مستقبل العرب في تضامنهم و وحدتهم العربية

إن تفضيل وطن عربي صغير على آخر ضرب من الأنانية و دافع للانقسام ، لأنه يتعارض مع "القومية" طالما أن الشعوب العربية تشترك فيما بينها في عدة قيم و مفاهيم إنسانية و منها اللغة و الدين ، الذي يجمع بين هذه الشعوب، فالأمة العربية كالأعضاء في جسد واحد، لا يتحقق هذا الجسد إلا بتلاحم و تفاعل هذه الأعضاء ، و أن استغناء عضو عن آخر ضرب من الاستحالة، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش مثلا بقلب فقط أو بعقل دون وجود أعضاء أخرى تكمله، كما لا يستطيع عضو واحد أن يقوم بكل وظائف الأعضاء الأخرى، إن الالتحام و التكامل و التضامن العربي الإسلامي يجعل الوطن يمتد إلى الأوطان الأخرى، فهذه الأعضاء بمثابة البلدان العربية التي تلتحم فيما بينها لتشكل الجسد و هو الوطن العربي الكبير


إن ما تذكره الرحلات و المخطوطات عن علماء و مشايخ عرب و مسلمين جابوا أقطار الأرض العربية بين المشرق و المغرب و ما جرى بينهم من محادثات يؤكد على وجود أمة واحدة تربطها روابط روحية متينة، و تجمعها قواسم مشتركة قائمة على الدين و اللغة ، و يكفي أن نلقي نظرة على جزء كبير من علماء المغرب العربي الذين تخرجوا من الأزهر، و آخرون من رجال السيف و القلم من أبناء المغرب العربي الذين لبوا نداء إخوانهم في المشرق العربي و كانوا معاقل للعروبة و الإسلام، و منهم الأمير عبد القادر و حفيده الأمير خالد الذي مات بالشام و الشيخ الهلالي المراكشي، و الباروني الطرابلسي و الشيخ الخضر بن الحسين التونسي و غيرهم من الذين رفعوا راية العرب و كانوا يمثلون وحدة المغرب العربي بل الوطن العربي كله، كما يمكن أن نقف على الدور الجلي الذي قام به - العروبيون- في تعريب لسان المغاربة كون جل المناطق من بلاد المغرب العربي تتميز في تركيبتها البشرية بخليط من العرب و الأمازيغ، غير أن العروبيين خلطوا بين مفهوم بربري الذي باللاتينية berbère و استبدلوا كلمة أمازيغي بمصطلح ( بربري barbare ) الذي يعني متوحش و هي لفظة تطلق على الجماعات المتوحشة الغير متحضرة، و من هذا الخلط أعطى العرب صورة سيئة عن الجماعات الأمازيغية ووصفوها بأنها أمة متوحشة لا تقبل التواصل.

من هنا نشأت العداوة و الكراهية بين العرب و الأمازيغ ، و من هنا أيضا نشأ " الانقسام " بين العرب و الأمازيغ رغم علاقات الانصهار بينهم و بين المغرب العربي و بين المشرق العربي، و بقي الأمازيغي ذلك – الآخر- الذي يعيش منعزلا بالرغم من تعريبه مما تطلب دعوة القبائل إلى تشكيل بلاد المغرب الأمازيغي و بناء وحدة أمازيغية بدءًا من سيوه ( مصر) إلى الصحراء الغربية ( ثارقا زقاغت targua zeggwaghet ) و هي تعني بالعربية الساقية الحمراء، و لهذا نجد الصراع اللغوي العربي الأمازيغي قائما إلى اليوم، و قد وجد الاستعمار الغربي ( جماعات الضغط) أو كما تسمى ( اللوبي) ضالته في قطع العرب صلتهم بإخوانهم الأمازيغ الذين دخلوا الإسلام و أصبحوا عرب اللسان و زرع فيهم بذور التفرقة و التشتت لدعم قضاياه خاصة في مجال العلاقات الاقتصادية، و لم يتمكن اللوبي العربي من مواجهة العداء الثقافي المتراكم بين العرب و المسلمين، و في ظل العبث بالمصير العربي فقد العرب مشروعهم الحضاري بعدما ظهرت مجموعة من التيارات و التيار السلفي والتيار التنويري دون أن يتمكنوا من سد الفجوة الحضارية بينهم.

إن مصطلح العرب حسب المختصين تعني هذه الأمة الممتدة من المحيط الهندي شرقا إلى المحيط الأطلنطي غربا و التي تنطق بالعربية وتفكر بها و تتغذى من تاريخها و قد صهرتها القرون حتى أصبحت أمة واحدة، و كان على هذه الأمة أن تحافظ على وحدتها العربية و القومية لو حافظت على روابطها و ساست نفسها ووضعت لنفسها خطة واحدة تسير عليها في علاقاتها مع غيرها من الأمم و تتعاقد و تتحد على تنفيذها، و لكن الخلاف و تغليب المصالح الإقليمية و الحافظ على الحدود، و ما قضية المعونة الأمريكية لمصر لعبور أزمتها الاقتصادية التي حلت بها في منتصف السبعينيات حتى غاية منتصف التسعينيات أي على مدى واحد و عشرين سنة خير مثال على أن تحول مصر كفّتها في يد الكيان الصهيوني، و هو السؤال الذي يمكن أن يطرحه أي متأمل أو ملاحظ و هو هل العمال الاقتصادي ( الجوع و الفقر) مبرر كاف لانقسام العرب و حفاظ كل دولة على حدودها و حمايتها من الخطر دن التفكير في جاراتها تفكيرا نظاميا ؟

ورقة أمريكا في تقسيم العرب

إن الولايات المتحدة الأمريكية حسب الخبراء السياسيين نجحت في بسط هيمنتها على مجمل المنطقة العربية و ليست على مصر فقط التي تعتبر ألقرب إلى المشرق، بحيث نجحت في انقلابها عسكريا على الديمقراطية في الجزائر و صعود الحركة الإسلامية المسلحة و فرض الحصار كذلك على ليبيا جوا، و رغم استقلال دول المغرب العربي فقد حرصت أمريكا على بسط نفوذها كذلك في المغرب العربي و لم تكتف بالنظر إلى المغرب العربي بوصفه مجرد سوق، و مجالا قابلا للاستثمار الثقافي كذلك و على أمد طويل فحسب ، بل قابل للتطويع في القضايا المرتبطة بمصالحها، ذلك بإشراكه في الصرع العربي الإسرائيلي ليس لصالح إخوانهم العرب في فلسطين، بل لبناء الجسور بين السياسة العربية و الفلسطينية و بين الدولة العبرية لإحلال السلام و إنهاء الحرب ضد إسرائيل .

أمريكا نفسها استغلت النزاع المغربي الجزائري حول مسالة الصحراء الغربية و استغلت الأزمة الاقتصادية الموريتانية و هذا حسب المحللون السياسيون بسبب التجاهل العربي و المغاربي لأوضاعهما هذا حسبهم ضرب من الخيانة العربية لمغازلة الولايات و خطب ودها بشتى الطرق حتى لو كان على حساب القضية الفلسطينية من أجل تحقيق مصالحها، يقول الدكتور محي الدين صبحي في إحدى دراساته أن فقدان العرب القدرة على تقرير مصيرهم ليس بالداء الحديث بل يعود إلى آلاف السنين عندما أخرج الخليفة المعتصم العنصر العربي من الجيش العباسي، و شكل بدلا منه جيشا تركيا عام 840 للميلاد، أي بعد قرنين من ظهور الإسلام، و من هنا بدأت الخلافة تعرف التفكك ، و مفهوم " الدولة " يسقط و كذلك المجتمع و من هنا بدأت بذور الحضارة العربية تتوقف عن النمو، و لم ينته القرن الحادي عشر حتى كانت الحضارة العربية حضارة معطلة، بحيث تم القضاء عليها قضاءً نهائيًا بدًْا من سقوط القدس بأيدي الصليبيين في عام 1098م و تعرض الوطن العربي لحصار من طرف الغزو الصليبي من الغرب و بالغزو التتاري المغولي من الشرق، انتهكت فيه الحرمات ، تطلب الأمر إيجاد شخصية - قومية- ذات فكر قومي فاعلة في التاريخ لتعيد وحدة اتحاد المغرب العربي المفقود و من تم ربطها بالمشرق العربي لجمع شمل العرب و ضمهم في وطن عربي واحد تربطهم فيه قيم روحية خلقية مستمدة من تعاليم الإسلام التي تصون هويتهم القومية العربية.


معركة القومية العربية معركة عربية واحدة

لم تكن القومية العربية واضحة في الفكر العربي و الممارسات العربية، نتيجة وجود قوميات غير عربية في بلدان عربية ، و نتيجة وجود أقليات غير مسلمة عربية و غير عربية، و هذا راجع إلى تعدد مفهومها، فقد اتخذ هتلر من الآرية عنوان للقومية الألمانية، و جعل من الشعب الألماني سيد الشعوب الآرية، و زعم أن أوروبا هي سيدة العالم، و أن ألمانيا سيدة أوروبا، مما زاد من انتشار المفهوم و تعقيده و تشابكه، فظهرت القومية الطورانية، التركية و غيرها..، أما القومية العربية في نظر " القومِيـُّون" كمفهوم تهدف إلى نقل الوطن العربي من مرحلة التخلف و التبعية إلى مرحلة دخول العصر و الإسهام في بناء الحضارة العالمية، فهي شعور وجداني برباط معين بين الأفراد الذين تجمعهم خصائص معينة ، و الفكر القومي العربي ظهر مع بداية القرن الثامن عشر بعد ازدهاره في أوروبا في القرن السادس عشر، وظهر له رواد كبار و مدارس عديدة و نظريات، أما جذور القومية العربية فهي ترجع إلى أيام الحضارة العربية الإسلامية و ازدواج الصلة بين العروبة و الإسلام، فكانت نتاج حياة أمة صاغ الإسلام رسالتها الإنسانية الكبرى و أسهم في خلق حضارة أبنائها و إرثهم الثقافي.
و يرى القوميون أن معركة القومية العربية معركة عربية واحدة و تطور الفكر القومي هو حق طالما الأمة العربية تعيش في عالم يخلق كل حين ظروف جديدة بمعطيات جديدة، و هنا تكمن المهمة الأولى للمفكرين و هي البحث عن أسس متينة للإيديولوجية العربية و طابعها التراثي الثقافي و إخراجها من التهتك و اللا تشكل الذي يطبع مرحلتها الراهنة، التي يصفها أصحاب هذا الفكر بمرحلة - اللاعقل - و هي المرحلة التي لم يكن عليها العرب بعد الحرب العالمية الثانية بعد انتسابهم من جامعة الدول العربية و صنعوا ميثاق الدفاع العربي المشترك و حاولوا أن يخلقوا أسواقا اقتصادية عربية و مضوا مع العقل إلى ابعد الحدود و تصدوا لهجمات الغرب بتضامن عربي فعال لنصرة قضيتهم في فلسطين، و عاشوا لحظات انتصار مجيد، غير أن حكام العرب لم يعرفوا كيف يستثمرون هذا النصر لغياب مشروع قومي مستقبلي، و ظنوا أن "التغيير" خطر عليهم فانتصر الغرب عليهم ، خاصة بعد انقسام القوميون أنفسهم و ظهور تيارات، ( ساطح الحصري، قسطنطين رزيق، وحركة البعث السورية و الحركة الناصرية التي يتزعمها جمال عبد الناصر).

فالأول حاول التأكيد على وجود أمة عربية واحدة عن طريق تحليل الوجود العربي و تحديد مقومات القومية العربية الأساسية ( اللغة و التاريخ بوجه خاص)، و الثاني بني فكرته على ضرورة بناء مجتمع عربي حضاري حيث تحكمه العقلانية و يسوده الفكر العلمي و يغذيه الإبداع، و اعتبر أن هذا التحديث الشرط الأساسي لي عمل قومي فعال، و هذا الأخير أي قسطنطين رزيق اختلف مع ساطح الحصري في أن "المعركة القومية في حاجة إلى صوفية قومية في قلوب القادة و في نفوس الشعب لبناء المشروع العربي الحضاري"، أما البعث و هو التيار الثالث ترتكز نظريته على معانة الواقع و النضال لا على عمل فكري إبداعي كما يرى كل من التيار الأول و الثاني يحلل و يدرس من أجل تحرير الجماهير العربية و يحررها من الاستعمار، و هذا النضال بأوجهه الثلاثة في رأي البعثيين ينبغي أن يتم في إطار تحرك شعبي عربي يشمل الأقطار العربية كلها ، و يقف ضد هذا التيار الحركة الناصرية بزعامة جمال عبد الناصر، فقد استطاع جمال عبد الناصر أن يحرك الجماهير العربية كلها و استطاع أن يعبئ الأمّة من أجل مناهضة الاستعمار و من أجل التحرر من التبعية، و بفضل الحركة الناصرية شكلت أول وحدة عربية في العصر الحديث بين مصر و سوريا عام 1958، و كان الفكر الناصري تجربة رائدة هزت الوطن العربي كله.

تسيّس النخبة المثقفة وراء فشل المشروع القومي العربي الحضاري

انتصار الغرب على العرب ساهم بشكل أو بآخر على تراجع دور "المثقف" و النخب المثقفة في المجتمع العربي و المتمثل في بلورة الوعي الاجتماعي الذي يشكل عاملا حاسما في تغيير الجماهير و محاربة "الطائفية" و تقليص تأثيرها في الوعي العربي الجماهيري، لأن الثقافة عنصر هام من عناصر الهوية و القومية ، بحيث لم تتعاط النخبة العربية المثقفة مع الواقع القائم و سارت في اتجاه النخب السياسية التي ترى أن زرع الوعي في أوساط الناس لا يخدم مصالحها ، كما ترى أن تشابك الروابط الطائفية و المذهبية يزيد في خدمتها و لذلك تسعى النخب السياسية ( الحكام العرب) إلى ضرب الروابط الوطنية التي توحد العرب و تجمع شملهم و تشدهم جميعا إلى الوطن العربي الكبير في إطار القومية العربية، هذه الأخيرة كما يبدو لا تتحقق إلا بوجود نخبة تؤمن بالثقافة القومية التي هي محصلة أفكار المجتمع العربي و معارفه و فلسفته و ما يجمعهم من تقاليد و يربطهم من قيم عربية إسلامية و مقدسات، و تأتي اللغة في مقدمة هذه المقدسات و التي من خلالها يمكن بناء نهضة عربية تؤكد حقوق الشعوب و تقرر مصيرها.

و ربما يكون العنوان المذكور أعلاه (القومية العربية بين الفكرة والتطبيق) مقتبس أو شبيه بالعنوان الذي أفرده الدكتور عبد الله عبد الدايم ( القومية العربية بين الدراسة النظرية و العمل المؤمن) في دراسته التي ضمها في كتاب له بعنوان: " القومية العربية و النظام العالمي الجديد" و هي إشكالية طرحها هذا المفكر القومي حول مدى تجسيد الفكر القومي في الواقع العربي لمجابهة كل التحديات و رفع عنه اللبس و تبرئته من التهم بأنه فكر رومانسي و صاحبه لا صلة له بالواقع، و أن أدبيات الفكر القومي قد تُبْقي العرب في مؤخرة الصفوف وتجعلهم يدورون في دائرة الحلم العربي التي تعجزهم عن صناعة التاريخ، و رأت الحركات الإسلامية بقيادة الإخوان المسلمين هذا الشعور الطعم الذي تصطاد به فريستها كونها من الرافضين لفكرة القومية العربية، و لم تأخذ الحركات الإسلامية بعين الاعتبار أن القومية جانب من الوطنية و أن العمل القومي الشرط الأساسي لنهضة الأمة العربية و استقلالها، و الذين يتعلقون بالقومية ينتسبون إلى هذه الأمة، حيث ذهبت العديد من الأقلام العربية و الإسلامية و منهم الكواكبي إلى القول بهذا الرأي ودعت هذه الأقلام إلى الوحدة الوطنية، و هي دعوة تكمن في أعماقها بذور القومية العربية التي تتوحد في العروبة و تعتبر إحياء الثقافة العربية المدخل الطبيعي لتأكيد وجود الأمة العربية و هويتها و التعريف بتراثها الفكري الأدبي من أجل التخلص من كابوس الغرب المستعمر.





قراءة و تحقيق/ علجية عيش بتصرف


نشر باسبوعية "المثقف" في عددها الأخير