رواية "البشمورى" لسلوى بكر
ما هكذا تُكْتَب، يا سلوى، القِصَص!
د. إبراهيم عوض


(ط3 / مكتبة مدبولى/ 2003م)


قبل نحو عِقْدٍ من الزمان وقعت فى يدى مجموعة قصصية للكاتبة سلوى بكر فوجدت بعضا قليلا منها مقبولا، أما الباقى فلم أر فيه ما يشدنى، وإن لم أندم على إنفاق وقتى فى قراءة المجموعة، إذ تعرفت إلى كاتبة لم أكن قرأت لها رغم سماعى باسمها يتردد فى الصحف والمجلات. ثم سمعت برواية صدرت لها قبل ذلك بقليل اسمها "البشمورى" تتحدث عن تمرد وقع فى شمال الدلتا المصرية أيام المأمون الخليفة العباسى الشهير، فاشتريتها ناويا أن أقرأها لأرى مثار هذه الضجة، إلا أن الظروف شغلتنى بما هو أكثر إلحاحا، مما جعلنى أضع الرواية جانبا على أمل الفروغ لها بعد قليل، لكن الأعوام انصرمت دون أن تتاح لى الفرصة لقراءتها كما كنت أنوى حين اشتريتها... إلى أن كنت أصحح منذ أيام مادة "القصة" فى امتحانات هذا العام (مايو 2010م) بالقسم فوجدت الطلاب يتحدثون فى الجزء الثانى من أوراق الإجابة، وهو الجزء الخاص بالزميل الذى يشاركنى تدريس المادة، عن ثلاثية خيرى شلبى المعروفة التى تحمل عناوينها بعضا من أسماء ورق الكوتشينة، أو عن "بشمورى" سلوى بكر، حسب السؤال الذى اختاره الطالب للإجابة عليه. فعندئذ، وعندئذ فقط، صح منى العزم على قراءة "البشمورى"، ومعها رواية شلبى: "وكالة عطية"، التى كنت أنزلتها عندى على الكاتوب منذ عامين تقريبا ولم أكن قرأتها بعد، وإن كنت طالعت بسرعة فصلا منها شدنى وقدَّرت فى نفسى أن أرجع إليها فى أقرب فرصة أكون قادرا على مطالعتها بالتركيز المطلوب إذ بدت لى ممتعة، وهو ما فعلته فى الحال، فقد أخرجت نسختها التى عندى من مكمنها على الكاتوب، وشرعت فى قراءتها مستمتعا بها رغم ما فى لغتها من هنات ليست بالقليلة شفع لها حرص كاتبها على استعمال الفصحى دائما على قدر ما يستطيع، وكذلك رغم ما فى بنائها الفنى من بعض الملاحظات، فضلا عما تشتمل عليها من بذاءات عنيفة وغرام بالحديث الشديد التفصيل عن الحشيش وطقوس شربه دونما داع، ودَعْكَ من الجو الاجتماعى والأخلاقى القاتم الذى لا يعطيك فرصة كى تتنفس نسمة هواء نقية إلا فى الشاذ النادر. والعجييب أننى، رغم استمتاعى بالرواية، لم أفكر قط فى كتابة شىء عنها. لقد قَرَّ فى ذهنى أن أقرأها بغرض المتعة ليس إلا، فتركت نفسى مثل شخص يرقد فوق حشية هوائية على سطح بحر هادئ تاركا نفسه للموج بنسيمه المنعش يهدهده دون أدنى تفكير فى أى شىء سوى متعة التمدد مغمض العين على الحشية الحنون.
أما رواية "البشمورى" فتجري أحداثها، كما سبق القول منذ قليل، في عهد الخليفة المأمون، إذ ثار تمرد على الدولة وقتذاك فى منطقة البشمور بشمال الدلتا المصرية شارك فيه نصارى ومسلمون مصريون، ومعهم بعض الأندلسيين. وتبدأ هذه الأحداث بإرسال الكنيسة فى الفسطاط ممثِّلََيْن عنها، هما الشماس ثاونا وبدير خادم الكنيسة، إلى البشامرة لإقناعهم بالتخلِّي عن ثورتهم ضد الدولة. وفي أثناء المسير يصف لنا بدير كل ما يلقاه فى طريقه سواء كان له اتصال بأحداث الرواية أو لا. إنه كالمرشد السياحى لا يترك شيئا يراه دون أن يعلق عليه ويصفه تفصيلا. كما تنهال الذكرياتُ عليه وتتلاحق: فهنا كان مسقط رأسه، وهناك كان غرامُه بفتاة كانت بينه وبينها معاشرة جنسية حبلت منه بسببها، وخطبها أهله لأخيه، الذى لم يكن يعلم شيئا عن هذه العلاقة، فانتحرت... إلى أن يصلا إلى مركز البشامرة، الذين يرفض زعيمُهم النصرانى المسمى فى الرواية خطأً: "مينا بن بقيرة" فكرة العدول عن الثورة. ثم يأتي جيش الخلافة فيقضى على التمرد. ويفترق بدير عن ثاونا، ويؤخذ أسيرًا ويُنْقَل مع غيره من الأسرى فى طائفة من القوارب إلى أنطاكية مركز المسيحية الشرقية. وتخوض الرواية في تفاصيل حياة الأديرة وعادات الناس، وتعرفنا بعدد من الأماكن اندثرت ولم تذكرها كتب التاريخ. وفي أنطاكية يعمل بدير في خدمة أحد الكهنة، ثم بعد وفاة معلِّمه ينتقل إلى خدمة كاهن آخر ذي ميول شاذة وعلاقات مع بعض الجهات الأجنبية، فيرى أن أفضل طريقة للهروب من خدمة معلِّمه الجديد هي التنكُّر لماضيه الكهنوتى. ثم يُنقَل بعد هذا إلى قصر الخليفة ببغداد خادما فى المطبخ. ثم بعد مكوثه فترة في بغداد ودخوله فى الإسلام يقرِّر العودة إلى مصر كي يقابل ثاونا ويدعوه إلى الدخول في الدين الجديد. وفي طريق العودة يقضي سنوات في فلسطين درويشًا، ليتابع بعد ذلك طريق عودته إلى بلده، فيصل إلى معلِّمه، الذي كان على فراش الموت، ويحاول هدايته إلى الدين الجديد، لكنه يرفض ويموت عقب ذلك. أما بدير فيتحول إلى درويش يجوب الطرقات متعرضًا للأذى والإهانة، جاعلاً علاقته على نحو مباشر مع الله سبحانه وتعالى.
ونبدأ بزاوية السرد، ومعروف أن راوى القصة، وهو بطلها أيضا، قد أسلم فى النصف الثانى منها. ومعنى هذا أنه، طوال روايته لأحداث القصة والتعليق عليها، كان مسلما، إذ لا يروى الإنسان قصة مثل هذه إلا بعد أن تكون قد اتخذت شكلها النهائى وأصبح لها مغزى يحب أن يعرضه على الآخرين. ومع هذا نراه ينطلق فى سرده للنصف الأول من أحداث الرواية من زاوية نصرانية، وكأنه لم يعتنق دين محمد صلى الله عليه وسلم رغم أنه قد أعلن مرارا اعتزازه بدينه هذا الجديد واقتناعه التام به. بل لقد عاد الراوى من بغداد إلى الأب ثاونا مرشده الروحى فى مصر كى يدعوه إلى اللحاق به فى دينه الجديد، وأخذ يغريه لعله ينتقل معه إلى دين سيد الأنبياء والمرسلين. ورغم هذا نفاجأ، كما قلت، بأنه فى روايته لأحداث الرواية والتعليق عليها فى نصفها الأول وتقويم الأشخاص والحكم عليهم إنما ينطلق من كونه نصرانيا لا يزال. فنراه، بالنسبة إلى الفترة التى كان فيها نصرانيا، يمجد التثليث ويدافع عنه ويبدى تمسكه بكل ما هو نصرانى ويفتخر به ويتألم إذا خرج أحد على شىء منه ويذكر ممارساته للعبادات النصرانية بكل اعتزاز... وهكذا. وإذا تكلم عن الإسلام كما هو الحال مثلا فى الصفحة رقم 41 قال: "الملة الإسلامية"، "دولة الإسلام"، "قرآن المسلمين"، "رسولهم"... إلخ مع أنه كان قد صار فى ذلك الوقت واحدا من المؤمنين بهذا الرسول، وبالقرآن الذى نزل عليه، وبالملة التى جاء بها.
بل إنه ليروى (ص101- 102)، روايةَ المصدق المتألم، أخبار اعتداء المسلمين على الأديرة والرهبان والراهبات بأمر والى مصر فى ذلك الوقت. ومنها حكاية شنيعة غاية الشنع لا يمكن تصديقها لمناقضتها ما هو معروف عن المسلمين حول راهبة فاتنة الجمال منقطعة إلى عبادة المسيح فى أحد الأديرة منذ طفولتها أراد أحد المسلمين الاعتداء على عرضها. وهى من الحكايات الخرافية التى يبرع فى تزويرها بعض النصارى تمجيدا لتاريخهم وتشويها لخصومهم كما يحدث الآن من تضخيم ومبالغات واختراعات للإساءة إلى المسلمين بكل سبيل. وما خرافات سلق الفاتحين المسلمين للأقباط فى قدور والتهامهم (بالهنا والشفا)، وإعادة يَدَىْ يوحنا الدمشقى المقطوعتين إلى موضعهما من ذراعيه إثر ظهور العذراء له فى المنام عقب قطعهما، وطيران جبل المقطم، وسيلان دموع العذراء من عيون صورها الجدارية، والظهورات الموسمية من فوق أبراج الكنائس بغريبة علينا.
وكان ينبغى أن تضع الكاتبة تلك الحكاية على بساط التحقيق بطريقة فنية طبيعية بدلا من سوقها بعَبَلها سَوْقَ من وقعت يده على كنز ثمين، فهو حريص عليه يخاف أن يضيع منه. وهى نفسها قد سوَّغَتْ، على لسان بدير الراوى، معاملة المسلمين الطيبة له حين عرفوا أنه من رجال الكنيسة بأن القرآن قد أوصى بأهل الكتاب خيرا (ص228). فلم نسيت إذن هذا الكلام حين نقلت ما نقلته عن ساويرس بن المقفع من سخف لا يمكن قبوله عقلا؟ ثم إن أهل الكتاب ليسوا هم رجال الكنيسة وحدهم، بل النصارى كلهم من رجال دين وناس عاديين، وكذلك اليهود. وهذه الإضاءة نقولها على الطائر ثم نمضى فلا نتوقف عندها كثيرا ولا نجعل منها قصة.
وملخص الحكاية أنه كان بِدَيْر العذارى فى بلاد البشمور ثلاثون راهبة عذراء مَلَكَهُنّ عسكر الوالى المذكور، وكانت فيهن صبية دخلت الدير وهى ابنة ثلاث سنين، فلما نظروا إليها بُهِتوا من شدة حسنها فأخذوها وتشاوروا ماذا يصنعون بها. فاقترحت عليهم الصبية ذاتها أن يحضروا مقدَّمهم كى تخبره بما هو أنفع لهم. فلما حضر أخبرته بأن آباءها كانوا يدهنون أجسادهم عند الحرب بمرهم معين يحميهم من القتل، وأنها سوف تريه ذلك المرهم وتثبت له عمليا صدق قولها ثم تشرح له كيفية تحضيره لقاء إطلاق سراحها والتخلية بينها وبين العبادة، التى وُهِبَتْ لها منذ الصغر. ثم إنها أحضرت الدهان وطلت وجهها ورقبتها، ثم طلبت منهم أن يجربوا سيوفهم فى رقبتها بكل ما فيهم من قوة، وهى زعيمةٌ أن الدهان سوف يحمى رقبتها من القطع. فما كان من المقدَّم إلا أن أهوى بسيفه على عنقها فجَزَّه. فعلم المسلمون ساعتئذ أنها إنما لجأت إلى تلك الحيلة حتى تحمى عرضها من اعتداءاتهم. فأخذوا يمجدون الله تاركين بقية الراهبات لم يمسوهن بأى سوء. ثم يمضى بدير قائلا إنه هو وثاونا أخذا يمجدان الله أيضا ناويين متى عادا إلى الفسطاط أن يخبرا رئيس الدير هناك بالواقعة، وكأنها واقعة حقيقية. أى أنه، وهو المسلم، لم يخطر له أن يضعها موضع التمحيص على الأقل، إن لم يكن موضع الإنكار، لأنها تخالف تماما ما عُرِف عن المسلمين من احترام بيوت العبادة والإبقاء على حياة الرهبان والراهبات فلا يتعرضون لهم بشىء. ترى هل يعقل أن يكون الشخص مسلما ثم ينطلق فى كلامه ومشاعره وأفكاره من منطلق نصرانى على هذا النحو؟ ألا إن ذلك لعجيب.
قد يقال إنه إنما كان يروى وقائع الرواية أولا بأول، وإنه، حين كان ينطلق من هذا المنطلق، كان نصرانيا لا يزال. لكن هذا تفسير لا يقنع أحدا، إذ الواحد منا حين يروى أحداثا كثيرة تستغرق سنين طوالا كالأحداث التى رواها بدير، لا يحكيها أولا بأول، بل يحكيها بعد أن يكون قد فرغ منها واتخذت شكلها النهائى، اللهم إلا إذا كان مخبولا، فهو يمشى فى الطرقات معلقا على كل ما يرى ويسمع. بل إن المجانين أنفسهم لا يفعلون هذا. وحتى لو فعلوا فإنهم لا يروون الوقائع بهذا الترتيب ولا يكون فى ذهنهم خطة لكتابة رواية بهذا الشكل ولا غرض يريدون تقريره فى النفوس على ذلك النحو الذى فى الرواية، بل يعيشون فى قوقعة نفوسهم المضطربة المشوشة، ويتحدثون بلغة مرتبكة متناثرة غير مفهومة، ويرون الأشياء على نحو غائم لا يساعدنا على متابعة ما يقولون. لو أن الرواى كان معلقا فى مباراة كرة قدم مثلا لكان ما صنعه مفهوما، إذ المعلق فى مثل تلك الحالة يصف ما يقع أمامه أولا بأول. لكننا هنا لسنا إزاء معلق كروى، علاوة على أن المعلق الكروى لا يخطط مسبقا لما سيقول ولا ينسّقه بحيث ينجم عنه عمل فنى مثلما هو الحال فى الروايات. كما أن المعلق الكروى، أو أى معلق فى الدنيا على أى شأن من شؤون الدنيا، لا يأخذ كل ذلك الزمن الطويل معلقا على ما يقع أمامه مثلما هو الأمر مع بدير، الذى تناول بالرواية حوادث أعوام وأعوام لا فى بلد واحد فحسب بل فى بلاد متعددة رأى فيها من الوقائع والأشخاص والمناظر وخاض فيها من التجارب وقاسى فيها من المآزق ما لا يخطر على بال. ثم لا ينبغى أن ننسى أن الرواى كان يصطنع طوال حكايته للأحداث صيغة الماضى، وهى الصيغة التى لا يصطنعها من يعلقون على أحداث تقع أمام أعينهم، بل يصطنعنون صيغة المضارع كما هو معلوم. لقد كان هناك منفذ للكاتبة يمكن أن يأخذ بيدها ويخرجها من هذه الورطة. ألا وهو أن تتخذ أسلوب المذكرات المكتوبة وسيلة لرواية قصتها. فعندئذ كان بمستطاع بدير أن يعلق على كل ما يدور حوله أو يحسه بداخله أولا بأول فى سخونته وطزاجته آخذا راحته على الآخر فى الوصف والحكم والتعليق.
والواقع أن زاوية السرد هى من العُقَد التى كثيرا ما اضطربت حكاية الأحداث فى يد الراوى بسببها. وقد سقط د. طه حسين فى هذا الخطإ فى روايته: "دعاء الكروان" على ما شرحت ذلك فى كتابى: "فصول من النقد القصصى" لدن تناولى نقد هذه الرواية، وإن كان سقوطه جزئيا لا شاملا كما هو الوضع فى رواية "البشمورى"، التى بين أيدينا الآن. على أنْ ليس هذا أمرا خاصا بالقصص الضعيفة المستوى فحسب كما هو الحال فى قصتنا هذه، بل يمتد ليشمل حتى روائع الأعمال القصصية مثل رواية "مرتفعات وذرنج" لإميلى برونتى، وهى أحد الإبداعات القصصية العالمية الشاهقة، وكذلك قصة "قنديل أم هاشم"، التى تجمع بين الروعة والتهافت فى جديلة واحدة حسبما وضحت فى الفصل الذى درست فيه تلك القصة من كتابى المذكور آنفا.
على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى ما هو أخطر بكثير. خذ مثلا الصورة البشعة التى صورتها الرواية، أو فلنقل: صورتها الكاتبة، للعرب والمسلمين، إذ الرواية فى الواقع لا تصور شيئا، بل الكلام على المجاز، والكاتبة هى التى شوهت صورة العرب والمسلمين، ولم تذكر لهم حسنة واحدة تقريبا، وكأنهم وحوش غير متحضرة لا يعرفون العدل ولا الرحمة، على حين أن الطرف الآخر يتميز يالوداعة والإيمان الطاهر مع أنهم عند المسلمين منحرفون فى إيمانهم بغض النظر عن رأيهم هم فى أنفسهم مما كل واحد من الطرفين حر فيه، إلا أنها وَشَّتْ صورتهم التى رسمتها لهم بالتوشيات الجميلة، حتى إن ثاونا والراوى لا يأتيان شيئا أو يدعانه إلا ويستشهدان عليه بنصوص من الكتاب المقدس عندهم، وبعضها من أعمال الرسل أو رسائل بولس مما لا يمكن حفظه لتعثكل عباراته ومعانيه، فضلا عما نعرفه من أن النصارى لا يحفظون أناجيلهم كما نحفظ نحن قرآننا، اللهم إلا العبارات القصيرة المشهورة جدا، وأين كلام بولس مثلا منه؟
فعلى سبيل المثال هل يصح اختزال عصر المأمون، وهو من أزهى عصور الازدهار الحضارى فى تاريخ العالم، فى تلك المظالم التى ركزت عليها الكاتبة بالباطل؟ أين التفتح الثقافى؟ أين الرواج الاقتصادى والنعمة التى كان يعيش فيها الناس بوجه عام؟ لقد انتقل الراوى إلى بغداد، بل لقد دخل قصر الخلافة يشتغل مساعدا لكبير الطباخين، فلم نر من قصر الخلافة إلا مجلسا للخليفة ترقص فيه امرأة لعوب تثير الشهوات. فهل هذا هو كل ما كان يجرى فى مجلس المأمون، إن كان مجلس المأمون يعرف الراقصات العاريات أصلا؟ ألم يكن هناك علماء يتناقشون فى حضرته ويشاركهم مداولاتهم الفكرية؟ ألم يكن هناك رجال دولة يستشيرهم الخليفة ويتناول معهم شؤون الأمة وكيفية تدبيرها؟ ألم يكن هناك أصحاب شكاوى يلجأون إليه لإنصافهم؟ أليس إلا الراقصات؟ وعلى نفس الشاكلة نجد الرواية تركز فى عصر المعتصم على العيارين والتذمر والفتن وحدها، وكأن الدولة فى عهد ذلك الخليفة العظيم لم تك تحتوى على أى خير (انظر ص350). والله لو لم يكن له من فضل إلا أنه أدب الروم وغزا بلادهم وجعلهم يتلفتون حولهم فى ذعر لكان ذلك حسبه من المجد والفخار والخلود فى صحائف التاريخ المنيرة.
وعن المأمون يقول السير وليم موير المستشرق البريطانى المعروف: "كان حكم المأمون مجيدا عادلا، وكان عصره مزدهرا بأنواع العلوم والفنون والفلسفة. وكان أديبا مولعا بالشعر متمكنا منه... وكان مجلسه حافلا بالعلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة، إذ كان يقربهم إليه ويجزل لهم العطاء. وكما كان عصره عامرا بالعلماء والأدباء والنحاة فإنه كان كذلك حافلا بجماعة المحدِّثين والمؤرخين والفقهاء كالبخارى والواقدى، الذى نحن مدينون له بأوثق السِّيَر عن حياة النبى، والشافعى وابن حنبل. وكان المأمون يجلّ علماء اليهود والنصارى ويحتفى بهم فى مجلسه لا لعلمهم فحسب، بل لثقافتهم فى لغة العرب وحذقهم فى معرفة لغة اليونان وآدابها. ولقد أخرجوا من أديرة سورية وآسيا الصغرى كتبا خَطِّيّة فى الفلسفة والتاريخ وعلم الهندسة لعلماء اليونان وفلاسفتهم، ثم ترجموها إلى العربية بدقة وعناية عظيمة. وبهذه الوسيلة انتقلت علوم العرب إلى العالم الإسلامى. ولم تقتصر جهود هؤلاء الجهابذة على نقل هذه الكتب القديمة إلى اللغة العربية، بل توسعوا وأضافوا إليها ما اكتسبوه من مباحثهم واطلاعهم، وأقاموا مرصدا فى سهل تدمر مجهزا بجميع الآلات التى تمكنهم من النجاح فى دراسة علمى الفلك والهندسة والتوسع فيهما. وقد صنفوا كتبا فى الرحلات والتاريخ، ولا سيما كتب الطب، وعُنُوا عناية كبيرة ببعض علوم تافهة، إلا أنها كانت أكثر ذيوعا وانتشارا كالتنجيم والكيمياء. وكان لمجهود هؤلاء العلماء الأثر الأكبر فى نهضة أوروبا، التى كانت غارقة فى بحار الجهالة فى العصور الوسطى حيث أيقظتهم من غفلتهم وأنارت لهم سبل علومهم التى كانوا أغفلوها، وهى علوم اليونان وفلسفتها" (د. أحمد فريد رفاعى/ عصر المأمون/ ط2/ مطبعة دار الكتب المصرية/ 1346هـ- 1927م/ 1/ 399- 400).
و أصل هذا الكلام موجود فى كتاب المستشرق البريطانى وليم موير: "THE CALIPHATE: ITS RISE, DECLINE, AND FALL FROM ORIGINAL SOURCES"، وهو متاح لمن يريد مراجعته بنفسه فى الفصل السادس والستين المخصص للحديث عن المأمون وعصره تحت عنوان فرعى هو: "Development of science and literature". وهذا نصه بالإنجليزية: "His reign was without question a glorious one, ushering in, as it did, the palmy days of literature, science, and philosophy. He was himself addicted to poetry... At his Court were munificently entertained men of science and letters, poets, physicians, and philosophers. Besides philo¬logists and grammarians, it was the age also of the collectors of tradition, such as the great Bokhari, and of historians, as Al-Wakidi to whom we owe the most trustworthy biography of the Prophet; and of Doctors of the law, as Esh-Shafi'i and Ibn Hanbal. Moreover Jews and Christians were welcome at the Court not only for their own learning, but as versed both in the Arabic tongue and in the language and literature of Greece. The Monasteries of Syria, Asia Minor, and the Levant were ransacked for manuscripts of the Greek philosophers, historians, and geometricians. These, with vast labour and erudition, were translated into Arabic; and thus the learning of the West was made accessible to the Muslim world. Nor were their efforts confined to the reproduction of ancient works; in some directions they extended also to original research. An Observatory, reared on the plain of Tadmor, furnished materials for the successful study of astronomy and geometry. In other walks of literature, we have books of Travel and History, and, above all, of Medicine; while much attention was paid to the less practical, but more popular, branches of astrology and alchemy. It was through the labours of these learned men that the nations of Europe, then shrouded in the darkness of the Middle Ages, became again acquainted with their own proper but forgotten patrimony of Grecian science and philosophy".
وفى مادة "EGYPT" من "The International Standard Bible Encyclopedia" نقرأ أن مصر بعدما وصلت إلى أشد درجات الافتقار أصبحت فى ظل الحكم العباسى أغنى بلد حول البحر المتوسط. وبطبيعة الحال كان المأمون والمعتصم، الذى تصور الكاتبة عصره هو أيضا بصورة قاتمة، خليفتين عباسيين. أى أن مصر فى عصريهما كانت بلدا مزدهرا. وهذا هو النص فى لغته الإنجليزية: "By about 800 AD a strong government was established from Bagdad, and Egypt rapidly advanced. In place of being the most impoverished country it became the richest land of the Mediterranean. The great period of medieval Egypt was under the guidance of the Mesopotamian civilization, 800-969 AD".
كذلك هل القضية التى أثارتها الكاتبة فى روايتها وأبرزتها إبرازا عنيفا، وهى الظلم الذى يقال إن بعض ولاة مصر بعيدا عن أعين الدولة والخلافة قد أوقعوه بالمصريين فى جمع الخراج، هل هذه القضية هى مما يناسب السياق الحالى فى بلادنا أو فى أى بلد إسلامى؟ إن المسلمين الآن فى مصر مثلا يسمعون من كثير من نصارى البلاد أنهم أجانب عن المحروسة وعليهم أن يعودوا من حيث أَتَوْا، وهو ما بدأت مقدماته بقوة منذ أوائل السبعينات من القرن المنصرم، فلماذا لم توح تلك الدعوة الإجرامية إلى الكاتبة برواية تعالج أسبابها؟ وهل تأكدت الكاتبة من أن المصريين قد أسلموا فى ذلك العصر، كما تقول الرواية، هربا من الخراج (ص183 مثلا)؟ ترى على أى مصدر اعتمدت فى هذا الكلام الغريب؟ بطبيعة الحال على المصادر النصرانية. فهل محصت هى هذا الكلام وتيقنت أنه حق لا ريب فيه؟ أم تراها تبنته ورددته بعُجَره وبُجَره دون أى اهتمام بمدى صدقه أو كذبه أو حتى مبالغاته؟
وفى صفحة 151 وما يليها يلاحظ القارئ انتشاء الكاتبة العارم بتعديد ألوان الظلم الخراجى المبالغ فيها على نحو مضحك، حتى ليزعم الراوى أن الحال قد وصل بالمصريين إلى أنْ قد نَهَشَ أحد الرجال جسد فتاة صغيرة حية بسبب الجوع والفقر الناشئين من كثرة الخراج المفروض عليه وعلى أمثاله، وأن مشاهدة البشمورى لهذا المنظر هو الذى أيقظ ضميره ودفعه إلى ترك العمل جابيا للأموال مع الوالى المسلم (الذى يستأهل طبعا الحرق بالنار)، وإلى التمرد على الدولة وظلمها الفاحش، وتجميع الثائرين حوله ومنازلته لجيوش الخلافة، إذ تقول الرواية إنه كان يسير ذات يوم عائدا إلى داره فإذا به يسمع، بين أعشاب الحلفاء فى مستنقع من المستنقعات التى تنتشر فى بلاده، أنينا واهنا لطفلة صغيرة تترجى شخصا يصرخ فيها بعنف وغلظة، فنزل عن دابته واتجه إلى ناحية الصوت ليجد رجلا متوحشا ينهش بأنيابه من لحمها. وكان قد أكل ذراعيها وفخذيها والمواطن الطرية منها دون أن يلين له قلب لتوسلاتها واسترحاماتها، فانقض البشمورى على الرجل وانتزع الصبية منه وهى بين الحياة والموت، ثم أجهز عليه "بحلول بركة الله وقوته فى ذراعيه" رغم أن الكاتبة قالت قبيل ذلك إن الرجل المتوحش كان ضعيفا واهنا، أى أن انهزامه أمام البشمورى أمر ليس فيه أية غرابة ولا يحتاج إلى عون إضافى من السماء، بل رغم أن الضعيف الواهن لا يمكنه نهش لحم بنتٍ يفترض أنها بعافيتها وتستطيع أن تدفعه عن نفسها. ثم إن البشمورى قد عالجها ورباها حتى بلغت فتزوجها فى الكنيسة، واضعا خاتم الزواج فى إصبع قدمها لفقدانها يديها، وهو ما أثار قلوب الحاضرين وفجر الدمع من عيونهم جميعا بما فيهم القسيس الذى قام بتزويجهما وهو يُجْهِش بالبكاء... إلى آخر هذا الفلم الهندى المتخلف الذى لا أستطيع أن أدرى كيف واتت المؤلفة نفسها على نقله عن "تاريخ البطاركة" لساويرس بن المقفع المفعم بالخرافات والأضاليل (انظر تاريخ مصر من بدايات القرن الأول الميلادى حتى نهاية القرن العشرين من خلال مخطوطة "تاريخ البطاركة" لساويرس بن المقفع/ إعداد وتحقيق عبد العزيز جمال الدين/ مكتبة مدبولى/ 2/ 403).
إننا كثيرا ما نسمع من بعض الشخصيات النصرانية المصرية هذه الأيام، هنا وفى المهجر، أن نصارى المحروسة يبلغون عشرين مليونا أو أكثر رغم ما يعرفونه هم قبل غيرهم من أنهم لا يزيدون عن خمسة أو ستة بالمائة على أكثر تقدير، وهو ما تقوله كل المصادر والمراجع حتى الغربى منها ككتاب إدوارد وليم لين عن المصريين المحدثين وعاداتهم وتقاليدهم: "An Account of the Manners and Customs of the Modern Egyptians"، أو كتاب مسز بوتشر عن تاريخ الأمة القبطية، الذى ترجمه النصارى أنفسهم ونشروه فى بداية القرن الماضى، أو كتاب "Égypte depuis la conquète des Arabes jusqu'à la domination de Méhémet Aly" لعدد من المؤلفين الفرنسيين، حسبما بينت فى بعض دراساتى السابقة، وكذلك المؤسسة الأمريكية التى أعلنت هذه النسبة منذ عدة شهور، ودعنا من إحصاءات السكان التى كانت تقوم بها دولة الاحتلال البريطانى، ومع هذا لم يرعو من يكذبون ويبالغون فى تلك النسبة مبالغة لا تدخل العقل ولا تراعى الذوق، ويتخذون من ذلك مسوغا للتوسع غير المفهوم ولا المقبول فى بناء الكنائس التى لا يؤمها أحد لا لشىء سوى التحرش بالمسلمين واستفزازهم، فضلا عن هتافهم جهارا نهارا ومن قلب الكاتدرائية ذاتها بقادة الصهاينة الأوباش المجرمين أن يأتوا ويحتلوا مصر، فى الوقت الذى لا يقول المسلمون المصريون أبدارغم الأغلبية الكاسحة الماسحة التى يتمتعون بها إنه ينبغى اقتلاع النصرانية أو ترحيل أتباعها من البلاد، بل كل ما يقولونه هو أن النصارى كافرون مثلما يقول النصارى عنهم إنهم هم الكافرون، وهو ما لا ينبغى أن يثير حفيظة هؤلاء أو أولئك، إذ إن ما يؤمن به أحد الفريقين يناقض ما يعتقده الفريق الآخر، فمن الطبيعى أن يرى كل من الطرفين أن الطرف الثانى كافر بما يؤمن هو به. بل إنهم لا يفكرون فى استخدام سلاح المقاطعة الاقتصادية، التى يستطيعون عن طريقها أن يقصموا ظهر الطرف الآخر الذى بيده مقاليد جزء ضخم من اقتصاديات البلاد، وهم عليها قادرون لو أرادوا، مما يدفع بالإنسان إلى الخوف من أن يأتى اليوم الذى يندم المسلمون على هذا كله ندما لا يمكن تداركه لأن الأوان سيكون قد فات منذ زمن طويل. وخَلِّهِْْم نائمين فى المجارى يشخرون، والطرف الآخر يسن لهم السكاكين، وهم ولا هم هنا!
ومع هذا نسمع فى كل مكان الاتهامات الباطلة المبطلة لهم من قِبَل النصارى بالتعصب والاضطهاد مع كل ما تغدقه الدولة على هؤلاء من تدليل وما تعاملهم به من خوف (أو "تواطؤ" كما يقول كثير من المسلمين) فلا تستطيع (أو "لا تريد") أبدا أن تطبق قوانين الطوارئ عليهم ولا أن تزج بأحد منهم فى المعتقلات فى الوقت الذى يقبع فيها عشرات الآلاف من المسلمين، كما لا يمكنها أن تفكر فى إغلاق كنائسهم مثلما تفعل بالمساجد عقب كل صلاة، دعك من أنها لا يخطر فى بالها مجرد التفكير فى اقتحامها أو أن تمس أحدا ممن يتظاهرون بداخلها ويقذفون رجال شرطتها بالحجارة ويسبونهم أقذع سباب داعين أمريكا وإسرائيل إلى احتلال البلاد، على حين يحرّم القانون على المسلمين التظاهر فى مساجدهم حتى ولو تضامنا مع إخوانهم المظلومين المحاصرين فى غزة أبشع حصار وأشنع ظلم عرفه التاريخ. ويستطيع القارئ أن يقيس الماضى على الحاضر.
وحتى لو كان ما تقوله الرواية قد حدث على النحو الذى صورته الكاتبة، وكان دخول النصارى الإسلام راجعا إلى ثقل الخراج مع أن الخراج لم يشكل فى يوم من الأيام أى عبء على أحد لأنه فى واقع الأمر مبلغ تافه كما هو معروف، ويقابله عند المسلمين إخراج الزكاة والانخراط فى الجيش مما لا يجب شىء منه على النصارى، فهل شكا لها أحفادهم الحاليون (الذين هم أنا وأنت وهو وهى أيها القارئ الكريم) مما حدث آنذاك وقالوا لها إنهم يريدون العودة إلى دين أجدادهم الأصلى؟ ولماذا صورت النصارى كلهم تقريبا على أنهم ملائكة أطهار، وخصت المسلمين بالعيوب إلا الشاذ النادر الذى لا يقاس عليه؟ وهل كان حكم المسلمين فى مصر فى تلك الفترة بهذا السوء؟ ومن الذى اختار لها تلك الفترة، وهى فترة تاريخية لا يعرفها إلا المتخصصون فى تاريخ مصر؟ ومن الذى نبهها إلى المراجع النصرانية التى تعالج تلك الفترة وتشوه سيرة المسلمين والإسلام؟ ذلك أن الكاتبة غير متخصصة فى هذا الموضوع. من هنا يمكننا أن نفهم مغزى ما قرأتُه فى أحد المواقع التى تعلن عن الترجمة الإنجليزية للرواية (IPM- International Publishers Marketing) من أنها قد لقيت ترحيبا هائلا لأنها فتحت الباب فتحًا لمعالجة بعض الجوانب المهملة فى التاريخ المصرى الوسيط: "Hailed as a groundbreaking treatment of otherwise neglected aspects of medieval history"، أو فى موقع "the tanjara" بتاريخ 27 أكتوبر 2008م من ثناء شديد أغدقته إحدى اللجان التى عُهِد إليها النظر فى الروايةِ وترجمتِها على شجاعة الكاتبة فى استكشافها علاقة مصر المعقدة بمواطنيها النصارى فى القرن التاسع الميلادى: "Bakr’s courageous novelistic exploration of Egypt’s complex relationship with its Christian (Coptic) community during the 9th century AD".
وبسبب حرص الكاتبة على تصوير النصارى فى معظم الأحيان تصويرا رومانسيا حالما كنت أحس أننى أقرأ لساويرس بن المقفع لا لمصرية مسلمة من عصرنا. ودعنا من أن ذلك قد تم على لسان الراوى، الذى كان قد أسلم قبل ذلك بزمن غير قصير، لكنه يتكلم ويتصرف طوال النصف الأول من الرواية وكأنه لا يزال نصرانيا حتى إن القارئ لا يتنبه أبدا إلى أن من يحكى له وقائع الرواية ويحكم على أشخاصها ويقيّم تصرفاتهم وأفكارهم وكلامهم هو شخص مسلم. فما دلالة هذا؟ كذلك يلاحظ القارئ حرص الكاتبة على إنطاق بدير الرواى وثاونا رفيقه فى الرحلة بنصوص الكتاب المقدس كما هى فى ذلك الكتاب وكأنهم أشخاص مسلمون يستشهدون بالقرآن. ومعروف أن موقف الكتابيين من كتابهم يختلف عن موقف المسلمين من القرآن المجيد، فكثير من المسلمين يحفظون قرآنهم عن ظهر قلب، وهو تقليد لا يعرفه أهل الكتاب، ومن ثم فليس من عادتهم ولا فى مقدروهم أن يسوقوا نصا كتابيا طويلا كما يصنع كثير من المسلمين. ومن هنا فإن القسيس حتى فى صلاته يوم الأحد مثلا يضطر إلى القراءة من كتاب دينه ولا يعتمد على ذاكرته كما يفعل أى شيخ فى صلاة الجماعة على ما هو معروف. ثم مَنْ مِنَ النصارى يا ترى كلما سعل أو بصق أو التفت يَمْنَةً أو يَسْرَةً يستشهد على ما يفعل بنصوص العهد الجديد أو القديم كما تفعل شخصيات الرواية النصرانية؟
ترى هل ما صنعته الكاتبة فى روايتها مما يقوى الوحدة الوطنية التى يتداعى إليها الكثير من المسلمين هذه الأيام، على حين يصر كثير جدا من رجال الدين على الطرف الآخر على الزعم الإجرامى الكاذب بأن المسلمين فى مصر ما هم إلا عرب غزاة لا ينتمون إلى أرض النيل، وينبغى بناء عليه أن يعودوا من حيث أتَوْا، أى إلى "جزيرة المعيز" حسبما يقول الأوباش من نصارى المهجر، يقصدون بلاد العرب؟ أم هل هو مما يملى للمتطرفين منهم بمواصلة تحدى المصريين المسلمين والتساخف عليهم والتباذؤ فى حقهم؟ وهلا كتبتْ رواية عن خروج النصارى المصريين على مقتضيات الأخوة الوطنية أيام الاحتلال الفرنسى أوائل القرن 19 مثلا؟ أم هلا خصصتْ رواية لما فعله الصليبيون عند دخولهم القدس وتذبيح عشرات الألوف من المسلمين الأبرياء؟ أم هلا خصصتْ رواية لمحاكم التفتيش فى الأندلس؟ أم هلا خصصتْ رواية لاضطهاد النصارى فى مصر قبل الإسلام للوثنيين وتحويلهم معابدهم إلى كنائس؟ أم هلا خصصتْ رواية لتعصبهم المفرط وتقتيلهم من لم يخضع للكنيسة كلما شاموا قوة فى أنفسهم كما فعلوا مع هيباتيا على سبيل المثال، إذ جَرُّوها على الرصيف جَرًّا وحشيًّا فسلّخوا جلدها، ثم مزقوا جسدها تمزيقا، مما فصل القول فيه المؤرخون والأدباء انتهاءً بالدكتور يوسف زيدان فى روايته: "عزازيل"؟ أم هلا خصصتْ رواية تدافع بها عن بنات جنسها من السيدات النصرانيات اللاتى اختطفهن الكنيسة ووثقتهن بالأغلال أو قتلتهن فى الأديرة حسبما نسمع لأنهن رأين أن يسلمن بمحض إرادتهن كوفاء قسطنطين مثلا؟ والآن أمام السيدة المؤلفة، بل تحت سمعها وبصرها ولا تحتاج من ثم أن تذهب فتقرئى فى الكتب القديمة، أمامها قضية كاميليا شحاتة، بل ملحمتها الجبارة التى أثبتت فيها تلك السيدة العظيمة أنها بطلة من عيار نادر. ثم هى امرأة مثل المؤلفة، ولا بد أن تتعاطف معها. فهل ستكون على مستوى الاحداث وتكتب ملحمة تلك السيدة المؤمنة؟ أم هل ستتخَلي عنها كما تخلى الجميع تقريبا، وتخيب الظن فيها؟ هذا هو السؤال.
لقد اتخذت الكاتبة وجهة نظر النصارى: فى تسمية المتمردين فى شمال الدلتا بـ"البشموريين"، وفى الإكثار من استخدام مصطلحاتهم، وفى تحليلهم للحوادث، وفى إجراء الرواية على لسان خادم سابق من خدمة الكنيسة ينطلق من منطلق نصرانى رغم أنه، كما سبق أن أوضحت، قد أسلم فى منتصف الرواية، إذ نجده مستمرا فى النظر إلى الأشياء والوقائع والأشخاص والأفكار والأديان من زاوية نصرانية، وهو ما يثير العجب والاشتباه. ومما يلفت النظر فى هذا السياق أن المؤلفة لم تذكر مثلا ثورة نصارى البشمور على عدد من أساقفتهم فى تلك الفترة طبقا لما كتبه فى هذا الصدد ساويرس بن المقفع ذاته فى كتابه: "تاريخ البطاركة". ولا أريد أن أقول إننى أخشى أن يكون مردّ ذلك إلى سياسة تلميع صورة النصارى وتشويه صورة المسلمين بوجه عام.
وهذا نصّ ما سجله ابن المقفع فى كتابه عن الثورة المذكورة بأسلوبه الركيك المملوء بالأخطاء، وإن كنت قد أَثْبَتُّ الهمزات ونَقَّطْتُ التاءات المربوطة وشكّلتُ كثيرا من الكلمات والحروف واستخدمت علامات الترقيم، وهو ما لا وجود له فى الكتاب. قال: "كان أسقفٌّ على كرسى تنيس اسمه إسحاق، وكان شعبه قد سعى به دفعات بكلام ردىء، وقالوا للأب يوساب: إذا لم تقطع هذا الأسقف وتُزِلْه عنا، وإلا خرجنا عن دين الأرتدكسية. وكان أيضا بمصر أسقف آخر اسمه تادروس قد ذكر شعبه عنه مثل هذا، وكتبو المصريون إلى البطرك يقولون له: إن لم تقطعه وتبعده عنا، وإلا رجمناه وقتلناه. فلما نظر البطرك القديس قيام الشعب حزن جدا وقلق وقال: ما الذى فى هذا البلاء؟ وكان يدعو ويقول: يا رب، ثَبِّتْ شعبك لرُعَاتهم، ولا تَدَعْ فى أيامى بغضا. ولم يفتر من مكاتبة الشعب فى تنيس ومصر المدينتين ويقول من قول بولس: ما تفرحون أنتم إذا اعتللنا نحن، وتكونون أنتم أقويا. هذا الذى أدعوه من أجلكم لتخلصو وأكاتبكم به، ولا أحضر عندكم كأننى حاضر عندكم، ولا أصنع حَرْمًا ومنعا، كما أمرنى الرب أن أبنى ولا أهدم. وبقى الشعب متمادين على فعلهم يقولون بقول واحد ولا يتغيرون عنه: أنه إن لم ينقطع هذان الأسقفان، وإلا فما بقى منا إنسان واحد فى الأمانة الأرتدكسية، بل نعود إلى المخالفين، وأنت المطالَب عنا. فلما سمع هذا أسرع إلى تنيس وسألهم أن يعودو عن غضبهم، فلم يفعلو، بل زادو فى غضبهم، وكذلك مدينة مصر مع أسقفهم. فلما رأى ذلك أنفذ وأجمع الأساقفة من كل موضع وعرّفهم الخبر وقال لهم: أنا برى من هذا، وأنتم كذلك. أخيرا نكتب ونمنع الأسقفين: إسحق أسقف تنيس، وتادرس أسقف مصر، وحطوهما عن كرامتهما وأبعدوهما عن الأسقفية. ولم يتخلّ أبونا الرَّحُوم من دوام الصلاة وسكب الدموع الغزيرة والتنهد على قطع هذين الأسقفين" (تاريخ مصر من بدايات القرن الأول الميلادى حتى نهاية القرن العشرين من خلال مخطوطة "تاريخ البطاركة" لساويرس بن المقفع/ 2/ 818 وما بعدها).
وبالمناسبة فقد وجدت على المشباك مقالا رصد فيه صاحبه القلاقل التى أثارها نصارى مصر للدولة الإسلامية على مدى التاريخ حتى أوائل العصر الحديث، وعنوانه: "هل كان للأقباط دور تاريخي في مقاومة المحتل؟". يقول الكاتب: "نود أن نلقي الضوء على جانب من تمرد الأقباط ونقضهم عقد الذمة منذ الفتح الإسلامي سنة 20هـ رغم تعامل ولاة المسلمين معهم بكل تسامح. فكانوا يتظاهرون ويعلنون العصيان المسلح على الدولة ويقتلون عمال الحكومة ويتصلون بدولة الروم ثم يتصدى الحكام لهم بإرسال من يطالبهم بفض العصيان في مقابل العفو عنهم، إلا أنهم في الغالب يتعنتون ويصرون على التمرد بزعم أن دولة الروم قد تساعدهم. غير أن حساباتهم كانت على الدوام خاطئة، فسرعان ما ينتصر عليهم جيش المسلمين ثم يعفو عنهم الخليفة أو الوالي ويجددون له الولاء والطاعة والالتزام ببنود عقد الذمة المنصوص عليه في اتفاقيتي بابليون الأولى (الخاصة بأهل مصر قبل فتح الإسكندرية سنة 20هـ)، وبابليون الثانية (الخاصة بأهل الإسكندرية سنة 20هـ أيضا)، لكنهم يعودون مرة أخرى لعصيانهم متذرعين بأحداث لا تتناسب وحجم عصيانهم المسلح. وهذا ما سنمر عليه سريعا عبر هذه المحطات التاريخية السريعة التالية:
الأول: في ولاية عبد العزيز بن مروان (65- 86هـ علي مصر) قام بطريك الكنيسة المصرية بالاتصال بملكي الحبشة والنوبة للتآمر على الدولة الإسلامية. الثاني: تمردهم على الخليفة الأموي مروان بن محمد بعد أن تبين أنه مطارَد من قبل العباسيين وتآمروا على قتله سنة 132هـ. الثالث: استغلوا الفتنة التي قامت بين الأمين والمأمون فأعلنوا عصيانهم بقيادة قساوستهم ورهبانهم في وجه بحري. الرابع: وفي عهد الوالي عبد الله بن عبد الملك بن مروان (86- 90هـ) قامت حركة تمرد ضد الدولة بقيادة قساوسة وادي النطرون وبطرك الكنيسة القبطية في الإسكندرية، وتم إخماد المؤامرة. الخامس: في عهد والي مصر قرة بن شريك (90- 96هـ) تمرد النصارى وظل يطاردهم قرة بن شريك حتى توفي، وجاء بعده أسامة بن زيد التنوخي، واستطاع إخماد الفتن. السادس: وفي عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (99- 101هـ)، ورغم تسامحه إلا أنهم كانوا يتآمرون سرا على الدولة الإسلامية. السابع: في عهد الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك (101- 105هـ) تآمر النصارى وتمردوا على الحكومة مما جعل الخليفة يرسل جيشا لقمع تمردهم. ولذلك فإنهم يكرهونه جدا ويصفونه بالشيطان. الثامن: وفي عهد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (105- 125هـ) فرغم تعامله مع نصارى مصر بالتسامح إلا أنهم تمردوا وتم قمع تمردهم. أقول: لكن هذه الحركات المناوئة للدولة وإعلان العصيان لم تكن كبيرة بالمقارنة لما سيحدث بعد ذلك. التاسع: في عهد هشام بن عبد الملك (106- 126هـ)، تحديدا في سنة 121هـ، أعلن أقباط الصعيد عصيانهم وعدم التزامهم باتفاقية بابليون الأولى والثانية وقاتلوا عمال الحكومة. وكان والي مصر في ذلك الوقت حنظلة بن صفوان (119- 124هـ) فأرسل لهم جيشا لقتالهم فانتصر عليهم وقضى على فتنتهم، وبالشروط التي قبلوها والتزموا بها منذ الفتح الأول لمصر سنة 20هـ. وفي ذلك الوقت، أي في سنة 132هـ، تمرد رجل نصراني من سمنود اسمه يحنس، وجمع حوله مجموعة كبيرة من النصارى المسلحين، لكن والي مصر عبد الملك بن موسى بن نصير أرسل جيشا لمحاربته فانتصر عليهم وقتل يحنس. حادي عشر: وفي عهد مروان بن محمد (129-132هـ) آخر الخلفاء الأمويين أعلن القبط بمدينة رشيد عصيانهم فأرسل جيشا فقضى على تمردهم. وفي عهد هذا الخليفة أيضا أثناء هروبه من العباسيين تمرد أهل البشرود، واستغلوا فرصة انشغاله بحربه مع العباسيين فتآمروا عليه، وكانوا سببا في قتله سنة 132هـ. لذلك كافأهم العباسيون في أول عهدهم. ثاني عشر: وفي عهد الخليفة العباسي أبو العباس السفاح (132- 137هـ) تمرد الأقباط في مدينة سمنود بزعامة شخص يدعى: أبو مينا، فبعث إليهم أبو عون والي مصر (133- 136هـ) جشا لمحاربتهم فهُزِموا، وقُتِل زعيمهم أبو مينا.
ثالث عشر: ثم ما لبث الأقباط أن أعلنوا عصيانهم في مدينة سخا 150هـ إبان ولاية يزيد بن حاتم بن قبيصة على مصر (144- 152هـ)، واتسع التمرد فانضم إليهم أقباط البشرود وبعض مناطق الوجه البحري، فقويت شوكتهم بعد أن هُزِم الجيش الذي أرسله الوالي. والذي شجعهم على ذلك أنهم كانوا على اتصال بالكنيسة البيزنطية من خلال الجواسيس الذين ينزلون الإسكندرية ومحافظات الوجه البحري على هيئة تجار. فكانوا يحرضونهم على التمرد والعصيان على دولة الخلافة. لذلك نجدهم يجاهرون بعدائهم ويجمعون أعدادا كبيرة من الأقباط سنة 156هـ في ولاية موسى بن علي اللخمي (155- 161هـ) فأرسل لهم جيشا فهزمهم. رابع عشر: لكن أعتى تمرد وأعنفه كان في سنة 216هـ إبان عهد الخليفة المأمون (198- 218هـ). وكان والي مصر وقتئذ عيسى بن منصور حيث تمرد أقباط الوجه البحري كلهم لدرجة أن الخليفة المأمون بنفسه قدم مصر على رأس جيش فكسر شوكتهم بقيادة قائده الشهير الأفشين، واستطاع أن يلحق الهزيمة بأهل البشرود أو البشمور (كانوا يقطنون المنطقة الواقعة بين فرعي دمياط ورشيد). وكانت هذه المنطقة تحيط بها المستنقعات والأوحال التي كانت تعيق حركة الجند. لذلك كانوا يعلنون عصيانهم كثيرا نظرا لطبيعة أرضهم، مما كان يضطر الجند للانصراف عنهم. لكن هذه المرة لم يهدأ الأشفين إلا أن يقتحم حصونهم ويلحق الهزيمة بهم حتى جاء كبار قساوستهم وأعلنوا ولاءهم لدولة الخلافة مرة أخرى. وقد قبل منهم الخليفة المأمون حسب شروط اتفاقية بابليون الأولى والثانية. ونلاحظ أن الخليفة المأمون أحضر معه بطرك أنطاكية ديونسيوس، ثم أرسل إلى أقباط البشرود وضواحيها البطرك أنايوساب والبطرك ديونسيوس ووعدهم ألا يعاقبهم إن هم رجعوا عن عصيانهم. لكنهم رفضوا، وغرتهم قوتهم وحصونهم، ولم يجيبوا البطركين، فحاصرهم الخليفة المأمون مع قائده الإفشين حتى هزمهم. ثم غادر الخليفة المأمون مصر سنة 217 هـ بعد أن ظل فيها أكثر من أربعين يوما، ثم عاد إلى عاصمة الخلافة بغداد.
تململ الخليفة المأمون منهم لدرجة أن المسلمين كانوا يتظلمون منهم أو كما قال: "قال عمرو بن عبد الله الشيباني: استحضرني المأمون في بعض لياليه ونحن بمصر، فقال لي: قد كثرت سعايات النصارى، وتظلم المسلمون منهم، وخذلوا السلطان في ماله". وكانت هذه آخر حركة عصيان مسلح قام به الأقباط، وخاصة أقباط الوجه البحري. ورغم نقضهم لجميع الاتفاقيات المتعلقة بأهل الذمة خلال هذه الفترات التاريخية إلا أن الحكام المسلمين كانوا يعفون عنهم. وكان في إمكان هؤلاء الحكام والولاة أن يبيدوهم عن بكرة أبيهم بموجب قانون الحرب. وكانت لدى هؤلاء الحجة، وهي نقض الأقباط العقود المتعلقة بأهل الذمة. لكنهم للأسف الشديد ظلوا يتربصون بالمسلمين الدوائر، خاصة في حالات ضعف الدولة الإسلامية أو في حالات العدوان الذي شنه أعداء الأمة الإسلامية بدءًا من الصليبيين الأوائل ومرورا بالعدوان الفرنسي على مصر 1213هـ الموافق 1798م، وانتهاء بالصليبيين الجدد (احتلال بريطانيا لمصر عام 1882م، ثم موقف بعض الضباط النصارى والجنود إبان العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956م عندما كانوا يذهبون للجنود الفرنسيين ويقولون لهم: نحن مسيحيون مثلكم. وكانت فضيحة بكل المقاييس. لذلك غضت الدولة الطرف عنها ولم تسلط عليها أضواء وسائل الإعلام خشية غضبة الأمريكان الذين تدخلوا لمساعدة حكومة ناصر في ذلك الوقت.
النقطة الثانية: عيسى العوام رمز الوحدة الوطنية (الهلال والصليب). لقد اختار النظام المصري في حقبة الستينات قصة شاب اسمه عيسى العوام وزعموا أنه كان نصرانيا، هذا الشاب الذي كان يحارب مع السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، وكان ماهرا في الغوص والعوم ويتجسس على الصليبيين وينقل الرسائل ويهربها للسلطان صلاح الدين. وكانت هذه القصة ضمن المقرر الدراسي لتلاميذ المرحلة الابتدائية. ولم يكتفوا بذلك بل شُخِّصَتْ في فيلم "الناصر صلاح الدين" ليؤكدوا على هذه الوحدة الوطنية الموهومة ليثبتوا أن الأقباط شركاء للمسلمين في الوطن (مصر) وأنهم شركاء في مقاومة المحتل (الصليبيين، الفرنسيس، الإنجليز) ثم ثبت أن أصل القصة مختلق ولا علاقة لعيسى العوام الحقيقي بعيسى العوام "النسخة المعدَّلة" لعبد الرحمن الشرقاوي وكتبة سيناريو فيلم الناصر صلاح الدين.
وحتى لا يظن ظان أننا نفتري على القوم سنستعين بشاهد عيان ومؤرخ أمين (بهاء الدين بن شداد- ت632هـ)، فقد كان موجودا في عكا إبان حصار الصليبين لهم في سنة 586هـ. وقد ذكر ذلك بالتفصيل في كتابه الماتع: "المحاسن اليوسفية"، وهذا نصه: عيسى الغواص الحقيقي كان مسلما. قال ابن شداد: "ومن نوادر هذه الواقعة ومحاسنها أن عواما مسلما كان يقال له: عيسى، وكان يدخل إلى البلد بالكتب والنفقات على وسطه ليلاً على غِرَّةٍ من العدو، وكان يغوص ويخرج من الجانب الآخر من مراكب العدو. وكان ذات ليلة شَدَّ على وسطه ثلاثة أكياس فيها ألف دينار وكُتُبٌ للعسكر، وعام في البحر فجرى عليه ما أهلكه، وأبطأ خبره عنا. وكانت عادته أنه إذا دخل البلد طار طير عرّفنا بوصوله، فأبطأ الطير، فاستشعر الناس هلاكه. ولما كان بعد أيام بينما الناس على طرف البحر في البلد، وإذا البحر قد قذف إليهم ميتا غريقا، فافتقدوه فوجدوه عيسى العوام، ووجدوا على وسطه الذهب وشمع الكتب. وكان الذهب نفقة للمجاهدين، فما رُؤِيَ من أدى الأمانة في حال حياته وقد أداها بعد وفاته إلا هذا الرجل".
النقطة الثالثة: الحملة الفرنسية (1213هـ/ 1798م- 1216هـ/ 1801م) ودور الأقباط فيها: من منا لا يعرف المعلم يعقوب حنا القبطي، وملطي، وجرجس الجوهري، وأنطوان الملقب بأبي طاقية، وبرتيلمي الملقب بفرط الرومان، ونصر الله النصراني ترجمان قائمقام بلياز، وميخائيل الصباغ، وغيرهم من زعماء النصارى الذين كانوا يعملون مع المحتل الفرنسي لمصر؟ لقد استغل نصارى مصر احتلال نابليون لمصر فتقربوا إليه واستعان بهم ليكونوا عيون جيشه حيث كانوا يرشدونهم على بيوت أمراء المماليك ورجال المقاومة الذين كانوا يجاهدون الفرنسيس. وكل ذلك ثابت لدى الجبرتي في "عجائب الآثار" ونقولا الترك في "أخبار الفرنساوية وما وقع من أحداث في الديار المصرية"، إذ يؤكد المؤرخان المعاصران للحملة الفرنسية أن نابليون استقدم معه جماعة من نصارى الشام الكاثوليك كتراجمة، بالإضافة إلى استعانته بنصارى مصر الأرثوذكس. وقد ذكر الجبرتي المعلم يعقوب القبطي، الذي كان يجمع المال من الأهالي لمصلحة الفرنسيس. بل إن المعلم يعقوب وصل به الأمر أنْ كوَّن فرقة من الأقباط لمعاونة المحتل، إذ يقول الجبرتي: "ومنها أن يعقوب القبطي لما تظاهر مع الفرنساوية وجعلوه ساري عسكر القبطة جمع شبان القبط وحلق لحاهم وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية... وصيرهم ساري عسكره وعزوته وجمعهم من أقصى الصعيد، وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى التي هو ساكن بها خلف الجامع الأحمر، وبنى له قلعة وسورها بسور عظيم وأبراج وباب كبير". بل إنهم كانوا يقطعون الأشجار والنخيل من جميع البساتين كما تفعل قوات الاحتلال في فلسطين والعراق، ولم يتورعوا في هدم المدافن والمقابر وتسويتها بالأرض خوفا من تترس المحاربين حسب وصف الجبرتي... حتى قال: "وبثوا الأعوان وحبسوهم وضربوهم، فدُهِىَ الناس بهذه النازلة التي لم يصابوا بمثلها ولا ما يقاربها". بل كان زعيمهم برتيلمي (الذي تلقبه العامة بـ"فرط الرمان" لشدة احمرار وجهه) كان يشرف بنفسه على تعذيب المجاهدين. وهو الذي قام بحرق المجاهد سليمان الحلبي قاتل كليبر. وكان هذا البرتيلمي يسير في موكب وحاشية، ويتعمد إهانة علماء المسلمين ويضيق عليهم في الطرقات محتميا في أسياده الفرنسيس تماما مثل ما يحدث في العراق اليوم من خلال الجواسيس الذين يعملون مع الاحتلال الأمريكي الذين يرشدون قوات الاحتلال على بيوت المقاومين.
نص عريضة زعماء الأقباط إلى الجنرال منو: "حضرة ساري عسكر العام، إن جنابكم من قبل ما فيكم من العدل والحلم والفطنة أرسلتم تسألونا بأن نوضح لكم ما نحن به من القهر. نحن قبل الآن لم نقصد كشف جراحنا التي كانت في كل يوم تتسع شيئا فشيئا: أولاً تسليمًا للمقادير وعشمًا بكون كل واحد منا يرجع لذاته ويحاسب نفسه. ثانيًا خوفا من أن يقال عنا إننا نحب السجس (الظلم) ونواخد (نؤاخذ) بذلك من الحكام. ثالثا: ليلى (لئلا) يتضح كأننا أخصام لإخوتنا وقاصدين الشكوى عليهم. ولكن من حيث جنابكم أبو الجميع وطبيب الرعايا، وقد زاد علينا الحال حتى ظهرنا من جملة العصاة على أوامركم، وقد قاصصتمونا لذلك، فاقتضى الحال أن نستغيث بكرسيكم تعيّنوا بأمركم أناسا من أهل الفطنة خاليين الغرض ممن ترونهم أنتم يقعدوا في ما بيننا ويتبصروا في حال حسابنا. وفي النهاية بعد أن يردوا الجواب لجنابكم لكم التبصر فيما تأمرون به. ومع ذلك فنرجوكم بأن لا تظنوا بكوننا قاصدين بعرضحالنا الشكوى على أحد أم قصاصه، بل قصاصنا نحن بوجه خاص إنكان (إن كان) يظهر كلامنا هذا بخلاف الواقع. ثم إن هذا الأمر يدركه أيضا خادمكم الخاص حضرة الجنرال يعقوب. ومع ذلك لأجل طبعه الوديع محتار كيف يتصرف في مثل هذه الدعوى والله تعالى يحفظكم. من عند توابعكم المباشرين: ملطي وأنطوان". أقول: مع العلم أن ملطي هذا كان من أكبر زعماء الأقباط، وقد ظهر نجمه في أيام الاحتلال الفرنسي لمصر. وقد تولى في عهد نابليون رئاسة محكمة القضايا، وهي أول محاولة لتنحية الشريعة الإسلامية في مصر لأن هذه الهيئة كانت تتكون من اثني عشر تاجرا نصفهم من المسلمين، والنصف الآخر من النصارى. وأسند منصب رئيس المحكمة إلى قاضي قبطي هو الملطي الموقع على العريضة السابقة للجنرال مينو، الذي خلف كليبر في الحكم، وكذلك صديقه أنطوان الذي كانت تلقبه عوام المصريين بأبي طاقية، وكان من كبار زعماء الأقباط وأكثرهم غنى. وأما الجنرال يعقوب فهو نفسه المعلم يعقوب حنا رجل الاحتلال الفرنسي وخادمهم المخلص الذي رحل معهم إلى فرنسا.
هكذا لم يثبت تاريخيا أن النصارى قاوموا الاحتلال الفرنسي. وأما حكاية اختراع بطولات وهمية، مثل أن بعض الأقباط في ثورة القاهرة الثانية كان يمد الثوار بالمال واللوازم، خاصة في منطقة بولاق أثناء حصار كليبر لأهالي بولاق، فهذه شهادة الجبرتي: "أما أكابر القبط مثل جرجس الجوهري وفلتيوس وملطي فإنهم طلبوا الأمان من المتكلمين من المسلمين لكونهم انحصروا في دورهم وفي وسطهم، وخافوا على نهب دورهم إذا خرجوا فارين، فأرسلوا إليهم الأمان". إذن ما دورهم في مقاومة الاحتلال الفرنسي إلا الفزع والهلع وطلب الأمان ثم صاروا العين الحارسة لمصالح الإحتلال. بل إن زعيمهم المعلم يعقوب حنا كان شغله الشاغل هو حرب زعيم المجاهدين في منطقة بولاق حسن بك الجداوي. لماذا؟ لأن حسن بك الجداوي كان يطلب من الأغنياء مساعدة المجاهدين لشراء أسلحة وبارود وذخائر ومؤن وكل مستلزمات المقاومة، فكان من يدفع منهم مالاً كان لصيانة نفسه وخوفه من انتقام المقاومين الذين كانوا متترسين في منطقة بولاق بالقاهرة وضواحيها. لذلك قال الجبرتي في عجائبه: "وأما المعلم يعقوب فإنه كرنك في داره بالدرب الواسع جهة الرويعي واستعد استعدادا كبيرا بالسلاح والعسكر المحاربين، وتحصن بقلعته التي كان شيدها بعد الواقعة الأولى، فكان معظم حرب حسن بك الجداوي معه". هكذا استعد المعلم يعقوب لزعيم المجاهدين المسلمين، وليس لجيش الاحتلال الفرنسي! كما أننا نتساءل: أين كان شباب الأقباط في ذلك الوقت؟ ولماذا لم نر لهم دورا في مقاومة المحتل الفرنسي ولو كان ضعيفًا؟" (http://www.almaqreze.net/ar/articles...article_id=248).
هذا ما أحببت نقله من المقال المذكور. أما إذا كانت الكاتبة لا تستطيع أن تتناول مثل تلك الموضوعات لقد كان بمقدروها أن تدير روايتها على المظالم البشعة التى كانت الدولة الرومانية لا تعرف سواها فى تعاملها مع المصريين قبل الفتح الإسلامى. وقد عرفت مصر ثورات غير قليلة ضد الظلم الرومانى، ومنها تلك الثورة التى انفجرت فى ذات المناطق التى اشتعل فيها تمرد البشموريين، وهى مناطق شمال الدلتا. وعنها يقول د. حسين فوزى فى كتابه: "سندباد مصرى": "وفى عهد مرقس أوريليوس قيصر الفيلسوف الرواقى المشهور (161- 180م) تنشب ثورة مصرية فى برارى الدلتا وبحيراتها تزعمها الكاهن إيزيدورس، وقام بها على رأس الفلاحين بمنطقة شرقى الإسكندرية تعرف باسم "بوكوليا"، أى مرعى البقر، وكسر الجند الرومانى وبلغ أبواب الإسكندرية، فأنفذ إليهم الإمبراطور جحافله الرومانية التى تحتل سورية بقيادة حاكمها فقضى على الثورة بالحيلة والوقيعة بين الثوار" (د. حسين فوزى/ سندباد عصرى/ ط3/ دار المعارف/ 1990م/ 127). وبعد هذا بقليل يورد فوزى نص ما كتبه البابا إثناسيوس عام 356م فى وصف واحدة من فظائع الرومان، الذين لم يشفع للمصريين اتحادهم معهم فى الدين أن يعامَلوا على أيديهم بشىء من الإنسانية. يحكى بابا الإسكندرية ما وقع لَدُنْ حصار كنيسة العذراء بتلك المدينة من قبل آلاف الجنود الرومانيين وقت الغروب: "أما أنا فجلست على الكرسى الخاص بى وأوعزت إلى الشماس أن يتلو المزمور السادس والثلاثين بعد المائة، وكان المصلون يرددون قائلين: "هو الرحيم إلى أبد الآبدين". وحان وقت الانصراف، وكان الظلام قد بدأ يهوى على خارج الكنيسة، وشرع العسكر يطرقون أبوابها طرقا عنيفا... ثم فتحوا الباب عَنْوَةً. واقتحم الجيش الرومانى الكنيسة، ورجاله يزعقون كمن فتحوا مدينة حصينة. وكانت سيوفهم تلمع فى ضوء أَسْرِجَة الكنيسة، واندفعوا كالسيل الجارف متجهين إلى حيث أجلس، فوقفت وأمرت الناس أن ينجوا بأنفسهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ولكن بعضهم حاول اعتراض الجند فى طريقهم إلىَّ، فذبحهم الجنود ذبحا وداسوهم بأقدامهم وتعقبوا الفارّين منهم. وألح القساوسة علىَّ كى أنجو بنفسى، فأَبَيْتُ قائلا: ليست نفسى أعزّ علىَّ من نفوس الآخرين. وكنت موقنا بأن ثباتى فى مكانى أمام الساعين إلى حتفى سيجعل الجنود ينصرفون إلى شخصى ويتركون الآخرين، فعوّلتُ أن أبقى حتى ينجو الشعب... ولما انصرف أكثر الناس جاء الرهبان مع من تخلفوا من القساوسة وحملونى خارجا" (المرجع السابق/ 128).
والآن لا بد أن نورد وجهة النظر الإسلامية فيما وقع على عهد المأمون وصورته الكاتبة على نحو يوحى بأن المسلمين وحوش مفترسة. قال ابن القيم فى كتابه: "أحكام أهل الذمة" (تحقيق يوسف بن أحمد البكرى وشاكر توفيق العارورى/ رمادى للنشر/ 1418 هـ- 1997م/ ج1): "وأما المأمون فقال عمرو بن عبد الله الشيبانى: استحضرنى المأمون فى بضع لياليه ونحن بمصر فقال لى: قد كثرت سعايات النصارى، وتظلم المسلمون منهم وخانوا السلطان فى ماله. ثم ثال: يا عمرو، تعرف من أين أصل هؤلاء القبط؟ فقلت: هم بقية الفراعنة، الذين كانوا بمصر، وقد نهى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن استخدامهم. فقال: صف لى كيف كان تناسلهم فى مصر. فقلت: يا أمير المؤمنين، لما أخذت الفُرْس المُلْك من أيدى الفراعنة قتلوا القبط، فلم يبق منهم إلا من اصطنعته يد الهرب واختفى بأنصنا وغيرها، فتعلموا طبا وكتابة، فلما ملكت الروم مُلْك الفُرْس كانوا سببا فى إخراج الفرس عن ملكهم، وأقاموا فى مملكة الروم إلى أن ظهرت دعوة المسيح... وبقى فى نفس المأمون منهم. فلما عاد إلى بغداد اتفق لهم مجاهرة فى بغداد بالبغى والفساد على معلمه على بن حمزة الكسائى...".
وعلى أية حال لم يكن المسلمون على النحو الذى صورته المؤلفة، كما لم يكن النصارى ملائكة أطهارا كما تحاول إيهامنا. ولقد كتب ابن القيم فى كتابه: "أحكام أهل الذمة" عن بعض أفعال النصارى فى العصور القديمة، فقال مثلا عما صنعوه بالمسلمين أيام الخليفة العباسى الآمر بالله: " وكذلك فى أيام الآمر بالله امتدت أيدى النصارى وبسطوا أيديهم بالجناية وتففنوا فى أذى المسلمين وإياصل المضرة إليهم، واستعمل منهم كاتب يُعْرَف بالراهب، ويلقَّب بالأب القديس، الروحانى النفيس، أبى الآباء، وسيد الرؤساء، مقدم دين النصرانية، وسيد البتركية، صفىّ الرب ومتاره، ثالث عشر الحواريين، فصادر اللعين عامة من بالديار المصرية من كاتب وحاكم وجندى وعامل وتاجر، وامتدت يده إلى الناس على اختلاف طبقاتهم، فخوّفه بعض مشايخ الكتّاب من خالقه وباعثه ومحاسبه، وحذره ن سوء عواقب أفعاله، وأشار إليه بترك ما يكون سببا لهلاكه. و كان جماعة من كتّاب مصر وقبطها فى مجلسه، فقال مخاطبا له ومسمعها للجماعة: نحن ملاّك هذه الديار حربًا وخَرَاجًا، ملكها المسلمون منا وتغلبوا علينا وغصبوها واستملكوها من أيدينا، فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة ما فعلوا بنا، ولا يكون له نسبة إلى من قُتِل من رؤسائنا وملوكنا فى أيام الفتوح، فجميع ما نأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حِلٌّ لنا، وبعض ما نستحقه عليهم. فإذا حملنا لهم مالا كانت الـمِنَّة عليهم. وأنشد:
بِنْت كَرْمٍ غصبوها أمّها * فأهانوها، فدِيسَتْ بالقَدَمْ
ثم عادوا حكّموها فيهمو * ولناهيكَ بخصمٍ يحتكمْ
فاستحسن الحاضرون من النصارى والمنافقين ما سمعوه منه، واستعادوه وعضوا عليه بالنواجذ حتى قيل إن الذى اختاطّ عليه اللعين من أملاك المسلمين مائتا ألف واثنان وسبعون ألفا ما بين دار وحانوت وأرض بأعمال الدولة إلى أن أعادها إلى أصحابها أبو على بن الأفضل، ومن الأموال ما لا يحصيه إلا الله. ثم انتبه الآمر من رقدته، وأفاق من سَكْرته، وأدركته الحميّة الإسلامية، والغيرة المحمدية، فغضب لله غَضَبَ ناصرٍ للدين، وبارٍّ بالمسلمين، وألبس الذمة الغيار، وأنزلهم بالمنزلة التى أمر الله أن ينزلوا بها من الذل والصَّغار، وأمر ألا يُوَلَّوْا شيئا من أعمال الإسلام وأن ينشئوا فى ذلك كتابا يقف عليه الخاص والعام...".

وفى عهد الملك الصالح أيوب حدث ما يلى طبقا لما قصه علينا ابن القيم أيضا فى الكتاب المذكور، إذ قال: "ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتاب، ومكاتبتهم الفرنج أعداء الإسلام، وتمنيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان، لَثَنَاهُمْ ذلك عن تقريِبهم وتقليدهم الأعمال. وهذا الملك الصالح أيوب كان في دولته نصراني يسمى محاضر الدولة أبا الفضائل بن دخان، ولم يكن فى المباشرين أمكن منه. وكان المذكور قذاةً في عين الإسلام، وبثرة في وجه الدين. ومثالبه في الصحف مسطورة، ومخازيه مخلدة مذكورة، حتى بلغ من أمره أنه وقَّع لرجل نصراني أسلم برده إلى دين النصرانية، وخروجه من الملة الإسلامية. ولم يزل يكاتب الفرنج بأخبار المسلمين وأعمالهم وأمر الدولة وتفاصيل أحوالهم. وكان مجلسه معمورا برسل الفرنج والنصارى، وهم مكرمون لديه، وحوائجهم مقضية عنده، ويحل لهم الأدرار والضيافات وأكابر المسلمين محجوبون على الباب لا يؤذن لهم، وإذا دخلوا لم يُنْصَفوا في التحية ولا في الكلام. فاجتمع به بعض أكابر الكتاب فلامه على ذلك وحذره من سوء عاقبة صنعه، فلم يزده ذلك إلا تمردا. فلم يمض على ذلك إلا يسير حتى اجتمع في مجلس الصالح أكابر الناس من الكتاب والقضاة والعلماء، فسأل السلطان بعض الجماعة عن أمر أفضى به إلى ذكر مخازي النصارى، فبسط لسانه في ذلك، وذكر بعض ما هم عليه من الأفعال والأخلاق، وقال من جملة كلامه: إن النصارى لا يعرفون الحساب ولا يدرونه على الحقيقة لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة، والثلاثة واحدا... ثم قال: كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده، ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة، وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان دينارا، وأخذ لنفسه اثنين، ولا سيما وهو يعتقد ذلك قربة وديِانة؟ وانصرف القوم. واتفق أن كَبَتْ بالنصراني بِطْنته، وظهرت خيانته، فأريق دَمُه، وسُلِّطَ على وجوده عَدَمُه".
أما بالنسبة إلى العصر الحاضر فيحسن إيراد ما كتبه الشيخ محمد الغزالى فى كتابه: "قذائف الحق" عن خطط الكنيسة. ولا أظن الشيخ، رحمه الله، كان يلقى الكلام على عواهنه، وإلا لقُدِّم للمحاكمة، فضلا عن أن الأحداث التى تلت ذلك قد برهنت على أن ما أورده الرجل الشجاع فى ذلك الكتاب الذى مُنِعَ حينئذ ولا يزال ممنوعا حتى الآن من الطباعة فى مصر هو حقائق قاطعة لا تقبل التكذيب. ومثل الشيخ الغزالى برجاحة عقله وكياسته وتأنيه وحسن تأتيه وحكمته وطهارة سمعته يستحيل أن يقدم على كتابة شىء من هذا دون أن يكون مالئا يديه تماما وفوق التمام مما يقول. وها هو ذا د. محمد سليم العوا، وهو رجل قانون من الوزن الثقيل، وله (أو كانت له) صداقات وثيقة مع كبار رجال الكنيسة المصرية، يقول منذ أيام قليلة نفس الكلام على مرأى ومسمع من العالم كله شرقه وغربه، وشماله وجنوبه، متحديا الجميع بما فيهم الحكومة ذاتها أن يثبتوا كذب شىء مما قال. ومثله لا يمكن أن يقول كلاما كهذا دون أن يكون واثقا مليارا فى المائة من صحته المطلقة. ولا ننس قبل هذا كله أن رأس الكنيسة قد تمت محاكمته فى عهد الرئيس السادات، رحمة الله عليه، وأُدِينَ وعُزِل.
قال فضيلة الشيخ الغرالى رحمه الله رحمة واسعة بشىء ضئيل جدا جدا من التصرف: ""كنت في الإسكندرية، في مارس من سنة 1973، وعلمت من غير قصد بخطاب ألقاه البابا شنودة في الكنيسة المرقصية الكبرى في اجتماع سرى أعان الله على إظهار ما وقع فيه. وإلى القراء ما حدث، كما نقل مسجلا إلى الجهات المعنية: "بسم الله الرحمن الرحيم نقدم لسيادتكم هذا التقرير لأهم ما دار في الاجتماع: بعد أداء الصلاة و التراتيل طلب البابا شنودة من عامة الحاضرين الانصراف، ولم يمكث معه سوى رجال الدين وبعض أثريائهم بالإسكندرية، وبدأ كلمته قائلاً: إن كل شئ على ما يرام، ويجري حسب الخطة الموضوعة لكل جانب من جوانب العمل على حدة في إطار الهدف الموحد. ثم تحدث في عدد من الموضوعات على النحو التالي: أولا- عدد شعب الكنيسة: صرح لهم أن مصادرهم في إدارة التعبئة والإحصاء أبلغتهم أن عدد المسيحيين في مصر ما يقارب الثمانية مليون، وعلى شعب الكنيسة أن يعلم ذلك جيدا، كما يجب عليه أن ينشر ذلك ويؤكده بين المسلمين، إذ سيكون ذلك سندنا في المطالب التي سنتقدم بها إلى الحكومة التي سنذكرها لكم اليوم. والتخطيط العام الذي تم الاتفاق عليه بالإجماع، والتي صدرت بشأنه التعليمات الخاصة لتنفيذه، وُضِع على أساس بلوغ شعب الكنيسة إلى نصف الشعب المصري، بحيث يتساوى عدد شعب الكنيسة مع عدد المسلمين لأول مرة منذ 13 قرنا، أي منذ "الاستعمار العربي والغزو الإسلامي لبلادنا" على حد قوله. والمدة المحددة وفقا للتخطيط الموضوع للوصول إلى هذه النتيجة المطلوبة تتراوح بين 12- 15 سنة من الآن. ولذلك فإن الكنيسة تحرم تحريما تاما تحديد النسل أو تنظيمه، وتعد كل من يفعل ذلك خارجا عن تعليمات الكنيسة، ومطرودا من رحمة الرب، وقاتلاً لشعب الكنيسة، ومضيعا لمجده، وذلك باستثناء الحالات التي يقرر فيها الطب و الكنيسة خطر الحمل أو الولادة على حياة المرأة.
وقد اتخذت الكنيسة عدة قرارات لتحقيق الخطة القاضية بزيادة عددهم: 1- تحريم تحديد النسل أو تنظيمه بين شعب الكنيسة. 2- تشجيع تحديد النسل وتنظيمه بين المسلمين (خاصة وأن أكثر من 65% من الأطباء والقائمين على الخدمات الصحية هم من شعب الكنيسة). 3- تشجيع الإكثار من شعبنا، ووضع حوافز ومساعدات مادية ومعنوية للأسر الفقيرة من شعبنا. 4- التنبيه على العاملين بالخدمات الصحية على المستويين الحكومي و غير الحكومي كي يضاعفوا الخدمات الصحية لشعبنا، وبذل العناية والجهد الوافرين، وذلك من شأنه تقليل الوفيات بين شعبنا (على أن نفعل عكس ذلك مع المسلمين). 5- تشجيع الزواج المبكر وتخفيض تكاليفه، وذلك بتخفيف رسوم فتح الكنائس ورسوم الإكليل بكنائس الأحياء الشعبية. 6- تحرم الكنيسة تحريما تاما على أصحاب العمارات والمساكن المسيحيين تأجير أي مسكن أو شقة أو محل تجاري للمسلمين، وتعتبر من يفعل ذلك من الآن فصاعدا مطرودا من رحمة الرب ورعاية الكنيسة، كما يجب العمل بشتى الوسائل على إخراج السكان المسلمين من العمارات والبيوت المملوكة لشعب الكنيسة، وإذا نفذنا هذه السياسة بقدر ما يسعنا الجهد فسنشجع و نسهل الزواج بين شبابنا المسيحي، كما سنصعبه و نضيق فرصه بين شباب المسلمين، مما سيكون أثر فعال في الوصول إلى الهدف، و ليس بخافٍ أن الغرض من هذه القرارات هو انخفاض معدل الزيادة بين المسلمين و ارتفاع هذا المعدل بين شعبنا المسيحى.
ثانيا- اقتصاد شعب الكنيسة: قال شنودة: إن المال يأتينا بقدر ما نطلب وأكثر مما نطلب، وذلك من مصادر ثلاثة: أمريكا، الحبشة، الفاتيكان، ولكن ينبغي أن يكون الاعتماد الأول في تخطيطنا الاقتصادي على مالنا الخاص الذي نجمعه من الداخل، وعلى التعاون على فعل الخير بين أفراد شعب الكنيسة، كذلك يجب الاهتمام أكثر بشراء الأرض، و تنفيذ نظام القروض و المساعدات لمن يقومون بذلك لمعاونتهم على البناء، وقد ثبت من واقع الإحصاءات الرسمية أن أكثر من 60% من تجارة مصر الداخلية هي بأيدي المسيحيين، وعلينا أن نعمل على زيادة هذه النسبة. وتخطيطنا الاقتصادي للمستقبل يستهدف إفقار المسلمين ونزع الثروة من أيديهم ما أمكن، بالقدر الذي يعمل به هذا التخطيط على إثراء شعبنا، كما يلزمنا مداومة تذكير شعبنا والتنبيه عليه تنبيها مشددا من حين لآخر بأن يقاطع المسلمين اقتصاديا، وأن يمتنع عن التعامل المادي معهم امتناعا مطلقاً، إلا في الحالات التي يتعذر فيها ذلك، ويعني مقاطعة: المحاميين، المحاسبين، المدرسين، الأطباء، الصيادلة، العيادات، المستشفيات الخاصة، المحلات التجارية الكبيرة و الصغيرة، الجمعيات الاستهلاكية أيضا، وذلك مادام ممكنا لهم التعامل مع إخوانهم من شعب الكنيسة، كما يجب أن ينبهوا دوما إلى مقاطعة صنّاع المسلمين وحرفييهم والاستعاضة عنهم بالصناع والحرفيين النصارى، ولو كلفهم ذلك الانتقال والجهد والمشقة. ثم قال البابا شنودة: إن هذا الأمر بالغ الأهمية لتخطيطنا العام في المدى القريب و البعيد.
ثالثا- تعليم شعب الكنيسة: قال البابا شنودة إنه يجب فيما يتعلق بالتعليم العام للشعب المسيحي الاستمرار في السياسة التعليمية المتبعة حاليا مع مضاعفة الجهد في ذلك، خاصة و أن بعض المساجد شرعت تقوم بمهام تعليمية كالتي نقوم بها في كنائسنا، الأمر الذي سيجعل مضاعفة الجهد المبذول حاليا أمرا حتميا حتى تستمر النسبة التي يمكن الظفر بها من مقاعد الجامعة وخاصة الكليات العملية. ثم قال: إني إذ أهنئ شعب الكنيسة خاصة المدرسين منهم على هذا الجهد وهذه النتائج، إذ وصلت نسبتنا في بعض الوظائف الهامة والخطيرة كالطب والصيدلة والهندسة وغيرها أكثر من 60%، إني إذ أهنئهم أدعو لهم يسوع المسيح الرب المخلص أن يمنحهم بركاته و توفيقه، حتى يواصلوا الجهد لزيادة هذه النسبة في المستقبل القريب.
رابعا- التبشير. قال البابا شنودة:كذلك فإنه يجب مضاعفة الجهود التبشيرية الحالية، إذ أن الخطة التبشيرية التي وضعت بنيت على أساس هدف اتُّفق عليه للمرحلة القادمة، وهو زحزحة أكبر عدد من المسلمين عن دينهم والتمسك به، على ألا يكون من الضروري اعتناقهم المسيحية، فإن الهدف هو زعزعة الدين في نفوسهم، وتشكيك الجموع الغفيرة منهم في كتابهم وصدق محمد، ومن ثم يجب عمل كل الطرق واستغلال كل الإمكانيات الكنسية للتشكيك في القرآن و إثبات بطلانه و تكذيب محمد. وإذا أفلحنا في تنفيذ هذا المخطط التبشيري في المرحلة المقبلة، فإننا نكون قد نجحنا في إزاحة هذه الفئات من طريقنا، و إن لم تكن هذه الفئات مستقبلاً معنا فلن تكون علينا. غير أنه ينبغي ان يراعي في تنفيذ هذا المخطط التبشيري أن يتم بطريقة هادئة لبقة وذكية ؛ حتى لا يكون سببا في إثارة حفيظة المسلمين أو يقظتهم. وإن الخطأ الذي وقع منا في المحاولات التبشيرية الأخيرة التي نجح مبشرونا فيها في هداية عدد من المسلمين إلى الإيمان والخلاص على يد الرب يسوع المخلص هو تسرب أنباء هذا النجاح إلى المسلمين، لأن ذلك من شأنه تنبيه المسلمين وإيقاظهم من غفلتهم، وهذا أمر ثابت في تاريخهم الطويل معنا، وليس هو بالأمر الهين، ومن شأن هذه اليقظة أن تفسد علينا مخططاتنا المدروسة، وتؤخر ثمارها وتضيع جهودنا، ولذا فقد أصدرت التعليمات الخاصة بهذا الأمر، وسننشرها في كل الكنائس لكي يتصرف جميع شعبنا مع المسلمين بطريقة ودية تمتص غضبهم وتقنعهم بكذب هذه الأنباء. كما سبق التنبيه على رعاة الكنائس والآباء والقساوسة بمشاركة المسلمين احتفالاتهم الدينية، وتهنئهم بأعيادهم، وإظهار المودة والمحبة لهم. وعلى شعب الكنيسة في المصالح و الوزارات والمؤسسات إظهار هذه الروح لمن يخالطونهم من المسلمين. ثم قال بالحرف الواحد: إننا يجب أن ننتهز ما هم فيه من نكسة ومحنة لأن ذلك في صالحنا، ولن نستطيع إحراز أية مكاسب أو أي تقدم نحو هدفنا إذا انتهت المشكلة مع إسرائيل سواء بالسلم أو بالحرب. ثم هاجم من أسماهم بـ"ضعاف القلوب"، الذين يقدمون مصالحهم الخاصة على مجد شعب الرب و الكنيسة، وعلى تحقيق الهدف الذي يعمل له الشعب منذ عهد بعيد، وقال إنه لم يلتفت إلى هلعهم، وأصر أنه سيتقدم للحكومة رسميا بالمطالب الواردة بعد، حيث إنه إذا لم يكسب شعب الكنيسة في هذه المرحلة مكاسب على المستوى الرسمي فربما لا يستطيع إحراز أي تقدم بعد ذلك. ثم قال بالحرف الواحد: وليعلم الجميع، خاصة ضعاف القلوب، أن القوى الكبرى في العالم تقف وراءنا ولسنا نعمل وحدنا، ولا بد من أن نحقق الهدف. لكن العامل الأول والخطير في الوصول إلى ما نريد هو وحدة شعب الكنيسة و تماسكه و ترابطه. ولكن إذا تبددت هذه الوحدة وذلك التماسك فلن تكون هناك قوة على وجه الأرض مهما عظم شأنها تستطيع مساعدتنا.
ثم قال: ولن أنسى موقف هؤلاء الذين يريدون تفتيت وحدة شعب الكنيسة، وعليهم أن يبادروا فورا بالتوبة وطلب الغفران والصفح، وألا يعودوا لمخالفتنا ومناقشة تشريعاتنا وأوامرنا. والرب يغفر لهم (وهو يشير بذلك إلى خلاف وقع بين بعض المسئولين منهم، إذ كان البعض يرى التريث وتأجيل تقديم المطالب المزعومة إلى الحكومة). ثم عدد البابا شنودة المطالب التي صرح بها بأنه سوف يقدمها رسمياً إلى الحكومة: 1- أن يصبح مركز البابا الرسمي في البروتوكول السياسي بعد رئيس الجمهورية وقبل رئيس الوزراء.2- أن تخصص لهم 8 وزارات (أى يكون وزراؤها نصارى).3- أن تخصص لهم ربع القيادات العليا في الجيش والبوليس. 4- أن تخصص لهم ربع المراكز القيادية المدنية، كرؤساء مجالس المؤسسات والشركات والمحافظين ووكلاء الوزارات والمديرين العامين ورؤساء مجالس المدن. 5- أن يستشار البابا عند شغل هذه النسبة في الوزارات والمراكز العسكرية و المدنية، و يكون له حق ترشيح بعض العناصر و التعديل فيها. 6- أن يسمح لهم بإنشاء جامعة خاصة بهم. وقد وضعت الكنيسة بالفعل تخطيط هذه الجامعة، و هي تضم المعاهد اللاهوتية الكليات العملية و النظرية، وتمول من مالهم الخاص. 7- يسمح لهم بإقامة إذاعة من مالهم الخاص. ثم ختم حديثه بأن بشّر الحاضرين، وطلب إليهم نقل هذه البشرى لشعب الكنيسة، بأن أملهم الأكبر في عودة البلاد والأراضي إلى أصحابها من "الغزاة المسلمين" قد بات وشيكا، وليس في ذلك أدنى غرابة، في زعمه. وضرب لهم مثلاً بأسبانيا النصرانية التي ظلت بأيدي "المستعمرين المسلمين" قرابة ثمانية قرون (800 سنة)، ثم استردها أصحابها النصارى. ثم قال: وفي التاريخ المعاصر عادت أكثر من بلد إلى أهلها بعد أن طردوا منها منذ قرون طويلة جدا (واضح أن شنودة يقصد إسرائيل). وفي ختام الاجتماع أنهى حديثه ببعض الأدعية الدينية للمسيح الرب الذي يحميهم و يبارك خطواتهم". بين يَدَىْ هذا التقرير المثير لا بد من كلمة: إن الوحدة الوطنية الرائعة بين مسلمى مصر وأقباطها يجب أن تبقى وأن تصان، وهى مفخرة تاريخية، ودليل جيد على ما تسديه السماحة من بر وقسط. ونحن ندرك أن الصليبية تغص بهذا المظهر الطيب وتريد القضاء عليه، وليس بمستغرب أن تفلح فى إفساد بعض النفوس وفى رفعها إلى تعكير الصفو. وعلينا، والحالة هذه، أن نرأب كل صدع، ونطفئ كل فتنة، لكن ليس على حساب الإسلام والمسلمين، وليس كذلك على حساب الجمهور الطيب من المواطنين الأقباط. وقد كنت أريد أن أتجاهل ما يصنع الأخ العزيز شنودة الرئيس الدينى لإخواننا الأقباط، غير أنى وجدت عددا من توجيهاته قد أخذ طريقه إلى الحياة العملية.
الحقائق تتكلم: فقد قاطع الأقباط مكاتب تنظيم الأسرة تقريبا،
ونفذوا بحزمٍ خطة تكثير عددهم فى الوقت الذى تنفذ فيه بقوة وحماسة سياسة تقليل المسلمين. ثم إن الأديرة تحولت إلى مراكز تخطيط وتدريب، خصوصا أديرة وادى النطرون، التى يذهب إليها بابا الأقباط ولفيف من أعوانه المقربين، والتى يستقدم إليها الشباب القبطى من أقاصى البلاد لقضاء فترات معينة وتلقى توجيهات مريبة. وفى سبيل إضفاء الطابع النصرانى على التراب المصرى استغل الأخ العزيز شنودة ورطة البلاد فى نزاعها مع اليهود والاستعمار العالمى لبناء كنائس كثيرة لا يحتاج العابدون إليها لوجود ما يغنى عنها. فماذا حدث؟ لقد صدر خلال أغسطس وسبتمبر وأكتوبر سنة 1973 خمسون مرسوما جمهوريا بإنشاء 50 كنيسة يعلم الله أن أغلبها بُنِىَ للمباهاة وإظهار السطوة وإثبات الهيمنة فى مصر. وقد تكون الدولة محرجة عندما أذنت بهذا العدد الذى لم يسبق له مثيل فى تاريخ مصر. لكننا نعرف المسئولين أن الأخ العزيز شنودة لن يرضى لأنه فى خطابه كشف عن نيته، وهى نية تسىء إلى الأقباط والمسلمين جميعا. ومبلغ علمى أن الخطاب مسجل بصوت البابا نفسه ومحفوظ، ويوجد الآن من يحاول تنفيذه كله".
فكيف نتجاهل مثل تلك القضايا الواضحة ونذهب فنتناول واقعة تحيط بها الشكوك والشبهات من كل جانب أو على الأقل: لا تتضح أبعادها للرائى، ومن شأنها أن تعقّد الأمر تعقيدا لا يُرْجَى له حل وأن تمدّ المتربصين بالوطن بما يملى لهم فى غَيّهم ويساعدهم على ارتكاب المزيد من التهور والشغب؟
على أن هناك اعتبارا آخر يتصل بالطريقة التى تم بها سرد أحداث الرواية، ألا وهو أن الراوى يسوق لنا تفصيلات كثيرة بعد وقوعها بسنين طويلة، وهو ما لا يقتنع العقل معه بأن أحداث الرواية كانت لا تزال محفوظة فى ذاكرته كما وقعت بكل تفصيلاتها وألفاظها وأشخاصها وأماكنها لا تخرم منها شيئا. فعلى سبيل المثال نرى الراوى حريصا على ذكر تاريخ كل حجر أو سُلَّمة فى الكنيسة التى كان يشتغل قيما بها فى أول الرواية، متذكرا اسم كل شخص أهداها لها والظروف التى تم الإهداء فيها، بالإضافة إلى كل إناء من الأوانى الكنسية وكل ملبس من ملابس الكهنة مع ذكر وظيفته ودلالته (ص10- 14 مثلا). واضح أن المؤلفة هى التى تتكلم هنا، وكأنها تقول لنا: أنا أعرف موضوعى جيدا، وقرأت عنه قراءة مفصلة مستوعبة لم تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها وأَوْرَدَتْها. ودليلا على ذلك نرى الراوى يشرح لنا الألفاظ الكنسية على نحو يدل دلالة واضحة لا تخطئها الأذن على أنه يتجه بكلامه إلينا نحن القراء المسلمين الذين يجهلون هذا كـ"التونية" مثلا، وهى "ثوب الكتان الطويل الواصل حتى القدمين، والمزين بالصليب المقدس على الظهر والصدر والحواف، وكذا أطراف الأكمام. وكانت تونية الأب يوساب هى الوحيدة المطرزة صلبانها بالجواهر الكريمة من ياقوت وزمرد وماس وعقيق، بينما تونيات الإكليروس جميعا قد طرزت من خيط حرير كما هو متبع دائما" كما جاء فى كلامه نصا (ص13). فالكاتبة هى التى تتكلم كما قلنا، إذ إن بدير فى كلامه لنفسه، أو حتى فى كلامه إلى أبناء دينه وعصره أيام كان لا يزال نصرانيا لم يتحول إلى الإسلام بعد، لم يكن بحاجة إلى مثل هذا الشرح لأنه وإياهم كانوا يعرفون تماما ما هى التونية.
ولتحقيق المزيدمن الفائدة، ولكيلا أبدو مقصرا عن السيدة المؤلفة، هأنذا أسوق ما يقوله "قاموس الكنيسة" (الموجود فى "موسوعة الكتاب المقدس" الضوئية فى إصدارها الرابع) عن هذا المصطلح الكنسى. تقول المادة التى تحمل اسم "تونية" فى ذلك القاموس: "تونية باليونانية (ό χiτών)، وبالإنجليزية (dalmatic, tunic, shirt): ربما كانت اللفظة "تونية" من الكلمة اللاتينية "tunica" (تونيكا). أما الاسم الدّارِج عند الأقباط فهو "كولوبيون"، ومنها جاءت كلمة "جلابية" باللغة العربية. و"الكولوبيون" هي تونية، ولكن بأكمام قصيرة مُثَبَّتة فيها، بينما أن أكمام التونيه طويلة يمكن تركيبها أو فصلها من التونية. ويستخدم السريان تونية بيضاء مثل الأقباط واليونانيين، ويطلقون عليها اسم "kutina" (كوتينة- كوتينا). وهو اسم مُشتق من الكلمة اليونانية "خيوتونيون" حسب قول Renudot. والأرمن يطلقون عليها اسم "Shapich". وهي تُعرَف في الكنيسة اليونانية باسم "إستيخارة". وتُعرَف في الغرب باسم "Alb"، وهي في اللاتينية "L'aube". والتونية رداء أبيض من الكتان أو الحرير يصل من الرقبة إلى رسغ القدم، ويرتديها الشمّاس أو الكاهن أو الأسقف. ولكنها للأسقف ذو أكمام يمكن تثبيتها أو رفعها. وفي الغرب لها حزام حول الخاصرة يرتديه الخدام أثناء القداس الإلهي. وهي بلونها الأبيض تمثل الطهارة والنقاوة حين يرتديها الخدام سائلين الرب قائلين: "قلبًا نقيًّا اخْلُقْ فيَّ يا ألله". وقد عرفتها الكنيسة الشرقية والغربية كقميص تحتي "under tunic" عادي يرتديه العامة. وقد استُخدِمَت في العبادة المسيحية منذ زمن مبكر. ولكنها لم تصبح رداءً كنسيًّا رسميًّا إلا في بداية القرن الخامس مثل بقية الملابس الكهنوتيّة. وتُزَيَّن التونية بالصلبان، وعند الأطراف بُحلى وبألوان لبعض المشغولات، وتُسمى: apparels".
إلا أن هناك مشكلةً ما كان أغنى المؤلفة، وما كان أغنانا نحن أيضا معها، عنها والمعاناة فنيا منها. ذلك أن الثوب الكنسى الذى يتحدث عنه بدير لم يكن فى ذلك الوقت يسمى: "تونية"، إذ من الواضح، كما رأينا فى الشرح المار لتوه، أن اسم ذلك الثوب هو تعريب لكلمة أجنبية ربما كانت هى الكلمة اللاتينية "tunica" كما قرأنا فى المادة الخاصة به فى قاموس الكنيسة. فهل كانت تلك الكلمة قد عُرِّبَتْ فى ذلك الوقت المبكر؟ بل هل كانت هى الكلمة المستعملة بين النصارى حينئذ؟ ذلك أن الشرح الذى أوردناه لتونا يذكر أن الاسم الدّارِج لها عند الأقباط هو "كولوبيون"، وأنها لم تصبح رداءً كنسيًّا رسميًّا إلا في بداية القرن الخامس مثل بقية الملابس الكهنوتيّة، أى بعد أحداث الرواية بثلاثة قرون تقريبا.
ليس ذلك فحسب، بل إن الرواية مملوءة بوصفات الأطعمة والأشربة والأدوية مغرقة فى دقائق الدقائق، مما لا يمكن أن يظل الراوى متذكرا إياه بعد كل هاتيك الأعوام الطوال، ومع ذلك نفاجأ بأن ذهنه كمبيوتر يابانى. صحيح أن الكمبيوتر اليابانى قد خرج أول من أمس من مسابقة كأس العالم حين فشل أحد لاعبيه فى تسديد ركلته الترجيحية وبكى بدموعٍ حِرَارٍ وغِزَارٍ خَشِيتُ والله معها أن يقوم بغرس السيف فى بطنه وإخراجه من ظهره أمامنا على شاشة المرناء على طريقة اليابانيين (وليس على طريقة المتبلدين ممن يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى الأمريكيين والصهيونيين دون أن يختلج لهم ضمير بل دون أن يرفّ لهم هُدْب لسماكة جلودهم وتعطل آدميتهم وتلاشى أحاسيسهم. لكن هذه مسألة أخرى تفوّر الدم وتجلب ارتفاع الضغط، ونحن لسنا ناقصين، فلأعد إلى ما كنت بسبيله فأقول إننى خشيت أن يَبْخَع الولدُ اليابانىُّ نفسَه جَرْيًا على تقاليد اليابانيين) عندما يقصّرون فى حق أمتهم ولا يؤدون واجبهم تجاهها كما ينبغى، إلا أنى لا أقصد الكمبيوتر اليابانى البشرى الذى لم يستو تماما عوده فى كرة القدم بعد، وإن كان يسير على الطريق بخطا حثيثة منذ بدا له أن يشارك فى مسابقات كرة القدم العالمية، بل الكمبيوتر الآلى، الذى لا يهنّج ولا ينسى ولا يضطرب أبدا بخلاف شبيهه الصينى والتايوانى.
ونظير ذلك أسماء العازفين فى الفرقة التى كان من المنتظر أن تحيى حفل عرس أخى الراوى لولا أن خطيبة الأخ، وهى حبيبة الراوى السابقة، قد انتحرت فانقلب الفرح غما، إذ نرى بدير (ص35- 36) ما زال يذكر أسماء أعضاء الفرقة، فضلا عن تفاصيل الأجور التى اتفق معهم عليها، وكأن الأمر لم يمر عليه سنوات وسنوات وسنوات وقع له فيها أحداث لم تكن تخطر له على بال أخذته من مصر إلى الشام فأنطاكية فالعراق فالشام مرة أخرى فمصر فى نهاية المطاف، وانتقل أثناءها من قَيِّمٍ فى كنسية قصر الشمع إلى أسير إلى خادم فى قصر المأمون ببغداد، كما ترك النصرانية وأصبح مسلما... إلخ. وهذه هى السطور التى نحن بصددها. قال بدير: "رحت أتذكر، وأنا جالس فى مطرحى ذلك، العقد وكيف أخذت، وأنا أبرمه آنذاك، فى مجادلة رئيس الفرقة الموسيقية أونفريس بن آمونيوس الجريكى ليخفض من أجر فرقته حتى وافق على أن يحصل على أربعين زوجا من الأرغفة المصنوعة من البُرّ والحلبة وتسع جِرَارٍ من النبيذ وأربعة أنصاف فضة لكل عازف من عازفيه الذين كانوا معه: تاسيوس وأفونجس بن هيراكليس وكوبروس وآرسينوى"، فضلا عن أورليوس، الذى سيذكره بعد قليل رغم أنهم لم يكونوا من مدينته، بل من مدينة بعيدة، إلى جانب أنهم لم يكونوا مصريين أصلا بل يونانيين.
ولدينا كذلك (ص47) وصفة طبية عشبية من وصفات ذلك الوقت لعلاج نوع من الديدان يسمى: "بند". والكلام فيها لثاونا رفيق الراوى فى رحلته إلى بلاد البشمورى، والخطاب موجه إلى أم صبى قابلاها فى الطريق كان ابنها مصابا بالدودة المذكورة. يقول ثاونا: "إن ولدك هذا مصاب بالدودة الشيطانية المسماة: "بند"، وقد تمكنتْ منه واستقرت فى جوفه، وهى تأكل ما يأكل جميعه. لذا فهو مصفر هزيل. لذلك عليك إعطاؤه شرابا من صمغ السليخ ممزوجا بزهر النعناع الفلفلى مع الصاس الذى يسمونه بلسان العرب الآن: الخروع، على أن يؤخذ قبل التريق بعد رجه جيدا فى القارورة لمدة ثلاثة أيام حتى تموت الدودة وتخرج من جوفه مع ما يخرج من فضلات. وإذا تقايأ مرة فلا تخافى، فهذا من الأمور المعتادة عند تناول مثل هذا الشراب. ومعناه أن الترياق قد بدأ يفنى الدودة، وهى فى سبيلها إلى الموت والنزول. ولو شرب الشيح المغلى قبل النوم كل ليلة فسوف يأتى النفع سريعا ويخلص الولد مما هو فيه". فيا للعجب أن يظل الراوى متذكرا لكل شىء فى الوصفة بما فيها من عناصر ومقادير ومواعيد ونتائج تفصيلية، وكأنه قد رقن كل هذا على الكاتوب، الذى لا يضل ولا ينسى رغم هاتيك السنين التى مرت جميعها.
وهناك ألوان الأطعمة، أو كما نقول اليوم: "أطباق الطعام"، التى تترى أسماؤها ووصفاتها على لسان الراوى كالخشكنانج والسفدية والأسفيذباجة والفالوذج والسكباجات والحنطيات والسلاقات وقلايات الطباهج وإحبارية السمك والمأمونية وجواذب الدجاج وبهطات الأرز والخبز الأفلاعمونى والخبز الماوى... إلخ (ص274). وفى موضع آخر نسمع بدير يصف بالتفصيل، جريا على عادته، كيفية صنع "العكيكة"، وهى لون من الطعام كان يُقَدَّم إلى المأمون، يصنعه له حسين الطباخ من اللحم السمين وإلية الخروف. وفى وصفة الطبق تقابلنا ألوان من الأبازير والتوابل التى تضاف بمقادير غاية فى الدقة وتتطلب شرحا على قدر من التعقيد، كالكمون والفلفل والدارصينى والملح والمصطكى والثوم واللبن الفارسى (ص281). كذلك هناك خريطة بغداد التى رسمها له حسين الطباخ لتساعده على الوصول إلى أشخاص ينتمون مع حسين إلى بعض الجماعات السرية المناهضة للنظام فى عاصمة الإمبراطورية (ص315- 316). وهى خريطة دقيقة لا تناسب ما كانت عليه الخرائط فى ذلك الوقت، فضلا عن أنه من المستبعد أن يستعين الناس آنئذ بالخرائط فى الوصول إلى ما يبغون من أماكن. إننا لا نفعل هذا الآن فى مدننا العصرية، فما بالنا بأجدادنا فى ذلك الزمن البعيد الذى لم أسمع أن أحدا فيه ولا فيما بعده بقرون قد استعان بتلك الأداة فى الاهتداء إلى ما يبغى بلوغه من الأحياء والمبانى فى مدينة كبغداد؟
كذلك لا ينبغى أن ننسى الأشعار العربية الكثيرة التى كان الراوى يسمعها مرة واحدة يتيمة فيحفظها فى الحال ولا تغادر ذاكرته أبدا رغم أنه لم يكن عربيا. بل لم يكن وقتذاك يستعمل العربية فى غالب الأحيان. وهنا لا بد أن نذكر ما لاحظناه فى هذه الأشعار من أن الألفاظ مشكَّلة تشكيلا خاطئا مما يدل على ضعف الكاتبة فى قراءة الشعر. ومن تلك النصوص التى التقطتها حافظة راوينا فلم تخرم منها حرفا الأبيات التالية التى ذكر أنه سمع أحد صوفية المسلمين ينشدها لدن إبحاره مع سائر الأسرى البشموريين من تنيس مغادرين الديار المصرية (ص205):
أفي كلِّ عام غربة ونزوحُ * أما للنّوى من منيةٍ فتريحُ؟
لقد طلح البينُ المشتُّ ركائبي * فلا أرين البينَ وهو طليحُ
وأرّقني بالري نوح حمامة * فناحتْ، وذو الشجو الحزين ينوحُ
على أنها ناحتْ، ولم تَذْرِ دمعةً * ونُحْتُ، وأسرابُ الدموع سفوحُ
ومنها كذلك الأبيات التالية التى لم ينسبها الرواى إلى شاعر معين كعادته، وهى من بحر الطويل، وصاحبها هو العَكَوَّك الشاعر العباسى، وكان معاصرا للخليفة المأمون:
أَلا رُبَّ هَمٍّ يُمنَعُ النَومُ دونَهُ * أَقامَ كَقَبْضِ الراحَتَيْنِ عَلى الجَمرِ
بَسَطْتُ لَهُ وَجهي لأَكْبِتَ حاسِدًا * وَأَبدَيْتُ عَن نابٍ ضَحوكٍ وَعَن ثَغْرِ
وَشَوقٌ كَأَطرافِ الأَسِنَّةِ في الحَشَا * مَلَكتُ عَلَيهِ طاعَةَ الدّمعِ أَن يَجري
بل إن الأمر ليبلغ مبلغا لا يطيقه العقل، وذلك حين يخبرنا بدير (ص224) أن أمه كانت تغنى أمامه وهو صغير الأبيات التالية. ووجه العجب أن هذه الأبيات لا يمكن أن تكون من نتاج العصر العباسى المبكر الذى تدور أحداث الرواية فيه. كما أن أم بدير لم تكن عربية أصلا، بل لم تكن تعرف العربية حتى تردد شعرا عربيا. تقول الأبيات الغريبة غير المنتظمة عروضيا:
صيرنى حزنى على أحبابى * عليلا بلا علة
وكاد الأسى والنوح * يخرجنى من الملة
ودهر يروح يا عين وشوقى * لخلى لا توصف له خلة
ومع هذا فلا نكران أن لكثير من الشعار التى أوردتها المؤلفة على لسان بدير عُلْقَةً بالقلب. وآخر تلك الأشعار هى الأبيات الثلاثة التى اختتمت المؤلفة بها روايتها، وهى:
حسبي اللّه توكّلتُ عليهِ * مَنْ نواصي الخلق طرًّا بيديهِ
ليس للهارب في مهربه * أبدا من راحة إلاّ إليهِ
رُبَّ رامٍ لي بأحجار الأذى * لم أجد بدًّا من العطف عليهِ
وعلى عادتى فى التنقيب عن صاحب تلك الأبيات أقول إنها لبهلول المجنون، الذى كان يعيش فى عصر الرشيد. وكتب ابن شاكر الكتبى صاحب "فوات الوفيات"، من أهل القرن الثامن الهجرى، فى ترجمته ما يلى، وهذا الذى كتبه مؤلم أشد الألم: "بهلول بن عمرو، أبو وهيب الصيرفي المجنون، من أهل الكوفة. حَدَّثَ عن أيمن بن نابل وعمرو بن دينار وعاصم بن أبي النجود. وكان من عقلاء المجانين ووسوس، وله كلام مليح ونوادر وأشعار. واستقدمه الرشيد أو غيره من الخلفاء ليسمع كلامه. توفي في حدود التسعين والمائة. قال الأصمعي: رأيت بهلولا قائما ومعه خبيص، فقلت له: أيش معك؟ قال: خبيص. فقلت: أطعمني. قال: هو ليس لي. قلت: لمن هو؟ قال: هو لحمدونة ابنة الرشيد بعثتْه لي آكله لها. وقال محمد بن أبي إسماعيل ابن أبي فديك: رأيت بهلولا في بعض المقابر، وقد أدلى رجليه في قبر، وهو يلعب بالتراب، فقلت: ما تصنع ها هنا؟ قال: أجالس أقواما لا يؤذوني، وإن غبت لا يغتابوني. فقلت: قد علا السعر مرة، فهل تدعو الله فيكشف عن الناس؟ فقال: والله ما أبالي، ولو كان حبة بدينار. لله علينا أن نعبده كما أمرنا، وعليه أن يرزقنا كما وعدنا. ثم صفق يده، وأنشأ يقول:
يا من تمتّعُ بالدنيا وزينتها * ولا تنام عن اللذات عيناهُ
شغلت نفسك فيما لست تدركه * تقول للّه ما ذا حين تلقاهُ؟
وقال الحسن بن سهل: رأيت الصبيان يرمون بهلولا بالحصى، فأدمته حصاة، فقال:
حسبي اللّه توكّلتُ عليهِ * مَنْ نواصي الخلق طُرًّا بيديهِ
ليس للهارب في مهربه * أبدا من راحة إلاّ إليهِ
رُبَّّ رامٍ لي بأحجار الأذى * لم أجد بُدًّا من العطف عليهِ
فقلت له: تعطف عليهم، وهم يرمونك؟ فقال: اسكت. لعل الله يطلع على غمي ووجعي وشدة فرح هؤلاء فيهبُ بعضنا لبعض. وقال عبد الله بن عبد الكريم: كان لبهلول صديق قبل أن يُجَنّ، فلما أصيب بعقله فارقه صديقه. فبينما بهلول يمشي في بعض طرقات البصرة إذ رأى صديقه. فلما رآه صديقه عدل عنه، فقال بهلول:
اُدْنُ منّي ولا تخافنَّ غدري * ليس يخشى الخليل غدر الخليل
إنّ أدنى الذي ينالك مني * ستر ما ُيتَّقَى وبثّ الجميل
قال الفضل ابن سليمان: كان بهلول يأتي سليمان بن علي فيضحك منه ساعة ثم ينصرف. فجاءه يوما، فضحك منه ساعة ثم قال: عندك شيء نأكل؟ فقال لغلامه: هات لبهلول خبزا وزيتونا. فأكل ثم قام لينصرف، وقال لسليمان: يا صاحب، إن جئنا إلى بيتكم يوم العيد يكون عندكم لحم؟ فخجل سليمان. وجاء إلى بعض أشراف الكوفة وقال له: أشتهي آكل عسلا بسرقين (أى عسلا بالزبل)، فدعا بهما، فأكل من العسل وأمعن فيه. فقال له الرجل: لم لا تأكل السرقين كما قلت؟ قال: العسل وحده أطيب. وعبث به الصبيان يوما ففر منهم والتجأ إلى دارٍ بابها مفتوح فدخلها، وصاحب الدار قائم له ضفيرتان، فصاح به: ما أدخلك داري؟ فقال: "يا ذا القرنين، إن يأجوجَ ومأجوجَ مفسدون في الأرض". وسأله يوما علي بن عبد الصمد البغدادي: هل قلتَ شيئا في رقة البَشَرة؟ فقال: اكتب:
أضْمر أن أُضْمِر حبي له * فيشتكي إضمار إضماري
رَقَّ فلو مرّت به ذرّةٌ * لخضّبته بدمٍ جاري
فقال: أريد أرقّ من هذا. فقال:
أضمر أن يأخذ المرآة لكي * يبصر وجها له فأدناها
فجاز وهم الضمير منه إلى * وجنته في الهوى فأدماها
فقال: أريد أرقّ من هذا أيها الأستاذ. فقال: نعم، وما أظنه. اكتب:
شبّهته قمرا إذ مرّ مبتسما * فكاد يجرحه التشبيه أو كلما
ومرّ في خاطري تقبيل وجنته * فسيّلت فكرتي في وجنتيه دما
فقال: أريد أرق من هذا. فقال: يا ابن الفاعلة، أرقّ من هذا كيف يكون؟ رويدك لأنظر إن كان قد طبخ في المنزل حريرة أرق من هذا. رحمه الله تعالى".
وسر تألمى هو أن هذا الرجل يرينا أن البشر شديدو الضعف حتى إن حالهم لتنقلب من الصحة إلى الجنون لو حدثت لهم اختلالات معينة فى النسب التى بنيت أمخاخهم أو نفوسهم مثلا وفقا لها فيصيرون مساكين يُرْثَى لحالهم كما هو الأمر مع بهلول، الذى كان من الممكن أن يكون الواحد منا مثله وأسوأ حالا لو أرادت الأقدار، لكنها لم تُرِدْ، والذى كنا نعرف أمثاله فى طفولتنا، فكنا نداعبهم أحيانا، ونقسو عليهم ونؤذيهم أحيانا أخرى. ومن هؤلاء من كنا نسميه: "محمد معروف نمرة 8" لأنه كان يرتدى سترة عسكرية قديمة عليها شريط على هيئة هذا الرقم. وكان يلوذ عادة بالمقابر، فيتتبعه الصبيان هناك ويقذفونه بالحجارة، والماهر من يصيبه فى رأسه أو وجهه فيُدْمِيه. ولم يكن يجد وَزَرًا أو ملجأً من أولئك الشياطين سوى أن يمعن فى التغلغل بين المدافن لعلها تستره عنهم وتحميه من قذائفهم، وهم وراءه لا يريدون أن يتركوه. وحين أتذكر هذا الآن، ولا أدرى هل كنت أقذفه مع القاذفين أم هل كنت أكتفى بالجرى مع الصبيان أتفرج على ما يصنعون، أتألم أشد الألم لما كان ينزل بهذا المسكين من تعذيب لا يملك إزاءه شيئا سوى أن يتحمل ما يصيبه منه قدرا مقدورا لا مهرب منه. ولا أدرى إلام صار أمر ذلك الرجل الذى كان من قرية شِفَا المجاورة لقريتنا كُتَامة، رحمه الله. كان ذلك فى خمسينات القرن الماضى.
هذا، وفى الرواية تفاوتات كثيرة بين الحقيقة والواقع، فى العقيدة والتاريخ والجغرافيا واللغة والسلوك. مثلا قول الراوى (فى أول الرواية): "السما السابعة" هل هو تعبير نصرانى؟ المعروف أنه تعبير إسلامى، إذ تحدث القرآن الكريم عن السماوات السبع عدة مرات، أما فى الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى فليس ثَمَّ ذِكْرٌ له. ومثله كلام بدير عن غسل جسمه سبع مرات وحرصه على الإشارة إلى الرقم سبعة فى هذا السياق. ولقد بحثت فى مادة "سبعة" بـ"دائرة المعارف الكتابية" فلم أجد ذكرا لتطهير الجسد فى أى ظرف سبع مرات. ثم لم أكتف بذلك بل بحثت فى "موسوعة الكتاب المقدس" فى كتاب "اللاهوت العقيدى" تحت عنوان "أسرار الكنيسة" حيث يوجد كلام عن المعمودية، وهى أول تلك الأسرار وأهمها، إذ هى مدخل الشخص إلى الدين نفسه، فوجدت عدد التغطيسات فى الماء ثلاثة لا سبعة. وهذا نص ما قرأت: "سر المعمودية: به نولد ميلادا ثانيا بتغطيسنا فى الماء ثلاث دفعات على اسم الثالوث القدوس: الآب والابن والروح القدس. ويعتبر هو الباب الذى يدخل منه المؤمن إلى الكنيسة وملكوت الله، طبقا لقول الرب يسوع: "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يو3: 5)". وبهذا لا أفهم كيف يحرص بدير على غسل جسده سبع مرات وكيف يحرص على ذكر ذلك. وفى الصفحة الرابعة والعشرين نسمع بدير يقول لثاونا يطمئنه بأن أحدا من المسلمين لن يتعرض لهما لأنهما "فى المعمودية"، مفسرا ذلك بأنهما سيكونان فى "لبوسٍ كهنوتية" بنص عبارة الكاتبة، وكأن كلمة "لَبُوس" كلمة مؤنثة، على حين هى كلمة مذكرة. فتكون الكاتبة قد أخطأت مرتين: مرة عندما فسرت المعمودية بارتداء ملابس كهنوتية مع أن هذا المصطلح إنما يعنى دخول الشخص فى النصرانية حقيقة أو اعتبارا، ومرة عندما أنثت الكلمة، وهى مذكَّرة.
كذلك نسمع بدير أيضا، حين يتحدث عن آدم وهو لا يزال نصرانيا لم يصبح مسلما بعد، يسارع قائلا: "عليه السلام" (ص41) مثلما يصنع المسلمون. والنصارى لا يستخدمون هذه العبارة التى ليست من قاموسهم ولا من استعمالاتهم. ومثل ذلك استخدام مصطلح "الفُتْيَا" (ص112)، وهو ليس مصطلحا نصرانيا حتى يقوله الراوى عن جواب مسألة دينية نصرانية. وكان بدير وثاونا قد لقيا امرأة مصرية فى الطريق إلى بلاد البشمور أخبرتهما أنها اضطُرّت إلى تزويج ابنتها من رجل مسلم نظرا إلى أن أهل القرية التى تعيشان فيها قد أسلموا جميعا على بَكْرَة أبيهم، وأنها تريد أن تطمئن إلى أنها لم تغضب الرب بهذا الذى صنعته، فكان تعليق بدير: "أُسْقِطَ فى يد ثاونا، وهو المتكفل بالكلام فى هذا المقام، أما أنا فسكتُّ لأنه لا تحقّ لى الفُتْيَا فيما لا أعلمه". كذلك ليس تعبير "الصلاة الجامعة" تعبيرا نصرانيا يستعمله النصارى لقداس يوم الأحد مثلا حسبما جاء فى كلام ثاونا لتلك المرأة، إذ قال بدير إن ثاونا قد "نصحها بالذهاب كل أحد إلى البِيعَة للصلاة الجامعة" (ص113). إنما هو تعبير إسلامى كما فى الحديثبن التاليين مثلا: "عن عائشة رضي الله عنها أن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث مناديا بـ"الصلاة الجامعة"، فتقدم فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات"، و"أنه لما كان عند صلاة الظهر نودي أن الصلاة جامعة، ففزع الناس فاجتمعوا إلى نبيهم صلى الله عليه وسلم فصلى بهم الظهر أربع ركعات". وفى ص52 يقول الراوى إنهما دخلا أتريب قبل الزوال. وكان قد قال إنهما يطمعان أن يصلا إليها قبل الظلام. فماذا تقصد الكاتبة بالزوال؟ هل تقصد وقت الظهيرة على ما يقتضيه معنى هذه اللفظة؟ لكن هذا غير ممكن، إذ المسافة بين الفسطاط، التى بدأ رحلته منها هو وثاونا فى بكرة الصباح، وبين أتريب، التى كانت مجاورة لبنها، هى مسافة جِدّ بعيدةٍ لا يمكن بلوغها بمثل تلك السرعة أيام كانت المواصلات هى البغال والحمير، وبخاصة أن الرجلين كانا كثيرَىِ التوقف فى الطريق لكل صغيرة وكبيرة. أم تراها تقصد غروب الشمس ظنا منها أن الغروب هو زوال الشمس من السماء، فيكون هذا خللا فى لغتها فوق البَيْعة؟ أم ماذا؟
والعجيب أنها هى نفسها، فى حوار لها بإحدى المجلات، تقف عند موضوع المسافات فى تلك العصور القديمة، مؤكدة بقوةٍ أن إيقاع السفر كان بطيئا جدا جدا نظرا إلى بدائية وسائل المواصلات أوانئذ حتى لقد حددت المسافة الزمنية التى يستغرقها الانتقال من الفسطاط إلى الإسكندرية بالشهور. فإذا كانت أتريب تقع فى نهاية رُبْع تلك المسافة تقريبا فمعنى ذلك أنه من المستحيل أن يصل بدير وثاونا فى ذات اليوم لا عند الزوال ولا عند الأصيل، بل لا بد أن يستغرق الأمر بضعة أسابيع فى أقل التقديرات حسب كلامها. فلِمَ إذن لم تتنبه إلى ما تنبِّهنا نحن القراء إليه وكأننا نحن المخطئون؟ تقول فى حوار منشور بالإنجليزية فى موقع "جالوت": "It would be an unjust and erroneous approach to start this historical novel with a preconceived idea that distances are covered as easily as in our twenty-first century. I was dealing with the ninth century AD. For example a traveller would take months--at that time--to reach Alexandria coming from Al-Fustat (an old quarter in Cairo) and it differs quiet a lot whether he is riding a horse, a mule, or travelling on his foot. We mustn't think that it was a picnic taking two hours as it is in the twenty-first Century" (goliath.ecnext.com)، وإن كنت أرى أنها تبالغ كثيرا فى قولها إن الرحلة من الفسطاط إلى الإسكندرية كانت تستغرق شهورا، مثلما بالغتْ أشد المبالغة فى تأكيدها أن الدلتا كانت كلها مستنقعاتٍ وبِرَكًا وطينًا: "The whole Nile Delta was an area of swamps, bogs, and mud, and this in turn affected its inhabitants immensely and made them able swimmers" (انظر "An interview with Salwa Bakr" بموقع "goliath.ecnext.com"). ذلك أن الدلتا كانت فى ذلك الوقت ولا تزال حتى الآن تعج بالمدن والقرى مما لا يتسق مع ما تقوله المؤلفة. ربما كان هذا يصدق على الجزء الشمالى قرب البحر المتوسط، أما الدلتا كلها فلا أظن ذلك أبدا.
ثم هل كان النصارى فى مصر يختتنون حتى يعد عدم الاختتان نجاسة وانحرافا كما جاء فى الرواية؟ ذلك أننا نقرأ (ص61) عن الراهب الهرطيق فلاأس: "فأخذ الرهبان فلاأس وظلوا يضربونه حتى سح دمه وتمزقت ملابسه وبان لحمه. فلما نظروا عورته وجدوا قلفته كما هى، وظهر لهم أنه غير مختتن، فاكتملت فضيحته وتأكدت نجاسته، وتيقن الكل من أنه ليس مسيحيا تاوضوسيا حقا". تقول مادة "ختان" فى "قاموس الكتاب المقدس" (تحرير بطرس عبد الملك وجون ألكسندر طمسن وإبراهيم مطر): "الختان: هو التطهير (تك 17: 10- 12 ويو 7: 22). والختان من الشعائر المعروفة في اليهودية، وهو قطع لحم غُرْلَة كل ذكر ابن ثمانية ايام. وقد جُعِل هذا الطقس علامة عهد بين الله وابراهيم الذي اختتن هو وأهل بيته وعبيده الذكور. وكان الختان يقوم به عادة رب البيت أو أحد العبرانيين، وأحيانًا الأم (خر 4: 25 ومكابيين الأول 1: 60) وقد خُتِن ابراهيم وهو في التاسعة والتسعين، وإسماعيل وهو في الثالثة عشرة (تك 17: 11 - 27). ثم تجددت سُنّة الختان لموسى (لا 12: 3)، فقُضِيَ أن لا يأكل الفصْحَ رجلٌ أغرل. وكان اليهود يحافظون كل المحافظة على هذه السنة. وقد أهملوها أثناء رحلتهم في البرية. على أنه عند دخول أرض كنعان صنع يشوع سكاكين من الصوّان وختن الشعب كله (يشوع 5: 2 – 9). وكان مفروضا على كل الغرباء الذين يقبلون الدخول في اليهودية أن يخضعوا لهذا الفرض مهما تكن أعمارهم (تك 34: 14 - 17 و22 وخر 12: 48). على أن الختان كان شائعا ومعروفا بين المصريين القدماء وغيرهم من الشعوب، إلا أنه لم يكن معروفا لدى الفلسطينيين. ولكنه في اليهودية كان فرضا دينيا للتمييز بين نسل ابراهيم وباقي الناس (رو 4: 9- 12). ومعنى الختان الروحي لدى اليهود هو تكريس الجسد، ولذلك كان يدعون أنفسهم: "أهل الختان"، ويدعون من عداهم: "أهل الغُرْلَة". وفي بكور العصر المسيحي زعم فريق من اليهود المتنصرين أن حفظ تلك السُّنّة ضروري للخلاص، ولهذا قال بولس في رسالته إلى غلاطية: "ها أنا بولس أقول لكم إنه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئا. لكن أشهد أيضا لكل انسان مختتن أنه ملتزم أن يعمل بكل الناموس" (غلا 5: 2 و3). وأيضا: "لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئا ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة" (غلا 6: 15). ويتضح مما جاء في كولوسي 2: 11 و12 أن الرسول يُعَلّم بأن للمعمودية في العهد الجديد نفس المكانة التي كانت للختان في العهد القديم. ولا يزال اليهود المعاصرون يمارسون هذه السُّنَّة بكامل طقوسها فيأتون بالولد إلى المجمع، فيأخذه رجل يدعى: "سيد العهد"، ثم يأتي الخاتن ويجري عملية الختان مع بعض الطقوس والمراسيم".
وتلقى المادة المخصصة لذات الموضوع فى "دائرة المعارف الكتابية" على هذه القضية مزيدا من الضوء فتقول: "لقد أثارت قضية الختان جدلاً طويلاً بين المسيحيين الأوائل، فقد طالب المسيحيون التهوديون بضرورة الختان، وكان ذلك امتدادا للنظرية التخصصية الصارمة التي تقول بأن الخلاص بالمسيح مقصور على النخبة المختارة فقط والتي ظهرت في أثناء فترة القهر الطويلة في العهدين اليوناني والروماني. وطبقا لهذا الرأي فإن الخلاص من اليهود ولليهود، وكان يلزم أن يصير الإنسان يهوديا أولاً قبل أن يستطيع أن يكون مسيحيا. ووافق بولس الرسول على ختان تيموثاوس "من أجل اليهود" فقط (أع 16: 3) لكنه رأى أن المبدأ في خطر، فأثبت في معظم رسائله عدم جدوى ما يقوله التهوديون".
وفى ص188- 189 تتأنى الكاتبة فى وصف الظروف المهببة التى كانت تحيط ببدير هو وإحدى الفتيات المصريات حين وقعا فى يد المسلمين القساة القلوب الغلاظ الأكباد الهمج المتوحشين عديمى الضمير والإنسانية حسبما صورتهم الكاتبة، وتتفنن فى وصف ممارستهما الجنس بعد أن يتزوجا (على طريقة الأفلام المصرية حين ينظر العاشقان إلى السماء ويشهدانها على أنهما قد تزوجا. حاجة ببلاش كده!)، وذلك فى المكان الذى تم تجميع الأسرى فيه، إذ إن الفتاة، حسبما تقول الرواية، لم تكن تحب أن تقع فى يد الجند المسلمين فيفعلوا بها الأفاعيل بعدما قتلوا أهلها جميعا، وهى العذراء البكر التى لم يسبق لها أن عرفت الجنس بتاتا. ولكن على رأى المثل: "نحن فى... أم فى شَمّ وَرْد؟". بالله هل هذا وقت مناسب للزواج وتبادل القبلات والأحضان وما بعد القبلات والأحضان؟ إِخْص عليك يا فَلاَتِى أنت وهى!
وكان بدير قد رآها وهى تساق مع بقية الأسرى فاشتهاها وتمنى لو يجامعها، وها هى ذى الفرصة قد جاءته "على الطبطاب" كما قالت الكاتبة فى موضع آخر من روايتها، فقد اقتربت منه الفتاة تاركة موضعها مع النساء فى الجانب الآخر من المكان وجلست إلى جانبه، فشعر بأن نارا تسرى فى جسده وتحرق روحه وكيانه، ثم لامسته بجسدها وقربت أنفاسها من أنفاسه طالبة من الله (ولا يكثر على الله) أن يتزوجها لتصير حاملا (هكذا خبط لزق) فلا تروج عند النخاسين ساعتئذ، ثم ارتمت على صدره وراحت تعانقه وتمطره بالقبلات الملتهبة التى تليق بعفيفة شريفة تخاف على عرضها مثلها، فتشجع هو ونسى مخاوفه من أن يراهما أحد المشرفين على المكان واندمج فى الدور ونال ما يشتهيه منها على أحسن وضع، وقد أصابه (كما يقول هو لا أنا والله العظيم) مَسٌّ من الجنون وأخذته لذة شيطانية باهرة (ترى ما الداعى هنا إلى ذِكْر الشياطين؟ ألم نكن سمنا على عسل منذ قليل؟) وجثم فوقها وهات يا... وهات يا ماذا؟ سوف أسكت وأترك الباقى لذكائكم الخارق.
ومنذ ذلك الحين أصبحت الفتاة، كما أخبرها هو، زوجته وخليلته ووليفته حتى يوم الدينونة، وأكد لها أنه لن يتركها أبدا ما دام فى قلبه عرق ينبض (كما بشر أحد الحكام المسلمين شعبه منذ فترة ليست بالبعيدة، فكانت أسوأ بشرى!)، وسيضعها فى بؤبو العين ويجعل رمشه حجابا عليها بنص عبارته لها، وإن لم يضف أنه "سوف يتكحَّل عليها" طبقا لكلام الأغنية التى تشدو بها عايدة الشاعر. وهو ما لحسه بل لحسته الكاتبة بعد قليل، فكلام الليل المدهون بزبد ما إن يطلع عليه النهار حتى يسيح، إذ لم تعد الرواية إلى سيرة هذه الشريفة ربة الصون والعفاف بعد هذا قط. لماذا؟ لأنه ليس لها أى دور فى الرواية. إنما جىء بها لتشويه تاريخ المسلمين فقط. وقد تم المراد، والحمد لله، الذى لا يحمد على مكروه سواه، ففيم بقاؤها بعد هذا؟ فانظر، أيها القارئ، إلى هذا الأسلوب الشيطانى فى تلطيخ صورة المسلمين وتشنيعها وتبشيعها.
ومضيًّا مع عادتى فى الاستطراد أحيانا (أهى عادتى أم سأشتريها؟) أقول إن هذا الخلبوص الكبير ما إن يهبه الخليفة المأمون (فى الرواية طبعا، أى فى الأحلام والأوهام وليس فى الحقيقة، فالمأمون لم يكن يوزع الجوارى الجميلات ذوات الأصوات الكروانية على الفقراء التعساء كجزء من مال الزكاة التى تجب على الأغنياء، وفى مقدمتهم الخلفاء، نحو المحتاجين والمساكين كما تصوره الكاتبة فى لحظة من لحظات التجلى التى كان يكتب فيها أبو الفرج الأصفهانى، مع حفظ المقامات طبعا، فأين سلوى بكر من الأصفهانى العبقرى الكبير رغم ما نأخذه عليه من ناحية المبالغات والإحالات فى الروايات التى يسوقها فى كتابه؟)، نعم ما إن يهبه المأمون الجارية المغنية الجميلة حتى يسرّحها ويتنازل عنها لأحد معارفه (إخص عليه ثلاثين ألف إخص! هل هناك رجل عاقل يفرط فى مثل تلك المغنية الفاتنة التى أحرقتَ يدك يا مغفل بسبب انبهارك بها؟ صحيح أنت "مُو حَقّ نعمة" كما يقول السعوديون. أنت "وشّ فقر" كما يقول المصريون!) ولا يبقيها معه ملك يمين، أو إذا كان رجلا تقدميا لا يرضى بملك اليمين (كالقرامطة الذين كان ينتسب إليهم صديقه الحسين الطباخ قبل أن يوجد فى الدنيا شىء اسمه القرامطة والذين يجعل رفاقُنا البعداءُ منهم مثالا للحكمة والثورية والبطولة)، فليتخذها زوجة وينال منها فى الوضعين ما يناله الرجل من المرأة فى الحلال على سنة الله ورسوله. من الواضح أنه يؤثر الزنا على العفاف. ثم تقول الكاتبة إن ضميره كان يؤلمه أشد الألم لما فعله فى صباه مع بنت الجيران، مما يخيِّل للقارئ أنه قد تاب وأقلع عن أمور الخلبصة هذه. الله يحيرك يا بدير. قادر يا كريم! ولكن نعود فنقول إن من الظلم للرجل أن نحمّله المسؤولية عن هذا الاضطراب المعيب فى تصرفاته واختياراته، فما هو فى الحقيقة إلا "العبد المأمور" للكاتبة، التى تقول له: "تعال يا بدير"، فيأتى بدير، و"اذهب يا بدير"، فيذهب بدير. كل ذلك دون أن يجرؤ على النظر فى عينيها، بله أن يعصيها ويرفض تأدية أوامرها، وإلا لضربته فى وجهه فأدمته وحطمت أنفه بطفاية السجائر التى أمامها. أليست مصر هى بلد "طلباتك أوامر يا ريّس"؟ ذلك أن سلوى بكر هى الريّسة التى كل طلباتها أوامر، وبدير هو العبد الذى لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة اعتراضا على ما تقول!
ومن هذا التفاوت المعيب، وبخاصة أنه يتعلق هذه المرة باسم المتمرد البشمورى الذى تتمحور الرواية حول تمرده وتتخذ من لقبه عنوانا لها، أنه يُدْعَى فيها: مينا بن بقيرة (ص135، 144 مثلا)، على حين أن هذا الرجل ليس هو بشمورىّ عصر المأمون، بل بشمورىّ عصر عبد الملك بن مروان حسبما جاء فى "تاريخ البطاركة" لساويرس بن المقفع، الذى كتب اسمه: "مينا بن بكيرة" بالكاف لا بالقاف (2/ 390)، أو بشمورى مروان بن محمد آخر خلفاء بنى أمية "مينا بن بقيرة" كما جاء فى "سندباد عصرى" (ص 136)، وكما جاء أيضا فى تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المنشور بموقع كنيسة الأنبا تكلا هيمانوت الحبشي حيث نقرأ تحت عنوان "أحوال مصر إبان فتح العرب لمصر" فى الجزء الخاص بالحكام في مصر، وولاية الخليفة عبد الملك بن مروان سنة 750م على وجه التحديد: "كان قبط الوجه البحري فى الجهة المعروفة بالبشمور، وهى مديرية الدقهلية والمنزلية ودمياط، وفى جهة شبرا بسنبوط، قد قاموا على عمال الخراج وقتلوهم، فجرد الوالى عساكره، فحاربهم الأقباط وانتصروا عليهم دفعتين. وكان القائد للبشموريين رجل قبطي منهم يسمي: مينا بن بقيرة. وبعد أن تمتع الأقباط مدة بالراحة استجمع مروان قوته وحاربهم فهزمهم هذه المرة، وتركوا ميدان القتال وتحصنوا فى بلادهم، فلم يتمكن مروان من متابعتهم بسبب الوحل الذى كان فى طريقهم، فضرب العساكر حولهم يحرسونهم. فكان البشموريون يخرجون إليهم ليلا من طريق يعرفونه ويقتلون من قدروا على قتله. ولما طال عليهم الأمر رحلوا عنهم". أما فى عهد المأمون فقد ذكر الموقع نفسه تحت عنوان "الحكام في مصر: 17- خلافة الخليفة المأمون 813م" ما يلى: "بعد موت هارون الرشيد وقع (صراع) بين ابنيه، وقام كل منهما يطلب الخلافة، فانتهز مسلمو الأندلس هذه الفرصة وهجموا على مصر. وكثيرون من الأقباط الذين أخناهم الذل ساعدوا الأندلسيين على أخذ الإسكندرية، ولكن مسلمي الإسكندرية قاوموا الأندلسيين، واشتبكت الحرب بين الفريقين مدة... إلخ" دون أن يأتى ذكر لمينا هذا على الإطلاق.
أما فى موقع "الكتيبة الطبية" النصرانى فنقرأ فى مقال بعنوان "ثورة عام 132 هـ في أيام زمن ولاية عبد الملك بن مروان" ما نصه: "عصى على عبد الملك قوم من البشمور، ومقدمهم مينا بن بقيرة، وقوم آخر من شبرا بسنبوط، ومسكوا تلك الكورة ولم يعطوه خراجا ولا لصاحب ديوان مصر إلى أن افتقدهم الرب، وكان يعطيهم الظَّفَر. فخرج إليهم عبد الملك بعسكر فهزموه بقوة الله وقتلوا. ولما وصل مروان إلى مصر عرفوه جميع ذلك، فكتب لهم كتابا وأمانا، فلم يقبلوه، فأنفذ لهم عسكرا كثيرا من مسلمي مصر ومن في صحبته من الشام، فلم يقدر العسكر أن يصل إليهم بالجملة لأنهم تحصنوا في مواضع الوحلات التى لا يقدر أن يصل إليها سوى رجل رجلاً، فإذا ذلت رجله عن الطريق غطس في اللوث وهلك. وكانوا العساكر يحرسونهم من برا فيخرجون لهم في الليل البشامرة من طرق يعرفونها يتلصصون عليهم ويقتلون من قدروا على قتله ويسرقون أموالهم وخيلهم فيطول عليهم الأمر فيرحلون عنهم. وقد انتصر البشموريين على جيش الوالى الأموى عبد الملك بن مروان عدة مرات في نفس الوقت خرج فيه ملك النوبة بجيش جرار ليحارب الوالى بعد أن سمع عن سجن البطريرك القبطي في سجن مصر، ومعه طائفة من رهبان الكنيسة... وكان ملك النوبة قد بعث رسولاً يطلب من الوالى إطلاق سراح البطريرك، فقبض الوالى على رسول ملك النوبة وحبسه هو الآخر مع البطريرك، لكنه اضطر إلى إطلاق سراح الجميع حينما علم بمجئ الملك ووصوله إلى مصر، ولم تكن له قدرة على محاربته. قد وصل مروان مصر وثورة البشموريين ما زالت مشتعلة، فكتب الرسائل لتهدئة البشموريين حتى يجد سبيلا للخروج من محنته، وحتى لا يتعقد الموقف أكثر من تمرد المصريين من ناحية، ومطاردة العباسيين له من ناحية أخرى. لكن البشموريين رفضوا عرضه واستمروا في ثورتهم". ومنه نفهم أن تمرد مينا بن بقير كان فى عهد عبد الملك بن مروان لا فى عهد مروان بن محمد. وهو ذاته ما قاله جاك تاجر فى كتابه: "أقباط ومسلمون" حيث نقرأ أن مينا بن بكيرة (بالكاف) قد رفع راية العصيان والتمرد فى عهد هشام بن عبد الملك، طبقا لما كتبه المستشرق الفرنسى كاترمير استنادا إلى مخطوط لميخائيل السورى. أما حين أتى إلى تمرد البشموريين فى عهد المأمون فلم يشر إلى مينا بن بقيرة بتاتا (انظر جاك تاجر/ أقباط ومسلمون منذ الفتح العربى حتى عام 1922م/ كراسات التاريخ المصرى/ القاهرة/ 1951م/ 99 وما بعدها).
وإنى لأستعجب كيف أخطأت الكاتبة هذا الخطأ مع رجوعها إلى ابن المقفع وميخائيل السورى وغيره من الكتابات النصرانية. أما المراجع العربية فلا تأتى على ذكر البشموريين أو مينا بن بقيرة، بل تقول كلاما عاما، مما يدل فى تصورى على أن المراجع النصرانية أرادت أن تضخم ذلك الرجل وتجعل منه بطلا دينيا. وبالمناسبة فقد جاء فى كلام ساويرس بن المقفع عن هذه الأحداث أن المتمردين فى الإسكندرية قد "مكنوا العدو من مدينتهم"، فلذلك انتقم منهم الأفشين (2/812). وقد ذكر جاك تاجر أن أسطولا حربيا وصل من الأندلس ورسا فى الإسكندرية (انظر جاك تاجر/ أقباط ومسلمون/ 100). كما أشار إلى ما كتبه ميخائيل السورى من أن الأندلسيين قد احتلوا مدينة الإسكندرية فى ذلك الوقت (ص101). والمعروف أن الأندلس كانت دولة معادية للعباسيين، إذ كان يحكمها الأمويون من سلالة عبد الرحمن الداخل، الذى فر عند قيام الدولة العباسية إلى شبه الجزيرة الأيبيرية وأسس دولة هناك. أى أن فى الأمر جوانب أخرى تحتاج إلى مزيد من الدراسة، وليس السبب هو زيادة الخراج فحسب كما توهمنا الرواية.
ويقرر الأستاذ محمد الغزالى أن التمرد الذى وقع فى عهد المأمون لم يكن تمردا نصرانيا فى الأساس، بل تمردا قام به المسلمون: العرب الأقحاح والمصريون المتحولون إلى الدين الجديد على السواء (انظر محمد الغزالى/ التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام/ طبعة جديدة ومحققة/ نهضة مصر/ 239)، وهو ما ينسف رواية "البشمورى" أو يجعلها فى مهب رياح الشكوك على الأقل. والغزالى إنما يقيم حجته على ما كتبه المقريزى، إذ يقول ذلك المؤرخ الكبير فى كتابه: "المواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار": "لما كان في جمادى الأولى سنة ست عشرة ومائتين انتقض أسفل الأرض بأسره: عرب البلاد وقبطها، وأخرجوا العمال، وخلعوا الطاعة لسوء سيرة عمال السلطان فيهم، فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب امتدّت إلى أن قدم الخليفة عبد اللّه أمير المؤمنين المأمون إلى مصر لعشر خَلَوْنَ من المحرّم سنة سبع عشرة ومائتين، فسخط على عيسى بن منصور الرافقي، وكان على إمارة مصر، وأمر بحل لوائه، وأخذه بلباس البياض عقوبة له. وقال: لم يكن هذا الحدث العظيم إلا عن فعلك وفعل عمالك. حمّلتم الناس ما لا يطيقون، وكتمتني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطرب البلد. ثم عقد المأمون على جيش بعث به إلى الصعيد، وارتحل هو إلى سخا، وبعث بالأفشين إلى القبط وقد خلعوا الطاعة، فأوقع بهم في ناحية البشرود، وحصرهم حتى نزلوا على حكم أمير المؤمنين".
ثم يمضى الغزالى رادًّا على مزاعم جاك تاجر صاحب "أقباط ومسلمون" الخاصة باضطهاد المسلمين لنصارى مصر، وهو الزعم الذى قامت عليه أيضا رواية "البشمورى"، فيقول رحمه الله: "فدور الأقباط فى الثورة كان مؤازرة جمهور المسلمين الثائر، والمسلمون يومئذ هم كثرة السكان. وقد سبق لعرب الحجاز أن ثاروا فأطفئت ثورتهم وهوجمت المدينة وصُلِب بها عبد الله بن الزبير. وهذه الثورات وأمثالها فى الإسلام لها طابعها المعروف. وإلباس الثورة فى مصر ثوب الاضطهاد الدينى محاولة فاشلة لجعل تاريخ الإسلام مشابها لتاريخ النصرانية فى التعصب ضد الأقليات. وقد انتهزت هذه الثورةَ جماعةٌُ من اليونان المهاجرين يُدْعَوْن: "البياماى" فعاثوا فى الأرض فسادا وارتكبوا أعمالا شائنة، إذ أحرقوا رشيد وقتلوا سكانها المسلمين جميعا. وقد أسرع الخليفة المأمون بالمجىء إلى مصر مخافة أن تكون هذه الثورة طليعة هجوم يقوم به الأمويون بالأندلس، وأعلن عند قدومه عفوا عاما عن الثائرين من مسلمين وأقباط شريطة أن يلتزموا الهدوء: فأما المسلمون فخضعوا، وأما البياماى فقد أصروا على تمردهم برغم أن الخليفة أرسل إليهم البطريرك القبطى يطلب منهم التسليم، فلما رفضوا اضْطُرّ إلى إخضاعهم. وقد حقق المأمون فى أسباب الثورة، فرأى الوالىَ عيسى بن منصور مسؤولا عن اشتعالها بسياسته الخاطئة فعزله عن العمل. والمرء لا يسعه إلا أن يسخر من أوصاف المستشرقين لحركة البياماى هذه وما نسجه الخيال الطلق حول المستعمرات التى يسكنون أطرافها، والأحراش التى يختبئون فيها، والدروب التى ينقضّون منها، والهزائم التى أوقعوها بجيوش المسلمين برا وبحرا كأنهم يصفون قطعة من منطقة الغابات على شاطئ جزيرة فى بحر الظلمات" (التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام/ 239- 240). لكن لا بد من التنبيه إلى أن تخريب البشموريين لرشيد وإحراقهم لها وقتلهم كل من فيها من المسلمين إنما كان فى عهد مروان بن محمد طبقا لما نقله جاك تاجر عن مخطوط لميخائيل الراهب نشره المستشرق الفرنسى كاترمير (انظر ص100 من كتاب جاك تاجر). وقد أشار البطريرك ديونسيوس كذلك إلى المذابح التى اقترفها البشموريون وخروجهم على القانون ورفضهم الانصياع لأى نصيحة أو وساطة من جانب رجال الدين النصارى أثناء تمردهم على الدولة فى عهد المأمون (انظر جاك تاجر/ 103)..
ولا يقتصر الأمر على هذا وحده، إذ ينقل جاك تاجر (ص107) نصا فى غاية الأهمية عن ابن النقاش يذكر فيه ما صرح به المأمون لكاتم سره، إذ قال له: "سئمت من الشكاوى التى أتلقاها ضد النصارى بخصوص اضطهادهم المسلمين وعدم نزاهتهم فى إدارة الشؤون المالية". ومعنى هذا أن ما يقال عن اضطهاد المسلمين للنصارى كما أبدأت الرواية وأعادت هو كلام يُعْوِزه أساس صلب متين. وكان ينبغى أن تهتم مؤلفة الرواية بتمحيص ما قرأته فى المراجع النصرانية التى اعتمدت عليها تماما وأخذتها كما هى بعُجَرها وبُجَرها ورردته فى روايتها غافلة أو متغافلة عما تؤدى إليه طريقتها تلك.
وعلى أية حال فإن البشموريين ليسوا مصريين أصلاء بل سلالة أربعين يونانيا بَقُوا فى مصر بعد فتح العرب لها وسكنوا تلك المنطقة وتكاثروا بها طبقا لما كتبه سعيد بن البطريق، وهو بطريرك مصرى ولد سنة 263هـ، أى كان قريبا جدا فى الزمن من ثورة البشامرة فى عهد المأمون (انظر جاك تاجر/ أقباط ومسلمون/ 99 بالهامش). وهذا نص خطير فى منتهى الخطورة، وهو يتفق مع ما قيل عن "البياماى"، ذلك الاسم الذى يطلقه ديونيسيوس بطريرك تل مهرة بالشام على البشامرة (انظر جاك تاجر/ 102 بالمتن والهامش)، والذى يطلق عليهم سعيد بن البطريق اسما قريبا منه، إذ يسميهم: "البيما" كما سوف نرى من فورنا. وقد وجدت نص ابن البطريق بعد لأى فى طبعة تجمع بين الأصل مطبوعا بخط غريب الشكل مرهق فى القراءة أيما إرهاق، فضلا عن انطماسه لطول الزمن، إذ طبع منذ عدة قرون، وبين الترجمة اللاتينية، وهذا هو: "ثم بعد ذلك ثار أهل البيما بالقبطية، وتفسيرها "نسل أربعين"، وذلك أن الروم لما خرجوا من مصر فى دخول الإسلام تخلف منهم أربعون رجلا فتناسلوا وكثروا وتوالدوا بأسفل أرض مصر، فسُمُّوا: "البيما"، أى نسل الأربعين، فعَصَوْا ولم يعطوا جزية ولا خراجا،. فبلغ المأمون الخبر، فبعث بالمعتصم ومعه جند إلى مصر، فقاتلوه البيما، فقاتلهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وهزمهم..." (تاريخ ابن البطريق/ النص العربى والترجمة اللاتينية/ ط1658م/ 2/ 429). أى أن كل رواية "البشمورى" القائمة على أن البشامرة هم مصريون أصلاء اضطهدهم المسلمون ليست سوى أوهام فى أوهام. لقد أخذت المؤلفة موضوعها بخفة وتسرع، وكأن كل همها أن تنقل الروايات النصرانية المسيئة إلى التاريخ الإسلامى وحسب.
وفى خطإٍ مشابهٍ تقع المؤلفة فى كلامها عن القرامطة، الذين يقول سارد أحداث الرواية إنهم كانوا يعيشون فى عصر المأمون (ص166). والمعروف أن القرامطة يُنْسَبون إلى حمدان قرمط، الذى لم يكن قد هَلَّ على الوجود بعد، فكيف توجد القرمطيةٌ قبل وجود قرمط نفسه؟ ألا إن ذلك لمن أعجب العجب. لقد تُوُفِّىَ المأمون عام 218هـ، على حين لـمَّا يكن قرمط قد وُلِد. ثم ظهر نشاطه السياسى فى الكوفة على استحياءٍ أواخر سبعينات القرن الثالث الهجرى فى عهد المعتضد بالله، داعيا فى البداية لأهل البيت قبل أن تُعْرَف حقيقة أمره، ومات مقتولا فى عهد المكتفي بالله سنة 293هـ. فكيف يقول راوى القصة إن من بين الملتحقين بمتمردى البشمور فى عصر المأمون القرامطة أنفسهم؟ إن هذا، لَعَمْرِى، لزعم غريب غاية الغرابة. بل إنها لتومئ إلى أن الحسين كبير الطباخين فى المطبخ المأمونى كان هو أيضا منهم (ص265- 266)، وهو ما يبدو أغرب وأغرب، إذ من الصعب على من يشتغل فى قصر الخلافة، ومهنته طباخ ليس له قوة يرتكن إليها وقت الخطر، أن ينتمى إلى جماعة سياسية أو مذهبية تناهض الخليفة الذى يعمل هو طباخا فى قصره تحت سمع رجاله وبصرهم. بل إنها لتجعله يُسِرّ إلى بدير بأمر القرامطة، الذين ينتسب إلى جماعتهم ويتردد على مخابئهم فى بغداد فى الوقت الذى يشتغل فى مطبخ المأمون. ولقد كان بمستطاع الكاتبة أن ترجع إلى كتب التاريخ والتراجم فتعرف عن القرمطية ومؤسسها ما كان كفيلا بعصمتها من الوقوع فى هذا الزلل الدحض، أو كان يمكنها على الأقل أن تقرأ الرواية الشامخة التى كتبها على أحمد باكثير عن هذا الموضوع بعنوان "الثائر الأحمر" فتستفيد منها فنيا ومضمونيا. بيد أنها، لفادح الأسف، لم تفعل هذا ولا ذاك.
ومن التفاوتات التاريخية المسيئة أشد الإساءة إلى الرواية كذلك زَعْم الراوى أنه كان هناك حشيش فى بغداد أيام المأمون، وأن الحسين طباخ قصر الخليفة كان يتعاطاه ويجد فيه أنسا وبهجة (ص277- 278). الله أكبر! ومتى كان ذلك يا ترى؟ وبأية أمارة؟ أوتظن المؤلفة، وهى المسؤولة فى الحقيقة عن هذا الخلط والاضطراب، أن يكون ثَمّ حشيش فى عصر المأمون ثم يسكت واحد كالجاحظ فلا يكتب رسالة فيه، وهو الذى لم يترك موضوعا من الموضوعات إلا وضع فيه رسالة أو كتابا بما فى ذلك المفاضلة بين النساء والغلمان على غرابة الموضوع؟ بل أتظن أن أبا الفرج الأصفهانى كان ليسكت فلا يتناول هذا الحشيش فى كتاب "الأغانى"، الذى جمع فأوعى ولم يترك شاردة أو واردة فى حياة الشعراء، وبخاصة شعراء العصر العباسى، إلا وأوردها مفصلة دون أى قدر من التحرج، بل بقدر من المبالغة شديد؟ أوكان الفقهاء يسكتون فلا يتكلمون فى هذا الأمر؟ أوكان الشعراء يصمتون صمت القبور، وهم الذين لم يكونوا يعرفون حرجا فى معالجة أى غرض من الأغراض مهما تكن غرابته أو شذوذه؟ فلتذهب إلى مؤلفات ذلك العصر وأشعاره ولترنا كتابا أو رسالة أو قصيدة وضعها صاحبها فى الحشيش إن كان حقا ما يقوله راويها المسكين الذى لا له فى الثور ولا فى الطحين لأن الثور والطحين كليهما لها هى، فهى المسؤولة عنهما تمام المسؤولية.
تعال مثلا نقرأ معا ما كتبه فى هذه المسألة ابن تيمية، الذى وضع رسالة عن الحشيشة ساق فيها ما بلغه من أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة، وكان ظهورها مع ظهور سيف جنكيز خان. وفى رأيه أن هذه "الحشيشة الملعونة"، كما كان يسميها، تورث متعاطيها الخيالات وتضل عقله ودينه وخلقه. وهي، عنده، شر من الخمر لأنها تغيب عقل آكلها فيبقى مسطولاً، وتورث مدمنها التخنث والدياثة والجنون. ولدينا أيضا ممن كتبوا عن الحشيشة تقى الدين المقريزى، الذى نقرأ فى كتابه: "المواعظ والاعتبار" تحت عنوان "حشيشة الفقراء" (أى الصوفية) ما يلى: "قال الحسن بن محمد في كتاب "السوانح الأدبية في مدائح القِنَّبِيّة"‏:‏ سألت الشيخ جعفر بن محمد الشيرازيّ الحيدريّ ببلدة تستر في سنة ثمان وخمسين وستمائة عن السبب في الوقوف على هذا العقار ووصوله إلى الفقراء خاصة، وتعدّيه إلى العوام عامّة، فذكر لي أن شيخه شيخ الشيوخ حيدرًا رحمه الله كان كثير الرياضة والمجاهدة، قليل الاستعمال للغذاء، قد فاق في الزهادة، وبرَّز في العبادة. وكان مولده بنشاور من بلاد خراسان، ومقامه بجبل بين نشاور ومارماه. وكان قد اتخذ بهذا الجبل زاوية، وفي صحبته جماعة من الفقراء. وانقطع في موضع منها ومكث بها أكثر من عشر سنين لا يخرج منها ولا يدخل عليه أحد غيري للقيام بخدمته‏.‏ قال‏:‏ ثم إن الشيخ طلع ذات يوم، وقد اشتدّ الحرّ وقت القائلة، منفردًا بنفسه إلى الصحراء، ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور بخلاف ما كنا نعهده من حاله قبل، وأَذِن لأصحابه في الدخول عليه وأخذ يحادثهم. فلما رأينا الشيخ على هذه الحالة من المؤانسة بعد إقامته تلك المدّة الطويلة في الخلوة والعزلة سألناه عن ذلك، فقال‏:‏ بينما أنا في خلوتي إذ خطر ببالي الخروج إلى الصحراء منفردًا، فخرجت فوجدت كل شيء من النبات ساكنًا لا يتحرك لعدم الريح وشدّة القيظ، ومررت بنبات له ورق فرأيته في تلك الحال يميس بلطف ويتحرّك من غير عنف كالثَّمِل النشوان، فجعلت أقطف منه أوراقًا وآكلها، فحدث عندي من الارتياح ما شاهدتموه. وقوموا بنا حتى أوقفكم عليه لتعرفوا شكله‏.‏ قال‏:‏ فخرجنا إلى الصحراء، فأَوْقَفَنا على النبات. فلما رأيناه قلنا: هذا نبات يُعْرَف بـ"القِنَّب". فأمرنا أن نأخذ من ورقه ونأكله، ففعلنا ثم عدنا إلى الزاوية فوجدنا في قلوبنا من السرور والفرح ما عجزنا عن كتمانه. فلما رآنا الشيخ على الحالة التي وَصَفْنا أَمَرَنا بصيانة هذا العقار وأخذ علينا الأيمان ألا نُعْلِم به أحدًا من عوامّ الناس، وأوصانا ألا نخفيه عن الفقراء. وقال: إن الله تعالى قد خصكم بسرّ هذا الورق ليُذْهِبَ بأكله همومكم الكثيفة، ويجلو بفعله أفكاركم الشريفة، فراقبوه فيما أودعكم، وراعوه فيما استرعاكم‏.‏ قال الشيخ جعفر‏:‏ فزرعتها بزاوية الشيخ حيدر بعد أن وقفنا على هذا السرّ في حياته، وأمرنا بزرعها حول ضريحه بعد وفاته. وعاش الشيخ حيدر بعد ذلك عشر سنين، وأنا في خدمته، لم أره يقطع أكلها في كل يوم. وكان يأمرنا بتقليل الغذاء وأكل هذه الحشيشة. وتُوُفِّيَ الشيخ حيدر سنة ثمان عشرة بزاويته في الجبل، وعُمِل على ضريحه قبة عظيمة، وأتته النذور الوافرة من أهل خراسان، وعظَّموا قدره وزاروا قبره واحترموا أصحابه. وكان قد أوصى أصحابه عند وفاته أن يوقفوا ظرفاء أهل خراسان وكبراءهم على هذا العقار وسره فاستعملوه، فلم تزل الحشيشة شائعة ذائعة في بلاد خراسان ومعاملات فارس. ولم يكن يعرف أكْلَها أهلُ العراق حتى ورد إليها صاحب هرمز ومحمد بن محمد صاحب البحرين، وهما من ملوك سيف البحر المجاور لبلاد فارس في أيام الملك الإمام المستنصر بالله، وذلك في سنة ثمان وعشرين وستمائة، فحملها أصحابهما معهم وأظهروا للناس أكلها، فاشتهرت بالعراق ووصل خبرها إلى أهل الشام ومصر والروم فاستعملوها‏.‏ قال‏:‏ وفي هذه السنة ظهرت الدراهم ببغداد، وكان الناس ينفقون القراضة. وقد نَسَب إظهارَ الحشيشة إلى الشيخ حيدر الأديبُ محمد بن عليّ بن الأعمى الدمشقيّ في أبيات، وهي‏:‏
دع الخمر واشرب من مُدَامة حيدر * معنبرةً خضراء مثل الزبرجدِ
يعاطيكها ظبيٌ من الترك أغيدٌ * يميس على غصنٍ من البان أملدِ فنحسبها في كفه إذ يُديرها * كرَقْم عذارٍ فوق خدٍّ مورَّدِ
يرنّحها أدنى نسيم تنسَّمتْ * فتهفو إلى برد النسيم المردِّدِ
وتشدو على أغصانها الوُرْقُ في الضحى * فيُطْرِبها سَجْعُ الحمامِ المغرِّدِ
وفيها معانٍ ليس في الخمرِ مثلها * فلا تستمع فيها مقال مفنِّدِ
هي البِكْرُ لم تُنْكَحْ بماءِ سحابةٍ * ولا عُصِرَتْ يومًا برجْلٍ ولا يدِ
ولا نصّ في تحريمها عند مالكٍ * ولا حدّ عند الشافعيّ وأحمدِ
ولا أثبت النعمانُ تنجيسَ عينها * فخذها بحدِّ المشرفيّ المهندِ
وكُفَّ أَكُفَّ الهمّ بالكفّ واسترحَ * ولا تَطَّرِحْ يومَ السرورِ إلى غدِ
وكذلك نَسَب إظهارَها إلى الشيخ حيدر الأديبُ أحمد بن محمد بن الرسَّام الحلبيّ فقال‏:‏
ومهفهفٍ بادي النِّفَار عَهِدْتُهُ * لا ألتقيه قطُّ غيرَ معبّسِ
فرأيته بعضُ الليالي ضاحكًا * سهلَ العريكةِ ريِّضًا في المجلسِ
فقضيتُ منه مآربي وشكرتُهُ * إذ صارَ من بعد التنافرِ مؤنسي
فأجابني: لا تشكرنَّ خلائقي * واشكر شفيعَكَ، فهو خمر المفلسِ
فحشيشَةُ الأفراحِ تشفعُ عندنا * للعاشقينَ ببسْطها للأنفُسِ
وإذا هممتَ بصيد ظبيٍ نافرٍ * فاجهدْ بأن يرعى حشيشَ القنبُسِ
واشكر عصابة حيدرٍ إذ أظهروا * لذوي الخلاعةِ مذهبَ المتخمِّسِ
ودع المعطِّل للسرورِ وخَلِّني * من حسنُ ظنِّ الناسِ بالمتنمّسِ"
وعلى هذا فالأبيات التى استشهد بها الحسين الطباخ على فوائد الحشيش محاولا أن يغرى بدير بشربه هى أبيات سابقة كثيرا على عصرها، إذ لم تقل إلا بعدما عُرِف الحشيش على نطاق واسع وشاع وذاع واستهتر الناس بشربه، وهى الأبيات التى تبتدئ بقول الشاعر:
دع الخمر واشرب من مُدَامة حيدرٍ * معتَّقَةً خضراء لون الزبرجدِ
وهى جزء من الأبيات التى مرت بنا قبل قليل.
وفى الصفحة التسعين بعد المائتين نجد أنفسنا بإزاء تفاوت مشابه مضحك، فالبيتان الجميلان اللذان كانت الجارية المغنية تصدح بهما فى مجلس المأمون هما للشاعر العباسى الخبز أرزى، الذى مات بعد وفاة المأمون بمائة عام على الأقل، إذ توفى عام 317 هـ على أبكر تقدير، على حين مات المأمون عام 218هـ. ومع هذا فإن مؤلفتنا لا تجد حرجا أى حرج فى أن يكون ذانك البيتان موجودين ومشهورين حتى لتتغنى بهما المغنيات فى مجلس الخليفة قبل الهنا بسنة، بل بعقود. والسبب فى هذا هو لامبالاة الكاتبة واقتحامها ميدان الرواية التاريخية، بل الرواية بوجه عام، قبل أن تأخذ عدتها لتلك المهمة الجليلة. وهذه هى المقطوعة كاملة، ويأتى البيتان المذكوران على رأسها:
يا ليل، دُم لي. لا أُريد صباحا حَسْبِي بوجه مُعانقي مصباحا
حسبي به بدرًا، وحسبي ريقُه خمرًا، وحسبي خدُّه تُفّاحا
حسبي بمضحكه إذا غازلتُه مستغنيًا عن كل نجمٍ لاحا
ألبستُه طوقَ الوشاح بساعدي وجعلت كفي للِّثام وشاحا
هذا هو الفضل العظيم، فخلِّنا متعانقَيْنِ، فما نريد براحا
لو كان في حرم الإله عناقُنا ولثامُنا ما كان ذاك جُنَاحا
لو شاء ربّي أن يُعِفَّ عبادُه ما كان يخلق في الأنام مِلاَحا
(انظر ديوان الخبزرزى، وكتاب "الليل والنهار" لابن فارس بتحقيق حامد الخفاف مجلة "تراثنا"/ عدد 14/ ص288، وكتاب "المحب والمحبوب والمشموم والمشروب" للسري الرفاء).
ويمكن أن نلحق بهذه القائمة ما لحظته من ضعف معرفة الكاتبة بدينها، إذ هى مثلا تقول عن بدير فى الصفحة الخامسة والخمسين بعد الثلاثمائة إنه صلى التراويح بعد العشاء، رغم أننا لم نكن وقتئذ فى رمضان بدليل أنه كان يأكل ويشرب مما يقدمه له الناس من حوله بالنهار، وليس هناك أى ذكر لرمضان بتاتا. ومعنى ذلك أنها لا تعرف أن التراويح إنما تصلى فى رمضان فقط وليس فى أى وقت، مثلما لا تعرف كيفية التيمم، مع أنها بكل يقين قد درسته فى المدرسة. ذلك أنها تظنه مثل الوضوء، وكل ما هنالك أننا نستعمل فيه التراب بدلا من الماء. وفاتها أننا فى التيمم لا نمسح أقدامنا مثلا ولا نتمضمض أو نستنشق. على أى حال هذه هى عبارة الكاتبة كما كتبتْها بالنص: "جلستُ لأستريح قليلا وتيممت متهيئا لصلاة المغرب، فمسحت يدى بالرمال الطاهرة وكأننى أغسلها، ثم مسحت وجهى وساعدىّ وقدمىّ، وفعلت فعل الوضوء بغير ماء حتى أتطهر وأستعدّ للصلاة" (ص360- 361).
وهناك خطأ فى آيتين قرآنيتين يمكن القول فيهما إن الكاتبة قد اعتمدت على ذاكرتها فخانتها الذاكرة. لكن من الصعب تماما أن نتجاوز عن إيرادها المثل التالى: "كذب الممنجمون ولو صدقوا" على أنه آية قرآنية (ص336). ذلك أن الأمر يخرج هنا من باب النسيان ليدخل فى باب العبث واللامبالاة. هل يعقل أن تقدم كاتبة على تأليف رواية عن الإسلام وتاريخه وأهم فترة من فترات حضارته وهى تجهل القرآن إلى هذا الحد المخزى؟ ألا تعرف الكاتبة أن هناك شيئا اسمه المصحف يستطيع الواحد منا أن يرجع إليه كى يتحقق من أن ما يقوله هو قرآن فعلا؟ ألم يدر فى خَلَدها على الأقل أن تسأل أحدا ممن يحفظون القرآن عن قرآنية المثل المذكور؟
أذكر بهذه المناسبة ما كان قد حكاه لى أحد أصدقائى المقربين ونحن طلاب بالجامعة عن أخيه الصغير الذى كان وقتئذ فى المرحلة الابتدائية والذى صار بعد ذلك مستشارا قضائيا ملء هدومه من أنه عاد من المدرسة ذات يوم فسألوه: ما الذى حفظتموه اليوم فى الفصل؟ فأجاب فى افتخار وشعور بالأهمية: لقد حفظنا سورة "الهِرّة". فسألوه: طيب! سمّعنا سورة "الهرة". فشرع يرتل وهو يتمايل على عادة التلاميذ الصغار حين يقرأون القرآن: "بسم الله الرحمن الرحيم. دخلت امرأةٌ النار فى هرة حبستها، فلا هى أطعمتها ولا هى تركتها تأكل من خَشَاش الأرض. صدق الله العظيم". ولم يبق من سلوى بكر إلا أن تقول هى أيضا لنا: لقد حفظنا فى الفصل اليوم سورة "المنجّمون". لكن هذا مقبول من "دِيدِى" كما كانت إحدى أخواته تناديه فيغتاظ من الاسم، أما ممن ليست بـ"ديدى" فهو غير مقبول البتة. فديدى كان طفلا غرا ساذجا لا يعرف كُوعَه من بُوعِه، كما أنه لم يكن يضع فى حسبانه أن يكون كاتبا ولا أديبا، وكاتبتنا امرأة ناضجة قيل عنها إنها واحدة من أكثر الروائيين وكتاب القصة القصيرة المصريين احتراما: "one of Egypt's most respected novelists and short story writers"، وإن أعمالها قوبلت من النقاد بترحاب شديد: "her work has been met with much critical acclaim" (www.arabworldbooks.com)، وترجمت إلى تسع لغات: "Her work has been translated into nine languages" (www.internationalpubmarket.com)، فضلا عن أنها من أصحاب الجوائز: " Salwa Bakr is a prize-winning short story author and novelist" (goliath.ecnext.com).
وأما بالنسبة إلى لغة الرواية ففيها أخطاء كثيرة لا أدرى كيف سقطت فيها الكاتبة، نظرا لبدائيتها الشديدة، وهو ما جعلنى أتساءل: أهناك من صحح لها لغة الراوية، لكنْ لم يلتفت إلى مثل تلك الأخطاء التى لا تمثل، كما أشرت، صعوبة تذكر؟ أم إن هذا هو مستواها الحقيقى؟ فعلى سبيل التمثيل كيف تقع الكاتبة فى مثل قولها: "أديت مطانيات ثلاث" (ص93) دون أن تنصب "ثلاث" على الوصفية للمفعول به؟ أتراها، لما لم تمدّ تاء "مطانيات" بالألف لعدم انتصابها بفتحتين بل بكسرتين لأنها جمع مؤنث سالم، جرت على ذلك دون أن تدرى مع النعت فلم تمده هو أيضا؟ ممكن جدا. لكن هل يصح أن تقع كاتبة أديبة فى مثل هذا؟ سيقول القائلون: وهل هى وحدها التى ترتكب مثل هذا الخطإ؟ إن هناك من مشاهير الكتاب الذين يملؤون الدنيا ضجة مصمة وتنشغل الناس بهم حتى ليخيل إلى من لا يعرف أنهم أدباء كبار، وما هم فى الحقيقة بأدباء لا كبار ولا صغار، لكنها أحوالنا المقلوبة رأسا على عقب أو عقبا على رأس، هناك من مشاهير الكتاب من يُعَدّ مثل ذلك الخطإ بالقياس إلى ما يجترحونه من بلايا ورزايا لغوية دلالا جميلا لا خطأ رذيلا. وجوابى أننى لا أنكر ولا أجهل أن هناك هذا وأفظع من هذا، بيد أننى لا أحب أن أيأس وأسلّم بأخطاء المنتسبين إلى دنيا الأدب والتأليف تسليم المحبط المغلوب على أمره مهما توفرت دواعى اليأس والإحباط، بل أحب أن أظل رافعا الراية كمراقب الخط اليقظ فى مباريات كرة القدم لا ألقيها من يدى أبدا إلى أن يخترمنى هادم اللذات ومنتزع الرايات.
ومن هذه الأخطاء أيضا ما أسميه بـ"الواو اللعينة"، وهى الواو التى تتوسط بين النعت ومنعوته كقول الكاتبة مثلا: "بلاط البيعة والذى هو..." (ص10)، "التوابيت والتى يدخرونها" (ص16)، "يقرأ على الجميع والذين كانوا..." (ص60)، "مازوت من موازيت (أى عُمَد) القرى والذين كانوا..." (ص92). والمفروض أن يقال: "بلاط البيعة الذى هو..." "التوابيت التى يدخرونها..."، "يقرأ على الجميع الذين كانوا..."، "موازيت القرى الذين..."، إذ ما من قاعدة نحوية تبيح الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الطريقة. ومن الأخطاء اللغوية قول الكاتبة: "هواها قلبى" (ص30، أى تعلق بها. والصواب: "هَوِيَها"، لأن الفعل على وزن "فَعِلَ" لا "فَعَلَ"). ومنها العبارة التالية على لسان أحد شخصين: "التحمنا ببعضنا بعضا" (ص32. وصوابه: "التحمنا/ تلاحمنا"). والملاحظ أن تعبير "بعضهم بعضا" وما يتفرع عنه من أشكال مختلفة هو مما يرتبك فيه الكتاب المحدثون كثيرا، ولا أدرى لماذا. ولكن السبب الأصيل هو جهل كثير من هؤلاء الكتاب بلغتهم، فترى الواحد منهم يظن أنه يمكن أن يبلغ فى الأدب شأوا دون أن يتعب نفسه فى إتقان أداة تعبيره، جاهلا أن إتقان اللغة هو السبيل الأكيد إلى البراعة فى ميدان الكتابة والأدب. ولقد كان الكتاب والأدباء والشعراء فى العصور القديمة يتقنون لغتهم على نحو عجيب، بخلاف أدباء العصر الحديث، الذين لا يبالى كثير منهم بذلك. وهى بلوى نعوذ بالله منها، وإن كانت تصب فى المجرى العام الذى تصب فيه أعمال الأمة جميعا، ألا وهو مجرى الكسل واللامبالاة والرضا بالدون وعدم الطموح إلى المعالى والافتقار إلى الإحساس السليم بالأشياء والقيم.
ومما لفت نظرى من تلك الأخطاء قول الكاتبة: "وصوصة عصافير" (ص32)، تقصد زقزقتها، ظنا منها، فيما يبدو، أنها الاستعمال الفصيح لكلمة "صوصوة" العامية. لكن "الوصوصة" فى الواقع هى ضرب من النظر لا نوع من الأصوات كما تظن الكاتبة. أما فى ص224 فنجد "صوصوات النوارس". فهل هناك "صوصوة" فى العربية الفصحى؟ وبالمناسبة فكثيرا ما وصف سيد قطب فى تفسيره للقرآن تلألؤ النجوم من بعيد بالوصوصة، وكأنها تنظر من عليائها إلى البشر تشاغلهم بعيونها. وبعد هذا بصفحتين نرى الكاتبة تتحدث عن ابتلاع الأعشاب، والأعشاب لا تُبْتَلع، بل ُتْمَضغ مضغا. وهذا لون من الفقر التعبيرى مثل استعمالها "الوصوصة" تعبيرا عن زقزقة العصافير سواء بسواء. ومثل ذلك عدم توفيقها فى قولها (ص36): "نعقد العُرْس" بدلا من "نعقد الزواج أو النكاح أو القِران" مثلا، إذ العرس إنما هو الاحتفال بالزواج، والعقد فى اللغة العربية لا يقع على الاحتفال بالقِرَان بل على القِرَان ذاته. وهناك "رقايا" (ص45) بدلا من "رُقًى"، وهو ما لا أفهمه، ولا أعرف من أى واد أتت المؤلفة بتلك الصيغة الجمعية التى لا علاقة لها بـ"الرقية". وفى نفس الصفحة يقابلنا قول رجل لامرأة: "أرنى الحجاب" (ص49) بدلا من "أرينى الحجاب"، وكأن الخطاب موجه إلى رجل مثله. ومن ذلك كذلك: "هجست أقول له:..." (ص50). فهل الهجس كلام؟ إنه مجرد خاطر يطوف بالذهن لا كلام ينطلق به اللسان. فكيف تقع الكاتبة فى مثل ذلك الخطإ الأبلق الذى ليس لمن يقترفه أى عذر؟ ومن ذلك أيضا فى ذات الصفحة: "مَبْلِيًّا"، والصواب "مَبْلُوًّا" لأن الفعل واوىٌّ لا يائىٌّ. لقد سارت الكاتبة فى استعمال الفعل بالياء على طريقة العَوَامّ. لكن أين كاتبة مثلها من لغة العَوَامّ واستعمالاتها التى كثيرا ما تنأى عن المعيار اللغوى الفصيح؟ ومثلها: "بلادنا مبتلية بـ..."، وهواستعمال عامى أيضا (ص93. وصحتها: "مبتلاة").
وهناك كذلك هذا الخطأ اللغوى المضحك: "تمييز هؤلاء عن تلكم" (ص55)، تقصد: "تمييز هؤلاء عن أولئك"، إلا أنها ظنت أن "كُمْ" الملحقة بـ"تلك" تدل على جمع المشار إليه. وهذا خطأ محض، إذ إن هذه العلامة إنما تدل على جمع المخاطَبين لا على جمع المشار إليه. وعلى هذا فـ"تلكم" لا تعنى أكثر مما تعنيه "تلك"، لكنها تعنى أن الكلام موجه إلى جماعة من البشر لا إلى شخص واحد كما هو الحال فى "تلك". أما "تلكَ المرأة" فلا تختلف عن "تلكِ المرأة" ولا عن "تِلْكُما المرأة" أو "تِلْكُم المرأة" أو "تِلْكُنّ المرأة" إلا بأن المخاطَب الذى يتجه إليه الكلام يختلف من صيغة إلى أخرى طبقا لاختلاف الكاف الملحقة باسم الإشارة. وبالمناسبة فكثير من كتاب عصرنا يرتكبون ذلك الخطأ بمنتهى السهولة. وهم يجرون فى هذا على مبدإ "كله عند العرب صابون" مع أن العرب كانوا دقيقين دقة عجيبة فى استعمالهم للغتهم العبقرية مما يدركه كل من درس تاريخهم وأدبهم ولغتهم.
وثم تركيبٌ عامىٌّ جرت عليه الكاتبة فى قولها (ص62): "ولولا أكمل سُنّة الختان ما كتب اليهود اسمه فى منظرة الكهنة" بدلا من "ولولا أنه أكمل...". كما أن ثمة خطأ نحويا فى العبارة التالية: "نعتقد أن المسيح له طبيعة واحدة من طبيعتين وأقنوما واحدا من أقنومين" (ص63)، حيث نصبت الكاتبة "أقنوما"، وحقها الرفع عطفًا على "طبيعة"، التى هى مبتدأ. كذلك هناك "إشفاء المرض" (ص65)، وصوابه: "شفاء المرض" بدون همزة. وفى "تحولت برابى بأكملها" كان ينبغى أن تُحْذَف الياء من آخر "البرابى" لأنه اسم منقوص فى حالة رفع، فيقال: "بَرَابٍ". وهى جمع "بربا" أو "برباة"، ومعناها المعبد أو الهيكل. وقد كتبتْها سلوى بكر مرة: "برْبَة" (ص67). وفى "النجوم الزاهرة" لابن تغرى بردى مثلا نقرأ عن دلوكة المصرية أنها "بَنَتْ عِدّة برابٍ" بحذف الياء كما نبهتُ. وقد ورد فى "معجم البلدان" لياقوت الحموى أن هذه الكلمة قبطية.
ومما لاحظتُه أيضا فى هذا السياق جمع كاتبتنا "رسم" على "رسومات" مرارا بدلا من الاكتفاء بجمعها على "رسوم"، وقولها: "الحـُمّة" بدلا من "الـحُمَّى" على أسلوب العوام فى نطق أمثال هذه الكلمة. أما فى "كانت البلاد شراقيا" فكان ينبغى حذف الألف لأن الكلمة، فيما أتصور، "شراقِى"، جمع "شَرْقَى" أى عَطْشَى، وهذه صيغة منتهى الجموع فيحذف تنوينها وتنصب بفتحة واحدة إذن. قلت: "فيما أتصور" لأن "المعجم الوسيط" يقول إن الصفة من "شَرِقَت الأرض" (أى جَفَّتْ وعطِشت) هى "شَرِقَة". إلا أننا فى مصر نقول: "شَرَاقِى" على صيغة "فَعَالِى"، وهذه الصيغة لا تصلح أن تكون جمعا لـ"شَرِقة" بل أقرب أن تكون جمعا لـ"شَرْقَى"، التى لا يذكرها المعجم المذكور رغم هذا.
وفى الصفحة الثالثة عشرة بعد المائة تقابلنا الجملة التالية: "هذان الطاجنان يحاكيان جناحا الدجاجة"، وهو خطأ واضح تصويبه: "جناحَىِ الدجاجة" نصبا على المفعولية، وعلامة نصبه الياء لأنه مثنى. وهناك استعمال الكاتبة الفعل "أستحيل" فى معنًى لا يخطر أبدا على البال، وذلك حين تقول: "أستحيلها بالنسبة إليك" (ص120) بدلا من "أراها مستحيلة" مثلا. ذلك أن معنى هذا الفعل هو أن يتحول الشىء إلى وضع آخر، أو يصير متعذر الوقوع. وهو فى الحالتين فعل لازم، على عكسه فى عبارة الكاتبة حيث يرد متعديا. وهو استعمالٌ جِدُّ غريبٍ لا أذكر أن كاتبا أو أديبا بالغًا ما بلغ مستواه من الضعف اللغوى قد أقدم عليه. وفى الصفحة رقم 126 تقابلنا عبارة "مُحِيدا بالحديث" بمعنى متحولا به إلى موضوع آخر، من "أحاد" فيما هو واضح. لكن هذه الصيغة صيغة متعدية، ومن ثم لا تصلح هنا، بل التى تصلح هى صيغة "حاد، فهو حائد". وبعد ذلك بصفحتين نجد الكاتبة تقول: "دون افتقاد إلى..."، تقصد "دون افتقار إلى..."، وهو خلط يبعث على الاستغراب. لكن لا بد من المسارعة إلى أن هذا هو مستوى كثير ممن يُسَمَّوْن: "كتابا وكاتبات" فى مصرنا العزيزة الآن، وتقتصر الجوائز فى كثير من الأحيان عليهم وعليهن. وهى معرّة لا تصحّ أبدا.
وفى ص 145 نسمع مينا بن بقيرة المتمرد البشمورى، بعد أن ينتهى من قراءة رسالة الأب يوساب له، وهى الرسالة التى يُفْتَرَض أنه أرسلها له كى يخلع عنه رداء العصيان والخروج على الدولة ويخلد إلى الطاعة والهدوء، ينخرط فى خطبة عصماء مزلزلة باللهجة البشمورية التى يتحدثها الناس فى منطقته ينسب فيها إلى المسلمين من المظالم والمفاظع ما يخطر وما لا يخطر على البال محددا أسماء البلاد المتمردة وقائد كل تمرد كأنه يطالع فى يده كتابا من كتب التاريخ المفصلة، لنفاجأ به يشير إلى عبد الملك بن الحباب واصفا إياه بـ"متولى الخراء الذى يسمونه: الخراج". وهذا، كما يلاحظ القارئ، تلاعب لفظى لا يمكن أن يتم فى هاتبن الكلمتين إلا فى اللغة العربية لأنها هى اللغة التى تشتمل على الكلمتين، أما البشمورية فلا تعرف هاتين الكلمتين العربيتين بطبيعة الحال. وهى سقطة فنية لا تغتفر.
وبالمثل نقرأ فى صفحة 148 استعمالا للفعل "خالط" غير سديد، إذ تقول الكاتبة على لسان بدير الراوى: "وقد قال من حكى لى طرفا من أخبار البشمورى إنه ظل زمنا طويلا فى الضلال يخلط العلم بالدين، وإنه كان قد تخبط وخالَط أكثر من مرة بسب كثرة قراءاته ونظره فى الكتب". وصواب الاستعمال أن نقول: "خلَّطَ" أو "خُولِطَ فى عقله" مثلا. أما "خالط" فمعناها "اختلط بـ..."، وليس هذا ما تقصده الكاتبة. ويذكرنى صنيع الكاتبة هنا بما أجده فى كراسات إجابات كثير من الطلاب من حومانهم حول الكلمة المرادة دون أن يصيبوها كما فعلت الكاتبة هنا. وأنا أرجع هذا إلى قلة القراءة، مما يترتب عليه أن المفردات والتعبيرات والتراكيب لا تنطبع جيدا فى ذهن الشخص. ويمكن التغلب على هذا العيب فى المدى العاجل بفتح المعاجم. ولكن لا سبيل إلى التخلص منه إلا بكثرة القراءة والاهتمام الكافى بالصحة اللغوية. أما الاكتفاء بالأصداء البعيدة للاستعمالات اللغوية فى الذهن والرضا بالمقاربة دون التحقيق فلا يليق، وبخاصة ممن يتخذ من الكتابة حرفة.
وتستخدم الكاتبة "الامتنان" بمعنى شعور الشخص بالجميل تجاه من أولاه معروفا (ص164، 272 مثلا)، وهو استعمال شائع فى عصرنا رغم أن اللفظ إنما يعنى "الإنعام أو التذكير به" فيقال: "امتن فلانٌ علىَّ بكذا"، أى تفضل علىَّ بكذا، أو ذكّرنى به. كذلك نجد الكاتبة تقول: "بكِلْتَىْ يديها" (ص165)، وصوابها: "بكلتا يديها" بالألف دائما: رفعا ونصبا وخفضا لأنها مضافة إلى اسم ظاهر، أما إعرابها بالياء فلا يكون إلا إذا نُصِبَتْ أو جُرَّتْ وأُضِيفَتْ إلى ضمير لا إلى اسم ظاهر، فنقول حينئذ: "كِلْتَيْهما". كما نجدها (ص168) تستخدم "أهوام" بدلا من: "هوامّ"، و"عِيَلاً" بدلا من "عائلات"، وكلا الاستعمالين خطأ. ودعنا من أن بعض اللغويين يرى أن "عائلة" بمعنى "أسرة" هو استعمال خاطئ. وثم قولها أيضا: "إذا لم يسكت ويكفّون..." (ص170) برفع "يَكُفّون"، والصواب جزمها عطفا على "يسكت"، فنقول: "ويكفّوا" بحذف النون. وفى ص178 يقابلنا التركيب التالى: "ما إن هممتُ... إلا سمعتُ..."، وصوابها: "ما إن هممت بكذا حتى سمعت...". أما الاستثناء هنا فلا أدرى له وجها سوى أنه ثمرة لعدم الدقة التى تحدثنا عنها قبل قليل. ومثلها قول الكاتبة: "فما لبثنا إلا وكان الليل..." (ص215. وقد تكرر هذا التركيب ص296).
أما "المحوششة" فى قول الكاتبة (177): "دواب الأرض المحوششة" فلا أدرى ماذا تقصد بها، بل لا أدرى من أى أرض استقدمتها، أو من أى سماء استنزلتها. وفى الفعل: "ولْنَلُوذ" (ص182) لا تلتفت كاتبتنا إلى أن اللام التى فى أول الفعل هى لام الأمر الجازمة، فكان حق الفعل أن تُحْذَف واوه الوسطى تمهيدا لتسكين الذال بعدها (هكذا: "ولْنَلُذْ"). وفى ص196 نرى "آوَيْتُ"، بمعنى "لجأت"، وصوابها: "أَوَيْت" بدون همزة تعدية لأن الفعل هنا لازم. وقد سبق أن لاحظت فى دراسة لى عن رواية طه حسين: "دعاء الكروان" أنه يستخدم ذات الصيغة فى نفس المعنى، فانبرى بعض الأساتذة يعترضون، عنادا منهم، علىَّ بأنه قد فاتنى أن القرآن يقول على لسان ابن نوح: "سآوِى إلى جبل يعصمنى من الماء"، وعلى لسان لوط عليه السلام: "أو آوِى إلى ركن شديد"، جاهلين أن الفعل هنا مضارع لا ماض، وأن الهمزة التى خيل إليهم فى أول الفعل أنها هى ذاتها الهمزة التى فى الماضى ليست للتعدية بل هى همزة المضارعة. وما كتبوه موجود عندى بأخطائه الفاحشة التى تؤكد ما يقوله المثل الشائع على سبيل المجاز من أن العناد يولد الكفر.
كذلك نرى الكاتبة (ص211) تستخدم كلمة "عمارة" بمعنى سفينة. فهل "العَمَارة" سفينة كما هى فى استعمال الكاتبة؟ أم هل هى أسطول كامل؟ الواقع أنه لا وجود لهذه الكلمة فى المعاجم القديمة كـ"لسان العرب" و"تاج العروس". بل إنها لا توجد فى معجم المستشرق البريطانى إدوارد وليم لين المسمى: "مَدّ القاموس"، بل ولا فى "المعجم الوسيط". أما فى "محيط المحيط" لبطرس البستانى، وهو من أهل القرن التاسع عشر، فنجد نصًّا على أنها فى استعمالها فى مجال السفن (وهذه عبارته حرفيا: "الطائفة من السفن الحربية") هى من كلام المولدين، وهو ما يعنى أن هذه الكلمة لم يكن لها وجود فى زمن الرواية بهذا المعنى، فضلا عن أن الكاتبة قد ضيقت معناها جدا فأطلقته على السفينة الواحدة، على حين أنها تعنى أسطولا (حربيا) لا سفينة واحدة. ولذلك نجد بين معانيها فى معجم "Verb Ace Pro" الألكترونى مثلا: "squadron, fleet"، وفى معجم هانز فير العربى الإنجليزى: "fleet (naval)". ومن الفقر المعجمى استخدام الكاتبة لفظ "التنادُم" (ص213) بمعنى "الصداقة"، وهو خطأ لأن المنادمة والتنادم إنما يكونان على الشراب ولا يدلان على مطلق الصداقة أو المصاحبة. ثم بعد هذا بصفحة نجدها تقول: "تعرَّقَتْ جلودهم" بدلا من "عَرِقَتْ". أما "تعرَّق" فمعناها "أكل ما على العظم من لحم" أو "مزج الخمر ببعض الماء". وكما يرى القارئ: ليس ثم صلة بين هذا وذاك.
وإلى جانب ما مر نجد أنه قد تكرر استخدام الكاتبة للفظة "البرق" بمعنى تطيير الخبر بوساطة الحمام الزاجل. لكن هل كانت تلك اللفظة بهذا المعنى معروفة فى ذلك الوقت؟ لقد بحثت عنها فى "تاج العروس"، وهو من نتاج القرن الثامن عشر، وكذلك فى "محيط المحيط"، الذى صدر فى القرن التاسع عشر، فلم أجدها، وهو ما يفيد أنها لم تستعمل بهذا المعنى فى العصر العباسى، وأن الكاتبة لا تستطيع أن تُحْكِم فنها، بل تكتب بعفوية فى مجال لا تصح فيه العفوية، ولا بد له من الاستعداد والاحتشاد والقراءة الواسعة العميقة والتنبه لمثل تلك الدقائق. أما فى "المعجم الوسيط" فتقابلنا: "أبرق" بمعنى "أرسل برقية"، مع النص على أنها "مُحْدَثة". والمقصود بـ"البرقية" ما يسمى فى العامية المصرية بـ"التلغراف". وإذا كان الشىء بالشىء يذكر كما يقال فقد قرأت فى مقال للعقاد، طيب الله ثراه، يتناول فيه بالتحليل كتاب "على هامش السيرة"، انتقاده لاستعمال طه حسين كلمة "الخيال" على لسان الخادمة ناصعة فيما نستعملها له الآن من معنى، وهو المعنى الذى يعبرون عنه فى الإنجليزية والفرنسية بالـ"imagination". وكانت حجته، وهى حجة صلبة غاية الصلابة، أن هذا المعنى لم يكن معروفا فى ذلك الزمن الذى تدور فيه وقائع السيرة النيوية (انظر العقاد/ ساعات بين الكتب/ ط3/ مطبعة السعادة/ 1950م/ 509). ومرجع هذا الانتقاد أنه ينبغى للقصاص الحرص على "مشاكلة الواقع".
ومما يضحك من أغلاط لغة الرواية أن نرى كلمة "الآذان" مستعملة فى موضع "الأذان" (ص223). وكثيرا ما ألاحظ كتابتها بهذه الطريقة الخاطئة على شاشة المرناء عند التنبيه إلى أن موعد "أذان" الصلاة الفلانية قد حان، فأضحك محاولا تصور الظهر مثلا أو العصر وقد صارت له آذان. ثم أنثنى فأقول: هذه هى الثمار المرة لأوضاعنا المتبلدة. لا أحد يهتم، لا أحد يلاحظ، لا أحد يراجع، لا أحد يشعر بأى فرق. ولعله يصح أن أذكر هنا ما كتبه المرحوم يوسف السباعى ذات مرة من أنه دارت يوما مناقشة بينه وبين عديله النحوى الشهير الأستاذ عباس حسن صاحب "النحو الوافى" حول الأخطاء النحوية التى يقترفها الأستاذ السباعى فى قصصه ورواياته، فكانت حجة الأستاذ السباعى أنه ما دام القراء يفهمون ما يريد قوله لهم فلا مشكلة، إذ اللغة ليست سوى وسيلة لبلوغ غاية معينة. فإذا بلغنا الغاية المرادة فلا داعى لأن نشغل أنفسنا بالوسيلة إذن. أما تعليقى فهو أن اللغة ليست وسيلة إلى الإفهام فقط، بل هى كذلك وسيلة إلى الإمتاع. وإلا فلو قصرنا الوسائل الحياتية على المنفعة فقط لكان علينا مثلا أن نسكن الأخصاص أو غصون الشجر، ونلبس الخيش، ونأكل بأيدينا الطعام مدلوقا على الأرض دون أطباق أو موائد أو ملاعق وسكاكين، ونشرب بأكفنا من القنوات والأحواض، وننام على الحصير، ونكتب على الأحجار... إلخ. فهل هناك من يقول بذلك؟ قد يجوز هذا بالنسبة إلى الحيوان الأعجم (أقول: "قد"، لأن الحيوانات فى بعض بلاد الأرض تعامَل أفضل مما يعامَل به البشر فى بلاد أخرى)، أما بالنسبة إلى البشر، وبالذات البشر المتحضرون، فلا. ثم من قال إن الفهم الدقيق يمكن أن يتم دون نحو صحيح؟ لا، بل إن بعض الكلام لا يمكن فهمه أصلا ما لم يكن محصَّنًا بالصحة النحوية والصرفية.
ويزيد الطينَ بِلّة أن المؤلفة (ص226) تتحدث عن "البرق الشامى" وكأنه تلغراف أتى أهل أنطاكية بخبر وصول السفن بالأسرى، غير داريةٍ أن "البرق الشامى" هو كتاب ألفه العماد الأصفهانى عن صلاح الدين وجهاده وعمله عنده، أو هو البرق يسطع من جهة الشام، وهذا كل ما هناك. وفى ص228 نجدها تقول: "يتقصى عن أحوال..." مستعملة الفعل متعديا رغم أنه لازم، ومن ثم فلا موضع هنا لحرف الجر. وفى قولها (ص234): "سماء مصر المرصعة بالنجمات" نراها تستخدم جمع الألف والتاء الدال عادةً على القلة بدلا من جمع الكثرة: "النجوم"، وهو المراد هنا، إذ هى تريد الإشارة إلى أن سماء مصر مفعمة بالنجوم كما هو واضح لا أن فيها بضع نجمات فحسب. ولعلها متأثرة بأغنية شادية: "غاب القمر يا ابن عمى"، التى تقول فيها: "ضحك الهوا حواليك وتمايلت النجمات". لكن وقع الكلمة فى أغنية مجدى نجيب شىء آخر تماما. وقد أنزلت الأغنية الآن وأنا أسطر هذه الكلمات، وهأنذا أسبح معها فى الفضاء العالى منتشيا بسكون الليل الذى تصفه الأغنية الساحرة فى أخريات ليالى الصيف المطلولة بين الحقول. وبودى لو أشركت القراء كلهم معى فى هذه النعمة الكريمة. وهناك قول المؤلفة (ص243): "وعلى الرغم من كذا... إلا أننى..."، وهو أيضا استعمال شائع فى عصرنا رغم خطئه، إذ لا موضع هنا للاستثناء، وإلا فهو استثناء من ماذا؟ وبعدها بصفحة: "كنت خَدِرًا ضَعْفَانًا"، وهى أول مرة أسمع فيها صيغة "ضعفان" هذه، علاوة على أن هذه الصيغة لا تنوَّن، وهو ما يذكرنى بما أسمعه من القاهريين من قولهم عمن تناول فطوره: "فَطْران"، وكذلك ما سمعته من إحدى الطالبات بقسم اللغة الفرنسية فى منتصف سبعينات القرن الماضى تصفنى بأننى "طَوْلان"، أى طويل (بالنسبة إليها). ثم بعدها بصفحة نقرأ: "همس لى قيِّمٌ شابٌّ... أن أنتبه من الأب ميخائيل"، أى آخذ حذرى منه. وهو استعمال لا تعرفه حتى العامية فيما يخيل لى، إذ نقول مثلا فى تلك الحالة: "خذ بالك منه"، أما "انتبهْ منه" فلا أظن. ثم بعد هذا بصفحتين أخريين: "المائة قانون وقانونين الذين شُرِّعوا..." باستعمال "الذين" صفة للقوانين بدلا من "التى" كما ينبغى أن يكون الأمر، إذ تستعمل العربية لجمع غير العاقل صيغ المفردة المؤنثة لا صيغ جمع الذكور العقلاء، علاوة على أنه كان ينبغى أن تقول الكاتبة: "المائة قانون والقانونين" بعطف معرَّف على معرَّف احتراما لمبدإ الاتساق. ومن استعمالها أيضا صيغة جمع الذكور العقلاء لغير العقلاء قولها: "ويُوقِد عليهم (أى على الآثار المقدسة) قنديلا فى كل ليلة" (ص369). أما إضافة "المائة" المعرفة بـ"أل" إلى كلمة "قانون" المنكَّرة فلن أتوقف عندها حتى لا أكون ثقيل الوطأة. صحيح أننى من الذين لا يجدون فيها فى حد ذاتها معابة، لكن هل كان هذا التركيب معروفا فى ذلك الوقت؟ ثم بعد ثلاث صفحات تلقانا كلمة "الشمسنة" بمعنى وظيفة الشمّاس فى الكنيسة، ولا وجود لها فى المعاجم. وكل ما عثرت عليه فى "محيط المحيط" هو "الشمّاسيّة" وكذلك "الشُّمُوسيّة"، التى وجدتها أيضا فى معجم "الرائد" لجبران مسعود. والمعجمان لبنانيان ألفهما نصرانيان.
ثم هل يصح أن نؤكد لفظة "النساء" بـ"أجمعين"؟ إن النساء جمع مؤنث، وتأكيده إنما يكون بـ"جمعاوات" لا بـ"أجمعين" الذكورية. وليس فى هذا افتئات على النصف الحلو، ولا يصلح رَمْيُنا من ثم بالذكورية، فالرجال رجال، والنساء نساء، ولا ينبغى الخلط بينهما، فلكل حدوده وخصائصه ومخصصاته. وعلى هذا كان ينبغى أن تقول المؤلفة: "خرجت نساء عين جارة جمعاوات" لا "أجمعين" كما قالت (ص262). أما فى العبارة التالية: "خَلِّينا نَصِل وننهى مهمتنا بسلام" فإضافةً إلى أن التركيب عامى، وهو ما لا أقف عنده من هذه الجهة بل من جهة أخرى سوف آتى إليها للتو، نجد الكاتبة قد أثبتت الياء فى آخر الفعل: "خَلِّى"، والمفروض حذفها طبقا للقاعدة المتبعة مع فعل الأمر الناقص على ما هو معلوم للجميع. أما وجه اعتراضى على "خَلِّنا نفعل كذا" فهو أن هذا التركيب لم يكن له وجود فى زمن الرواية، وإلا فأنا نفسى كثيرا ما أستخدمه الآن رغم أصله العامى لأن من الممكن استخدامه فى الفصحى دون أى جهد. ترى أهو أقل شأنا من قولنا: "دعنا نفعل كذا"؟
ولنلاحظ أيضا الركاكة والغرابة فى قول المؤلفة: "وقد توضعت مجموعة من بيوت النار إلى جوار بعضها" (ص270) بدلا من "قامت طائفة من بيوت النار متجاورة" مثلا. وبالمثل يتسم قولها: "الجندى الذى أنا تبعيته" (ص271) بالركاكة والغرابة معا. أما "شكلانىّ" (ص272) فلم يكن لها فى ذلك الوقت أى وجود، ومن ثم كان على مؤلفتنا ألا تستخدمها. كذلك تكررت كلمة "الوقايد" (المواقد والمشاعل؟)، ولم أجدها فى مئات الكتب التى تشتمل عليها الموسوعتان الشعريتان الإماراتيان. وفى الصفحة التى تلى ذلك تقابلنا عبارة "حَذِقَ فى هذا الكار"، وفيها مسألتان: فالفعل "حذق" فعل متعد لا يحتاج إلى حرف جر، كما أن كلمة "كار" (غير العربية) لم تكن مستعملة فى كتابات ذلك الوقت فيما يخيل لى، إذ حاولت العثور عليها فى مئات الكتب القديمة فلم أوفق. ودعك من انطباعى الناشئ من معايشة التراث منذ عشرات السنين بأنها لم تكن مستعملة أوانئذ.
وهناك صيغة غريبة من مادة "فهم" كلما قابلتنى فى الرواية، وكثيرا ما قابلتنى، لم أتمالك نفسى من الضحك. ألا وهى الفعل: "افْتَهَمَ" بدلا من "فَهِمَ" (انظر مثلا ص276، 278، 301). ترى ما الذى دفع كاتبتنا إلى استعمال هذه الكلمة؟ هل وجدتْها مثلا فى كتاب نصرانى قديم مكتوب بالعربية مثلما هو الحال فى لغة ساويرس بن المقفع المضعضعة المفعمة بالأخطاء؟ لكن هل هى متأكدة أنها كانت معروفة فى ذلك العصر على وجه التحديد؟ وفى ص296 نراها تقول عن شخصين اثنين: "فأنزليهم"، وصوابها: "فأنزليهما". وبعدها بصفحة نقرأ: "أشم روائح ذكية" بالذال، على حين أنها "زكية" بالزاى. ثم هل كانت كلمة اللاتينى (ص303) معروفة فى ذلك الوقت عند المسلمين؟ أما فيما يخصنى فهأنذا أعلن أننى لم أجدها فى أى من الموسوعتين الشعريتين المذكورتين. وفى الصفحة نفسها تقابلنا "كلوة الكف" وهى كلمة عامية معروفة بيننا الآن، لكن العرب كانوا يقولون: "الأَلْيَة" كما فى "الإفصاح فى فقه اللغة"، الذى فسرها بأنها هى "اللحمة التى فى أصل الإبهام". وفى ص 305 تجعل الفعل: "يَكْسُو" يائيا لا واويا فتقول: "يَكْسِى". كذلك تكرر استعمال الراوى لكلمة "الجريك"، التى كان عوام المصريين يقولون إلى وقت قريب فى الصفة منها: "إجريجى". وعلى كل حال فالعرب لم يكونوا يعرفون هذه الكلمة، بل "الإغريق" و"يونان". ومن الأخطاء أيضا: "راحوا يسوطوه بشدة" (ص337) بدلا من "يسوطونه"، أى يضربونه بالسوط، و"عشرين درهم" (ص338)، وصحتها: "عشرين درهما" نصبا على التمييز، وكذلك "يُصْعَد إليها بعدة دُرُج" (ص339)، وتصويبها: "درجات"، و"رهبان ظُرَاف أكياس" (ص243)، وتصحيحها: "ظِرَاف" بكسر الظاء لا بضمها. ومن شواهد استعمال القدماء فى ذلك الوقت لتلك الكلمة قول الشاعر العباسى مطيع بن إياس، ذلك الشيطان الظريف، فى قينة جميلة اسمها جوهر كان يحبها ويحب حديثها ومجالستها، فأقبل يوما إلى بيتها فقيل له إن هناك فتى آخر معها هو ابن الصحّاف، فرجع ونظم تلك الأبيات اللعينة التى حَوَّرْتُ كتابة ما تحويه من كلمات عارية حتى لا أصدم الذوق السليم:
"كان" وَاللهِ جَوْهَرَ الصَحّافُ * وَعَلَيْها قَميصُها الأَفوافُ
شامَ فيها "رأيا" لَهُ إضْلاعٌ * لَم يَخُنْهُ نَقصٌ وَلا إِخْطافُ
زَعَموها قالَت وَقَد غابَ فيها * قائِمًا في قِيامِهِ اسْتِحْصَافُ:
بَعْضَ هذا! مَهلاً! تَرََفَّقْ قَليلاً * ما كَذا يا فَتَى "تُكَان" الظِرافُ
وقد جرّأنى على إيراد تلك الأبيات التى لم يكن يدور فى خيالى ولا حتى فى المنام أن أوردها فى شىء من كتاباتى أننى ألفيت الكاتبة صفحة 326 من الرواية تورد كلاما مفصلا عن عملية الجماع وأحسن الأوقات التى ينبغى أن تتم فيها والأساليب المختلفة لممارستها.... إلخ مما حشرته فى الرواية حشرا على دَيْدَنها فى خلق المناسبات خلقا لتسوق ما تريد سوقه نقلا من الكتب حتى لو يكن السياق يتطلبه فى شىء. ومن ذلك أيضا وصفها للجماع الذى وقع بين دلوكة الأستاذة وثاونا تلميذها الفَتَى حين بدا لتلك المرأة الموقرة المحترمة الحكيمة الحاذقة (طبقا لما وصفتها به الرواية) أن تدخل السعادة والحبور على قلب تلميذها المسكين الذى كان حاله يصعب على الكافر. والحمد لله لقد كانت كافرة، فصَعُبَ حاله عليها، إذ رأت فى عينيه نداء الحرمان فرَقَّ قلبها الرهيف له ذات يوم ونادته أن يتبعها إلى مكان خال حيث ضمته إلى حضنها الأموى الدافئ الحنون ثم مدت يدها الرؤوم فخلعت له ملابسه ثم أتبعتها بخلع ملابسها أيضا واهبة نفسها للولد المحروم ابتغاء عمل الخير وكَسْب الثواب. و"مَنْ قدّم شيئا بيداه التقاه"! وليسامحنى نحاتنا الأفاضل على الإبقاء على الألف هنا فى المثنى المرفوع اتباعا للهجة بعض القبائل العربية القديمة حتى لا أفسد المثل الظريف. وكل شىء فى يومنا هذا المبارك ظريف، وأى ظرافة! وقد عملت دلوكة الفيلسوفة العالمة الطبيبة المشرِّحة ذلك كله من فرط حكمتها وتقواها! اللهم زَكِّها، أنت خير من زكّاها! ترى لو لم تكن فاضلة موقرة محترمة حكيمة حاذقة فماذا كانت بنت الفاعلة هذه فاعلة؟ ويجد القارئ وصف هذا العمل الصالح ص121 وما يليها، وهو وصف شاعرى يغرى بالفجور. وثم تقليد الآن ينتشر بين عدد كبير من الروائيين والروائيات العرب لا يمكن أحدا منهم أو منهن أن يهمله، ألا وهو توبلة أعمالهم بفُلْفُل الجنس وكمّونه وشَطّته حتى تصبح حِرِّيفةً غاية الحَرَافة. وإلا فكيف تكون أديبا طليعيا تقدميا تنويريا؟
وهذه الحكاية المضحكة تذكرنى بفلم فرنسى شاهدته فى التلفاز البريطانى وأنا فى أكسفورد أواخر سبعينات القرن المنصرم جامعتْ فيه الأم ابنها الصبى الصغير المدلل فى غرفة النوم بالدور الأعلى فى الوقت الذى كان فيه الأب مع ضيوف الأسرة فى الطابق الأرضى، ثم بعدما انتهى المشهد الدنس طلبت الأم من ابنها أن يعاهدها على أن يحتفظا بذكرى تلك "الليلة المباركة" فى قلبيهما وحدهما لا يطلعان عليها أحدا. أرأيتم إلى تلك الرومانسية الرقيقة؟ الأبيات الشعرية إذن مناسبة للرواية، التى لم يكن يدور فى بالى حتى ولا فى الأحلام أنها سوف تبحر بى فى تلك المياه البعيدة الأغوار! ولكنه قضائى وقدرى المكتوب على جبينى منذ كنت فكرة فى ضمير الكون، فلا فَكَاك لى إذن منه. أليس المكتوب على الجبين لابد أن تراه العين؟ فهأنذا قد رأيته!
وإذا كان لنا أن نتحدث عن التناصّ فى شخصية دلوكة هنا فينبغى أن نعرف أن هذا الاسم معروف عند العرب لشخصية تاريخية، إذ يقول بعض المؤرخين المسلمين إنه اسم امرأة كانت معاصرة لفرعون موسى ثم تولت الملك من بعده. أما كونها عالمة فيلسوفة فهو مما يذكرنا بهيباتيا، مثلما تذكرنا نهايتها بنهاية هيباتيا، إذ قتلها النصارى فى الرواية مثلما قتلوا هيباتيا لنفس السبب، وهو أنها كانت وثنية. وفوق ذلك كانت دلوكة فى الرواية جميلة كما كانت هيباتيا جميلة.
وعودةً إلى الملاحظات اللغوية على أسلوب الرواية أقول: لقد لاحظتُ أن الكاتبة تكرر فى الرواية كلمة "النّقْف" بمعنى "عكاز أو غصن شجرة يُسْتَعْمَل عصا". إلا أن "النقف" فى المعاجم اللغوية كـ"لسان العرب" و"محيط المحيط" هو "الفرخ"، لأنه ينقف البيضة، أى يكسر قشرتها ويخرج منها... إلخ. وأخيرا فأرجو أن يتنبه القارئ إلى أن مهمة الناقد قد تكون أسهل من الكاتب، فالذى على الشط عوام كما نقول. لكن هذا لا يعنى أن يسكت النقاد فلا ينتقدوا الأدباء، وإلا فسدت الأمور، إذ الحياة تقوم على الإنجاز من ناحية، وعلى تقويم ذلك الإنجاز أولا بأول من ناحية أخرى حتى يأتى فى المرة القادمة أفضل وأفضل... وهكذا.
وثم نقطة أخرى تتعلق بلغة الرواية على درجة عالية من الأهمية، ألا وهى كثرة الألفاظ والتعبيرات العامية. و"البشمورى" رواية تاريخية كما لا نحتاج أن نقول. وقد جرت التقاليد الأدبية بأن تصطنع الروايات التاريخية اللغة الفصحى فى كل شىء: سردا وحوارا ووصفا... إلخ. والمعروف أن بدير لم يكن يتحدث العربية قبل اعتناقه دين التوحيد وتعلمه لغة القرآن فى أواخر الرواية. ومع هذا نفاجأ بأنه حريص منذ البداية على استعراض الألفاظ والعبارات الموغلة فى العامية المصرية والتى لم تكن قد ظهرت بعد، إذ كان المصريون المتعربون فى ذلك الوقت حديثى عهد بالعربية أصلا، فما بالك بالعامية، وبخاصة منها ذلك النوع المغرق فى النكهة الشعبية الذى لا بد أن يكون قد أخذ وقتا طويلا قبل أن يظهر على ألسنة أجدادنا؟ وهذه بعض أمثلة مما قابلنى فى الرواية من استعمالات عامية: "فى الأول" (فى البداية) ص8، و"مَطْرَحى" (موضعى) ص8، 34، و"بَلْوِتِى" (بلواى) ص9، و"الطياشة" (الطيش) ص14، و"القُوَن" (الأيقونات) ص10، 16، و"الشمس وقيدة نار" ص23، و"على الطِّبْطاب" ص26، و"براوة" (برافو) ص95، و"نخرج من نقرة فنقع فى حفرة" ص110، و"العنب البناتى" (عنب بدون بذر) ص112، و"محلّ الأدب" (المرحاض) ص128، و"أَزَان" (إناء كبير للطبخ، وهو لفظ تركى لم يكن قد عُرِف عندنا بعد لأنه كان بيننا وبين الحكم التركى لمصر عدة قرون) ص135، و"كانت محطوطة فى جراب" (محفوظة) ص140، و"اللباس الشيت" (نوع من الملابس الشعبية التى لم تعرف إلا حديثا) ص148، و"بالكاد" (بشق الأنفس) ص163، و"تيتى تيتى زى ما رحتى زى ما جيتى" (عاد بخُفَّىْ حُنَيْن) ص170، و"للبحر وَشِيش وخفخفة" ص211، و"حلاوة سَدّ الحنك" ص240، و"ثرثرتا وبقبقتا" ص242، و"دايِرْ ما يْدُور" (محيطا بالمكان) ص267، 270، و"الخبز الإفرنجى" ص374، و"سَرْمَحَة" (تضييع الوقت بالسير فى الشوارع فى غير عمل ولا هدف) ص283، و"لماذا لا تتزوج يا شاطر؟" (للتهكم وتقليل الشأن) ص284، و"بُقْجَة" (صُرّة) ص292، و"أَضِيع بين الرِّجْلِين" (يضيع بين الأقدام المتزاحمة فلا يشعر به أحد لتفاهة شأنه) ص320، و"نداعبه ونهزّر معه" ص325، "فَتْح البُوز" (الفم) ص352، و"لَكْلَكَ (الكروان) بصوته الربانى الساحر" ص363.
أما قول بدير إن الحسين كبير الطباخين كان ينتقده على الإكثار من قوله: "إدِّينى، وَدِّينى، البتاع، البتوع" فهو واسع حبتين، إذ إن الراوى لم ينطق قط فى أى موضع من الرواية بأية كلمة من هذه الكلمات. إن الكاتبة إنما تريد أن تشير إلى بعض ما يميز العامية المصرية، والسلام. لكن فاتها أنها هى ذاتها قد قالت مرارا فى روايتها إن بدير كان يتحدث القبطية. ستقول: ولكنه شرع يتحدث العربية فى بغداد فى قصر الخليفة. وسنقول نحن: ماشٍ. لكن هل كلمة "البتاع" مثلا من عامية أهل العراق؟ بل هل كان المصريون يستعملون تلك الكلمة فى ذلك التاريخ؟ ولقد كنت أعرف أن هناك قصيدة زجلية لأحمد فؤاد نجم عن "البتاع"، وإن لم أكن قد سمعتها أو قرأتها من قبل، فقلت فى عقل بالى: ولم لا تهديها للكاتبة التى فتحت على لسان الحسين الطباخ موضوع "البتاع"؟ وها هى ذى زجلية نجم، التى لم أجدها رغم ذلك بالحلاوة والقوة التى توقعتها قبل قراءتها:
يا للي فتحت البتاع
فتْحك على مقفول
لأن أصل البتاع
واصل على موصول
فأى شئ في البتاع
الناس تشوف على طول
والناس تموت في البتاع
فيبقي مين مسؤول؟
وإزاي حتفتح بتاع
في وسط ناس بتقول
بأن هذا البتاع
جاب الخراب مشمول؟
لأنه حتة بتاع
جاهل
غبي
مخبول
أمر بفتح البتاع
لأنه كان مسطول!
وبعد فتح البتاع
جابوا الهوا المنقول
نكس عشوش البتاع
وهَدّ كل أصول
وفات في غيط البتاع
قامْ سمِّم المحصول
وخلاّ لون البتاع
أصفر
حزين
مهزول
وساد قانون البتاع
ولا علهْ ولا معلول
فالقاضي بتع البتاع
فالحق ع المقتول
والجهل زاد في البتاع
ولا مقري
ولا منقول
والخوف
سرح في البتاع
خلا الديابه تصول
وبقي البتاع في البتاع
والناس صايبها ذهول
وِانْ حَدّ قال: دا البتاع
يقولوا لهْ: مش معقول
وناس تعيش بالبتاع
وناس تموت بالفول
وناس تنام ع البتاع
وناس تنام كشكول
آدي اللي جابه البتاع
جاب الخراب بالطول
لأنه حتة بتاع
مخلب لراس الغول
باع البتاع بالبتاع
وعشان يعيش على طول
عين حرس بالبتاع
وبرضه مات مقتول
والآن فإننا نتساءل: لماذا يا ترى تنكبت الكاتبة اللغة الفصحى فى كثير من مواضع الرواية لحساب العامية، وبخاصة أن الاستعمالات العامية التى يستخدمها بدير لم تكن معروفة بعد؟ والطريف أن الرواية رغم ذلك كله قد وُصِفَتْ (فى موقع "the tanjara"، الذى سبقت الإشارة إليه) بأنها تستعمل مستويات مركبة من "الخطاب" (أى "مستويات متعددة من الكتابة" بلغة البسطاء الذين لا يعرفون شيئا من هذه الرطانات): " The text uses complex levels of discourse". إن مثل هذا الكلام لا محل له من الإعراب فى روايتنا هذه، إذ إن استعمال العامية هو نقطة ضعف شنيعة فى عمل الكاتبة. فكيف يقلب بعض الناس الحقائق، ويمجدون ما حقه الانتقاد والتصويب؟
ومما يعيب الرواية أيضا كثرة ما فيها من عدم اتساق فى كلام الأشخاص أو فى سلوكهم أو فى سرد الراوى للأحداث... إلخ. فعلى سبيل التمثيل نجد الراوى (ص20 وما بعدها) يذكر كراهية رجال البيعة لثاونا الراهب، الذى كان بينه وبين الراوى مودة خاصة، لكن دون أن يورد سببا واحدا لتلك الكراهية، مكتفيا بالحديث عنها كأنها مسألة طبيعة لا تحتاج إلى تفسير أو تعليل. وبعد ذلك بأربع صفحات نسمع يقول له: "لماذا تظن أنهم يريدون التخلص منك؟" هكذا بضمير الغائبين كأنه يكلمه عن ناس سبق بينهما الحديث عنهم رغم أن ثاونا لم يقل له شيئا من ذلك قط ولا دار بينهما حوار بهذا المعنى بتاتا.
وفى الصفحة الحادية والثلاثين وما يليها يجد القارئ وصفا ملتهبا لما كان بدير يحسه فى جسده وهو صبى صغير نحو آمونة، التى كانت تشتغل فى حقلهم قبل أن يلتحق بالكنيسة ويصير قيّما من قَوَمتها، وكذلك تقبيله لها وتجميشه إياها وتعريته لملابسها إلى أن انتهى الأمر كما ينتهى عادة فى مثل تلك الحال إلى المواقعة الجنسية. ثم تكرر ذلك مرارا. وكل هذا مفهوم، لكن الذى لا أستطيع فهمه هو أن يستمر الولد والبنت فى ممارسة تلك اللعبة فترة غير قصيرة دون أن يشغلا ذهنيهما بأن من الممكن حدوث حمل. أمن المعقول ذلك؟ أنا لا أقصد مناقشة الأمر من زاوية الحلال والحرام، بل أقصد خوفهما من انكشاف أمرهما لأسرتيهما وانتشار الفضيحة. هل فات هذا انتباه الكاتبة؟ غريبة! وهل هذا أمر يمكن تجاهله أو عدم التنبه إليه؟ وأغرب من ذلك أن أهلها لا يكتشفون، إلا بعد أن انتحرت، أنها كانت حاملا. ترى ألم يثر هذا الحمل فى وقته الخوف فى قلبى الحبيبين الضالين؟ وأغرب من هذا وأغرب أن أهل بدير كانوا قد خطبوا البنت لأخيه، وتولى هو بنفسه الاتفاق مع الفرقة الموسيقية التى ستحيى حفل العرس، وكأن البنت التى سيتزوجها أخوه ليست حبلى منه. وأغرب من هذا وأغرب وأغرب أن أهله لم يفهموا أنه كانت بينه وبين الفتاة علاقة إلا بعد استخراجها من الماء والطين الذى أغرقت نفسها فيه. كيف؟ هذا ما لا أدريه. من المفهوم أن يكتشف أهلها الأمر عند استخراج الجثة، أما أن يعرف أهله هو بما حدث قلا أفهم كيف يكون. هل من الممكن أن يطلعهم أهل البنت على ما اكتشفوه من حبلها؟ لكن لماذا؟ هل هم مصابون بداء المازوكية، فهم يحبون أن يفضحوا أنفسهم ويجلبوا على رؤوسهم ورأس بنتهم الميتة العار هكذا لله فى لله؟ أيعقل هذا؟ إن هذه النقطة إنما تمثل مفصلا من مفاصل الرواية التى عندها تنعطف الأحداث وتتغير مصائر الشخصيات، ومع هذا فما أضعف هذا المفصل! وهو ضعف يسرى فى ثنايا الرواية ويفسد جوها ويوهى بناءها. ليس ذلك فقط، بل هناك صمت أسرة بدير جميعا بعد اختفائه إثر انتحار آمونة، إذ لا يهتم الأب والأم والأخ بالبحث أو حتى السؤال عنه. معقول؟ والله لو كان كلبا يربّونه فى البيت لاهتموا به وسألوا عنه وظلوا يبحثون حتى يجدوه.
ومن المفاصل المهمة التى تحول عندها اتجاه الأحداث ومصير الشخصيات فى الرواية خَطْف النسر لملابس الراوى الكهنوتية (ص178). فهل تخطف النسور فعلا ملابس البشر؟ ولماذا؟ المعروف أن النسور تعيش عادة فى الصحارى وفوق الجبال وفى مناطق السافانا، ولا تأكل إلا الجيف، ولا تحمل إلى صغارها فى الوُكْنة شيئا من لحوم الحيوانات النافقة التى تأكل منها، بل تكتفى بأن تخرج لها من معدتها بعض ما كانت ازدردته من ذلك الطعام (انظر مادة "نسر" فى "الويكيبيديا" العربية، ومادة "vulture" فى الويكيبيديا الإنجليزية و"الموسوعة البريطانية"، ومادة "vautour" فى كل من موسوعة "الإنكارتا" و"الموسوعة اليونيفرسالية" الفرنسية، وتحت عنوان "النسر المصرى" بمادة "الحيوان البرى فى البلاد العربية" فى "الموسوعة العربية العالمية"). لكن النسر فى روايتنا قد ظهر فى المستنقعات الموجودة فى شمال الدلتا. فكيف ذلك يا ترى؟ ومن الطريف أن تقول الكاتبة على لسان الراوى إن النسور لم تكن تشاهَد فى تلك النواحى، إذ هى من طيور الفلاة، على عكس السُّمَانَى واللقالق وأبى قردان مثلا (ص177). وهى ملاحظة صحيحة، فلماذا إذن اخترع ذلك الراوى نفسه حكاية النسر؟ ولماذا قال إن النسر قد خطف ملابسه؟ ترى هل كانت النسور يومامن أكلة الأقمشة؟ أم هل كانت صغارها تفرح بملابس الكهنوت الملونة المزخرفة، فهو يخطف ما يلقاه فى طريقه منها ويُلْبِسهم إياه ليدخل البهجة على قلوبهم، ويوفر لهم فى ذات الوقت كسوة مجانية؟ أَفْهَم أن يكتب مؤلفو "ألف ليلة وليلة" شيئا من هذا القبيل، إذ "الحكايات العربية" (كما يسميها الأوربيون) هى قصص فلكلورية لا ينبغى أن نحاسبها بالمنطق، ومن ذلك مثلا ما نقرؤه فيها من حكايات عن النسور التى تحمل البشر فى الفضاء إلى أماكن بعيدة، أو عن جبال حجر الألماس التى لا يستطيع أحد بلوغها، والتى يعمل الجواهرية حيلهم فى الحصول على ما فيها من جواهر عظيمة فيأخذون الشاة من الغنم ويذبحونها ويسلخونها ويرشون لحمها ويرمونه من فوق تلك الجبال إلى أرض الوادي، فتنزل وهي طرية، فيلتصق بها شيء من هذه الحجارة، ثم يتركها التجار إلى نصف النهار، فتنزل النسور والأرخاخ إلى ذلك اللحم وتأخذه في مخالبها وتصعد إلى أعلى الجبل، فيأتيها التجار ويصيحون عليها فتطير عن ذلك اللحم، ويخلّصون هم الحجارة اللاصقة به تاركين اللحم للطيور والوحوش، ثم ينصرفون إلى بلادهم بما حصلوا عليه من جواهر نفيسة. نعم هذا مقبول من مؤلفى "ألف ليلة وليلة"، أما أن تكتب قصّاصة فى أواخر القرن العشرين ما كتبته عن ملابس الراهب التى خطفها النسر فهذا أمر عجيب غير مفهوم. فإذا أضفنا إلى هذا أن هذه الحكاية كانت سببا لتحول الأحداث تحولا دراماتيكيا انتهى ببدير إلى الأَسْر ومغادرة مصر وخلع النصرانية واعتناق الإسلام تبين لنا كم تسىء هذه الحكاية إلى الرواية!
وللأسف فإن الرواية، فى جميع الفترات الحاسمة منها، إنما تقوم على مثل هذه المصادفات والافتعالات غير المنطقية. وملخص الحكاية هى أن بدير كان عائدا بصحبة ثاونا من لدن المتمرد البشمورى عندما قابلهم فجأة عساكر تابعة للخليفة فى طريقها لمحاربة ذلك الثائر، فخافا واختبآ، ولا أدرى لماذا ما داما يحملان رسالة من الأنبا يوساب تدعو البشمورى إلى إلقاء السلاح والإخلاد إلى السكينة وعدم المصادمة مع الدولة، مما يجعلهما بمنأى من الخوف. اللهم إلا إذا كان فى الرسالة شىء آخر غير ما أعلنه لنا الراوى، وكانت على العكس مما قال تعبر عن التعاطف معه وتحرضه على التمادى فى العصيان كما كان خصوم الكنيسة الأرثوذكسية يقولون طبقا لما قاله الرواى ذاته (ص 169- 172)، وطبقا أيضا لمقال قرأته فى أحد المواقع المشباكية يتهم يوساب بالنفاق، إذ يبدو فى العلن أنه مع الدولة ضد التمرد، على حين يبعث فى الخفاء بالرسائل التى تشجع المتمردين وتستحثهم على الصمود والمضىّ فى العصيان. المهم أن عساكر الجيش الخليفى استولَوْا على بغلى الرجلين، ثم تسببوا فى افتراق الصاحبين أثناء الهرج والمرج الذى حدث بينهم وبين المتمردين، وقضى بدير ليلته على شاطئ النهر فى الأوحال رابطا نفسه بالأعشاب الطويلة، ولا أدرى كيف، حيث غلبه النوم ليقوم صباحا فيجد وجهه وملبسه الكهنوتى قد تلطخا بالطين مما اضطره لخلعه ليغسله وينشره، فيجىء النسر الأحمق فيسرقه ويطير به فى الفضاء العالى. ومن المضحك أن يقول الراوى إنه جرى وراء النسر، لكنه لم يستطع أن يلحق به. أترى النسر كان يجرى على شاطئ النهر أمامه أم ماذا؟ إن النسر يا أخا الكنيسة يطير ولا يجرى! وهكذا يرى القارئ بنفسه أننا هنا أمام فلم هندى آخر! ولقد انتهى الأمر بأسر الرجل وارتحاله إلى الشام فأنطاكية فبغداد... وهكذا تكون الكاتبة قد أعادت الرواية العربية عشرات الأعوام إلى الوراء حين كانت تقتات على المصادفات والغرائب التى "لا يُصَدّكها عَكْل" كما كانت شويكار بنت طوب بن صقال تقول أيام انهيار السينما المصرية على يدها ويد زوجها المباركتين!
ونأتى إلى المِفْصَل الأخير، وهو مِفْصَلُ تحوُّل بدير إلى دين التوحيد (ص288). ومن الغريب أن يتم ذلك على يد الحسين بن فالح طباخ قصر الخلافة: حسين الحشاش القرارى الذى يغريه بالحشيش ويزينه له ويعرضه عليه ويشرح له فضائله الموهومة! حسين كاره الزواج ومرتاد بيوت الدعارة وباذل أقصى جهده لتعريف بدير بتلك البيوت وتذوُّق ما فى سلتها من أية فاكهة تعجبه مما استفز ضمير بدير فثار فى وجهه معلنا أنه فى الأساس رجل دين وأنه لا يمكن أن ينحط إلى تلك الدرجة من الحضيض (ص279- 280) رغم أنه قد مارس الزنا مرارا من قبل ولا يرى فتاة أو امرأة حلوة إلا اشتهاها واشتعل جسده شبقا إليها، وهذا إن صح أنه كانت هناك بيوت دعارة فى العالم الإسلامى فى ذلك الوقت، ولا أدرى من أين أتت الكاتبة بهذه الشطحة الكرخانية! حسين، الذى لا يذكر أمه إلا بِشَرٍّ ولا يعرف مَنْ أبوه ولا أين ولا هل هو حى أو ميت! حسين الذى لا يصلى ولا يُظْهِر تدينا ويصفه الراوى ذاته بأنه يشبه الوثنيين المتوحشين (ص283)، وبأن إيمانه مزعزع، إذ يبدو وكأنه زنديق كافر أو إنسان يتراوح دوما بين الإيمان والكفر، أو الرذيلة والطهر كما يصفه هو (ص284). ثم إن الراوى نفسه قد أصبح حشاشا. فمتى كان الحشاشون يهتمون بالتحول من دين إلى دين؟ وفوق هذا فالكاتبة لم توفر له الفرصة كى يتعرف على الإسلام تعرفا يغريه باعتناقه، بل كانت تضعه دائما فى ظروف لا يَظْهَر فيها إلا على أسوإ ما عند المسلمين، وآخرها أنهم أسروه وباعوه رقيقا وقَسَوْا عليه قسوة بالغة. وحين وصل أخيرا إلى قصر الخلافة لم يجد هنالك شيئا يدعوه إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة، إذ لم ير فى مجلس الخليفة إلا الغناء والرقص، ولم يشاهد إلا سجود الناس للمأمون (ص291)، تلك التدليسة المتهافتة التى لا ندرى من أين أتت بها الكاتبة، ولم يسمع إلا عن التفاوت الطبقى الفاحش بين قصر الخليفة والرعية المدقعة الفقر طبقا لما بثه فى أذنه ابن فالح الطباخ. ثم هل يتحول إنسان من دين إلى دين هكذا فجأة، وبخاصة إذا كان رجلا من رجال الكنيسة؟ سيقول بدير إنه بدأ يقرأ وإن الحسين بن فالح كان يطرح عليه أسئلة تستدعى التفكير ومراجعة المفاهيم (ص285)، علاوة على ما تذكره فجأة من كلام ثاونا له منذ وقت طويل من أن ثمة إنجيلا لبرنابا يبشر بمجىء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ويبين أنه هو المسيا المنتظر الذى أتى السيد المسيح عليه السلام ليمهد له الطريق (ص287). لكن أين كان هذا الكلام من قبل فلم يظهر إلا الآن؟ ومتى كان مثل الحسين ذلك الحشاش الداعر يفكر فى هذه القضايا ويطرح تلك الأسئلة التى تستفز العقل والضمير؟ ثم لو أن ثاونا قد قال لبدير ذلك فعلا، فلماذا، حين عاد إلى مصر وقابل ثاونا وعرض عليه الإسلام، لم يقبل ثاونا هذا العرض بل رفضه رفضا باتا؟ ليس هذا فحسب، بل كان حزينا مغموما لأن بدير ترك النصرانية ودخل الإسلام. والعجيب أننا نسمعه رغم ذلك يقول إن الجميع: مسلمين ونصارى سوف يدخلون الجنة وإن الله سوف يرحم البشر كلهم (ص367- 368). فلم الحزن والغم إذن؟ أليس هذا هو ما يسمونه: "سمك، لبن، تمر هندى"؟ ثم إنه بعد هذا كله (ص373) يشجع بدير على أن يصارح الناس بما يشعر به بعد دخوله الإسلام من اطمئنان وراحة بال وسكينة حتى لو آذَوْه. ولكن من الذين يمكن أن يؤذوه إذا كان يعيش فى دولة مسلمة؟
كذلك فإن بدير، فى الفترة التى كان على مشارف التحول إلى الإسلام، يؤكد أن جوهر الأديان واحد، وهو الهداية وبث الطمأنينة فى النفس والارتقاء بالبشر من حالة الوحشية إلى حالة تليق بالإنسانية. ترى لم تحول إلى الإسلام ما دامت الأديان واحدة، والرب هنا وهناك واحد لا اختلاف فى مفهوم ألوهيته إذن؟ قد يقال إن الحسين بن فالح قد أطلعه على أنه ينتمى إلى فرقة دينية تنادى بالعدل والمساواة بين البشر مما نادى به النبى الكريم عليه السلام وأصحابه الكرام، وإن هذا هو السبب الذى دفعه إلى نبذ النصرانية والدخول فى عقيدة الإسلام. لكن هذا يدخلنا فى مشكلة معقدة، ألا وهى أن الإسلام فى حد ذاته كما تعرفه جماهير الأمة وعلمائها لا يجذب أحدا إليه، بخلاف تلك الفرقة القرمطية التى كان ينتمى إليها الحسين بن فالح، فهى الكفيلة بإحداث الجاذبية المفقودة. فإذا عرفنا أن القرامطة لم يكن لهم وجود بعد، بل كان أمامهم عقود قبل أن يظهروا على مسرح التاريخ، وأنهم ليسوا سوى فرقة ضالة مضلة منحرفة، تبين لنا أن دخول بدير فى الإسلام كان قائما على الوهم لا الحقيقة.
ثم ما الذى استجد فى حياته بعد اعتناقه الإسلام؟ أم هو حدث يضاف إلى أحداث الرواية، التى لا لزوم لكثير منها، والسلام؟ أما بالنسبة إلى الكتب التى شرع، بتوجيه الحسين الطباخ، يقرؤها فتدفعه إلى التفكير فى تلك القضايا، فهل كان الطباخ رجلا مثقفا كى يوجهه إلى كتب من شأنها تحريك عقله نحو اعتناق الإسلام؟ ثم ما هى تلك الكتب يا ترى؟ هل هى كتب المعتزلة مثلا؟ هل هى كتب الشيعة؟ هل هى كتب الباطنية؟ هل هى كتب الخوارج؟ لا ذكر لشىء من هذا بتاتا. إنما هو كلام عام عن "كُتُبٍ" فحسب. فهل هذا يكفى؟ والعجيب أن نرى بدير يشرب الخمر فى عرس صديق له مجاراة للحاضرين (332) رغم أنه كان حديث عهد بالإسلام، ومثله من المتحولين الجدد إلى الإسلام إنما ينفر من هذا أيما نفور جريا على الأقل على المثل القائل بأن "الـمُنْخُل الجديد له شدة". أما أن يكون أول شىء يفعله بعد إسلامه هو شرب أم الخبائث فمعناه أن أول القصيدة كفر. أليس كذلك؟ والحمد لله أنه لم يستجب لدعوة الحسين بن فالح، ولا أدرى لم سمته الكاتبة بـ"فالح"، وليس بفالح ولا مفلح ولا له من الفلاح أى نصيب، إلى التردد معه على بيوت الدعارة، الموهومة مثل القرامطة سواء بسواء، وإلا لكانت الليلة من أولها إلى آخرها زفتا وقَطِرانا. وبالمناسبة فإن الرجل لم يستفد من الإسلام ولم يستفد منه الإسلام للأسف الشديد، فضلا عن أنه انتهى فى خاتمة المطاف إلى رجل درويش يجوب الطرقات دون عمل أو هدف متعرضا لمضايقات السابلة وأذاهم. أهذا هو الإسلام التى حرصت الرواية على أن يعتنقه بطلها؟ يا للهول!
ومع هذا كله نرى رؤوف مسعد النصرانى المتمركس ينتقد سلوى بكر على تحول بدير إلى الإسلام، وإن نفى أن يكون ذلك أو غيره راجعا إلى عوامل دينية، لا سمح الله ("لاسمح الله" هذه من عندياتى أنا)، إذ قال عن مصرى نصرانى اسمه عوض الله ادعى عبد الحكيم قاسم فى إحدى رواياته أن الإخوان المسلمين أَغْرَوْه، على عكس رغبته، باعتناق الإسلام، لكنه قبل أن يصل إلى المسجد الذى كان عليه أن يعلن إسلامه فيه فاضت روحه على بابه: "قبل أيام كتب الناقد جابر عصفور مقالاً مهمًّا في صحيفة "الحياة" تناول فيه رواية "المهدي" لعبد الحكيم قاسم، التي تحكي عن فترة الاختيارات الصعبة، إذ سلّط الضوء على شخصية المعلم عوض الله عوض الله، ذلك القبطي الفقير الذي كان يعيش في مدينة طنطا، وكيف اضطره عسر الحال إلى مغادرة غرفته الصغيرة هو وزوجته وأطفاله والرحيل إلى القرى المجاورة واستقراره في قرية محلة الجياد، وتحت وطأة الحاجة المادية، ونتيجة لضغوط "الإخوان المسلمون" الذين أقنعوه بأن يؤلف قلبه ويُسْلِم، ويسمي نفسه: المهدي. وفي أثناء التطواف في المدينة يتفاقم عليه المرض وترتفع عنده الحمى فيموت عند باب المسجد. والمفارقة: تتسلل زوجه وسط هذه الحشود باكية لـتأخذ زوجها في حضنها وتصلي عليه "باسم الرب يسوع المسيح" وترسم على صدرها علامة الصليب. لقد تناول عبد الحكيم قاسم هذا الموضوع، وهو غير مسيحي، ولكنه يعرف المنطقة التي كتب عنها بشكل جيد، كما أنه يعرف معاناة الأقباط جيدا. وهو نفسه متحدّر من أسرة صوفية. كما كتبت سلوى بكر رواية "البشموري"، ولكن الفرق واضح بين الروايتين. فعبد الحكيم قاسم أمات البطل القبطي قبل أن ينطق الشهادتين، في حين أن سلوى بكر تابعت البشموري وجعلته في النهاية يؤمن بالإسلام، ويرتد عن المسيحية، ويرجع إلى مصر مسلمًا بعد أن أُجبر على الهجرة في عصر المأمون بسبب الثورة التي قام بها مسلمون ومسيحيون في الدلتا نتيجة المظالم التي تعرضوا لها. لقد قمع المأمون هذه الثورة، ونفى الثوار، وشتتهم في مختلف أصقاع الإمبراطورية الإسلامية. سلوى بكر لم تستطع أن تبقي بطلها مسيحيا، وهذه مشكلة في الرؤية. أي كيف يرى الكاتب نفسه في التاريخ؟ وما هو موقفه من التاريخ؟ أنا في "مزاج التماسيح" أعتبر نفسي مزيجًا من الثقافة الفرعونية والقبطية والعربية، الجاهلية منها والإسلامية. فحينما أتحدث عن المشكلات التي يعاني منه الأقباط، فأنا أتحدث عن موقف ثقافي، وليس عن موقف ديني. وهنا يكمن الاختلاف الكبير بيني وبين الآخرين الذين يتهمونني بالتعصب الديني. فكيف أتعصب دينيًّا وأنا غير مؤمن؟ أنا محصَّلة ثقافات مختلفة، وعندما أتحدث عن الأقباط، فأنا أتحدث بحيادية تامة، مثلما أتحدث عن حق الأكراد في الحياة الحرة الكريمة، مثلما أتحدث عن حق العراقيين المنفيين وما إلى ذلك. أعتقد أن عبد الحكيم قاسم استطاع أن يقترب من رؤيتي ككاتب ومنظّر، في حين تخاذلت سلوى بكر ونكصت نتيجة للضغوط الخارجية القوية التي كانت تتعرض لها في مجتمع متخلف" (من حوار له مع عدنان عدنان حسين أحمد فى موقع "الحوار المتمدن" عنوانه: "الروائي المصري رؤوف مسعد لـ"الحوار المتمدن": المكاشفة تحتاج إلى شجاعة، والشجاعة لا تأتي دائما لأن لها مواسم")، وهو ما يعنى أن سلوى بكر لا هى تعجب واحدا قبطيا ماركسيا مفتوح الذهن ومفتوح غير الذهن، ولا واحدا متخلفا مغلق العقل والقلب مثلى. بالله من أين تلقاها سلوى بكر؟ منى أم من رؤوف مسعد؟ مسكينة الكاتبة. ومنا لله نحن الاثنين، أو منى أنا على الأقل. لكن المضحك هى تأكيد رؤوف مسعد أنه لا يستنكر ما فعلته سلوى بكر من منطلق التعصب الدينى. فمن أى منطلق إذن يا مسعد، أسعدك الله؟
وفى ص67 نجد كلاما كثيرا عن البرابى والهياكل والعقائد. وواضح أن المقصود هو تقديم الكاتبة للمعلومات التى قرأتها فى مراجع الرواية، فهى تنتهز كل فرصة ولأدنى ملابسة لإفراغ شحنتها من المعلومات، وكأن بدير الراوى مرشد سياحى يعطى السواح ما يحتاجونه من معلومات عما يزوره معهم من آثار. ذلك أن الراوى يزور بربا أتريب مع ثاونا أثناء رحلتهما من قصر الشمع إلى مستنقعات البشموريين حاملين رسالة من أب الدير إلى المتمرد البشمورى يحاول فيها أن يرده إلى صوابه ونبذ تمرده على الدولة وتعريض الناس للمتاعب والمصاعب، فينتهز هذه الزيارة ليتحدث بشىء من الاستفاضة عن الأعمدة والتيجان والنقوش والتصاوير والأشكال والهياكل فى برابى برية أتريب وما يرتبط بها من عقائد، ولا يكاد يترك شيئا دون أن يصفه ويجسده لنا تجسيدا رغم أنه لا صلة بينه وبين عناصر الرواية الأخرى، إذ ما إن ندير ظهرنا له حتى ننساه فلا نعود نتذكره.
ومثل ذلك ما نجده فى صفحة 229 من تفاصيل كثيرة جدا عن الفروق بين المذاهب النصرانية واختلاف أسلوب قبول التوبة من العائدين إلى الكنيسة لا لزوم لها فى الرواية، لكنها تدل على غرام الكاتبة بالحديث عن النصرانية وتقديمها للقارئ بكل سبيل مع أنها كلها زوائد تثقل حركة الرواية وتضيع حرارتها. ونفس الشىء يقال عن التفصيلات الخاصة بأسوار بغداد، تلك التفصيلات التى لا تقدم ولا تؤخر فى الرواية وتطورها، بل ولا يستطيع الذهن أن يتصورها (ص267)، وكذلك التفصيلات المتعلقة بالمذاهب والديانات من معتزلة ومتصوفة وشُكّاك وثنوية وصابئة (ص307- 308).
إن الرواية هنا لتتحول إلى ما يشبه كتاب "علم الدين" لعلى مبارك، أى كتابا يحتوى على معلومات علمية مهمة يرى مؤلفه أن من واجبه شحنه بها كى يقرأها الجمهور ويلموا بها رغم أنها لا تقدم ولا تؤخر من الناحية الفنية فى الرواية فى قليل أو كثير. وقد غبر زمن على الرواية العربية فى بدايات عصر النهضة كان مؤلفوها يهتمون أشد الاهتمام بتضمينها معلومات صحية وطبية وتاريخية وتوجيهات أخلاقية واجتماعية ودينية... ومن هنا انتشر فى كتب تاريخ الرواية عندنا مصطلح "الرواية التعليمية". وكان من النقاد من يثنون على هذا الضرب من الروايات أيما ثناء، إذ كان العنصر التعليمى هو الذى يشغلهم فى المقام الأول (يمكن القارئ أن يراجع فى هذه النقطة الفصل الذى عنوانه: "موقف الأدباء والنقاد من فن القصة" فى الباب الأول من كتابى: "نقد القصة فى مصر: 1888- 1980م").
هذا، وقد تكررت فى الرواية بعض المصطلحات الكنسية التى كان الراوى يوردها عادة دون شرح أو يشرحها شرحا موجزا لا يفيد كثيرا، وهو ما أرى أنه بحاجة ماسة إلى توضيح حتى يفهم القارئ معانى تلك المصطلحات ولا يشعر بالضيق لجهله بها. وقد كان بمكنة المؤلفة أن تحتال على شرحها بطريقة فنية كأن تقول مثلا فى "المطانية": "وأديت له مطانية فسجدت أمامه على سبيل الاحترام والخشوع" حتى لا تُضْطَرّ إلى إضافة هوامش لا تناسب العمل الروائى، بل يأتى الشرح طبيعيا فى أثناء الكلام كأنه جزء منه فلا يشعر القارئ بشىء من الشذوذ أو التكلف يفسد عليه جو العمل الذى يعيش فيه ويتصوره عالما حقيقيا. وبالمناسبة فلم يحدث قط أن طلب المسيح عليه السلام من تلاميذه ولا فكر أحد منهم من تلقاء نفسه أن يسجد أو يركع له. والأناجيل موجودة لمن يحب أن يتقصى الأمر ويتحقق منه بنفسه. والآن إلى ما تنبهت له من تلك الألفاظ، التى اعتمدت فى شرحها على "قاموس الكنيسة" الآنف الذكر، مع إيراد ما يحتاجه القارئ فقط من كل مادة، إلى جانب التصحيح اللغوى لعبارة المحرر تجنبا لما فيها من ركاكة. وقد رتبتها ألفبائيا: فـ"أَبُ الدير" هو رئيسه الذى يهتم بالرهبان، وقد تتم رسامته أسقفا. و"الأب الروحى" هو المرشد الذي يختاره الشخص بخلاف أب الاعتراف. وقد يكون هو نفسه أب الاعتراف أيضا. ويهتم الأب الروحي بأولاده وتربيتهم. و"الأجبية": كلمة قبطية معناها ساعة زمنية، ويقصد بها الكتاب الذي يحوى صلوات السواعي: باكر والثالثة والسادسة والتاسعة والغروب والنوم والستار الخاصة بالرهبان ونصف الليل. وهو عبارة عن مجموعة مختارة من مزامير داود النبى، ويسمى أيضا: كتاب الصلوات السبع. و"الأرْخُن" (ج: أراخنة) هى كلمة يونانية معناها: "حاكم، قائد، آمِر، رئيس، رُبَّان"، وانتقلت كما هي إلى اللغة القبطية. وفي الليتورجية القبطية يسمى الملاك ميخائيل: "أرخن السمائيين"، أي "رئيس السمائييين". وتُسْتَخْدَم الكلمة في المصطلح الكنسي حاليا لتفيد معنى الرجل العِلماني المُتقدّم بين شعب الكنيسة. فالأراخنة هم مقدّمو الشعب روحيا واجتماعيا. و"الأرشيدياكون": كلمة مكونة من مقطعين: أرش، ومعناها: رئيس. ودياكون، ومعناها: شماس. فالأرشيدياكون إذن هو رئيس الشمامسة. ويجلس عن يسار الأسقف أو البطرك، ويناول الدم ويخدم الأيتام ويهتم بالمتعبدين ويبكت غير المتأدبين وينظم الأكليروس ويتلو الصلوات عند تجليس البطاركة والأساقفة. ولا بد، إلى جانب علمه بالكتب المقدسة وإلمامه بطقوس الكنيسة، من تزكية الإكليروس والشعب له. و"الإكليل"، والمقصود هنا إكليل الزواج بالذات، هو ما يضعه الكاهن على رأس العروسين أثناء تتميم سر الزواج. ويعده يوحنا الذهبى الفم رمزا لتتويج البتولية التى حفظها العروسان فى نفسيهما وجسديهما حتى يوم الزواج. ولذلك لا تقام صلاة الإكليل إلا إذا كان العروسان بكرين، أو إذا كان أحدهما مترملا، والآخر بكرا. ويكون هذا الإكليل فى الكنيسة القبطية على شكل منطقة نصف دائرية مطلية بالذهب، ينتهى طرفاها بخيطين من الحرير. وهو فى الكنيسة اليونانية (الأروام) من الفضة أو الذهب أو أى معدن آخر، وعلى شكل دائرى مثل تيجان الملوك. أما الآن فاستُعِيض عنه بإكليل من زهور صناعية يحفظها العروسان بمنزلهما بعد انتهاء صلوات الإكليل.
و"أُوصنّا" أو "هوشعنا" كلمة دعائية معناها: "خَلِّصْنا/ احرسنا". وهناك كلمة "أبرشية"، وهى كلمة يونانية معناها: مقاطعة أو مديرية أو ولاية الأسقف، وتطلق على المنطقة التي يرعي شعبها مطران أو أسقف، ويساعده الكهنة والشمامسة. و"البرامون" هو اليوم السابق للعيد، وكان يُصَام بدرجة تقشفية أكبر كما يقول محرر القاموس. و"البصخة": كلمة يونانية تقابل كلمة "فِصْح" العبرية، ومعناها: عبور. وتطلق فى النصرانية على أسبوع الآلام، أما فى اليهودية فتشير إلى عبور الملاك فى مصر أيام موسى عليه السلام عن بيوت شعب إسرائيل فى ضربة الأبكار. و"البطرشيل": رداء يُعلَّق فى العنق بفتحة فى أعلاه، ويتدلى بعرض الصَّدر ومن الأمام حتى القدمين، ومن الخلف بعض الشىء، ويزيَّن بالصلبان. وهو يُسمى حاليا: "الصدرة". و"التذاكية أو الثيؤطوكية": أبيات موزونة غير مقفاة تتضمن مديح العذراء وتمجيدها. ولكل يوم من أيام الأسبوع ثيؤكوطيته الخاصة به. و"الدسقولية" هو الكتاب الذي يحوى تعاليم رسل المسيح عليه السلام. و"الرشم"، ويطق على ما يفعله الكاهن برشم علامة الصليب على نفسه وعلى الشمامسة وعلى الشعب. كما يستخدم الصليب في الرشم أثناء القداس الإلهي على الخبز والخمر... إلخ. والسنكسار (Synaxarium): كتاب كنسى يحوى سِيَر الرسل والقديسين والشهداء وتذكارات الأعياد والأصوام مرتبًا حسب أيام السنة عند النصارى.
و"العلمانى" هو أحد أفراد شعب الكنيسة، أي من خارج طغمة الإكليروس. وعلى العلمانيين مسؤولية نمو الكنيسة وانتشارها، لكنهم فى ذات الوقت ممنوعون من ممارسة أي عمل من أعمال الكهنوت. و"القُدّاس": كلمة سريانية عبرية معناها: التقديس، وجمعها: قداديس وقُدَّاسات، أي الصلوات التي تقال أثناء تقديس الخبز والخمر، وكذلك القراءات والأسرار. وإلى جانب هذا يستخدم النصارى أيضا كلمة القداس في غير تقدمة الإفخارستيا، كما فى قداس اللقان وقداس المعمودية وقداس الميرون. و"القيِّم": لفظة سريانية تطلق على الشخص الذي يقوم بعمل القربان. والمفروض أن يتلو صلوات ومزامير معينة لدن قيامه بهذا الأمر. وكان بدير راوى "البشمورى" قيّمًا فى كنيسة قصر الشمع بالفسطاط. و"القراءات الكنسية" (وبالسريانية: قربوني) هي فصول منتخبة من أسفار الكتاب المقدس تتلي في قداس الموعوظين. وقد اختارات الكنيسة فصولاً من الكتاب المقدس تقرأ في القداسات سجلتها في كتاب القطمارس. ويراعى فى هذه القراءات أن تناسب الأعياد أو الأصوام الكنسية. و"القلاّية" (ج: القلالي) هي حجرة خاصة بالراهب في الدير.
وكيرياليصون: عبارة مكونة من لفظين هما: "كيري" من "كيريوس"، أى يا رب، و"ليسون"، أى ارحم. والمعنى الكلى: يارب، ارحم. و"المطران": كلمة يونانية مكونة من مقطعين: "ميترو"، أى الأم، و"بوليتيس"، أي المدينة، فيكون معناها صاحب المدينة الأم أو الكبيرة. و"المنجلية": منضدة خشبية يوضع عليها القطمارس. وغالبا ما تكون مطعمة بالعاج على شكل صلبان وآيات من الكتاب المقدس. و"الميرون": دهن يُصْنَع من زيوت مُعينة تُخْلَط بالعطور التى طُيِّب بها كفن السيد المسيح حسب اعتقاد النصارى. و"الميطانية" (METANIA): كلمة يونانية تعني تغير الذهن والتوبة، وتستعمل ليتورجيًّا للإشارة عن الركعة والسجدة. ومن معانيها السجود الكامل إلى الأرض حتى تلامس الجبهة التراب. و"هرطقة": صفة الهرطوقي أو المهرطق (ج: الهراطقة)، أى المبتدع الذي يقول بتعليم يخالف ما كُتِبَ في الكتاب المقدس، ولا يخضع لتعاليم الكنيسة على لسان آبائها عبر القرون. وهذا المهرطق يحاكمه مجمع كنسي مسكوني أو محلي. ويتدرج جزاء المهرطق إلى أن يصل إلى "عقاب الحـَرْم" أو "الحِرْمان"، أي عدم قبوله بين المسيحيين لأنه يعكر سلام الكنيسة كما يقولون.
هذا، وقد استخدمت المؤلفة على لسان بدير كلمة "الطَّمْث" مرات كثيرة كما فى قوله مثلا: "والرُّوم أتباع خلقدونية الطمث يتلمّظون على كنيستنا طوال الوقت" (ص29)، و"الهرطقات الطمث" (ص80)، و"كان الأب سرابيون صابرا عليه وعلى سماع أقواله الطمث حتى يستجلى الأمر منه دفعة واحدة" (ص60)... وهَلُمَّ جَرًّا. وتبدو الكلمة فى هذه المواضع وكأن المقصود بها التعبير عن الدنس المعنوى. ومن معانيها فى العربية فعلا الدنس والفساد. لكن لماذا استخدمت المؤلفة هذه الكلمة بالذات رغم أنها ليست معروفة بهذا المعنى إلا فى المعاجم وعلى استحياء، إذ "الطمث" فى معناه الشائع هو الجماع أو الحيض، فضلا عن أن الراوى قد استخدمها عدة مراتٍ صفةً، لا مصدرًا كما هى فى المعجم، كما أنه تستخدمها مفردة مذكَّرة دائما فلا تأنيث ولا تثنية ولا جمع؟ أغلب الظن أن الكاتبة قد نقلتها عن كتاب "سير البطاركة" لساويرس بن المقفع، الذى كنت أفتش فيه ذات مرة عن بعض التفاصيل، فإذا بى آتى على إشارة إلى البطرك ديمقرس، الذى أحرم لاون بطرك رومية، وأحرم كذلك "أقواله الطمثة" المملوءة كفرا حسبما هو مثبت فى ذلك الكتاب (انظر ساويرس بن المقفع/ سير الآباء البطاركة/ 2/ 281). ولكننى للأسف لم أجد هذه الكلمة فى "قاموس الكنيسة"، أما فى "دائرة المعارف الكتابية" فلم أجدها بهذا المعنى، بل بمعنى الحيض. وهذا نص المادة كاملا: "طمثت المرأة طمثًا: حاضت، فهي طامث. وكانت المرأة الطامث تعتبر نجسة لمدة سبعة أيام (لا 12: 2، 15 :19)، وكل ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسا، وكل من مس فراشها يكون نجسا (لا 15: 20- 23). وكانت الشريعة تنهى عن مضاجعة امرأة في نجاسة طمثها (لا 18: 19، 20 :18). وعندما اضطجع داود مع امرأة أوريا الحثي كانت "مطهرة من طمثها" (2 صم 11: 4). ويقول حزقيال في وصف الرجل البار: "فعل حقًّا وعدلاً، لم يأكل على الجبال، ولم يرفع عينيه إلى أصنام بيت إسرائيل، ولم ينجس امرأة قريبه ، ولم يقرب امرأة طامثا" (حز 18: 5- 9). كما يقول إن "بيت إسرائيل لما سكنوا أرضهم نجسوها بطريقهم وبأفعالهم، كانت طريقهم أمامي كنجاسة الطامث" (حز 36: 18). ويقول إشعياء النبي: "قد صرنا كلنا كنجس، وكثوبِ عِدَّةٍ (ثوبِ طامثٍ) كُلُّ أعمالِ بِرّنا" (إش 64: 6)".