بسم الله
السلام عليكم



مسألة التّجريب في القصّة القصيرة جداً






لا أقرأ فيما أقرأ لبعض المبدعين الشباب ،إلا وألاحظ نزعتهم الغريبة للتّسابق نحو التّجريب. بل أحياناً كثيرة ،أشعر أنّ الإبداع عند البعض هو ممارسة لعبة التّجريب في مجال القصّة القصيرة جداً. بل أظنهم بعدُ لم يقتنعوا بطريقة ،أو أسلوب خاص .

لا أريد أن ُيفهم من كلامي أنّني ضدّ مبدإ و فلسفة الـتّجريب؛ كأسلوب و نهج و مبتغى . و لكن ضدّ إجهاد المبدع نفسَه في عمل ، قد يكون بعيداً و لم يحن وقته بعد ..لأنّ التّجريبية لا تكون بدون دافع أو حافز بل هي دائماً ، من أجل غاية لها أسبابها و دواعيها ، و أهدافها و مراميها . و قبل هذا وذاك فالعملية برمّتها تأتي نتيجة تجربة سابقة استنفدت طاقة المبدع في اتجاه ما . و هذا ما لم يعه متطفلو الأدب . و بخاصة من عمدوا إلى النشر فاغتروا بذلك .
بمعنى : على المبدع أن يمارس ما يؤمن به ، و ما يحقق أهدافه الفنية. و من خلال الممارسة، ستنكشف العيوب و النقائص ، و تتدخل وجهات النظر المختلفة النقدية، إمّا مباركة أو معارضة .. و ستأتي مراحل مشبعة بأحداث مختلفة، خلافاً للمراحل السّابقة ، و سيقرأ المبدع و ينفتح إدراكه ،و فهمه، على إبداعات شتّى .... فكلّ ذلك يحمله على المراجعة الذاتية . التي تحمله على التماس التّجريب ...
و لهذا حين نجالس كبار القصّاصين، أو الشّعراء، أو الرّوائيين ... يحدثوننا على مراحل تطور الكتابة عندهم . نشعر أنّ بين مرحلة و أخرى ،انصرمت مسافة زمانية لا يستهان بها . وتركت ركاماً إنتاجيا شاهداً على ذلك، و أنّ الانتقال من مرحلة تجريبية إلى أخرى، كانت له أسبابه و دواعيه الموضوعية و الذّاتية . ففي أغلب ما أقرأ من كتابة حداثية، لبعض كتاب القصّة القصيرة جداً العربية ،لا ألمس إلا التنطّع، و الكتابة الغرائبية ، واللّهاث بحثاً عن الجديد من خلال اندفاع تجريبي، يخلو من أي ضبط و اتّزان . ذاك الجديد الذي لا يستند إلى دوافع موضوعية ، بل إلى دوافع ذاتية صرفة هي : ممارسة التّجريب من أجل التّجريب.

و أعتقد أنّ هذا ليس هدفاً نبيلا . كما أنّ التّجديد من أجل التّجديد رأي فاسد . الشيء الذي أسقط نصوصاً في السّديمية المطلقة . لأنّ المبدع لا يراعي قارئه المفترض . بل لا أرى له قارئاً مفترضاً،و لا أظنه ـ هو نفسه ـ يفكر في ذلك .

إذاً يبقى السّؤال المحرج و الأساس : لمن نكتـب ؟

إذا كانت كتابتنا لا تفهم . بمعنى أنّ رسالتنا لا تصل . فهل نكتب لأنفسنا ؟
أم لأجيال ستأتي بعدنا ؟
أعتقد أن ليس هناك من كاتب في الدنيا يؤمن بالكتابة و أهميتها السّوسيوثقافية ، يكتب لنفسه فقط . حتّى ما نسميه باليوميات ، و هي أمور شخصية ، و حميمية أحياناً .... سرعان ما تنشر على الناس ، و لو بعد حين .

الكتابة ـ إذاً ـ عملية إيصال و تواصل . و لكن هناك من لا قدرة له على ذلك . فيعمد إلى سلك الدّروب المظلمة . ليشعر َبدفء الإبداع الكاذب . أمام متلق لا يستطيع فكّ ألغازه و أحاجيه. و لا تأويل طلاسمه و معمياته . و في ذاك إحساس بالاطمئنان الكاذب ، ينتاب الكاتب المنغلق الذات ،إذ يحس بنوع من التّعويض النّفسي لفشله الصّادم .

أذكر أنّني في أحد المواقع التي كنت أشرف عليها . قرأت هذا النّص في منتدى القصة القصيرة جداً:

((الباب مغلق . و قفت أمامه أعدّ نجوم السّماء . البرق فاجأني . الضّوء كان يسري في ذاتي . ُفتح البابُ خرجت امرأة ورجل . دخلت لأرسم صفحة جديدة . لاحظت أنّ البرق كان تلاق لخطوط الكهرباء ، وتنبهت أنّ السّماء كانت صافية، و لكنّني نسيت كلّ شيء حين دخلت .))

حاول أن تفهم ، و إذا فهمت فأفهمني ....
والذي يحدث في الغالب، حين لا تُفهمُ الكتابة . يَسمُ الكاتب المتلقي بقصر الفهم، و ضحالة الثّقافة . و هو مسوغ سهل جاهز، يأتي به بعض الكتاب الذين يملكون حساسية ضد النّقد . . و الصّواب عندي . أنّ الكاتب، إذا تكرّرت الملاحظة نفسها حول إنتاجه ، عليه أن يراجع نفسه، و أدواته و كتابته. و لا يتعنّت تعنّت الغرور و الاغترار ، و يركب رأسه في عناد و إصرار ...
فكم من كاتب ، جنت عليه عملية التّجريب القلقة المتسرعة ،وغير المتأنية . و إنّه ليحزنني أن أقرأ للدكتور زياد حبكة أستاذ الأدب الحديث في كلية الآداب في جامعة حلب قوله في ختام ملتقى القصة القصيرة جداً( القصّة القصيرة جداً مجال مفتوح للكسر والتّجديد فلا داعي للحبكات التقليديّة، أو تحميل القصص الهمّ الفكري)

هذا ما جاءتنا به عملية التّجريب : ( الكسر و التّجديد ) و التّجديد في حكمها هو الكسر و تقويض ما هو كائن، و الدّليل على ذلك قول الأستاذ زياد ( فلا داعي للحبكات التقليدية أو تحميل القصص الهمّ الفكريّ) إذا اتفقنا أنّ الحبكات التّقليدية لم تعد كما كانت في السّابق وأنّ حجم القصّة القصيرة لم يعد يتّسع لذلك .. فكيف نفهم قوله ( ... أو تحميل القصص الهمّ الفكريّ ) أليس هذا إفراغ النّص من محتواه، و جعله هرطقة كلامية لفظية، تعني أيّ شيء و لا تعني شيئاً محدداً ، و لو على أساس التّأويل و الاستنتاج ...؟؟؟

أعتقد أنّ عملية التّجريب ضرورية حين يمضي المبدع ردحاً من الزّمان في مرحلة تجريبية أولى ، فيحسّ أنّ المرحلة الموالية تلحّ عليه، و الظّروف ملائمة ، و أنّ الذائقة اختلفت، و تباينت، و أنّ بقاءه في العتبة الأولى سيجعله يذوب ويغيب و يندثر ...
أمّا وكونه لم يستوعب فنّه و قواعده الأساسية . و لم يع ضرورة التّواصل في العمل الإٌبداعي . و لم يستفد من معطيات المرحلة الأولى، فيميز جميلها من سيئها ... فيبادر، و يشرئب ،و يتطلع إلى التّجريب و التّجديد .... فهو عندي إمّعة يخوض مع الخائضين . لم يستطع أن يكتب عملا فنياً فكتب ( لخبطة) لفظية سمّاها قصّة قصيرة جداً . و شتّان ما بين النّص القصصي ،و الكلام الهذياني ، من قبيل ما يتلفظ به سكير أو محموم ، حتّى لا أقول مجنونا . لأنّه إمّعة خالصة ، كلّما نعق حداثي، تغريبيّ، تخريبيّ .. بخزعبلة في التّجريب و الحداثة القسرية ... استجاب له خاضعاً تابعاً دون أن يراعي قدراته الفنّية، ولا أن يدرس نعيق النّاعق و يستوعبه . و لا أن يتأمّل فاحصاً قارئه الافتراضيّ .

و لهذا ظهرت قصص كثيرة، و مجموعات وفيرة ، ليس فيها إلا : الطّلاسم ، و الكلام المتضارب ، و المتداخل ، و قوة الحذف، و نقط الحذف و البياض، و الإضمار بدون مسوغ فنّيّ، و لا داع موضوعيّ ....فضاعت متعة القص و المفارقة . و حلاوة السّرد و المفاجأة، و دهشة القفلة و الخاتمة ...


د مسلك ميمون