بسم الله الرحمن الرحيم

شبهة الرِّق في الإسلام


كثر الكلام حول مسألة الرق في الإسلام ، وحاول المشككون في شريعة الإسلام النيل منه بقذف شبهاتهم التي لا تقوم على أسس علمية أو تاريخية ، بل هي في أفضل حالاتها لا تعدو أن تكون تساؤلات غير بريئة ، يقصد من ورائها هدم الإسلام عن طريق بث هذه السموم بين أبناءه .
ورغم أن بعض علماء الإسلام ومفكريه لا يألون جهداً في الرد على هؤلاء ، إلا أن غيرهم –وهم الأغلب للأسف- لا يزال ( نائماً في العسل ) أو يركن إلى أن الله تعهد بحفظ دينه ، فلا خوف ممن يحاول المكر به ، وهو في هذا لا يدري أن الحق لا يقوم إلا على أيدي الرجال ، وأن من فرط في واجبه في الذود عن حياض الإسلام فقد فرط في جزء أو ركن من أركان الجهاد ، وهو الدفاع بالكلمة عن دين الله برد الشبهات ، وتبيين ما غمض على بعض العامَّة من أمور الدين ، وأن على كل مسلم واجب الدفاع عن دينه قدر جهده ، ضد سهام التشكيك في دين الله الخاتم ، فكل مسلم غيور هو على ثغرة من ثغر الإسلام ، فلا ينبغي أن يسمح للشبهات بأن تنفذ إلى صدر الإيمان من قِبَله ، فإن سمح بذلك وهو قادر على رده ، فإن ذلك يعد خيانة عظمى للدين وللأمة جمعاء.

سياسة التدرج في التحريم ؟

مما لا شك فيه أن الإسلام لم يأت بالرق ، ولم يأمر أتباعه باتخاذ العبيد ، إنما الحقيقة أن الرق كان موجوداً قبل الإسلام ، وكان ركناً من أركان الاقتصاد لا يمكن الاستغناء عنه بسهولة ، وكذلك كانت صناعة الخمر و الآلهة ، ونظام الربا . فجاء الإسلام ليهدم كل هذا ، ولكن الله وهو أعلم بحال خلقه ، لم يشأ أن يهدم كل هذا منذ بداية الإسلام ، ففي هذا وأد للدعوة قبل أن يعيها الناس ، وتتشربها القلوب ، فكانت سياسة التدريج .. وقد يقول قائل : ولم لم يكن هناك تدريج في نبذ الآلهة ، والدعوة إلى إله واحد ، والجواب : أن توحيد الله لا يترتب عليه أي خلل في النظام المالي أو الاقتصادي ، أما بالنسبة للخمر مثلاً ، فإن في تحريمها بأمر مفاجئ دون مقدمات ، يترتب عليه انهيار مالي لمن كانت تجارته قائمة على عصرها وبيعها ، كما أن من يدمن شربها يصعب عليه تركها بسهولة دون سياسة التدرج في التحريم.
كذلك الأمر كان بالنسبة للربا .. فقد نهى القرآن المؤمنين التعامل بالربا كما يتعامل به أهل الشرك .
وللشيخ محمد الغزالي رحمه الله كلاماً جميلاً في هذا المعنى ، فيقول في كتابه ( مائة سؤال عن الإسلام )
(( أما التدرج في الكشف عن حقيقة حكم ما ، فإنه يبدأ تلويحاً يفهمه الأذكياء ، ثم تزداد الإبانة بما يكاد يوحي بالحكم، ثم يجيء الحكم حاسمًا بالمعنى المراد، وقد تم تحريم الربا والخمر بهذا الأسلوب المتأني، وليس في القرآن نص بإباحة الخمر أو الربا !.
وعندما يقول سبحانه ( وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ...) الروم. فذلك تمهيد لقوله فيما بعد (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) ، وعندما يقول : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ) فذلك تمهيد لقوله فيما بعد (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) المائدة.
إن هذا التدرج كان الطريقة المثلى لفطام الناس عن رذائل ألفوها وأدمنوها وتعصبوا لها ، وقد حاولت الولايات المتحدة تحريم الخمر بقانون صارم مرة واحدة ، ففشلت فشلاً محزناً ، بصورة أشنع ، وتبين أن الشارع الإسلامي أذكى وأحكم .)
انتهى كلامه رحمه الله.
أما الرق فقد كان من أكثر الأمور تعقيداً .. فلا يكاد بيت يخلو من عبد رقيق أو أكثر ، إلى العشرات لدى بعض الأثرياء ، وأصحاب الأراضي الزراعية ، يفلحونها ويجنون محاصيلها .. إلخ. لذلك فإن التخلص من الرق جاء تدريجياً ، عن طريق تجفيف منابعه ، وحصرها في أن يكون الرقيق أسيراً فيباع ويشترى ، وتعديد مصارفه، بالترغيب في العتق وإيجابه في أغلب الأحيان ، ففي الجاهلية كان للعتق سبب واحد ، وهو إرادة السيد ، فعدد الإسلام مصارف تصفية الرق فكانت كفارة من أفطر في رمضان عتق رقبة ، ومن أراد أن يكفر عن يمينه عتق رقبة ، ومن قتل خطأ وجب عليه عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، بل إن الشارع الحكيم جعل العتق مقياساً لرفع الدرجات ، وكثرة الحسنات ، فقال : ( من هَدَى زُقاقاً - أي ضريراً - كان له مِثْل عِتْق رَقَبَة ) أو قوله ( من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل كان كمن أعتق رقبة ) فكان فك رقاب العباد من الرق من أفضل وأجل الأعمال التي يبتغي بها المسلم التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
ولو أن الإسلام حرم منذ البداية بيع الأصنام والخمر والتعامل بالربا والرقيق ، لانهار الاقتصاد تماماً ، وإن كان قائماً على أمور محرمة ، ولما أقبل أحد على الإسلام والاستماع إلى رسوله ، فالعاقل عندما يرى هذا الانهيار أمامه سيقول : أي دين هذا الذي يفرق بين الابن وأبيه ، ويحرم الاتجار في سلع جوهرية يعتمد عليها المجتمع الجاهلي يومئذٍ ، فخسر من خسر تجارته ، وبارت الأراضي وفسدت المحاصيل ، لأن ملاكها كانوا يعتمدون على العبيد في زراعتها وسقايتها ..
بل إن كفار قريش لم يكن لديهم أدنى شك في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فقد سبق من أعلن قبله في مكة أنه لا إله إلا الله ، كزيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة الإيادي ، وأكثم بن صيفي ، وغيرهم .. ولكن هؤلاء لم يجاهروا بأن عبادة الأوثان شرك بالله ، ولم يدعوا إلى شريعة ، فلم يشكلوا خطراً حقيقياً على أصحاب رؤوس الأموال في مكة .. بينما ناصبوا رسول الله العداء لأنهم كانوا يرون فيه هادماً لتجارتهم التي تتمثل في صنع الآلهة وبيعها للناس ، وللحجاج الذين يأتون إلى مكة من كل حدب وصوب ، فيجمعون من أثمانها ثروات طائلة .. فحاولوا ثنيه عن التعريض بآلهتهم وتسفيهها ،كما تفعل الشركات الكبرى في عصرنا ، من محاولة رشوة من يكشف عن زيف بضاعتهم أو نشر ما يصد الناس عن تعاطيها وشرائها ، فإن أبى واستعفف ، لجأوا إلى إخافته أو اغتياله خوفاً على مستقبلهم التجاري والاقتصادي.

الرق عقوبة :
كما أن من الجدير بالذكر ، أن الرق يعد عقوبة في حد ذاته ، لكل من حمل السلاح ووقف في وجه نشر الإسلام بين الناس ، فمن يصد عن سبيل الله ، ويقف حجر عثرة في طريق من يبلغون عن رب العزة جل وعلا ، كان حربه واجباً إن تمكن المسلمون من ذلك ، وكان الرق والسبي وجمع الغنائم من العدو من الأمور المتعارف عليها في جميع أنحاء العالم منذ بدء الخليقة ، ولقد كذب من قال أن الغرب هو من حرم الرق .. لأن الإسلام سبقه في التمهيد لذلك ، والترغيب في تركه ، بل والحض على شراء العبيد وتحريرهم (( فَكُّ رَقَبَةٍ {13} أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ {14} أي هلاَّ أنفق ماله في فك الرقاب، وإطعام السغْبَان، ليجاوز به العقبة ، وهي كناية على الأمور العظيمة .
والأمر يشبه قوماً اجتمعوا فلما جاعوا طلبوا الطعام ، فقام أحدهم بتكلف ما يلزمه من إعداده وطهيه ، ثم خرج لبعض شأنه ، فجاء من وراءه من نظر إلى الطعام ، فلما رأى نضجه ، سكبه في جفنة ، وجاء بها القوم ، فقالوا ، لولا فلان لما جاء الطعام ونسوا من قام بطهيه وسبكه والصبر عليه حتى نضج.
ثم ماذا تفيد البشرية من وجود قانون لا يعمل به على أرض الواقع ؟ هل الرق محرم في أوروبا والغرب بصفة عامة ؟! إن من سافروا وأقاموا مدة في الغرب ، يعلمون أن أسواق النخاسة ما تزال موجودة ومستمرة في بيع النساء والأطفال من جميع الأجناس ، والحكومات على علم بهذه الحقيقة ، ولكنها تغض الطرف عن ذلك ، بل إن حقوق الإنسان التي يتغنى بها الغرب كل يوم نراها تهتك يومياً في جميع بلداننا الإسلامية من قبل أميركا أو ربيبتها إسرائيل أو عملائها من بعض الحكام العرب ، ويشهد على الأولى ما يحدث في العراق ، وما حدث في سجن أبو غريب ، وما يحصل يومياً في غوانتانمو ، ويشهد على الثانية ما قامت به وتقوم به إلى الآن مما هو أشد وطأة من الرق ، وهو احتلال شعب بأكمله ، وسلب مقدراته ، ونهب ممتلكاته ، وتدنيس مقدساته الدينية . ويشهد على الأخيرة استعباد العملاء من الحكام العرب لشعوبهم ، وتركيعهم ، وجبرهم على الخنوع والذل لهم ، وسلخهم عن هويتهم ، تارة بنشر دور البغاء ، وترخيص الخمارات والملاهي الليلية ، وفتح المحطات الفضائية الماجنة التي أدخلت الفساد إلى دور جميع المسلمين ، وتارة بتغيير المناهج التعليمية ، ونبذ السور والآيات القرآنية وكل ما يذكر أطفال وشباب المسلمين بحقيقة عدوهم اللدود ( إسرائيل ) ، والابتعاد عن ذكر ما يبين حقيقته ، وأهدافه المعلنة والخفية ، من أطماع في نهب ثروات أمتنا ، وعقيدته الدينية التي تحتم عليه رؤية جميع البشر من غير اليهود ، وعلى رأسهم المسلمين ، هم حيوانات لا حرج عليه في ذبحها أو قتلها .

والله الموفق.

عماد الدين علي
2010/11/10