش
أرسلت الإمبراطورة تتعجل مقدمه، فاستجاب لها، لكنه لم يذهب إليها وحده، بل على رأس خمسة آلاف فارس، كلهم يتحدى الموت، وكلهم قد باع نفسه لقائده (محبات خان)، فهاجموا المعسكر الإمبراطوري ليلا وهاجموا القصر، فوقع جيهانكير أسيراً في أيديهم. أما نور جيهان فقد كان سوء حظهم أن أفلتت هاربة عبر النهر حيث جمعت جيشاً لجباً لترد به تحية محبات خان.

خرج الجيش الإمبراطوري وعلى رأسه (نور جيهان) وقد اعتلت ظهر جواد أبيض وخاضت غمار الموقعة وقد وضعت أمامها طفلاً هو أكبر أبنائها ليثير وجوده الحمية في نفوس الرجال.

قاتلت نور جيهان قتال الجبابرة، وتحدت المنون ولكن الحظ الذي طالما مشى في ركابها تخلى عنها هذه المرة، فأصابتها وجيشها هزيمة نكراء، فلم تجد بداً من الإنسحاب لتحاول مرة أخرى أن تجرب دهاءها وقد فشلت في استعمال القوة!

تركت نور جيهان قصرها ساعية إلى معسكر عدوها الظافر تسأله أن يأخذها أسيرة إلى جانب زوجها، ولم يكن (محبات خان) من السذاجة بحيث يصدق عدوته البالغة الذكاء، فأبى أن يسمح لها بما أرادت.

وذهب إلى مولاه الأسير يشرح له الأمر، ويفهمه أنه ما قام بمغامرته هذه إلا ليرد عن نفسه وعن مواطنيه كيد نور جيهان وأنها هي وحدها سبب ما تلاحق على ملكه وإمبراطوريته من اضطراب، ووعده بأن يمنحه حريته كاملة شريطة أن يحاكم زوجته، فقبل الإمبراطور ذلك ووعده به.

خـــــــــــداع
وعاد الجندي إلى (نور جيهان) وقد ظن أنه انتصر عليها بما أوغر قلب زوجها وما زرعه من حقد وبغضاء، فابتسمت ساخرة وتظاهرة بأنها حنت للعاصفة رأسها وما لبثت أن عادت في صورة وهيئة جديدتين.

كانت هذه المرة ذليلة خانعة عليها سمات الأسى والذل وتوسلت إلى عدوها محبات خان أن يسمح لها بتقبيل يد زوجها وسيدها العظيم لتستغفره قبل أن تموت.

أثـّرت كلمات نور جيهان في نفس (محبات خان) فسمح لها بلقاء جيهانكير، ولم تمض ساعات قلائل حتى استردت نور جيهان مكانتها السابقة من قلب زوجها الذي نسي وعده ونسي أمر محاكمتها... وكانت تلك أيضاً نهاية الجندي المغامر محبات خان!

نور جيهان تعود إلى السلطان وإلى العمل لبلادها
هدأت بعد هذه المغامرات أمور الدولة واستردت نور جيهان سلطانها من جديد، فسارت بالبلاد من رقي إلى رقي، وعزلت وولّت وأشرفت على كل صغيرة وكبيرة، واستطاعت أن تفعل المعجزات من أجل بلادها وزوجها، ولكن الشيء الوحيد الذي عجزت أمامه هو منع جيهانكير من الشراب.

ويموت الإمبراطور جيهانكير
كان يريد أن ينسى حادث محبات خان وأسره إياه... كان يريد أن يبعد عن خياله تلك الذكرى المؤلمة فأسرف في الشراب وأخيراً.. وفي حدائق كشمير النضرة الزاهية مات جيهانكير فكان موته أفول نجم نور الدنيا نور جيهان أحب الناس وأقربهم إلى قلبه.

نور جيهان تستدعي خرّم لتولي عرش أبيه
وأرسلت الإمبراطورة التي أفلت شمس أمجادها إلى (خرّم) ولي العهد المنفي وعدوها القديم تستدعيه، ليرقى عرش أبيه مع زوجته الفاتنة (ممتاز محل) ابنة أخيها عُساف، وكانت أجمل جميلات عصرها..

ارتقى خرّم العرش الهندي باسم (شاه جيهان). وكانت زوجته ممتاز محل خير شفيع لعمتها نور جيهان لدى زوجها الإمبراطور الذي كان حبه لها يفوق حب أبيه لنور جيهان، لكن في اتزان وتعقل دون أن تضعف إرادته أو يوليها أمور البلاد.

وقضى لزوج أبيه نور جيهان بدخل سخي يتفق ومكانتها، وحظر عليها أن تقحم نفسها بعد ذلك في أمر من أمور الدولة أو تحاول التدخل فيها. وكان لتأثير زوجته ممتاز محل عليه أكبر الأثر في نسيان الماضي الأليم، وما سببته له زوج أبيه من متاعب وهوان ونفي وتشريد، ونسي الماضي كله من أجل زوجته المحبوبة.

هجرت نور جيهان الحياة العامة، وبقيت في عزلتها عزيزة مكرمة، وإن كانت قد فقدت الجمال والمجد والسلطان. وتركت ذلك كله راضية لابنة أخيها (ممتاز محل) الشابة الفاتنة التي شيد لها زوجها الإمبراطور الشاب (شاه جيهان) أثره الخالد (تاج محل) الضريح العظيم في (أكرا)، تمجيداً لذكراها ووفاء منه لحبها، ولكي لا تغيب صورتها عنه حتى موتها، وليعترف له العالم بأنه وغيره من الأباطرة المغول، كانوا سادة في الحب.. سادة في الوفاء!

وفي عام 1646 ماتت نور جيهان ودفنت إلى جوار زوجها الإمبراطور جيهانكير في المقبرة الفخمة التي شيدها خصيصا لها في مدينة لاهور.

وهكذا تركت نور جيهان في تاريخ الهند أثراً لا يمحى وفي تاريخ المسلمات الخالدات صحائف من الكفاح كتبت بمداد من نور.

والسلام عليكم

المصدر: مجلة العربي – العدد الثالث والأربعون – يونيو 1962
إعداد: محمود عباس مسعود