السلوك الإنساني
الحقيقة والخيال !
من منشورات الدكتور فخري الدباغ رحمة الله عليه في مجلة العربي الكويتي

الفصل الثالث / اتجاهات نفسيّة واجتماعيّة
في زمن الإدمان عَلى الضجيج

كشفت التنقيبات الأثرية في وادي الرافدين أن بعض الألواح الطينية قد كتب عليها بالخط المسماري وصف واضح للحياة التجارية الحافلة في مدن سومر وبابل .
ويشكو أحد الألواح بلغة تدل على الملل والسأم من تلك المدينة التي تعج بضوضاء الإنسان .. !!
(ول ديوارانت)
تدل الدراسات الانتروبولوجية والطبية – البيولوجية أن الإنسان يتغير بمرور الزمن : حجمه ، ووزنه وشكل جمجمته ، وتقاطيعه ، وطوله ، وتوزيع القوى في عضلاته ، والمتانة في عظامه ، كما تتغير فيه بعض التفاعلات الكيماوية والعلاقات الهورمونية الداخلية وبعض المواقيت والدورات لوظائف أعضائه وأنسجتها .
وليس أدل على ذلك من مقارنة جمجمة الإنسان القديم وشكله – إنسان الكهوف – في العصور الحجرية ، وإنسان القرن العشرين بنعومة بشرته ودقة سحنته وقلة شعر جسمه ورأسه وحتى هشاشة أسنانه ، إضافة إلى استطالة قامته وخفة وزنه . وينطبق ذلك على الجنسين معا ، فالبلوغ الجنسي يتقدم مرحليا بالأشهر والسنوات ، وموعد بدء الحيض عند الأنثى أصبح يبكر تدريجيا في شمال أوربا وأمريكا ، وبات من المألوف في هذه الأيام أن نجد الفتاة في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرها ناضجة (بيولوجيا) للزواج والحمل رغم أنها ليست جاهزة نفسيا واجتماعيا .
هذه المقدمة لا بد منها للخوض في موضوع حديثي عن أشياء أخرى وظواهر تتعلق بالسلوك الإنساني المكتسب ، أي بالأشياء والأفعال ذات العلاقة غير المباشرة والحيوية واللصيقة بتركيب الإنسان وبنيته الفطرية ، لكنه أكتسبها وتبناها بحكم المخلوق المتطور فانعكست وبرزت في حاجاته وعاداته وتصرفاته .
ونظرة متفحصة إلى إنسان العصر تؤكد دون جدل أن (الأساسيات) والأوليات القديمة أصبحت الآن ثانوية كمالية ، والكماليات منها أصبحت أولية أساسية ، أي أن ما تعارفنا عليه بالكماليات هو بحكم الواقع من الضروريات : كالثلاجة والتلفاز والمذياع والسيارة وأدوات الزينة والماكياج وتغيير الأزياء ، فقد أصبحت بالحقيقة تحتل الاهتمام الأول والمرتبة الأعلى من آمال الشباب والفتاة ومطالبهما وطموحاتهما .
ضرورة الصوت :
هذه الظواهر (الانقلابية) المعكوسة بدأت تتطور وتمتد إلى أبعد من ذلك فتسيطر على جوانب مهمة من حياتنا الاجتماعية . وقد اخترت ظاهرة الضجيج والصخب كمثال قريب وطريف على ذلك ، إذ سنرى أن الصوت كان وما يزال من الضروريات .. فلما توغل الإنسان في المدنية وارتقى سلم الحضارة إذا به يتوقف ويتردد تجاه بعض الأصوات ثم يتنكر لها ويتحاشاها ، أي أن الضروري أصبح كماليا ومصدر إضرار وإزعاج .. !
لابد من ذكر حقيقة علمية أولا قبل الخوض في الموضوع ، وهي أن الصوت ضرورة أساسية لتربية الإنسان ونضجه وتطوير عقله وفكره . والطفل الذي يُخلق أصم لا يسمع ، لن يتمكن من النطق والكلام . وأغلب ما يكون الأطرش أخرس أيضا ، لأن الأصوات التي يسمعها الطفل منذ الأيام والأشهر الأولى لولادته تدخل في جهازه العصبي ودماغه فيتعلم بها تدريجيا ودون عمد ويستقبل الأصوات والحروف والجمل ويمييزها ثم يتعلمها ويدركها .. ثم يفرزها ويصنفها ، وبذلك يميز صوت أمه عن أبيه وعن أخوته فردا فردا .. كما يدرب نفسه وهو ينمو كل يوم على لفظ الحروف والكلمات ويتأرجح بين الخطأ والصواب ليستمر على النطق واللفظ الصحيح والتفكير ، وليربط الرمز بالمعنى .. وهكذا ، وبالاختصار فإن الإنسان يسمع الأصوات أولا لتكون مادة معرفية يتعلم منها و (يصنع) الكلام والكتابة والتفكير . فالصوت أحد أركان اللغة ، وحجر زاويتها . ويجب أن يكون مسموعا ليكون ذا فائدة ، وعندما يصاب طفل بعاهة في جهاز السمع – أي عندما كان يسمع ثم تعرض وهبط سمعه ثم توقف ، فإن علم الطب يحاول أن يعيد إليه سمعه الصحيح ليستعيد قابلية الكلام والتفاهم وإلا أصيب باللثغة واللكنة .
فأمراض السمـع تؤدي إلى أمراض الكلام واضطرابات التعبير وحتى التفكير .


الصوت قبل الكلام :
الصوت يأتي إذن قبل الكلام .. والإصغاء قبل التعلم ، وهذه قاعدة الخالق في خلقه . الصوت بلغة الطب (غذاء) أساسي للجهاز العصبي والعقل البشري مثلما تعتبر البروتينات والكربوهيدرات والشحوم والماء والهواء أغذية لجسمه . وبما أن الصوت غذاء فكري فهو حافز ومثير لنشاط الجهاز العصبي ، إذ بدون الأصوات يحس الإنسان بالعزلة كما يبدأ في تفقد كيانه ووجوده . وكأن الصوت هو مصدر حيوي لكمال شخصيته ولإدراكه تلك الشخصية ، وما يتلقاه الإنسان من ضروب المعرفة وما يصادفه من الآلاف وملايين التجارب يتلقفها العقل البشري من منافذ الإحساس لديه وهي : السمع والبصر واللمس والشم والتذوق .. الخ فالسمع إذن – والصوت لازمة له – مصدر أولي وأساسي للمعرفة ولنضج العقل البشري وتطوره .
وتقدم العلوم النفسية – الطبية أمثله وبراهين على أهمية الصوت للحياة النفسية – من فكر ووجدان للإنسان : فقد تبين أن الإنسان السوي الصحيح قد تنتهي به دروب الحياة إلى الوحدة وفقد الأحبة والمعارف فتضيق دائرة تواصله مع الدنيا والجماعة فإذا به يعاني من الضجر والكآبة والقنوط وتمني الموت ، أما إذا تعرض الإنسان – في أية مرحلة من عمره – إلى عزلة قسرية اضطرارية بحيث لا تصله في صحوته إلا أقل الأصوات وأضعفها أي الهدوء والسكون الطويل الإجباري فإنه يبدأ بالشعور بفقده جزءا من معالم شخصيته لأن الصوت يحفز جهازه العصبي دون وعي منه ، وباختفاء تلك المنبهات الصوتية أو فقدانها يشعر بالوحدة والملل والقلق .. ثم الكآبة ... ثم يدخل تدريجيا في جو من الأوهام والهلوسات .. يتسمع إلى دقات قلبه وحركات أحشائه التي تتعالى درجتها في جهازه الفكري .. ثم يتصور نفسه في مواقع أخرى .. أو يتخيل سماع وقع خطوات إنسان أو حيوان يقترب منه .. أو صوت نداء يخاطبه أو هدير آلة حوالي غرفته ... وتختلط عليه الهمسات والصرخات والأزيز والضجيج فينتقل إلى عالم الجنون محاولا بعسر ألا يفقد عقله وهذا ما يحدث في السجون الانفرادية والزنزانات المعزولة .
وفي علم الطب النفساني نعثر على حالة مشابهة ، فقد تبين أن بعض الناس الذين تجاوزوا أواسط العمر وبدأوا في شيخوخة مصحوبة بثقل السمع أو الطرش ، تنتابهم مشاعر العجز والحساسية الشديدة لمعرفة الأصوات وما يقوله الآخرون ، ويعاني بعضهم من الوساوس والشكوك وبشعور بالاضطهاد والغبن والتفاهة . ثم يردون على ذلك بالعداء والكره لا قرب الناس إليهم ، وهي من صفات (ذهان زَوَر الشيخوخة) أو (البارافرينيا) .
كل هذه الظواهر تؤكد كيف أن الأصوات هي روابط عضوية – نفسية بين المخلوق ومحيطه ومجتمعه ، وأنها أسس معنوية لتماسك وجوده وذهنه ، بقي أن نذكر أن الأذن البشرية تتلقى الأصوات من كل حدب وصوب ، وقد تسمعها ولا تسمعها لأن قابليتها محدودة بين ذبذبات صوتية معينة هي من 16- إلى 20 ألف هيرتز (ذبذبة في الثانية) .
فالصوت الذي يقل عن (16) ألف ذبذبة أو يزيد على (20) ألف ذبذبة قد يدخل في أذن الإنسان ولكنه لا يحس به ولا يدركه كصوت .
وهكذا هي الأذن البشرية ظلت في نطاق معين ولم تتغير إلى الآن – أو على الأقل حسبما يقوله العلم الحديث .
أصوات المدينة والحضارة :
وكان الإنسان القديم البدائي يسمع أصواتا لا تتعدى زمجرة الريح وصفير العواصف ودويّ الرعد وزقزقة الطيور وخرير الماء وحفيف الأشجار وأصوات أسرته أو عشيرته ، وأصوات الحيوانات المختلفة فيشعر بوجوده وكيانه ، وتقول إحدى نظريات أصل اللغات إن الإنسان بدأ يتكلم بأصوات ومقاطع تقليدا لما تسمعه أذنه من أصوات الموجودات الطبيعية حوله ، وهكذا استمر الإنسان يسمع أصوات بني البشر مثله ويبادلهم الإشارة والحديث ، ثم استمر في النقش والرسم ثم الكتابة ، وتفتَّح ذهنه فأبدع واخترع . وبالاختراع والتصنيع وتطور الزراعة وحجم القبيلة والقرية والبلدة .. امتدت الحضارة والمدنية واتسعت وبدأ الجنس البشري يسمع أصواتا جديدة أخرى : من حركة المحراث والأجراس وطقطقة مطارق النحاسين والحدادين .. ودقات الطبول ورنين الأوتار .. أو السيوف .. ثم المنجنيقات فانفجارات البارود والطلقات والقنابل والألغام .. ثم ضجيج المكائن الطباعية والنسيجية ، فالقطارات والعربات والسيارات .. ثم الطائرات والصواريـخ . وإذا بإذنه تصبح فوهة بركان يدخلها (بدل أن يخرج منها) سيل عارم من أصوات المصانع الهائلة الكبيرة للورق والسكر والاسمنت والنسيج والمعلبات والموانئ والبواخر والمطارق ، وحوصـر الإنسان في دور سكناه وطرق مواصلاته .. وانتبه إلى أن ما اخترعه وأسسـه وبناه بدأ ينفث سمومه وأضراره ...
إن الحضارة البشرية تقدمت ، لكنها اصطحبت معها الصخب والضجيج في كل مكان ، وأصبح الهدوء والصفاء والنقاء مقتصرا على الريف فحسب – وإن كان هدوءا نسبيا إذا ما قورن بهدوء القرون الغابرة – لكن الريف بدأ ينحسر بسكانه ويتقلص بمساحاته ، واستمرت موجات دافقة متوالية من البشر بالهجرة من الريف إلى المدينة ، فكثرت المدن واتسعت وتعددت أحجامها وانتشرت في كل مكان ، وفي المدينة وما حولها نجد مصادر للأصوات المختلفة وهي تتكاثر وتتعالى في المصانع والحافلات والقطارات والسيارات ومكبرات الصوت ، وأصوات المذيعين والمغنين والخطباء .. ثم صفارات سيارات الإسعاف أو الأمن الداخلي .. ثم الطائرات ..
فإذا ما هرب الإنسان من كل ما تقدم ولجأ إلى داخل البيت المنعزل (الآمن) هاجمته أصوات من نوع آخر لا تخلو منها أية دار عصرية . فشباب الجيل الناشئ قد تحكم وتوسع بمسجلاته (الستيريو) ومكبرات الصوت وعلب الأشرطة (الكاسيتات) التي تعج وتصرخ بموسيقى الخنافس (والروك آندرول) وفرق (سانتاتا) و (الحيوانات) و (الوحوش) و (الرولنج ستون) و (بوني إم) وما إلى ذلك من تسميات لفرق الشباب المنتشرة في دنيا الغرب .
حضارتنا غدت الآن مجموعة أصوات مختلفة الأنغام والشدة : بعضها منتظم وبعضها مزعج ومنفر ، لكن المحصلة الكلية خليط منكر من صخب وضجيج يحيط بالإنسان ويلاحقه حتى فراش نومه إن لم يكن حتى قبره .
فماذا جرى للإذن البشرية وللدماغ المسكين ؟ وما هو تأثير الصوت على الجهاز العصبي والسلوك ؟
أضرار الضجيج والصخب :
ويتبادر سؤال ملح الآن : إذا كنا نعتبر الصوت غذاء ضروريا للعقل البشري والتجار والمعرفة كما بينا ، فلماذا نتبعه بالحديث عن أضراره ؟ وهل له مضار حقيقية ؟ ولماذا انعكست الآية في القرن العشرين بحيث اضطر الإنسان إلى النفور والضجر منع ؟ ....
إن الصوت بلغة علم الفيزياء ، هو ذلك الذي له صفة الانتظام وطابع الموسيقية أو التناسق . وارتفاع شدة الصوت يمكن أن يكون مصدر إزعاج وضرر . أما الضجيج والجلبة والصخب فهي مجموعة أصوات (نشاز) غير منتظمة أو منسقة ، وهي أيضا مزعجة وضارة للنفس البشرية ، واختلاط صوت يصخب يؤدي إلى صخب أكثر وأفظع وأمرّ ، والذي يجري الآن في مدينتنا أن الإنسان أصبح مغمورا بالجلبة والضوضاء ، وأن الصوت المطرب أو الناعم أو المنسق الجميل لا يجده الإنسان إلا إذا قصده قصدا ، وبحث عنه في أماكن ومواقف ومناسبات معينة ، وهو ينشد الهدوء والسكينة .
إن الإنسان المعاصر انتبه وأدرك بطبعه الأصيل وبدون نصيحة طبية أن الضجيج يثير أعصابه ويربك أعماله ويعكر عليه صفاء ذهنه وانسجام سلوكه ، ويبعث فيه القلق والضجر والشقاء . فما هو رأي الطب وعلم النفس والاجتماع في صحة هذا الحدس ؟ تشير الدلائل في مجتمع القرن العشرين إلى ظاهرة محيرة ومتناقضة ، وهي أن الإنسان في مراحل تطوره الحضـاري تعود دون أن يدري – وبالتدريج – على تقبل المزيد من الأصوات والنغمات ذات الشدة العالية فإذا به وقد أصبح (مدمنا) على الضجيج . وهذه هي العادة المكتسبة من المدينة بحيث خيل للإنسان أن الصوت المرتفع ضرورة ، وإذا به يتعود التحدث بصوت مرتفع وأنه يتحدث إلى ثقال السمع بينما هو يقارب ثقل السمع حقيقة !
وهكذا يملأ شباب اليوم الأمكنة والبيوت والنوادي والمراقص والسيارات بأعلى أصوات الموسيقا المجنونة الراقصة وينغمسون فيها انغماس المدمن المنتعش بينما يلجأ الجيل السابق إلى خفت صوت المذياع والتلفاز للتمتع ببقية من موسيقا خافته هادئة وكلام هامس رقيق ، لكن الأمر لم يقف عند حدود الصراع أو المجابهـة بين جيلين أو ذوقين بل أصبح مشكلة عامة .
وقد كشفت الأبحاث الطبية والنفسية أن الأصوات العالية وكل ما يدخل في تكوين الصخب والضجيج تؤدي إلى مجموعة من التأثيرات الضارة على أجهزة الجسم ونفسية الإنسان ، حتى أن الأصوات العالية استخدمت أحيانا في سحب الاعترافات ومضايقة السجناء والمعتقلين ، فالصوت الصاخب الناشز يوجه إليهم ليتهيج جهازهم العصبي ، ويتقطع النوم أو يختفي تمامـا ، وتتضاءل فترات الراحة ، وينحدر السجين إلى حالة الإعياء فالانهيار ، ومنها يتسلل المحقق إلى مدخل الاستسلام أو حالة (غسل الدماغ) والاعتراف .
ويمكن تعداد مضار الأصوات الشديدة وتلخيصها كما هو مبين أدناه وحسب تسلسل درجة علو الصوت بمقياس وحدة علو الصوت (ديسبيل) ابتداء من الرقم (30) وحتى الـ (120) أو أكثر :
أ- استثارة القلق وعدم الارتياح الداخلي فالتوتر فارتباك في الانسجام والتوافق الصحي المريح .
ب- إذا كان الشخص من ذوي الاستثارة السريعة ، تحدث اضطرابات فكرية في قوى التركيز والتذكر ، وتوتر عضلي في الأجهزة الداخلية الحساسة وعلى الأخص أعضاء الجهاز الهضمي : المعدة والأمعاء ، وكذلك جهاز الدوران (القلب) والتنفس .
ج- إحداث أضرار وتلف بطيء وتخريب في جهاز السمع ، وهي الخلايا الحساسة في نهايات أعصاب المخ المرتبطة بالإذن الداخلة التي تنقل الصوت إلى الدماغ ، وهكذا إلى حالة من نقل السمع البطيء السريان وإلى الطرش ، ولعل ثقل السمع الأولى هو الذي يدفع بالمصاب إلى الاستزادة من علو الصوت لعدم إدراك الإنسان أن سبب ثقل سمعه هو علو الصوت ذاته ، وهذا يفسر ميله إلى التخاطب بصوت مرتفع كما يفعل ثقيلو السمع .
د- يعتقد باحثون آخرون أن التخريبات الحاصلة في الإذن الداخلية أشبه ما تكون بالقروح التي تحدث في أجهزة أخرى .
ﻫ- إن خليط القلق والتوتر والصداع والأرق يضعف من مقاومة الإنسان الذهنية وتماسك شخصيته ، وهو السبب في حصول الاعترافات لدى السجناء .
و- إن التوتر العام المستديم يؤدي منطقيا إلى مضاعفات أخرى مثل القرحة المعدية أو الذبحة الصدرية .. وهذه تؤدي بدورها إلى مضاعفات أخرى ...
صراع وحيرة :
هذه هي أضرار الأصوات العالية الصاخبة .. وتلك هي سلبيات الصمت والسكون الثقيل ، كما ذكرنا في أول المقال ، فأين يجد الإنسان راحته ويعيش نعيم أحاسيسه ؟ ...
إن إنسان اليوم – وهو الذي لا يستغني عن الصوت كغذاء حياتي وفكري – يعيش الآن بين نقيضين أو وجهتين : صخب وضجيج يقلق راحته ويخرب أعصابه ، أو هدوء وعزلة قاتلة ثقيلة في مراحل الشيخوخة وفقد المعارف والأحبة بعد التقاعد ، وفي كلتا الحالتين يتهدده شعور بالخطر الداهم على راحته النفسية وانسجام تفكيره وسعادته الدنيوية . إنه الآن موزع بين (ضروريات) الصوت الطبيعي وبين (كماليات) الصخب الحضاري المؤذي . لكنه بدأ يتململ ويستنكر ويثور ويتظاهر مع الجماعات الغاضبة ضد المطارات الضخمة التي تنطلق منها وتحط عليها الطائرات النفاثة الضخمة في أمريكا وفي ألمانيا الغربية وفرنسا واليابان ...
لقد انتبه الإنسان أخيرا – دون تحريض الطب وعلم النفس – إلى أن ما اخترعه وأسسه وبناه بدأ ينفث سموحه وتخريباته ، وقد تجسد أمامه غول (تلوث البيئة) كحقيقة واقعة لا نريد الخوض في تفاصيلها ، ويبدو الآن أن الصخب والضجيج هما أيضا من المعضلات و (مخلفات) المدينة التي تهدد الصحة البشرية . ولعل من الطريف أن نستطلع حال الإنسان قبل آلاف السنين . فمنذ خمسة آلاف سنة مضت ، وفي أحدى الحضارات البشرية العريقة في جنوب العراق (سومر وبابل) تتحدث الحفريات الأثرية عن ذلك الإنسان الذي أزعجته المدينة بصخبها وضجيجها ، وكأن سليقته وغريزته الصافية أرشدته إلى الآثار السيئة للأصوات الناشزة والعالية ..
وفي ملحمة (اترا – حاسس) نعثر على قصيدة بابلية مطولة تتناول بالتفصيل خلق الإنسان وتسليط الآلهة – وعلى رأسهم الآلهة (انليل) – كارثة الطوفان والقحط والأمراض لإفناء البشر الذين (أقلقوا الآلهة بضوضائهم وصخبهم) على حد تعبير الملحمة ومع أن اصطلاح (الضوضاء والصخب) دليل على شرور الإنسان ونزاعاته .. ، إلا أن غضب الآلهة وإجراءاتهم بتقليل عدد البشر يدل أيضا على أن كثرة السكان هي من عوامل الصخب والضجيج الذي يقلق راحة الآلهة منذ بداية التاريخ المدون .
وبعد كل ما تقدم أليس من المنطقي أن نتساءل أو نؤكد على اعتبار الضجيج والصخب جزءا من عوامل تلوث البيئة رغم كونهما مجرد ذبذبات صوتية ؟!