الدكتور الاديب و الشاعر لطفي زغلول
شكرا لك على هذه المساهمة الرائعة التي كتبتها بمداد حبك للغة القرآن وسطرتها بحبر غيرتك على ثقافتها و تخوفك على مستقبلها ، و هي خاطرة تعكس تفكيرك ببعديه الاسلامي و العربي (او العروبي) . و موضوع اللغة العربية حديث ذو شجون و هي شجون دائما ما تثار وتستثار عندما يتم مقارنتها –بطريقة مباشرة او غير مباشرة - باللغات الأخرى و خاصة الأوروبية و بالاخص الانجليزية و الفرنسية اللتان تحتلان موقع الصدارة كوسيلة تفاهم واتصال بين شعوب العالم و في المحافل الدولية . و هذه المقارنة –غير الواقعية ، بل و الظالمة- تظهر بواقعية اليمة و مرة مكانة اللغة العربية و المستوى المتدني – والحضيضي اذا جاز التعبير-الذي و صلت اليه حتى بين الناطقين بها و المنتمين اليها كلاما و ثقافة . هذه الواقعية –وللاسف- يرفضها بل و ينكرها كثير من العرب –خاصة المسلمين- و حتى عندما يعترفون بها- على استحياء ومضض- يلجأون الى الطرح العاطفي لتفنيد و معرفة اسبابها ، كما انهم يتخذون موقفا تحمسيا يتجاهل المقومات العلمية و الأسس التاريخية التي افرزت هذا الوضع .
و الطرح العاطفي و الموقف التحمسي الصفيحي يظهر واضحا في اللجوء الى التعميم و الاتهام و اقحام عقلية المؤامرة و مفهموم الكيد في هذه القضية الهامة . ان استخدام عبارات مثل "غزو ثقافي لغوي" ، "الذوبان في الآخر" ، الدفاع و الحماية " الخ يفرغ القضية من اهم ما تحتاج اليه و هو النقاش الهادئ والتعامل العلمي و المنطقي و المنصف مع حثياتها واسبابها و نتائجها وطرق علاجها .
الموضوع شائك و طويل و لكن يمكن ايجاز الرأي فيه في النقاط الثلاث التالية :
1 . اللغة كوسيلة اتصال و تعبير عن ثقافة و حضارة شعب ، ترتبط ارتباطا جدليا بسير هذه الحضارة و مسيرة هذا الشعب . فهي تنمو و تنتشر بنمو و انتشار حضارتها و العكس صحيح ، و هذا ما حصل لكثير من لغات الشعوب القديمة و الحديثة الميتة منها و الحية ؛ بل حدث هذا للغة العربية ذاتها . فعندما كانت الحضارة العربية الاسلامية في اوجها كانت العربية تحتل ذات المكانة التي تحتلها الانجليزية في الوقت الحاضر . ولكن عندما افلت شمس هذه الحضارة انكسف معها قمر لغتها العربية ، و لم يكن هناك سبب لذلك الا سنة الله في خلقه . و انتماء اللغة العربية للاسلام عموما و للقرآن خاصة لم يكن له شأن كبير في تمددها الجغرافي او انكماشها . و الدليل على ذلك انها مازالت -و لن تزل مدى الدهر- لغة القران و لسان الاسلام ، الا انها آخذه في التراجع و الانكماش امام لغات شعوب ذات حضارات و ثقافات قوية ، وليس بسبب مؤامرات و مكائد لا توجد الا في رؤوس مردديها وخيالاتهم .
2 . اللغة العربية لغة ككل لغات العالم تسيرطبقا لسنن الله و قوانين الطبيعة ، فكما أن اللغة العربية –كما هي محنطة في المعاجم و المعلقات السبع- كانت لها بداية و سيكون لها نهاية و اجل ، و هذا سنة الله و النهاية والاجل لا يعني العدم النوعي ، و انما التباين النوعي والاختلاف التدريجي - أو كما يقال في علم الطبيعة – "التطور" أو "النشوء و الارتقاء" ، فاللغة التي كتب بها دكتورنا الفاضل مقاله هذا هذا – رغم التزامه بقواعدها و نحوها وصرفها – الا انها ستكون عصية الفهم على الجاحظ او المعري ؛ فهذه البديهية لم تغب عن دكتور الفاضل لذلك فضل ان لا يكتب بلغة الجاحظ أو المعري لأنه حريص على افهامنا مما جعله يكتبها بلغة نفهما نحن. كما لا يجب ان تغيب عن اذهاننا بديهية تاريخية اخرى وهي أن لغة القرآن الكريم ذاتها لم تكن لغة بالمعنى العلمي اللغوي الحديث ، بل كانت لهجة من لهجات لغة عامة يتفاهم بها شعب الجزيرة العربية . هذه الخلفية التاريخية و العلمية للغة العربية تتناقض تناقضا صارخا مع من يريد ان يوقف مسيرة الحضارة و يعطل سنن الله و قوانين الطبيعة ، وهذا واضح في وصف الدكتور الفاضل "ان تكون لنا مؤسستنا الثقافية الخاصة على نمط الفرنكوفونية على طريق تجسيد الهوية العربية".
ذلك لأن هذه المؤسسات الثقافية -على نمط الفرنكفورية- لن تقدر على "حماية" اللغة العربية كما يفهمها و يريد لها الاستاذ الفاضل ، لسبب بسيط وهو ان اللغة وسيلة و ليست غاية بذاتها ، و هي وسيلة للتفاهم والتعبير ومن يقوم بالتفاهم و التعبير هو الشعب الذي يتحدث بها و بذلك يكون هو الوحيد الذي يستطيع تحديد مسار هذه اللغة و كيفية و ارتقائها . و ليس من الصعب الوصول الى هذه النتيجة المنطقية و الواقعية .فاللغة الفرنسية لا تدين في انتشارها و عالميتها الى المجامع (او الاكاديميات) اللغوية أو حتى المنظمة الفرانكفوريتية نفسها ، بل تدين بذلك الى قوة الحضارة و المدنية الفرنسية بكل مستوياتها السياسية و الاقتصادية و الفنية وغيرها التي تنتمي اليها هذه اللغة : ففرنساء أقوى دولة بين الدول –ربما بعد المانيا - الناطقة بغير الانجليزية . أن موقعها السياسي و الاقتصادي و العسكري انعكس –ايجابيا- على اللغة الفرنسية . و انا لا اتردد في القول - و التاريخ على ما اقول شهيد- لو ان فرنسا كانت في مستوى اي دولة عربية او حتى غير عربية من دول العالم الثالث ككوريا او كوبا ، لما وصلت لغتها لما وصلت اليه . هذه نتيجة لا تحتاج الى شهادات للوصول اليها . ورغم وجود هذه المنظمة و المجامع اللغوية و خاصة (اكاديمي فرانسيس) الا ان اللغة الفرنسية أو بالأدق متكلموها ومستعملوها ياخذون من اللغة الانجليزية الكثير و تأثير هذه الاخيرة واضح على الفرنسية ، وهو امر طبيعي يفسره و يؤيده موقع المدنية الانجلوسكسونية في الاعراب الانساني مقارنة بالمدنية الفرنكفوريتية .
3 .بالطبع لا ضير في كل ما اقترحة الدكتور العزيز – وزيادة الخير خيرين كما يقول المثل الشعبي – ولكن هذا يجب ان لا يحل محل التفسير العلمي و الاستقراء التاريخي لمسيرة نشوء وتطور و فناء اللغات . و اللغة العربية يمكن ان تلعب ذلك الدور الحضاري و الريادي الذي لعبته ذات يوم فقط اذا كان الشعب الذي يتحدث بها مؤهل ان يلعب ذات الدور الذي لعبه اسلافه من فبله ، هذا من ناحية التعاطي الواسع لقضية اللغة العربية ، أما من ناحية التعاطي الضيق أو المجهري فإن اللغة العربية ستواصل عملية التطور النوعي التدريجي بحيث ان اللغة التي نتكلمها – او حتى التي نكتب بها- ستختلف عن اللغة التي سيتحدث بها –او يكتب بها- بعد مئات السنين بغض النظر عن موقع متكلميها في السلم الحضاري او الخريطة السياسية او العسكرية في المسيرة البشرية .
وختاما ، علينا ان نحاول التخلص من عقيدتي الاستعلاء و الدونية التي نلجأ اليهما كلما استعصت علينا مسألة و انصدمنا بواقع نرفضه . ان اللغة العربية لغة حية متجددة قادرة على الخلق و التطور و التغيير كما كانت في الماضي هي كذلك في الحاضر و ستكون ايضا في المستقبل ، و لا يقلل من قدرها ان تكون هناك لهجات تتعايش معها في امن و سلام و ليس في حرب مزعومة و مختلقة ، كما لا يقلل من شأنها كذلك كونها لسان وحي ان تتطور و تتغير ، و هي حقيقة أقرها رب القرآن عندما انزله في لهجات متعدده مختلفة نطقا و مفردات ويشهد عليها التاريخ . و عربيتنا الفصحى كما نتكلمها – او بدقة –كما نكتبها اليوم ليست هي اللغة التي كتب بها القرآن ، و رغم هذا الا ان الله سوف يفي بوعده عندما قال (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ، ولكنه حفظ واقعي وعملي يتماشى مع السنن الالهية و مع القوانين الطبعية .
وهل هناك وسيلة اسهل و اسرع في البدء بتنفيذ مشروع الدكتور لحماية الفصحى المعاصرة من أن يقوم الخائفون عليها من التحدث بها في كل وقت ومكان بدلا عن اللهجة؟ هل يستطيعون ابدال العامية بالفصحى في محادثاتهم ومعاملاتهم: في موقع العمل أو الدراسة او حتى في البيت مع افراد العائلة والاصدقاء و الاقارب ؟ لماذا لا يشكلون نواد اجتماعية تكون اللغة الفصحى لغة التخاطب؟ أنا أتسأل فقط و لا اقترح لأنني اؤمن باستحالة ذلك -لأنه اجراء اصطناعي ويتعارض مع القوانين الطبيعية كما وضحت اعلاه-- والدليل اانه حتى أكبر المتحمسين للفصحى و المؤمنين بعقيدة المؤامرة الذين اعرفهم شخصيا اعترفوا باستحالة ذلك ولم يستطيعوا تنفيذ اقتراحاتهم ومشروعاتهم في نطاق ضيق و شخصي رغم ذلك يصرون على وضع اقتراحات تحتاج الى موارد دولة بل دول لتنفيذها -ولا اقول لنجاحها . وانا استغرب من هذا التناقض بين الطرح و التطبيق ، و المحك الحقيقي لواقعية و جدوى هذه الدعوات هو تطبيقها على المستوى الشخصي والاجتماعي الضيق اسوة بالامر النبوي الكريم "اابدا بنفسك" . اليس هذا خيرا من البكاء على الاطلال و اتهمام الغير بما هم بريئين منه و اقتراح مشاريع ستبقى حبر على ورق؟
و في الاخير اشكر الدكتور على اثارة هذه القضية و اتاح لنا بذلك فرصة نبدي فيها رأينا الذي لابد وان هناك من سيدينه و يهاجم قائله .
المفضلات