بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل في معرفة الثوابت

مقدمة وتشمل التعريف:
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم، وبعد:

إن موضوع ثوابت الأمة في ظل المتغيرات الدولية موضوع عظيم وكبير، بيانه يحتاج إلى وقت وجهد وكلاهما عزيز، وحتى نخرج بفائدة في هذه العجالة أثرت أن يتعلق الحديث ببيان المنهج وذلك عن طريق ذكر أمور كلية وقواعد عامة يستفيد منها المسلم في معرفة الثغر الذي هو واقف عليه، والثابت الذي ينبغي أن يتمسك به، بدون خوض في التفاصيل فإن المجال لا يتسع لذلك، وقد قيل: "من حرم الأصول حرم الوصول، ومن عرف الأصول ضمن الوصول".

والحديث عن هذا الموضوع (أعني تقرير الثوابت) يمكن أن يتناول باعتبارات فهذا العنوان [ثوابت الأمة] ليس معنى شرعياً واحداً ثابتاً متفقاً عليه كمعنى الصلاة في العرف الشرعي، أو الصدقة أو غيرها من الألفاظ الشرعية المعروفة، وليس معنى اصطلاحياً وضع له أهل شأن تعريفاً جامعاً مانعاً لا يجوز لمن تحدث في شأنهم الحياد عنه، ولهذا سيكون حديثي عن المعنى اللغوي الذي يفهم من قولنا الثوابت وبضدها تتميز الأشياء ومنها المتغيرات، ثم أعرج على ذكر استعمالات أو اصطلاحات اختارها البعض لمقتضيات قد ينصرف الذهن إليها وليست عين ما أريد الكلام عنه، بل ربما كان بينها وبين ما أريد عموم وخصوص، ثم أشرع في بيان ما رأيته أليق بالعرض في موضع ثوابت الأمة بدون خوض في ذكر تفاصيلها.


الثوابت في اللغة:
"الثاء والباء والتاء كلمة واحدة، وهي دوام الشيء، يقال: ثبت ثباتاً وثبوتاً، ورجل ثبت وثبيت" .
تقول: "ثَبَتَ الشيءُ في المكان يثبُت ثَبَاتًا وثُبُوتًا دامَ واستقرَّ فهو ثابتٌ وثبيتٌ وثَبْتٌ" .
وفلانٌ على الأمرِ دَاوَمَهُ ووَاظَبَهُ .
والنحاةُ يقولون: ثَبَتَ الحرفُ أي لم يُحْذَف .
وثَبُتَ الرجلُ ثَبَاتَةً وثُبُوتَةً كان ثبيتًا شجاعًا .
ورجل ثَبْتُ الغَدْرِ إِذا كان ثابِتاً في قتال أَو كلام؛ وفي الصحاح؛ إِذا كان لسانُه لا يزال عند الخُصُوماتِ .
وداءٌ ثُبَات: يُثْبِتُ الإنسانَ حَتّى لا يَتَحَرَّكَ، ومَرِيْضٌ مُثْبَتٌ: ليس به حَرَاك .
ويقال: أَثْبَتَهُ السُقْمُ، إذا لم يفارقه. وقوله تعالى: "لِيُثْبِتوكَ" أي يَجْرَحوكَ جِراحةً لا تقوم معها . وفي حديثِ مَشُورةِ قُرَيْشٍ في أَمر النَّبِيّ _صلَّى الله عليه وسلّم_، قال بعضُهم: إِذا أَصْبَحَ فأَثْبِتُوهُ بالوَثَاق .
كذا المُثْبِتُ، بِكَسْرِ الباءِ وهو الّذِي ثَقُلَ من الكِبَرِ وغيرِه، فَلمْ يَبْرَحِ الفِرَاشَ .
فكل هذه معاني روعي في أصلها الدوام والاستقرار ثم خصصت بحسب إضافتها إلى معان روعي فيها أصل المعنى.
ولهذا الجذر إطلاقات كثيرة وجميعها اشتمل على أصل المعنى بنوع تخصيص فمن ذلك:
1- قولهم: الثوابت من الكواكب غير السيارة . فكأنهم أرادوا الدائمة المستقرة في مكانها.
2- وقالوا: أسَاسٌ ثَابِتٌ لاَ يَتَزَعْزَعُ أي رَاسِخٌ، مَتِينٌ .
3- وقولهم: ثَابِتٌ فِي مَوْقِفِهِ لاَ يَحِيدُ عَنْهُ بمعنى رَاسِخٌ، مُقيمٌ عَلَيْهِ لاَ يُغَيِّرُهُ، ومنه قول الله _تعالى_: "كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ" .
4- وقالوا: ثَابِتُ الإرَادَةِ وَالعَزْمِ أي الْمُسْتَقِرُّ، الْمُصَمِّمُ القَصْدِ .
5- وقالوا: أَمْلاَكٌ ثَابِتَةٌ أوْ أمْوَالٌ ثَابِتَةٌ أي أمْلاَكٌ أوْ أمْوَالٌ غَيْرُ مَنْقُولَةٍ .

وغير ذلك من إطلاقات، ومما سبق يتضح ما يلي:
1- الثوابت تطلق على ما روعي فيه معنى الدوام والاستقرار.
2- الدوام والاستقرار قد يكون مطلقاً، وقد يكون نسبياً لاعتبار معين كما في جل الإطلاقات السالفة.

إطلاقات اصطلاحية:
الثبوت "ولا يخرج استعماله اصطلاحا عن الدوام والاستقرار والضبط" .
ومن الأمثلة للتعريفات الاصطلاحية الفقهية التي تضمن معان للثبوت مقيدة ثبوت النسب، والشهر، والحقوق وغير ذلك .

غير أن بعضهم يطلق "الثَّوَابِتُ وَالْمُتَغَيِّرَاتُ" على "مَا يَدُومُ وَيَرْسَخُ وَيَثْبُتُ غَيْرُ قابِلٍ لِلتَّحَوُّلِ أو التَّغَيُّرِ عَكْسَ الْمُتَغَيِّراتِ وَما هُوَ عَارِضٌ" .
وهذا المعنى وإن كان صحيحاً فليس بلازم اطراده لغة، بل هو اصطلاح لبعضهم، فقد يطلق الثبوت لمراعاة الدوام والاستقرار النسبي أو الاعتباري كما مر.

وبعض أهل الفضل يجعل الثوابت في الشرع هي الأمور القطعية ومسائل الإجماع ويلحق بها من باب الاعتبار النسبي الاجتهادات الراجحة التي تمثل مخالفتها نوعاً من الشذوذ أو الزلل. وهذا صحيح باعتبار العذر وعدمه للمخالف في المسائل. وعليه فهو اصطلاح لا مشاحة فيه.

على أن نراعي أنه قد يدخل في معنى الثوابت عند آخرين أمور أخرى باصطلاحات أخرى غير ما أشير إليه.
فالظني قد يكون من الثوابت بالنسبة للبعض لاباعتبار عذره المخالف من عدمه ولكن باعتبار قوله به واعتقاده لصوابه و ثباته عليه مهما كلف الأمر لما حفت به من قرآن عنده، ومن أمثلة ذلك من الفروع الفقهية طلاق الثلاث هل يقع واحدة أو ثلاث، فمع أن هذه مسألة فرعية ظنية اجتهادية غير أن شيخ الإسلام ابن تيمية ثبت عليها وآثر السجن على التنازل عن الفتوى بها حتى مات _رحمه الله_.

يتبع باقي الموضوع