إسلام موريس بوكاي والعقل

الدكتور نعيم محمد عبد الغني

يشبه الشيخ سيد قطب رحمه الله الهداية في حياة الإنسان بالباحث عن محطة إذاعية معينة؛ يبحث عنها بهدوء موجها الإرسال حيث نقاء الصوت، حتى إذا ظفر بمحطته الإذاعية ثبت يده بحرص عليها؛ كي يستمع إلى ما كان يبحث عنه، وتأتي للإنسان لحظات إذا لم يحسن استغلالها فإنها قد تهرب منه ولا يستطيع تعويضها، تماما كالباحث عن محطة المذياع، وربما يكون هذا الفهم صحيحا إذا أنعمنا النظر في قوله تعالى: { أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ } التوبة 126
إن الله يعطي فرصا للإنسان كي يؤمن ويهتدي، وهذه الفرص ربما أطلق عليها نفحات كما في الحديث: ( إن لله في أيام دهره لنفحات ألا فتعرضوا لها ).

ولقد جاءت موريس بوكاي الطبيب الفرنسي المسيحي العقيدة نفحة ربانية فتعرض لها فهداه الله إلى الإسلام، ليكون له في مقارنة الأديان شأن آخر؛ حيث شرع في رحلة بحث في القرآن والتوراة والإنجيل، تلك الرحلة التي بدأت بعلاقته الوطيدة بالملك فيصل رحمه الله حيث دعاه إلى الإسلام فأسلم، ليس حبا في الملك فيصل وإنما اقتناعا بعظمة الإسلام وأنه الدين الحق من عند رب العالمين.

لقد لفت انتباه مويس بوكاي كما يذكر في كتابه (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم) أن أتباع الديانات الثلاث اليهودية والنصرانية والإسلام يؤمنون بدياناتهم؛ لأن هناك خصائص مشتركة تربطهم بهذا الدين، فيقول: ( يملك كل دين من أديان التوحيد الثلاثة مجموعة خاصة به، والكتابات المقدسة تؤلف ركيزة الإيمان عند كل مؤمن، يهوديا كان أم مسيحيا أم مسلما، وهي تمثل لدى كل من هؤلاء صورة مادية لوحي إلهي ).
ثم يذكر أن المعطيات التاريخية لهذا الوحي عند الديانات الثلاث أنه (وحي مكتوب، وهذا ما يتقبله المسلمون أما الغرب فإنهم يرفضون إعطاء القرآن سمة الكتاب الموحى به).

ويواصل موريس بوكاي حديثه عن التوراة والإنجيل والقرآن منطلقا من موضوعية علمية ليضع فروضا علمية واحدة مختبرا تلك الفروض بنصوص من التوراة والإنجيل والقرآن، وقد بدأ هذه الفروض بمرحلة الكتابة لهذه الكتب الثلاث مثبتا بالوثائق التاريخية والعقل أن هذه العهدين القديم والجديد قد حرفا، وأن القرآن هو الكتاب الذي ظل على حاله منذ نزوله وإلى الآن.

وانطلق موريس بوكاي من ثقافته الطبية والعلمية ليختبر ما جاءت به هذه الكتب الثلاث من أحداث تاريخية كمسألة غرق فرعون مثلا، ليذكر في البداية أن العهد القديم قال عن غرق فرعون: (وارتدت المياه كما كانت وغطت مركبات وفرسان كل جيش فرعون الذي كان قد دخل البحر وراءهم ولم يبق منهم أحد)

إذا فالعهد القديم يذكر أن قوم فرعون أبيدوا عن آخرهم ولم يبق منهم أحد، لكن القرآن يذكر أن الله نجى بدن فرعون ليكون لمن خلفه آية، قال تعالى في سورة يونس: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ }.
لقد تتبع موريس بوكاي هذه المسألة كالتالي:

أولا: رأى أن التراث الفرعوني كان مجهولا على عهد محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان مدفونا في واد الملوك وهي مدينة الأقصر الحالية. ولم تكتشف هذه الآثار إلا في نهاية القرن التاسع عشر.

ثانيا: يذكر الباحثون أن فرعون هو رمسيس الثاني الذي توجد جثته المحنطة في المتحف المصري

ثالثا: في عام 1975 أخذ موريس بوكاي تصريحا من السلطات المصرية ليفحص جثة رمسيس الثاني وقام بهذه الدراسة أيضا الدكتور مصطفى المنيلاوي باستخدام الأشعة السينية في أول دراسة من نوعها على مومياء، فاكتشف وجود آفات عظيمة مع ثغرة في مادة الجسم ربما كان بعض منها قاتلا، وخلص البحث إلى أن فرعون قد مات غريقا أو بسبب رضوض عنيفة جدا سبقت ابتلاع البحر له أو للسببين معا.

وخلص موريس بوكاي تبعا لذلك صحة ما جاء في القرآن الذي يؤمن بأنه الوحي الوحيد الذي لم ينله تحريف.

إن إسلام موريس بوكاي يمثل أهمية؛ لما ينقله لنا من تصورات الغرب الخاطئة إلى الإسلام، تلك التصورات التي جعلتهم يطلقون عليه أحكاما جائرة لا يقبلها عقل منصف نظر إلى الإسلام نظرة موضوعية متجردا من أهوائه الشخصية؛ فتجربة موريس بوكاي الذي أسلم بعد تفكير عميق ودراسة موضوعية علمية للإسلام قال فيها إنها لم يتأثر بأي هوى أو بأي شيء، تشبهها تجارب كثيرين ممن أسلموا عن قناعة تامة؛ فالطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه نصحته قريش بأن يبتعد عن محمد وألا يسمع القرآن، فوضع في أذنيه القطن، الذي أزاله بعد أن فكر بعقله قليلا ليستمع إلى الرسول ليحكم بنفسه غير متأثر بما يقوله الآخرون ومن باب اسمع مني ولا تسمع عني، ولقد حكى القرآن عن هذه النماذج فقال الله تعالى: { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } .
ويحاول أعداء الإسلام دوما أن يبعدوا الناس عن سماع القرآن ومعرفة تعاليمه؛ فيقتطعون منه ما يؤيد تصورهم عن الإسلام بأنه دين يدعو إلى القتل والإرهاب؛ فيبتعد الناس عنه، بل ويمارسون ضد المسلمين أعمالا عنصرية.

لقد قرأت ما نشر في وكالات الأنباء أن عضو حزب الشعب السويسري دانييل ستريتش الذي قاد الحملة ضد منع بناء المآذن في سويسرا أشهر إسلامه؛ فقد دفعته أفكاره المعارضة للإسلام ؛ للتفكير ملياً في كل شيء ومراجعة مواقفه وتفهم الدين الإسلامي؛ مما قربه من تعاليمه وجعله يخجل مما قام به ليتحول من محاربة الإسلام إلى بناء المزيد من المساجد في أوروبا. واستقال من حزب الشعب وتوارى عن الأنظار عقب إشهار إسلامه.
ولئن صدق هذا الخبر فإن الشاهد فيه أن النظرة المنصفة لتعاليم الإسلام هي سبب في نور البصيرة والهداية، ومن ثم فالغرب الذي يهاجم الإسلام يحرص على أن يبعد الناس عن هذه النظرة، وهذا ما يؤكد عليه موريس بوكاي في أكثر من موضع في كتابه الشهير (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم)؛ فموريس بوكاي عندما تجرد للبحث في الإسلام وتعلم اللغة العربية يتعجب من افتراء الغرب على الإسلام والمسلمين حيث لا يعترفون بالإسلام، وعندما يتكلم عن الدين فإن المقصود عندهم اليهودية أو المسيحية "دون أن يكون للإسلام فيه نصيب لأنه قد حكم عليه بكثير من الأحكام المفتراة المستندة إلى مفاهيم مضللة يصعب معها في أيامنا تكوين فكرة صحيحة عما هو حقيقة".

ويذكر موريس بوكاي بعضا من أسباب إساءة الغرب للإسلام فيقول: "ثمة فقرات من القرآن وبخاصة ما له علاقة بمعطيات من العلم قد أسيئت ترجمتها أو أسيئ شرحها بحيث سوغ ذلك لرجل العلم توجيه انتقادات إليه لا يستحقها في الحقيقة"
ولا يحمل موريس بوكاي الغرب وحده إساءات فهم القرآن، بل يحمل مفسري القرآن القدماء جزءا من المسؤولية؛ إذ لا يكفي أن يكون الإنسان متبحرا في علوم اللغة العربية حتى يفسر القرآن الكريم بل لا بد "من تنوع المعارف لالتقاط معنى بعض آيات القرآن" ومن ثم فإنسان القرون الماضية لم يكن قادرا على أن يكتشف إلا ظاهر المعاني القرآنية وقد يحمله ذلك على الوصول إلى نتائج غير صحيحة؛ نظرا لعدم اكتمال معرفته في ذلك الوقت.

ولعل إشارة موريس بوكاي لمفسري القرآن في غاية الأهمية حيث لاحظت من خلال جمع الشبهات التي تثار ضد الإسلام أن أغلبها مستخرج من كتب التفسير، فالمفسرون عندما يفكرون ويطرحون الأسئلة في التفسير ويوفقون في أحيان كثيرة للرد على سؤال من عند أنفسهم في لغة القرآن أو نحو ذلك يسمون ذلك لطائف، ويقتطعها المشككون في الإسلام للطعن فيه، وقد استطعت أن أرد كثيرا من هذه الشبهات إلى تفسير الزمخشري الذي أعمل عقله كثيرا في استخراج لطائف القرآن التي تحولت فيما بعد إلى شبهات.

لكني لا أتفق مع مويس بوكاي حينما اتهم علماء التفسير بأنهم لا يعلمون إلا اللغة فقط، ولا يكفي هذا لا تفسير القرآن؛ لأن علماء التفسير تنوعت ثقافتهم فمنهم من كتب في الطب والفلك والرياضيات وغير ذلك فالفخر الرازي نطق تفسيره بموسوعية في العلم كبيرة حتى قال بعضهم إن التفسير الكبير للرازي أو مفاتيح الغيب فيه كل شيء إلا التفسير، والقول بأن القدماء لم يكونوا يعلمون إلا اللغة فيه انتقاص من الحضارة الإسلامية لم يقصده موريس بوكاي بطبيعة الحال.
وعلى كل فحقائق القرآن أذهلت موريس بوكاي الذي قال: "اللقاء بين القرآن والعلم مدهش حقا، وبخاصة عندما سيكون إلى التوافق أقرب منه إلى الاختلاف".

بعد أن أسلم موريس بوكاي نظر في القرآن نظرة فاحصة حيث قارن ما فيه من حقائق بما جاء في التوراة والإنجيل والعلم، وضم ذلك في كتابه الشهير الذي أشرنا إليه آنفا في الحلقتين الماضيتين: (التوراة والإنجيل والقرآن والعلم).

ومن هذه النماذج ما استعرضه موريس بوكاي حول كواكب المجموعة الشمسية التي كان يعتقد في الماضي أنها خمسة كواكب، والقرآن ذكر أنها أحد عشر كوكبا، في قوله تعالى: { إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }. يوسف 4
فيذكر الدكتور موريس بوكاي أن هذا العدد المضمن في هذه الرؤيا يثبته العلم الحديث الآن، ووصل موريس بوكاي إلى هذه النتيجة بعد استقراء لكلمة الكوكب في القرآن الكريم التي وردت في مواضع معينة، منها: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً } الأنعام 76، وقوله تعالى: { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } الصافات 6.
إن موريس بوكاي يتساءل عن السماء الدنيا في الآية السابقة فيقول في ص192: (هل تعني عبارة القرآن "السماء الدنيا" النظام الشمسي؟ إنا نعرف بأنه لا يوجد بين العناصر السماوية الدانية منا عناصر أخرى دائمة إلا الكواكب، والشمس هي النجم الوحيد من مجموعة النظام الشمسي الذي يحمل اسمه. ولا ندري أي أجرام سماوية غير الكواكب المعروفة علميا قد تراد من هذه الآية؛ فالتفسير إذن صحيح، والقرآن بذكره وجود الكواكب كان يعنيها حسب التعريف الحديث).

ويحلل الدكتور زغلول النجار قوله تعالى { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } في مقال طويل نشر بجريدة الأهرام المصرية بتاريخ 27/2/2006 فيذكر أن ذكر الأحد عشر كوكبا في قصة يوسف ليس من قبيل المصادفة بل فيه إشارة علمية على أن كواكب المجموعة الشمسية أحد عشر كوكبا ثم استعرض هذه الكواكب وتواريخ اكتشافها، وذكر أن الكوكب الحادي عشر المسمى (سيدنا) اكتشف في 14/11/ 2003م، وتساءل أن يكون من قبيل المخاطرة ربط الآية باكتشاف أحد عشر كوكبا، فربما يتقدم العلم ويكتشف ثاني عشر وثالث عشر..إلخ، ورد على هذا التساؤل بقوله: "وقد يحذر دارس من إمكانية اكتشاف كوكب جديد، ولكن على بعد أكثر من تسعين وحدة فلكية –وهي المسافة الفاصلة بين الكوكب الحادي عشر والشمس – يتعذر على جاذبية الشمس الإمساك بأحد أجرام السماء الذي ينطبق عليه وصف الكوكب".

إذا فهذه اللفتة من موريس بوكاي حول إعجاز القرآن بذكره عدد كواكب المجموعة الشمسية جاءت وفق دراسة موضوعية علمية كما نرى، تلك الدراسة التي جعلته يتساءل مجموعة أسئلة حول السماء الدنيا، وتلك ميزة البحث العلمي الدقيق الذي يرتاح إلى الأسئلة أكثر مما يرتاج إلى الأجوبة، فيتساءل موريس بوكاي عن السماء الدنيا، وما ذكر الله فيها ( إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظا من كل شيطان مارد ) فيقول: (ما تأويل الحجارة التي هي رجم الشياطين) في السماء الدنيا، وهل المصابيح المذكورة في هذه الآية هي النجوم السيارة...كل هذه الاعتبارات تبدو كأنما هي خارج موضوع الدراسة، إلا أننا ذكرناها هنا تكملة لها. وعلى كل فإن المعطيات العلمية الحديثة لا تبدو قادرة على أن تنزل الأشياء منازلها، فتسلط الضوء على موضوع يتجاوز الفهم الإنساني"ص193.

إن موريس بوكاي في النص السابق يقرر بعد طول تأمل أن القرآن لا يخلق عن كثرة الرد، وأن حقيقة واحدة منه تسبق التقدم العلمي تكفي لمن يريد أن يهتدي للإسلام، وليس شرطا أن يكون قد وجد إجابة لآيات القرآن التي تدبرها وتأملها، فهو كنز لا تفنى عجائبه، وفيض لا تنضب غرائبه.

عن رابطة أدباء الشام