وللعيد صولة
الخميس, 16 سبتمبر 2010 16:26

نزار السامرائي



جان مايجر رئيس وزراء بريطاني خلال عقد التسعينات من القرن الماضي ، لم يأت بجديد حينما قال مرة بأن الشعب العراقي شعب صعب ، فهذه الحقيقة يعرفها العراقيون عن طبيعتهم أكثر مما يعرفها الآخرون ، غير أن دوافع مايجر لم تكن مجرد الإشارة إلى حقيقة اجتماعية ، وإنما كانت محاولة لإعطاء درس استعماري جديد في محاولة إعادة تربية الشعوب بالعصا الاستعمارية ، وخاصة التي خضعت يوما للسيطرة البريطانية وعلمت جيوش الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عن أراضيها دروسا في قدرة الشعوب على انتزاع استقلالها وسيادتها بأساليب تختزل الفجوة بين القوة المادية بين طرفي المعادلة ، ويبدو أن مايجر الذي سلم الملف لكل من بوش وبلير أيقن لاحقا بأن العراقيين لا يلبسون ثيابهم على مقاسات غيرهم مهما كان بريقها ولمعانها ، نعم صعوبة العراقيين واحدة من الحقائق السياسية الاجتماعية الضاربة في أعماق التاريخ ، وليست اكتشافا بريطانيا ، العراقيون هم أنفسهم يعرفون أنهم عصيون على التدجين والتأقلم مع ما لا يخرج عن قناعاتهم ومعتقداتهم ، ولكن هذه الصعوبة تعايش معها العراقيون بعد أن استوطنت فيهم ، فأصبح الفصل بينهما أمر صعبا هو الآخر إن لم يكن مستحيلا ، صعب أن يرضى العراقي إذا سخط ، وإذا رضي فمن الصعوبة أن يتحول إلى السخط ، ولكنه إن سخط وبقناعته فسيكون تيارا جارفا كفيضانات الفرات تدفع أمامها الغث والسمين ، والمفيد وإن كبر حجمه وغلا ثمنه والضار مهما كان نوعه ، العراقيون معروفون بهذه الخصال والطبائع منذ أقدم العصور ، ولهذا أبدع حكامهم الأقدمون التشريعات القانونية لمنع خروجهم على النظام العام أو لقمع ثوراتهم على الظالمين ، وحتى عندما كان العراقيون يعالجون أزمة داخلية فإنهم أعطوا البشرية أول تشريع قانوني عرفته الإنسانية فالتشريعات هي تعبير صادق عن مستوى الوعي في بيئة اجتماعية وربما تأتي في الطليعة منها مسلة حمورابي التي عالجت إهمال العراقي العناية بالنخلة ووضعت العقوبات على يهمل عمتنا العزيزة .

ليس هذا فقط بل أن العراقيين حينما اخترعوا الكتابة ، إنما كانوا يضعون على أنفسهم ضوابط وشواهد تلزمهم بالتنفيذ الدقيق للعقود وذيلوها بتوقيعاتهم بالأختام الأسطوانية ، وبذلك فإنهم أقاموا فنارا للبشرية تهتدي بأنواره في دياجير ليلها الطويل ، ولكن جيوش تاتشر ومايجر وبوش الأب وفيما بعد بوش الابن وبلير ، وإحساسا بالتضاؤل أمام فطنة العراقيين وإبداعهم الأول ، أرادت أن تزيل من ذاكرة الإنسانية العطاءات العبقرية للعراقيين ، واستنادا إلى قراءات تلمودية جاءت بجيوشها من وراء البحار والمحيطات لتفتك بالعقل العراقي أولا وبانجازاته ثانيا ، وكأنها تريد قطع الثدي الذي أرضع الإنسانية أعظم ما تعتز به من إنجازات حضارية في مجالات الفكر والفلسفة والقانون والبناء والزراعة وإقامة النواة الأولى للمجتمعات البشرية .

بسبب هذا تعرض العراق لغزوات الأقوام الهمجية ، بما فيها تلك التي حركت جيوشها بأحدث أجهزة الكومبيوتر ، فهي تبقى همجية بمقياس العراقيين لأنها لم تتعامل بوفاء مع الأرض التي أنبتت شجرة المعرفة الأولى ومارست صنوفا من القتل والتعذيب ستبقى مثار اشمئزاز كل عين تشاهد مخلفات الكاوبوي أو تلاميذهم في أبو غريب والجادرية والنسور ومطار المثنى ، وتم اقتلاع ركائز الدولة الحديثة من جذورها ، وحاول المحتلون زرع كل ما حملوه من بذور الفتنة ولكنها كانت طارئة على أرض العراق ومناخ العراق وأهل العراق فلم تنبت وإذا نبتت فقد كانت مشوهة وضعيفة .

وتداعت خيارات المحتلين تباعا ، القوة اصطدمت بصخرة صلبة وإرادة واعية ، أسقطت من الأمريكان سبعة أضعاف ما أعلنه الأمريكيون من خسائر بالجنود ، وأخرجت المقاومة نصف القوة التي شاركت في الحرب طيلة سبع سنوات ونصف أخرجتهم من الخدمة وألقت بهم على أرصفة العار ، ولم تتمكن أمريكا على جبروتها أن تعض على جراحها ، كما كان العراقيون يفعلون على الدوام ، بل فقدت الولايات المتحدة أعصابها تماما لما لحق بها من إهانة على يد العراقيين ، ربما تتظاهر بالحزن على من سقط من جنودها ، ولكن حزنها الحقيقي على ضياع فرصتها بامتلاك العراق وما في باطن أرضه وما فوقها كان هو الحزن الحقيقي ، لم تتحمل الصدمة فتصرفت بهستيريا ليس فوقها مزيد ، ولكن العراقيين تحملوا آلام جروحهم وابتسموا لها ، لا يريدون شماتة الأعداء وهم كثر ولا حزن الأصدقاء إن وجد منهم أحد ، تعاملوا مع الأيام بتفاعل وإيجابية ، ليس لأنهم لم يكترثوا لما سقط منهم من ضحايا ، فهم يعرفون أن سقوط قطرة دم عراقية هو أعز عليهم من كل القتلى الأمريكان في الحروب الأمريكية العدوانية منذ قيام الولايات المتحدة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وأغلى من كل من خطط للحرب العدوانية على العراق في كل مكان ومن وقف مؤيدا لها أو صامتا تجاهها أو قدم لها المسالك والممرات ، ولكن هذه هي طباع العراقيين .

إرادة الحياة عند العراقيين أمر حيّر الأعداء والأصدقاء على حد سواء ، فمن غيّر الحياة الأولى من يهيميتها إلى صورها المتطورة حتى وصلت إلى ما هي عليه ، لا يمكن أن يصاب باليأس أو يتوقف عن التطلع لغد أجمل وأنظف بقيمه مما تصدره مصانع الموت في أمريكا خاصة والغرب عموما ، ولهذا لا يستغرب المراقب أن يرى العراقيين يدفنون موتاهم بحرقة وألم ، ولكنهم يباشرون الحياة على أسرع ما تكون فيه خطواتهم ، ما حصل خلال السنوات السبع ونصف الماضية كان جديرا بأن يوقف عجلة الحياة لو حصل لأي بلد غير العراق ، ولكنه وعلى ثقل الخسارة يكون دافعا للبحث عن الثغرات التي تسلل منها أعداء العراق وحاسدوه كي يقيم العراق سدودا أخرى لا تمنع فيضان دجلة والفرات بل كل الفيضانات التي قد تلوث طرقهم وغرف نومهم .

لعل للعيد صولة لا تحجبها الأحزان ، واستقبال العراقيين له يدلل على أن السمو فوق الجراح صنعة عراقية ، وأن إرادة الحياة شجرة نبتت إلى جانب شجرة آدم عليه السلام .