قراءة .. في ديوان " مرافىء السراب "
للشاعر د . لطفي زغلول
بقلم : الشاعر والكاتب الفلسطيني علي الخليلي



المجموعة الشعرية التي صدرت مؤخراً في نابلس، للشاعر لطفي زغلول، تحمل عنوان "مرافئ السراب". وهي لا تختلف كثيراً في قاموسها الكلاسيكي، عن سابقاتها من اصدارات الشاعر المتواصلة ببوحها الرومانسي، على مدار السنوات الطويلة الماضية، في سياق رؤيته الغنائية المتدفقة، إلا في أجواء الألم الشديد الذي يعصف بكل تفاصيلها، عصفاً مربكاً ونافياً لكل ما سواه، إلى الحد الذي يجد فيه الشاعر نفسه، وقد غرق في السراب، لما كان يحسب في لحظة ما ، أنه وصل أخيراً، بعد كفاح طويل، إلى مرافئ السلام. غير أنها لم تكن في الواقع، سوى مرافئ السراب.
تتكون المجموعة من أربع قصائد مطولة، اختار لها الشاعر تسمية "فضاءات"، تمتد على مائة صفحة من القطع المتوسط، كأنها في محصلتها، قصيدة واحدة ذات عمق ملحمي، أو فضاء واحد وفق رغبة الشاعر في التسمية. وتتعزز هذه المحصلة بمجرد قراءة عناوين هذه الفضاءات، حين تحيلنا بدورها، في إيحاءات صورها ومعانيها وأجوائها، إلى العنوان الذي تحمله المجموعة كلها.
الفضاء الأول "قصائد بلا وطن". والثاني "خلف ظلال السراب". والثالث "نهارات بلا شمس". والرابع "قصائد في الزمن الضائع". وكل فضاء يشتمل على مقاطع بعناوين أخرى، رغم أنها جميعها متداخلة تكاد لا تنقطع أبدا، مع حركة العنونة المتغيرة.
لا وطن، ولا شمس، وزمن ضائع، ضمن إيقاع مسيطر لمفردات أخرى مشابهة ومتزاحمة بتماهيها المأساوي في كل القصائد، مثل: منفى، تيه، يباب، ضياع، رحيل، أصفاد، شتات، حصار، غربان، أشلاء، هباء، قهر، ظلام، طاغوت، إلخ. وإذا كان الشعر في هذا التكوين الإنساني المفجع، هو تلك المرافئ التي يصل إليها الشاعر، فإنها بالضرورة مرافئ السراب. لقد وصل الشاعر، ولم يصل في آن. أو إن قصيدته وصلت، في الوقت الذي بقي فيه وحده مستمراً في البحث المنهك، عن طريق له، نحو وطن وشمس وزمن راسخ.
نقرأ في الفضاء الأول:
".. أخشى أن ترسو سفني
وأنا ما زلتُ أفتش في غربة أحلامي عن وطن
لي خارج أسوار الزمن
ونقرأ:
"وما زلتُ في شرفة الانتظار
أسائلني هل يجيء الذي لا يجيء

.. ويلهث خلف السراب سؤالي"
ونقرأ:
"هنا أنت يغتالك الانتظار
وما عاد رحم زمانك في التيه
يخرج منه النهار
إلى أين.."
ومع ما يفرضه هذا الاحباط الموحش، من وجع قاس يوغل في النفس إلى درجة اليأس، نكاد بالمقابل، نتحسس في الفضاء الثاني، نبضات دفينة من الأمل الباقي. تماما كما قال شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش "نحن نربي الأمل". والشاعر لطفي زغلول، يساهم في هذه التربية، على طريقته.
نقرأ:
"أنا من رحم الفينيق ولدتُ
محال أن تتلاشى في الريح عظامي
ومحال أن تنهشني حتى الموت
وتنهش أحلامي
تلك الغربان المسعورة"
ولكن هذا الأمل صعب ومرير، حتى كأنه المستحيل، ما إن يبدأ ملمح من ملامحه المعذبة بالصعود في لحظة إشراق، حتى يكتسحه الخراب، في كل مرة، ليصرخ الشاعر في غضب هو الآخر، صعب ومرير طالما انصهر بالإحباط واليأس:
"قد جئتُ اليوم أقول لكم
قد طفح الكيل .. وعم الويل ..
.. هي ذات الكأس تجرعناها سما
من ذات الساقي
كنا عشاقا فاحترقت فينا أشواق العشاق
ها نحن نموت
ونُبعث أحياء لنموت.."
وفي الفضاء الثالث، يتوقف الشاعر قليلاً أمام المشهد كله، متأملا تراكمات المراحل من حوله، بدءاً من النكبة الأولى في العام 1948، وظهور أسطورة الرقم سبعة من خلالها، لمدى اللجوء الزمني، سبعة أيام، أو سبعة أسابيع، أو سبعة شهور، أو سبعة أعوام، تتم بعدها العودة والتحرير، وما تلاها من نكبات سخرت من الأسطورة ومن أصحابها، ليكتشف الشاعر أنه هو نفسه، لم يعد هو:
"إني ما عدت أنا..أنا"
وثمة نقرأ بما يسمل العينين بحد السكين:
"زمانك ليل اغتراب
بحور سراب
يباب تضاريسه في يباب
زمانك ثامن سبع سنين عجاف
وتاسع سبع سنين عجاف
زمانك من كل عشق دخلتَ
وبشرتَ يوما به
هو عار وحاف.."
لماذا؟ قد يكون هنا السؤال في برودته البليدة، كأنما هو سؤال عن الطقس، هو الجريمة المزلزلة فعلاً، ذلك أن التراجيديا صريحة وواضحة، فكيف تسأل أيها البارد البليد؟
في الفضاء الرابع، تأخذ السخرية ختام المرافئ:
"وقيل لي في نشرة الأخبار

هو السلام وحده، لا غيره الخيار
.. اغفر لهم، فالله من أسمائه الغفار
الجار للجار ولو عليه جار
ما اغتصبوه عنوة،
يرجع باللين وبالحوار
فاصبر، فإن الصبر وحده هو المسار".