الحب . . . وهل ثمة أجمل من هذا الكائن؟
أعرف بأن ثمة من سيعترض على منحي لهذا الشعور العظيم صفة الكائن، لكني أرى أنه بالفعل يمتلك صفات الكائن، فهو يولد ويكبر ويتنفس، وربما يتعرض للخنق فيموت.
هذا الكائن الجميل الذي يلون صفحات الحياة بألوانه القزحية الزاهية، اقترن رغم ذلك وعبر العصور المختلفة بالموت أو الجنون أو الصمت الدائم أحيانا.
ومن هنا يطرح سؤال هام جداً عن علاقة الأدب بالحب وعلاقة الحب بالأدب، وهل نملك رواية حب مغربية؟ أو بتعبير أدق، هل نمتلك التقاليد النوعية التي تمكن من تصنيف نصوص روائية جديدة ضمن خانة الرواية العاطفية؟ حيث شكلت الرواية وسيلة لتخليد الحب الخالص أو الحب العظيم، مثلما نلمسه في تجارب كبار الكتاب العرب: يوسف السباعي، إحسان عبد القدوس ولاحقا ما تجلى عند غادة السمان، سهيل إدريس، حيدر حيدر، أحلام مستغانمي، الطاهر وطار.
من الصعب أن نقف على جواب قاطع. إذا أخذنا بعين الاعتبار مفهوم البطولة المطلقة لقصة الحب وهيمنتها على قيم التحبيك الدرامي للنص الروائي، فقد نحصل على تفاصيل وجدانية في الرواية المغربية تساهم في تأثيث الحيز السردي العام، بيد أن رواية الحب بما أنها نص يساءل العلاقة الروحية في نسغها العميق بين بطلين مركزيين مهيمنين، فإننا نادراً ما نصادف هذا النوع. ولعل مرد هذه الندرة النوعية في ما نعتقد يرجع إلى تحول موضوع الحب إلى مرجع حكائي تقليدي في نظر الروائي المعاصر، خبا وهجه أمام وطأة الضياع والتمزق وسرعة الإيقاع اليومي، أم أن هذا العالم لم يجد بيئة مناسبة لعيش هذا الكائن الجميل، مما دفعه للهجرة بحثا عن مكان آخر أكثر ملاءمة له؟
جميل أن يطرح الحب في الأدب كقضية وفي هذه المرحلة من الزمن بالذات. فقد أوشك العالم أن ينسى هذه الكلمة وأن يفقد معانيها السامية في ظل الحروب الطاحنة وفي ظل اللهاث خلف المادة بكل أشكالها وفي ظل الاضطرابات السياسية والأزمات الاقتصادية التي لا ترحم.
إنما الشيء الأكيد أن هذه العاطفة المُخضَلة بندى العذوبة لم تستنفذ بعد طاقتها في توليد شتى النصوص الواعدة بالمتعة الجمالية والعمق الإنساني.
والرواية التي نحتفي بها اليوم، "الخرساء والبحر" للكاتبة الرقيقة فاطمة الزهراء التوزاني، إضافة نوعية للرواية العاطفية بالمغرب. حيث تصوغ الأديبة من مفردات بوحها وهجَ الألم الذي يخرج من الإنسان الواعي الذي يدرك جُل الحقائق ولا يقوى على مجابهتها، ليصبح البوح حالة عصية من الهذيان الذي يأتي بالحقائق دون مواربة أو مجاملة لتتجاور الذكريات مع معطيات الراهن الذي لا تقوى على مبارحته فتصبح القضية قديمة جديدة تنبض حياة وصهيلا.
وتذهب فاطمة الزهراء نحو مخاطبة علنية لشخص ترى أن لديه الإجابات شبه المكتملة على ما يحدث في المكان والزمان وهو: الرجل الذي ألبسته رداء البحر لغموضه وعمقه لتظل المرأة الخرساء هي المحترقة دائما بصمتها في أتون الحقيقة التي لا تقبل التزييف والمراوغة حتى وإن حاول الآخر كسر إرادتها ستنهض مثل طائر خرافي من رماد خامد.
خرس بطلتنا لم يكن أبداً علامة رضا بل كان علامة سخط مبطن على حبيب قهرها بغموضه وبلامبالاته وحتى بمبالاته أحيانا. ذاك المد والجزر أتعبها واستهلك ما فيه الكفاية من الحبر والدم. وكانت صرختها المحمومة تأخذ شكل حروف تتقيأها أو تنفثها عبر بريد إلكتروني يستوعبُ هذيانها وبوحها.
ومن أهم ما يستوقفنا أن رواية "الخرساء والبحر" رواية تتقاسمها شخصيتان:
الرجل: "البحر" بصفته مصدراً وحيداً لشقاء البطلة المرأة "الخرساء" التي في الحقيقة توجه صرخة للتعبير عن موقف غالبا ما يترتب عن حالة حزن عميق. والأحداث تدور حول صراع مزدوج تعيشه الشخصية الرئيسة: صراع مع حبيبها وصراع مع ذاتها المكابرة في لحظة مقاومة شديدة للماضي واليأس.
هذا الحوار الداخلي للخرساء يدفعنا إلى اعتبار أن الرواية نفسية حيث تعمل فاطمة الزهراء التوزاني على الدخول إلى عمق هذه الشخصية لاكتشاف الصراع النفسي الذي تعيشه كرد فعل على وضعيتها.

الشخصية الأولى التي تتمحور حولها الرواية هي شخصية "الخرساء" وكل ما يقدمه النص حولها من معلومات يتلخص في هذا الاسم، ولا يقدم النص أي شيء حول شكلها ولا يقف إلا عند دواخلها.
والشخصية الثانية هي شخصية الحبيب البحر والذي لا نعرف عنه سوى اشتغاله بالسياسة والكتابة.
وعندما نقف على المشكل المطروح بين الخرساء وحبيبها البحر فإننا لا نجد له أسبابا داخل النص أو بعبارة أخرى لا تحاول الكاتبة أن تبرز أسبابه مما يساعدنا على تأويل ذلك بأن القضية تنطلق من خطأ الرجل لا سيما وأن المرأة لا زالت متعلقة بوضعيتها كحبيبة وتنتظر من حبيبها الرجوع إليها ولم الشتات وتضميد الجرح.
إذن موضوع الرواية كان حول أطوار حب نما كما الوردة في خفية عن النظر والإحساس ببطء ورسوخ وليموت بشكل أو آخر بين حوافر الصمت وصقيع اللامبالاة فتعزف الكاتبة غيابا واغترابا، لا تصالح الواقع، لا تراه قدراً، لا تتعبده صنما، لا تنوء تحت وطأته، لا تهرب منه إلى الأمام بل تواجهه، ترفضه، تقاومه، تستأنف ضده وتومئ إلى واقع آخر أحلى وأبهى. ومن هنا تملك قصتها الإضافية المستقبلية.
فاطمة الزهراء التوزاني، التي ظهرت كناقدة ، ها هي تعلن عن ميلاد كاتبة مرهفة، ساحرة في قدراتها على السرد وسيطرتها على التحولات في مجريات الأحداث بين الماضي والحاضر، بارعة في اقتناص لحظات التحول الفجائية المثيرة لعصب وفضول القارئ. أراها من خلال تجربتها الروائية الأولى سيدة الزمن ومروضة ثوانيه وقاهرة عنفوانه. تقول ما تقول فتستسلم لمنطقها. حرارة ألفاظها قادرة على تسخين برودة ووحشة المشاعر في هذا الزمن العاق وإذابة جليد الجهل بحقيقة الحب ومعانيه السامية والباذخة، جريئة في طرح وعرض قناعاتها ووجهات نظرها رغم أنها امرأة متحفظة حسب معرفتي الشخصية بها، شديدة الحماس للغة العربية رغم ثقافتها الانجليزية.
فاطمة الزهراء: قرأتك في زبد هذا الموج الذي يمتد جهتي من بحرك العميق كي يعانقني في غفلة من الزمن. قرأتك، استشعرتك وأنت تنزفين كضوء ليل طويل يتسلل، تنزفين وبلا انقطاع كحلم جريح لا يود أن يترجل. تنزفين بحثا عن خلاص ما . . قد يأتي وقد لا يأتي.
فاطمة الزهراء: كوني كما تريدين، انهضي من رمادك ومن شظاياك واصنعي بوحك، تمردك، عشقك، ككل المبدعين الرائعين.
كوني بحجم الجمال المنبعث من جهة الجنة والبحر.
وليس أخيراً، هذه الكاتبة الرائعة بامتياز والعاشقة حتى الثمالة وبكل فوران ذاتها وصخب وجع أعماقها، تستحق منا كقراء وكمهتمين كل إعجاب نظراً لعدالة قضيتها وبسالة عشقها الذي تورطنا نحن أيضا فيه حيث إن كلماتها رقيقة رقة قطعة كريستال فاخرة تسللت إلينا عبر "الخرساء والبحر" في حنو وحزن باذخ لا يصيبنا بالألم والمرارة بقدر ما يصيبنا بإثم جميل: هو اقتراف الحلم والحب والإصرار.
بقلم: حليمة الإسماعيلي
-شاعرة وروائية-