عوامل نشأة الدراسات اللغوية عند العرب

من المعلوم أن الحياة العلمية الإسلامية العربية نشأت و تطورت في ظل القرآن الكريم الذي رأى فيه المسلمون الكتاب الذي يتعبد به و ينظم شؤون حياتهم بحيث تستقيم مع ما جاء فيه. و من هذه الحقيقة الكبرى للمسلمين كانت حركتهم نحو العلم في سبيل فهم النص الكريم و الوصول إلى ما يحويه من أحكام يقول الثعالبي"إن من أحب الله أحب رسوله... و من أحب النبي العربي أحب العرب و من أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم و العرب و من أحب العربية عني بها وثابر عليها و صرف همه إليها... و العربية خير اللغات و الألسنة و الإقبال على تفهمها من الديانة إذ هي أداة العلم و مفتاح التفقه في الدين و سبب إصلاح المعاش و الميعاد ثم هي لإحراز الفضائل واحتواء على المروءة و سائر أنواع المناقب كالينبوع للماء و الزند للنار و لو لم يكن في الإحاطة بخصائصها و الوقوف على معانيها و مصارفها و التبحر في جلائلها و دقائقها إلا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن و زيادة..." فهذا الارتباط بين الحياة الدنيوية و الحياة الدينية هو الذي يوضح لنا نشأة الحياة العلمية للغة العربية و تطورها.
العامل الديني:
لقد بدأ المسلمون بما هو عملي قبل الوصول إلى "منهج نظري" فكانت قراءة القرآن عن طريق التلقي اسبق من وضع كتب تحدد منهج القراءات و كان التفسير بالأثر أسبق من غيره و كان الفقه أسبق من الأصول ومن هذا التطور العام نستطيع تصور تطور الدراسة اللغوية عند العرب فتراها تبدأ بما هو عملي من حيث جمع الألفاظ و ضبطها ثم ّدراسة التراكيب اللغوية قبل الوصول إلى وضع منهج في دراسة اللغة مثلما أصبح الأمر عليه في القرن الرابع.
عامل اللحن:
إلى جانب العامل الديني وجد اللحن الذي انتشر نتيجة لطبيعة اللغة العربية نفسها فهي لغة معربة مما يجعل اللحن يسرع إليها. ثمّ نتيجة الاختلاط الذي حصل بين العرب و الأعاجم بعد الفتوح انتقال العرب إلى البلاد المفتوحة و اتخذوها مستقرا لهم و ملكهم للكثير من العبيد. كما قدم المسلمون الجدد إلى الحجاز للحج و قضاء شؤونهم في المدينة عاصمة الخلافة فتأقلموا معهم و بدأ اللحن يظهر مبكرا بل أن جذوره تمتد إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقد روي أن رجلا لحن بحضرة الرسول فقال صلى الله عليه وسلم "أرشدوا أخاكم" و روي أن كاتبا لأبي موسى الأشعري كتب إلى عمر بن الخطاب " من أبا موسى" فكتب عمر لأبي موسى" عزمت عليك لمّا ضربت كاتبك سوطا"
و روي عن أب كان يضرب أبنائه على اللحن و ما أن جاء العصر العباسي حتى وصل اللحن إلى البادية قال الجاحظ: "أول لحن سمع بالبادية هذه عصاتي عوض عصاي و هذا ما دعا علماء اللغة إلى جمعها لحفظها و فهم النص القرآني الكريم"
العامل الحضاري:
نشأت العلوم العربية كلها في العهد الأموي و العباسي الأول و قد رأينا أن بعضها يؤثر في بعض إذ كانت ذات اتصال يبعضها و لم يقع فصلها إلا في العصور اللاحقة و لما تحضر العرب و وجدت عندهم العلوم انغرست في نفوسهم حب المعرفة فتركوا حقولا أخرى ذات علاقة بالحياة العلمية و الفكرية كالطب و الفلسفة و الكيمياء و الفلك...و هذه العلوم أثرت في تطور مناهج العلوم الأخرى كاللغة و النحو و الصرف.
ما روي من اللغة:
كان العرب يسكنون الجزيرة العربية و جنوبي العراق وقسما من سورية و فلسطين و هذه أراض شاسعة تتفرق فيها القبائل و كانت لغة القبائل تختلف و هذا الاختلاف قد يكون في الكلمات فالبعض من القبائل تستعمل كلمة " بُرْ " و أخرى قمح و قد يكون الاختلاف في الحركات فبعض القبائل كانت تفتح حرف مضارعة فتقول " نِستعين " وبعض القبائل الأخرى تكسرها مثل قبيلة أسد فتقول " نِستعين " ومن نتائج هذا الاختلاف اختلاف القراءات. كما كانت توجد لهجات مختلفة إلى جانب هذا الاختلاف.
مصادر جمع اللغة:
تحرى علماء اللغة الأوائل في جمعها كل التحري فلم يأخذوها عن جميع العرب حيثما وجدوا بل جعلوا لذلك مقياسا طبقوه بكل حزم و هو الرواية عن القبائل التي بعدت إقامتها عن الأعاجم فلم يخالط لغتها دخيل قال الفارابي: " إن الذين عنهم نقلت اللغة العربية... قيس و تميم و أسد وهذيل و بعض كنانة و لم يأخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم " و قال أبو عمر بن علاء: " أفصح العرب عُليا هوازن وسفلى تميم" و جميع هذه القبائل تسكن الصحراء بعيدا عن اختلاط الأعاجم. و بعض القبائل الأخرى لم يأخذ عنهم شيئا مثل لخم وجذام و قضاعة و غسان و تغلب لقربها من الفرس و الروم و كذلك سكان اليمامة وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن.
و كان العلماء يخرجون إلى البادية و يقضون مدة قد تطول إلى أعوام يعيشون مع الأعراب يسمعون منهم و يدونون و استمر ذلك الأمر حتى العصر الأموي إلى العصر العباسي الأول كما كانوا يجمعون إلى جانب اللغة الشعر الجاهلي و الإسلامي الموثوق من صحته و كان ذلك كمصدر من مصادر اللغة في مرحلتها الأولى.
طريقة جمع اللغة و مراحلها:
و قد مرت بثلاث مراحل
1- جمع الكلمات دون ترتيب: بدأ جمع كلمات اللغة دون نظام معين ذلك أن الباحث كان يرحل إلى البادية فيجمع كلمات اللغة المتنوعة و يسجلها دون ترتيب. و قد كان أسلوب عالم اللغة كأسلوب عالم الحديث بل نفس المنهج ذلك أن المحدث يقوم بجمع الأحاديث المختلفة الأبواب و يسجلها دون ترتيب بداية. كما يتفق اللغوي مع المحدث كذلك في ذكر السند. و تجدر الإشارة إلى أن اللغويين رتبوا ما ورد في اللغة ترتيب الحديث فقالوا فصيح و أفصح و جيد وأجود و ضعيف و منكر و متروك. كما قالوا أن اللغة التي وردت في القرآن أفصح مما جاء في غيره. كما عدلوا الرواة و جرحوهم كما فعل علماء الحديث فعدلوا الخليل و جرحوا قطرجا لكذبه.
2- جمع الكلمات التي لها نفس الموضوع:
أي جمع الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد كالمحدث يجمع الأحاديث على حسب الأبواب مثلا يجمع أحاديث الصلاة و يسميها كتاب الصلاة. سبب ذلك أنهم رأوا كلمات متضاربة المعنى فأرادوا تحديد معانيها و هو ما جعلهم يجمعونها في موضع واحد كقولهم " القد طولا والقط عرضا" أو رأوا كلمة واحدة وضعت لمعان مختلفة كقول الأصمعي: " العين مطر أيام لا تقلع. و العين عين الميزان. والعين عين النفس. و ينظر إليه فيصيبه بعين" كما ألفت عدة كتب تناول كل كتاب منها موضوعا واحدا مثلما فعله أبو زيد الأنصاري الذي ألف كتابا في المطر و أخر في اللبن.
3- وضع المعاجم اللغوية لكل الكلمات:
لقد وقعت هذه المرحلة حتى يتسنى للدارسين و من يهمه الأمر الرجوع إليها و البحث عن الكلمات. وهذه المرحلة ليست مستقلة عن بعضها و إنما هي متداخلة. كما وجدت دراسات أخرى مختلفة تدور حول القرآن الكريم و السنة النبوية الفت فيها الكتب و الرسائل مثل غريب القرآن و غريب الحديث معاجم الفقه و المعرب و لحن العامة و كتب الهمزة و كتب للحيوان و كتب النوادر و كتب البلدان و كتب الأبنية إلا أن أغلب هذه الدراسات قد وجدت بعد نشأة الدراسات اللغوية و ظهور أول معجم متكامل وهو كتاب العين وقليل منها وجد قبله.